أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللّهُ مَثَلاً كَلِمَةً طَيّبَةً كَشَجَرةٍ طَيّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السّمَآءِ تُؤْتِيَ أُكُلَهَا كُلّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبّهَا وَيَضْرِبُ اللّهُ الأمْثَالَ لِلنّاسِ لَعَلّهُمْ يَتَذَكّرُونَ وَمَثلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ اجْتُثّتْ مِن فَوْقِ الأرْضِ مَا لَهَا مِن قَرَارٍ [سورة إبراهيم:24-26].
قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس - ا - في قوله: مَثَلاً كَلِمَةً طَيِّبَةً شهادة أن لا إله إلا الله، كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ وهو المؤمن، أصْلُهَا ثَابِتٌ يقول: لا إله إلا الله في قلب المؤمن، وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ يقول يرفع بها عمل المؤمن إلى السماء، وهكذا قال الضحاك وسعيد بن جبير وعكرمة ومجاهد وغير واحد: إن ذلك عبارة عن عمل المؤمن، وقوله الطيب، وعمله الصالح، وإن المؤمن كشجرة من النخل لا يزال يُرفع له عمل صالح في كل حين ووقت، وصباح ومساء.
هذه الطريقة في تفسير الأمثال: أن يفسر كل جزء من المثل وينزل على ما ضرب له المثل، هذه الطريقة عليها كثير من أهل العلم من أهل اللغة، والمفسرين، والطريقة الأخرى تفسر المثل بجملته، يقال: هذا مثل ضربه الله لكلمة التوحيد، وما لها من الآثار والمنافع والثبات وما يقابلها من كلمة الشرك التي لا أساس لها ولا أصل ولا ثبات، وإنما هي كلمة هشة، لا حقيقة لها ولا جذور، وليس عليها برهان ولا حجة، هكذا تفسير المثل بإجمال، وأصحاب هذه الطريقة يقولون: قد لا تكون كل جزئية في المثل يقصد بها أن تكون موضحة أو منزلة على جزء مما ضرب له المثل، والذين يفسرون الأمثال بالطريقة الأولى يفسرون كل جزء من المثل، وهذا يكون أدعى للاختلاف، فالحاصل أن مَثَلاً كَلِمَةً طَيِّبَةً مَن نظر إلى لفظة كَلِمَةً، والكلمة كما هو معروف: هي لفظة مركبة من الحروف الهجائية، إذا كانت غير مفيدة، فإنه يقال لها: لفظ؛ لأن اللفظ المراد به ما يلفظ، أي الملفوظ، فإذا قلت: ديز مثلاً مقلوب زيد فهذا لفظ، وأما الكلمة عندهم فتكون مفيدة، سواء كانت مفردة أو مركبة، تقول: زيد فهذا اسم غير مهمل - مثل ديز -، وتكون مركبة أيضاً كما يقال: "كلمة" للخطبة أو المحاضرة، كما قال ابن مالك:
"وكلمةٌ بها كلامٌ قد يُؤم".
أي: قد يقصد بالكلمة الكلام، تقول: فلان ألقى كلمة، فالحاصل أن الكلمة الطيبة، من نظر إلى لفظة كلمة قال: هي "لا إله إلا الله"، ومن نظر إلى المعنى قال: هي التوحيد، ولا منافاة، فبعض أهل العلم كابن جرير يقول: هي التوحيد، هذا مثل للتوحيد، والتوحيد يعبر عنه بـ "لا إله إلا الله"، فهذه الأقوال لا يحتاج إلى ترجيح بينها، فالكلمة الطيبة هي التوحيد، وهي الإيمان، وهي "لا إله إلا الله"، كل هذه الأقوال بمعنىً واحد، وترجع إلى شيء واحد، مثل هذه الكلمة في ثباتها وتأثيرها ونفعها وبركتها كَشَجَرةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ جذورها عميقة، وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاء تُؤْتِيَ أُكُلَهَا كُلّ حِينٍ، فهذه ثلاثة أشياء، والحافظ ابن القيم - رحمه الله - له كلام جيد في تفسير هذا المثل، فقال - رحمه الله تعالى - في تفسير هذه الآية: "فشبه - - الكلمة الطيبة بالشجرة الطيبة؛ لأن الكلمة الطيبة تثمر العمل الصالح، والشجرة الطيبة تثمر الثمر النافع، وهذا ظاهر على قول جمهور المفسرين، يقولون: الكلمة الطيبة: هي شهادة أن لا إله إلا الله، فإنها تثمر جميع الأعمال الصالحة الظاهرة والباطنة، فكل عمل صالح مرضي لله فهو ثمرة هذه الكلمة، وفي تفسير علي بن أبي طلحة عن ابن عباس - ا - قال: كَلِمَةً طَيِّبَةً شهادة أن لا إله إلا الله كَشَجَرةٍ طَيِّبَةٍ وهو المؤمن أَصْلُهَا ثَابِتٌ قول: "لا إله إلا الله" في قلب المؤمن، وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاء يقول: يرفع بها عمل المؤمن إلى السماء، وقال الربيع بن أنس: كَلِمَةً طَيِّبَةً هذا مثل الإيمان، فالإيمان الشجرة الطيبة، وأصلها الثابت الذي لا يزول الإخلاص فيه، وفرعه في السماء خشية الله.
