السبت 05 / ذو القعدة / 1446 - 03 / مايو 2025
وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَن فِى ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلْأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا وَظِلَٰلُهُم بِٱلْغُدُوِّ وَٱلْءَاصَالِ ۩

المصباح المنير
مرات الإستماع: 0

قال المفسر - رحمه الله تعالى - في تفسير قوله تعالى: وَلِلّهِ يَسْجُدُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ طَوْعاً وَكَرْهاً وَظِلالُهُم بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ [سورة الرعد:15].

يخبر تعالى عن عظمته وسلطانه، الذي قهر كل شيء، ودان له كل شيء، ولهذا يسجد له كل شيء طوعاً من المؤمنين وكرهاً على الكافرين، وَظِلالُهُم بِالْغُدُوّ أي: البكور، وَالآصَالِ: وهو جمع أصيل، وهو آخر النهار، كقوله تعالى: أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى مَا خَلَقَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ يَتَفَيَّأُ ظِلالُهُ [سورة النحل:48] الآية.

فقوله - تبارك وتعالى -: وَلِلّهِ يَسْجُدُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ طَوْعاً وَكَرْهاً وَظِلالُهُم بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ، السجود في هذه الآية اختلف العلماء هل المراد به وَلِلّهِ يَسْجُدُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ [سورة النحل:49]، "ما" هذه للعموم، و لم يستثني ولم يذكر ما يدل على تبعيض أو تخصيص، وإنما قال: وَلِلّهِ يَسْجُدُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ طَوْعاً وَكَرْهاً، و"من" هذه للعموم، و"ما" تكون لغير العاقل، وقوله: وَلِلّهِ يَسْجُدُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ تغليباً لغير العقلاء على العقلاء؛ لأن غيرهم يكون تبعاً لهم، أو لأنهم الأشرف، ومن أهل العلم من استشكل سجود الكفار، هل هم داخلون في هذا العموم، وما المراد بقوله: طَوْعاً وَكَرْهاً؟ فالمؤمن يسجد طوعاً هذا لا إشكال فيه، لكن من الذي يسجد كرهاً؟ قال بعض أهل العلم: إن العموم في قوله: وَلِلّهِ يَسْجُدُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ، على عمومه، وبعضهم يقول: مخصوص، والأدق من هذا أن يقال: أن هذا عام مراد به الخصوص، فمن قال: إنه عام مخصوص قال: إن الذي يخصصه أو يبيّن أنه مخصص في هذه الآية: وَلِلّهِ يَسْجُدُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ طَوْعاً وَكَرْهاً، لكن في الآية الأخرى: أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ [سورة الحـج:18]، إلى أن قال: وَكَثِيرٌ مِّنَ النَّاسِ وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذَابُ [سورة الحـج:18]، ذكر سجود الشمس والقمر والدواب ثم قال في الناس ولم يعمم: وَكَثِيرٌ مِّنَ النَّاسِ، ومعلوم أن لفظة كثير ليست من ألفاظ العموم، فمن أهل العلم من قال: إن هذا العموم في هذه الآية مخصص، خصصه قوله: وَكَثِيرٌ مِّنَ النَّاسِ، ويمكن أن يقال: إنه عام مراد به الخصوص، وهذه الآية بيّنت ذلك، وقوله - تبارك وتعالى -: طَوْعاً وَكَرْهاً، والكفار لا يسجدون لله السجود المعروف؛ لأن السجود معناه في اللغة الخضوع، ومعناه الشرعي: وضع الجبهة على الأرض، هذا في أجلى صوره وحالاته، ويطلق على الركوع كما في قوله - تبارك وتعالى -: ادْخُلُواْ الْبَابَ سُجَّداً [سورة البقرة:58]، فليس المقصود أنهم يدخلون وجباههم على الأرض، وإنما يدخلون في حال الإنحاء والركوع تواضعاً لله وشكراً وخضوعاً، فالشاهد: هذه الآية بهذا العموم الظاهر من أهل العلم من فسر السجود فيها بالمعنى اللغوي، قالوا: السجود وَلِلّهِ يَسْجُدُ أي: يخضع؛ ليدخل الكفار في ذلك، فالكل خاضع لعظمته - تبارك وتعالى -، فأمر الله نافذ في الجميع، وهم تحت سلطانه وقهره، فالكافر يجري عليه أمر الله - تبارك وتعالى - وقدره لا يستطيع أن يخرج من ذلك طرفة عين، فهذا هو السجود بمعناه اللغوي، الجميع يخضع لعظمته ، وإنما ألجأ إلى هذا القول، يعني التفسير بالمعنى اللغوي هو كيف يسجد الكافر والآية ظاهرها العموم، فإما أن نقول: هذا العموم غير مراد، فيخرج منه الكافر، ونحمل السجود على المعنى الشرعي