قوله: وَالَّذِينَ صَبَرُواْ ابْتِغَاء وَجْهِ رَبِّهِمْ [سورة الرعد:22] ، أي: أن صبرهم لله، ووجه التقييد بقوله: ابْتِغَاء وَجْهِ رَبِّهِمْ؛ لأن البعض يصبر تجلداً أمام الناس، حتى يثنوا عليه ويطروه بأنه صابر على المصيبة، ومن المعلوم أن الصبر عبادة قلبية، يقع فيها ما يقع في غيرها.
قوله: وَيَدْرَؤُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ، أي: يدفعون القبيح بالحسن، وهذه الآية كقوله – تبارك وتعالى -: وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ [سورة فصلت:34]، وقال بعض أهل العلم: وَيَدْرَؤُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ أي: يدفعون المعصية بالتوبة، وقال بعضهم: يدفعون الشر بالخير، ومنهم من قال: يدفعون المنكر بالمعروف، ومنهم من قال: يدفعون المعصية بالطاعة، وقد قال – تبارك وتعالى -: وَأَقِمِ الصَّلاَةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِّنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ [سورة هود:114].
ولهذا قال مخبراً عن هؤلاء السعداء المتصفين بهذه الصفات الحسنة بأن لهم عقبى الدار، ثم فسر ذلك بقوله: جَنَّاتِ عَدْنٍ والعدن الإقامة، أي جنات إقامة يخلدون فيها.
وقوله: وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ [سورة الرعد:23] أي: يجمع بينهم وبين أحبابهم فيها من الآباء والأهلين والأبناء، ممن هو صالح لدخول الجنة من المؤمنين، لتقر أعينهم بها حتى إنه ترفع درجة الأدنى إلى درجة الأعلى امتناناً من الله وإحساناً من غير تنقيص للأعلى عن درجته، كما قال تعالى: وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُم بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ [سورة الطور:21] الآية.
وقوله: وَالمَلاَئِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِم مِّن كُلِّ بَابٍ سَلاَمٌ عَلَيْكُم بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ [سورة الرعد:23-24] أي: وتدخل عليهم الملائكة من ههنا ومن ههنا للتهنئة بدخول الجنة، فعند دخولهم إياها تفد عليهم الملائكة مسلِّمين مهنئين لهم بما حصل لهم من الله من التقريب والإنعام والإقامة في دار السلام في جوار الصديقين والأنبياء والرسل الكرام.
وروى الإمام أحمد - رحمه الله - عن عبد الله بن عمرو بن العاص - ا - عن رسول الله ﷺ أنه قال: هل تدرون أول من يدخل الجنة من خلق الله؟ قالوا: الله ورسوله أعلم. قال: أول من يدخل الجنة من خلق الله الفقراء المهاجرون الذين تسد بهم الثغور، وتتقى بهم المكاره، ويموت أحدهم وحاجته في صدره لا يستطيع لها قضاء، فيقول الله تعالى لمن يشاء من ملائكته: ائتوهم فحيوهم، فتقول الملائكة: نحن سكان سمائك وخيرتك من خلقك، أفتأمرنا أن نأتي هؤلاء ونسلم عليهم؟ فيقول: إنهم كانوا عباداً يعبدونني لا يشركون بي شيئاً، وتسد بهم الثغور، وتتقى بهم المكاره، ويموت أحدهم وحاجته في صدره لا يستطيع لها قضاء، قال: فتأتيهم الملائكة عند ذلك فيدخلون عليهم من كل باب سَلامٌ عَلَيْكُمْ بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ[1].
قال ابن القيم - رحمه الله تعالى -: فجمع لهم مقامات الإسلام والإيمان في هذه الأوصاف فوصفهم بالوفاء بعهده الذي عاهدهم عليه، وذلك يعم أمره ونهيه الذي عهده إليهم بينهم وبينه وبينهم وبين خلقه.
ثم أخبر عن استمرارهم بالوفاء به بأنهم لا يقع منهم نقضه، ثم وصفهم بأنهم يصلون ما أمر الله به أن يوصل، ويدخل في هذا ظاهر الدين وباطنه وحق الله وحق خلقه.