والتشبيه على هذا القول أصح وأظهر وأحسن، فإنه سبحانه شبه شجرة التوحيد في القلب بالشجرة الطيبة الثابتة الأصل، الباسقة الفرع في السماء علواً، التي لا تزال تؤتي ثمرتها كل حين، وإذا تأملت هذا التشبيه رأيته مطابقاً لشجرة التوحيد الثابتة الراسخة في القلب، التي فروعها من الأعمال الصالحة الصاعدة إلى السماء، ولا تزال هذه الشجرة تثمر الأعمال الصالحة كل وقت بحسب ثباتها في القلب ومحبة القلب لها، وإخلاصه فيها ومعرفته بحقيقتها، وقيامه بحقوقها، ومراعاتها حق رعايتها، فمن رسخت هذه الكلمة في قلبه بحقيقتها التي هي حقيقتها، واتصف قلبه بها وانصبغ بها بصبغة الله التي لا أحسن صبغة منها، فعرف حقيقة الإلهية التي يثبتها قلبه لله ويشهد بها لسانه وتصدقها جوارحه، ونفى تلك الحقيقة ولوازمها عن كل ما سوى الله، وواطأ قلبه لسانه في هذا النفي والإثبات، وانقادت جوارحه لمن شهد له بالوحدانية طائعة سالكة سبل ربه ذللاً غير ناكبة عنها، ولا باغية سواها بدلاً، كما لا يبتغي القلب سوى معبوده الحق بدلاً، فلا ريب أن هذه الكلمة من هذا القلب على هذا اللسان لا تزال تؤتي ثمرتها من العمل الصالح الصاعد إلى الرب تعالى، وهذه الكلمة الطيبة هي التي رفعت هذا العمل الصالح إلى الرب تعالى، وهذه الكلمة الطيبة تثمر كَلِماً كثيراً طيباً، يقارنه عمل صالح، فيرفع العملُ الصالح الكلِمَ الطيب، كما قال تعالى: إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ فأخبر سبحانه أن العمل الصالح يرفع الكلم الطيب، وأخبر أن الكلمة الطيبة تثمر لقائلها عملا صالحاً كل وقت، والمقصود: أن كلمة التوحيد إذا شهد بها المؤمن عارفاً بمعناها وحقيقتها نفياً وإثباتاً متصفاً بموجبها قائماً قلبه ولسانه وجوارحه بشهادته فهذه الكلمة الطيبة هي التي رفعت هذا العمل من هذا الشاهد، أصلها ثابت راسخ في قلبه وفروعها متصلة بالسماء، وهي مخرجة ثمرتها كل وقت. ومن السلف من قال: إن الشجرة الطيبة هي النخلة، ويدل عليه حديث ابن عمر - ا - في الصحيح[1]، ومنهم من قال: هي المؤمن نفسه، كما قال محمد بن سعد حدثني أبي حدثني عمي حدثني أبي عن أبيه عن ابن عباس - ا - قوله: أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللّهُ مَثَلاً كَلِمَةً طَيّبَةً كَشَجَرةٍ طَيّبَةٍ يعني بالشجرة الطيبة: المؤمن، ويعني بالأصل الثابت في الأرض والفرع في السماء: بكون المؤمن يعمل في الأرض ويتكلم فيبلغ عمله وقوله السماء وهو في الأرض"[2].
وهذه الرواية ضعيفة لا تصح بحال من الأحوال.
