"فَلَمَّا جَهَّزَهُم بِجَهَازِهِمْ جَعَلَ السِّقَايَةَ فِي رَحْلِ أَخِيهِ ثُمَّ أَذَّنَ مُؤَذِّنٌ أَيَّتُهَا الْعِيرُ إِنَّكُمْ لَسَارِقُونَ قَالُواْ وَأَقْبَلُواْ عَلَيْهِمْ مّاذَا تَفْقِدُونَ قَالُواْ نَفْقِدُ صُوَاعَ الْمَلِكِ وَلِمَن جَآءَ بِهِ حِمْلُ بَعِيرٍ وَأَنَاْ بِهِ زَعِيمٌ [سورة يوسف:70-72].
لما جهزهم، وحمَّل لهم أبعرتهم طعاماً؛ أمر بعض فتيانه أن يضع السقاية وهي إناء من فضة - في قول الأكثرين -، وقيل: من ذهب، قال ابن زيد: كان يشرب فيه، ويكيل للناس به من عزّة الطعام إذ ذاك، قاله ابن عباس - ا - ومجاهد، وقتادة والضحاك، وعبد الرحمن بن زيد، وقال شعبة عن أبي بشر، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس - ا -: "صواع الملك"، قال: "كان من فضة يشربون فيه، وكان مثل المكُّوك، فوضعها في متاع بنيامين من حيث لا يشعر أحد.
ثم نادى منادٍ بينهم: أَيَّتُهَا الْعِيرُ إِنَّكُمْ لَسَارِقُونَ".
الجَهَاز والجِهاز فهذا الذي يعطونه من الطعام يطلق عليه أنه جهاز فَلَمَّا جَهَّزَهُم بِجَهَازِهِمْ فالبضاعة التي يحملها الراكب، أو المؤن التي يحملها؛ كل ذلك يقال له جهاز جَهَّزَهُم بِجَهَازِهِمْ.
والمكُّوك هو عبارة عن مكيال يختلف من بلد لآخر، ويتفاوت فليس له مقدار محدد، ويطلق على وعاء واسع من الوسط يضيق من الأعلى يشرب به، وقول: صُوَاعَ الْمَلِكِ، وفسر الصواع بأنه كان يشرب فيه، والصواع يقال لما يشرب فيه، قال بعضهم: كل إناء يشرب فيه يقال له: صواع، ومن ذلك قول الشاعر:
نشرب الإثم بالصواع جهاراً | وترى المسك بيننا مستعاراً |
والإثم أي: الخمر.
فما يشرب به يقال له: صواع، وما يكال به يقال له: صواع.
والعير: يطلق على الإبل المرحولة التي وضع عليها الطعام، أو المتاع، أو الأحمال، وبعض أهل العلم يقول: العير يطلق على كل ما يحمل الطعام، أو المتاع؛ من الإبل، أو البغال، أو الحمير، بل بعضهم يقول: هي الحمير، وهذا لا دليل عليه.
في قوله : وَلِمَنْ جَاءَ بِهِ حِمْلُ بَعِيرٍ وَأَنَا بِهِ زَعِيمٌ دليل على أن الأحكام تستنبط من القصص، والأخبار، وليس من الأمر، والنهي الصريح، أو الآيات التي سيقت لبيان الأحكام فقط؛ فهذه الآية ما سيقت لبيان حكم، ولكن يؤخذ منها جواز الجعالةـ وجواز الكفالة.
وقوله: جَعَلَ السِّقَايَةَ فِي رَحْلِ أَخِيهِ هذه الحيلة التي احتال بها يوسف ﷺ من أجل أن يُبقي أخاه عنده، فوضع الصواع في رحل أخيه كما في قول: ثُمَّ أَذَّنَ مُؤَذِّنٌ أَيَّتُهَا الْعِيرُ إِنَّكُمْ لَسَارِقُونَ فقوله: "ثم" تدل على التراخي، ولهذا يقال: إنه تركهم حتى انطلقوا، وفارقوا البلد، أو كادوا، ثم بعد ذلك أرسل في أثرهم من أجل أن تكون الصورة محكمة، فلا يشك هؤلاء بأن المسألة مدبّرة، يعني لو أنه مجرد ما وضع هذا وهم عنده قال: أَيَّتُهَا الْعِيرُ إِنَّكُمْ لَسَارِقُونَ فإنهم سيقولون كيف عرفت؟ ومتى فقدته؟ لكن تركهم، فكأنهم بحثوا عن صواعهم، ثم لما فقدوه استدركوا، وتبعوا هذه العير، ونادى المنادي أَيَّتُهَا الْعِيرُ إِنَّكُمْ لَسَارِقُونَ، فأطلق عليهم أنهم سارقون مع العلم بأنهم ما سرقوه، ويمكن أن يقال: إن الذي نادى لم يكن يعلم أن القضية كانت بمكيدة كاد بها يوسف ﷺ ليتمكن من أخذ أخيه؛ فهو نادى بحسب ظنه، وبعض أهل العلم يقول: ما حدد هنا المفعول، ما قال: إنكم سرقتم الصواع، أو لسارقون لصواع الملك، وإنما أطلق، وأن يوسف - عليه الصلاة والسلام - حينما قال للفتى هذا، فتنادى به، قصد يوسف - عليه الصلاة والسلام - ما فعلوا من أنهم وقع منهم ما يمكن أن يقال عنه: إنه سرقة، حيث إنهم أخذوه من أبيهم وهو صغير، وألقوه في الجب، وفعلوا به ما فعلوا، فقال: إِنَّكُمْ لَسَارِقُونَ، فأطلق عليهم هذا الوصف، وفي ضمن هذا الوصف يمكن أن يكون ما وقع من الصواع بحسب ظن الفتى الذي نادى بذلك إِنَّكُمْ لَسَارِقُونَ - فالله تعالى أعلم -.