في الأصل، فيما يكون سجوده وضع الجبهة على الأرض، ولكل سجود يليق به، فالشجر لها سجود والدواب كذلك فلكل شيء سجود يليق به، وسجود المؤمنين بوضع الجبهة على الأرض، فإما أن نقول: بأن هذا العموم غير مراد؛ لأن الكافر لا يسجد، ونكون فسرنا السجود بالمعنى الشرعي، وإما أن نقول: بأن هذه الآية على ظاهرها في العموم، وأن المقصود بالسجود الخضوع، وهذا تفسير بالمعنى اللغوي، والقاعدة المعروفة: أن الألفاظ الشرعية تحمل على المعنى الشرعي أولاً، فإن لم يوجد فالعرف في عرف المخاطبين، في زمن نزول القرآن، فإن لم يوجد فاللغوي، فإذا فسرنا السجود بالخضوع فهذا خلاف القاعدة، فمن فسر السجود بأنه الخضوع قال: إن أهل الإيمان يخضعون لأمر الله طواعية وينقادون، وأما الكفار فيجري عليهم قضاؤه وقدره، وإن كانوا يكرهون ذلك، أو لا يخضعون طواعية لربهم وخالقهم ، فأمر الله جارٍ فيهم، "كرهاً"، ومن أهل العلم من فسر "كرهاً" قال: بأن أهل الإيمان يسجدون طواعية، والذين يسجدون كرهاً هم أهل النفاق، فهم كفار في الباطن، فهم يسجدون وهم يكرهون السجود؛ من أجل أن لا يقام حكم الله فيهم، فهم ما دخلوا في الإسلام ظاهراً إلا من أجل حقن دمائهم وإحراز أموالهم، فهم يسجدون ويكرهون، وقال الحافظ ابن كثير - رحمه الله -: "يخبر تعالى عن عظمته وسلطانه الذي قهر كل شيء، ودان له كل شيء، ولهذا يسجد له كل شيء طوعاً من المؤمنين وكرهاً على الكافرين"، فهذا مجمل، وكأنه في أوله يشير إلى أن المقصود به بالخضوع، فخضوع المؤمن يزيد على خضوع الكفار بأنه طواعية، ومن خضوع المؤمن وضع الجبهة على الأرض في السجود، وأما الكافر فهو وإن كان لا يسجد السجود الحقيقي، ولكن أمر الله واقع عليه وقدره نافذ فيه، فهو خاضع لأمر الله - تبارك وتعالى -، قال: وَظِلالُهُم بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ، أي: أن ظلالهم تسجد تبعاً لهم، فإذا سجد الإنسان سجد ظله معه، وخص الغدو والآصال؛ لأن الظل يكون فيها أطول ويظهر،  مثلاً في وقت الظهر فإنه بعد الزوال يكون الظل قليلاً، لا يظهر إذا سجد الإنسان كما يكون في العصر وفي أول النهار أيضاً، ومن أهل العلم من يقول: وَظِلالُهُم بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ قال: لا يبعد أن الله يعطي الظل إدراكاً يليق به، فالظل يسجد، وليس المقصود أنه يسجد تبعاً للساجد، على القول الأول أنه تبع، الظل يتبع صاحبه فإذا سجد سجد الظل، على القول الثاني لا، أن المراد أن الظل يسجد، سواء كان الإنسان يسجد لله أو لا يسجد، والله أخبر عن هذا، يَتَفَيَّأُ ظِلاَلُهُ عَنِ الْيَمِينِ وَالْشَّمَآئِلِ سُجَّدًا لِلّهِ [سورة النحل:48]، فانتقال الظل من ناحية إلى ناحية هذا سجودها، فكل شيء يسجد لجلاله وعظمته - تبارك وتعالى -، وإنما الذي يبقى لا يسجد السجود الشرعي المعروف هو الكافر، وإلا فالشمس والقمر والنجوم والجبال والشجر والدواب كل ذلك يسجد لله ، وَكَثِيرٌ مِّنَ النَّاسِ، وقوله - تبارك وتعالى -: وَلِلّهِ يَسْجُدُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ هذه أشهر الأقوال في معناها، ومن أهل العلم من فسره بتفسير أبعد من هذا قليلاً، قال: وَلِلّهِ يَسْجُدُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ طَوْعاً وَكَرْهاً، قالوا: بأن المقصود أن السجود حق لله ووجب، وَلِلّهِ يَسْجُدُ يعني: ولله يجب أن يسجد مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ، وفسرها بعضهم بدخول الكافر في الإسلام بالسيف، من الناس من يقاد إلى الجنة بالسلاسل، فقد يدخل بعض الناس الإسلام في البداية خوفاً من القتل، ثم بعد ذلك يستقر الإيمان في قلبه، ويحسن إسلامه، فيدخل الجنة، وهذا المعنى فيه بعد، - والله تعالى أعلم -.

وقوله: بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ الغدو: أول النهار، والآصال: بعد العصر، وأصدق ما يقع عليه لفظ الأصيل، آصال جمع أُصُل، وهو ما يكون بعد اصفرار الشمس، يعني الأصل في الأصيل يطلق على ما بعد العصر، وأصدق ما يصدق عليه هذا اللفظ هو بعد الاصفرار، إذا اصفرت الشمس.

وقفت فيها أصيلالاً أسائلها عيت جواباً وما بالربع من أحد

فهذا هو الأصيل الذي يكون وقت ذبول الشمس، وهو أحسن وقت للذكر، - والله تعالى أعلم -.