وقال ابن القيم رحمه الله: "وقال عطية العوفي في قوله: ضَرَبَ اللّهُ مَثَلاً كَلِمَةً طَيّبَةً كَشَجَرةٍ طَيّبَةٍ قال: ذلك مثل المؤمن لا يزال يخرج منه كلام طيب وعمل صالح يصعد إلى الله، وقال الربيع بن أنس: أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السّمَآءِ قال: ذلك المؤمن ضرب مثله في الإخلاص لله وحده وعبادته وحده لا شريك له، أَصْلُهَا ثَابِتٌ قال: أصل عمله ثابت في الأرض، وَفَرْعُهَا فِي السّمَآءِ قال: ذكره في السماء، ولا اختلاف بين القولين، والمقصود بالمثل: المؤمن، والنخلة مشبهة به وهو مشبه بها، وإذا كانت النخلة شجرة طيبة فالمؤمن المشبه بها أولى أن يكون كذلك، ومن قال من السلف: إنها شجرة في الجنة، فالنخلة من أشرف أشجار الجنة"[3]أ.هـ.
والقول بأنها المؤمن فيه بُعد، والأقرب هو القول بأنها لا إله لا إله، أو أنها التوحيد، لكن بين القولين نوع ارتباط، باعتبار أن لا إله إلا الله لها أثر على هذا المؤمن حيث صار بهذه المثابة من العمل، والجد والاجتهاد في طاعة الله ، ولا يصدر منه إلا كل قول حسن، كما قال الله : وَالطَّيِّبَاتُ لِلطَّيِّبِينَ وَالطَّيِّبُونَ لِلطَّيِّبَاتِ [سورة النــور:26]، وقال: الْخَبِيثَاتُ لِلْخَبِيثِينَ وَالْخَبِيثُونَ لِلْخَبِيثَات [سورة النــور:26]، يقول ابن جرير: إن الكلمات الطيبات للطيبين من الناس، والكلمات الخبيثات للخبيثين من الناس، فإذا قالها أهل الإيمان نفعتهم الكلمات الطيبة، إن صدرت منهم نفعتهم، وإن صدرت من الكافرين من الخبيثين لم تنفعهم، وإذا صدرت الكلمات الخبيثات في حق أهل الإيمان لم تضرهم، وهو أحد المعاني الداخلة تحتها؛ لأن ذلك يشمل الذوات، والآية نزلت في قضية الإفك، وتبرئة عائشة - ا -، فالطيبات من الذوات ومن الأقوال والأعمال، - والله تعالى أعلم -.
والكلمة في قوله: كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرةٍ طَيِّبَةٍ هي كلمة التوحيد "لا إله إلا الله"، - والله تعالى أعلم -، ومُثلت بالشجرة الطيبة التي تكون بهذه المثابة، وأولى ما تصدق عليه هذه الشجرة هي النخلة، لكن ذلك لا يختص بها في ظاهر اللفظ، وإنما ضرب بمثل؛ لأن من الأشجار ما يكون طيباً، ومنه ما يكون خبيثاً، لا ثبات له، وليس له ثمرة ينتفع بها كالحنظل مثلاً.
قال ابن القيم - رحمه الله تعالى - في تفسير قوله تعالى: أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللّهُ مَثَلاً كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاء [سورة إبراهيم:24] الآية: "وفي هذا المثل من الأسرار والعلوم والمعارف ما يليق به ويقتضيه علم الرب الذي تكلم به وحكمته، فمن ذلك أن الشجرة لا بد لها من عروق وساق وفروع وورق وثمر، كذلك شجرة الإيمان والإسلام ليطابق المشبه المشبه به، فعروقها العلم والمعرفة واليقين، وساقها الإخلاص، وفروعها الأعمال، وثمرتها ما توجبه الأعمال الصالحة من الآثار الحميدة والصفات الممدوحة والأخلاق الزكية والسمت الصالح والهدي والدَّل المرضي، فيستدل على غرس هذه الشجرة في القلب وثبوتها فيه بهذه الأمور، فإذا كان العلم صحيحاً مطابقاً لمعلومه الذي أنزل الله كتابه به، والاعتقاد مطابقاً لما أخبر به عن نفسه، وأخبرت به عنه رسله، والإخلاص قائم في القلب، والأعمال موافقة للأمر والهدي، والدَّل والسمت مشابه لهذه الأصول مناسب لها، علم أن شجرة الإيمان في القلب أصلها ثابت وفرعها في السماء، وإذا كان الأمر بالعكس علم أن القائم بالقلب إنما هو الشجرة الخبيثة التي اجتثت من فوق الأرض ما لها من قرار، ومنها أن الشجرة لا تبقى حية إلا بمادة تسقيها وتنميها، فإذا قطع عنها السقي أوشك أن تيبس، فهكذا شجرة الإسلام في القلب إن لم يتعاهدها صاحبها بسقيها كل وقت بالعلم النافع والعمل الصالح والعود بالتذكر على التفكر، وبالتفكر على التذكر وإلا أوشك أن تيبس، وفي مسند الإمام أحمد من حديث أبي هريرة قال: قال رسول الله ﷺ: إن الإيمان يَخلَق في القلب كما يَخلَق الثوب فجددوا إيمانكم[4]، وبالجملة فالغرس إن لم يتعاهده صاحبه أوشك أن يهلك، ومن هنا تعلم شدة حاجة العباد إلى ما أمر الله به من العبادات على تعاقب الأوقات، وعظيم رحمته وتمام نعمته وإحسانه إلى عباده أن وظفها عليها وجعلها مادة لسقي غراس التوحيد الذي غرسه في قلوبهم.