فيصلون ما بينهم وبين ربهم بعبوديته وحده لا شريك له والقيام بطاعته والإنابة إليه، والتوكل عليه وحبه وخوفه ورجائه والتوبة إليه، والاستكانة له والخضوع والذلة له، والاعتراف له بنعمته وشكره عليها، والإقرار بالخطيئة والاستغفار منها، فهذه هي الوصلة بين الرب والعبد، وقد أمر الله بهذه الأسباب التي بينه وبين عبده أن توصل، وأمر أن نوصل ما بيننا وبين رسوله ﷺ بالإيمان به وتصديقه وتحكيمه في كل شيء، والرضا لحكمه والتسليم له، وتقديم محبته على محبة النفس والولد والوالد والناس أجمعين صلوات الله وسلامه عليه، فدخل في ذلك القيام بحقه وحق رسوله، وأمر أن نصل ما بيننا وبين الوالدين والأقربين بالبر والصلة، فأنه أمر ببر الوالدين وصلة الأرحام، ذلك مما أمر به أن يوصل، وأمر أن نصل ما بيننا وبين الزوجات بالقيام بحقوقهن ومعاشرتهن بالمعروف وأمر أن نصل ما بيننا وبين الأرقاء بأن نطعمهم مما نأكل، ونكسوهم مما نكتسي، ولا نكلفهم فوق طاقاتهم، وأن نصل ما بيننا وبين الجار القريب والبعيد بمراعاة حقه، وحفظه في نفسه وماله وأهله، بما نحفظ به نفوسنا وأهلينا وأموالنا، وأن نصل ما بيننا وبين الرفيق في السفر والحضر، وأن نصل ما بيننا وبين عموم الناس بأن نأتي إليهم بما نحب أن يأتوه إلينا، وأن نصل ما بيننا وبين الحفظة الكرام الكاتبين بأن نكرمهم ونستحي منهم كما يستحى الرجل من جليسه ومن هو معه ممن يجله ويكرمه.
فهذا كله مما أمر الله به أن يوصل ثم وصفهم بالحامل لهم على هذه الصلة وهو خشيته وخوف سوء الحساب يوم المآب، ولا يمكن لأحد قط أن يصل ما أمر الله بوصله إلا بخشيته، ومتى ترحلت الخشية من القلب انقطعت هذه الوصلة، ثم جمع لهم سبحانه ذلك كله في أصل واحد هو آخية ذلك وقاعدته ومداره الذي يدور عليه وهو الصبر فقال: وَالَّذِينَ صَبَرُواْ ابْتِغَاء وَجْهِ رَبِّهِمْ [سورة الرعد:22] فلم يكتف منهم بمجرد الصبر حتى يكون خالصاً لوجهه.
ثم ذكر لهم ما يعيينهم على الصبر وهى الصلاة فقال: وَأَقَامُواْ الصَّلاَةَ، وهذان هما العونان على مصالح الدنيا والآخرة، وهما الصبر والصلاة، فقال تعالى: وَاسْتَعِينُواْ بِالصَّبْرِ وَالصَّلاَةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلاَّ عَلَى الْخَاشِعِينَ [سورة البقرة:45]، وقال: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اسْتَعِينُواْ بِالصَّبْرِ وَالصَّلاَةِ إِنَّ اللّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ [سورة البقرة:153].
ثم ذكر سبحانه إحسانهم إلى غيرهم بالإنفاق عليهم سراً وعلانية، فأحسنوا إلى أنفسهم بالصبر والصلاة وإلى غيرهم بالإنفاق عليهم، ثم ذكر حالهم إذا جهل عليهم وأوذوا أنهم لا يقابلون ذلك بمثله بل يدرأون بالحسنة السيئة، فيحسنون إلى من يسيء إليهم فقال: وَيَدْرَؤُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ، وقد فسر هذا الدرء بأنهم يدفعون بالذنب الحسنة بعده، كما قال تعالى: إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ [سورة هود:114]، وقال النبي ﷺ: اتبع السيئة الحسنة تمحها[2]، والتحقيق أن الآية تعم النوعين، والمقصود أن هذه الآيات تناولت مقامات الإسلام والإيمان كلها، اشتملت على فعل المأمور وترك المحظور والصبر على المقدور، وقد ذكر تعالى هذه الأصول الثلاثة في قوله: بَلَى إِن تَصْبِرُواْ وَتَتَّقُواْ [سورة آل عمران:125]، وقوله: إِنَّهُ مَن يَتَّقِ وَيِصْبِرْ [سورة يوسف:90].
وقوله: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اصْبِرُواْ وَصَابِرُواْ وَرَابِطُواْ وَاتَّقُواْ اللّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ [سورة آل عمران:200]، فكل موضع قرن فيه التقوى بالصبر اشتمل على الأمور الثلاثة فإن حقيقة التقوى فعل المأمور وترك المحظور[3].
- رواه أحمد (11 / 131)، برقم (6570).
- رواه الترمذي، كتاب البر والصلة، باب معاشرة الناس (4 / 355)، برقم (1987)، وأحمد (35 / 284) برقم: (21354).
- عدة الصابرين (1 / 20).