ومنها أن الغرس والزرع النافع قد أجرى الله سبحانه العادة أنه لابد أن يخالطه دَغَل ونبت غريب ليس من جنسه، فإن تعاهده ربه ونقاه وقلعه كمل الغرس والزرع واستوى وتم نباته، وكان أوفر لثمرته وأطيب وأزكى، وإن تركه أوشك أن يغلِب على الغراس والزرع ويكون الحكم له، أو يُضعِف الأصلَ ويجعل الثمرة ذميمة ناقصة بحسب كثرته وقلته، ومن لم يكن له فقهُ نفسٍ في هذا ومعرفة به فإنه يفوته ربح كبير وهو لا يشعر، فالمؤمن دائماً سعيه في شيئين سقي هذه الشجرة وتنقية ما حولها، فبسقيها تبقى وتدوم وبتنقية ما حولها تكمل وتتم، والله المستعان وعليه التكلان.
فهذا بعض ما تضمنه هذا المثل العظيم الجليل من الأسرار والحكم، ولعلها قطرة من بحر بحسب أذهاننا الواقفة وقلوبنا المخطئة وعلومنا القاصرة وأعمالنا التي توجب التوبة والاستغفار، وإلا فلو طهرت منا القلوب، وصفت الأذهان، وزكت النفوس، وخلصت الأعمال، وتجردت الهمم للتلقي عن الله ورسوله لشاهدنا من معاني كلام الله وأسراره وحكمه ما تضمحل عنده العلوم، وتتلاشى عنده معارف الخلق، وبهذا تعرف قدر علوم الصحابة ومعارفهم، وأن التفاوت الذي بين علومهم وعلوم من بعدهم كالتفاوت الذي بينهم في الفضل، والله أعلم حيث يجعل مواقع فضله ومن يختص برحمته.
ثم ذكر سبحانه مثل الكلمة الخبيثة فشبهها بالشجرة الخبيثة التي اجتثت من فوق الأرض ما لها من قرار، فلا عرق ثابت، ولا فرع عالٍ، ولا ثمرة زاكية، فلا ظل ولا جنى ولا ساق قائم، ولا عرق في الأرض ثابت، فلا أسفلها مُغدِق، ولا أعلاها مونق، ولا جنى لها، ولا تعلو بل تُعلى.
وإذا تأمل اللبيب أكثر كلام هذا الخلق في خطابهم وكسبهم وجده كذلك، فالخسران الوقوف معه والاشتغال به عن أفضل الكلام وأنفعه، الذي هو كتاب الرب سبحانه.
قال الضحاك: ضرب الله مثلا للكافر بشجرة اجتثت من فوق الأرض ما لها من قرار يقول: ليس لها أصل ولا فرع، وليس لها ثمرة ولا فيها منفعة، كذلك الكافر لا يعمل خيراً ولا يقوله، ولا يجعل له فيه بركة ولا منفعة[5].
وقال ابن عباس - ا -: وَمَثلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ [سورة إبراهيم:26] وهي الشرك، كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ يعني: الكافر اجْتُثَّتْ مِن فَوْقِ الأَرْضِ مَا لَهَا مِن قَرَارٍ يقول: الشرك ليس له أصل يأخذ به الكافر ولا برهان، ولا يقبل الله مع الشرك عملاً، فلا يقبل عمل المشرك ولا يصعد إلى الله، فليس له أصل ثابت في الأرض ولا فرع في السماء، يقول: ليس له عمل صالح في السماء ولا في الأرض.
وقال الربيع بن أنس: مثل الشجرة الخبيثة مثل الكافر ليس لقوله ولا لعمله أصل ولا فرع، ولا يستقر قوله ولا عمله على الأرض ولا يصعد إلى السماء.
وقال سعيد عن قتادة في هذه الآية: إن رجلاً لقي رجلاً من أهل العلم فقال له: ما تقول في الكلمة الخبيثة؟ قال: ما أعلم لها في الأرض مستقراً، ولا في السماء مصعداً، إلا أن تلزم عنق صاحبها حتى يوافي بها القيامة.
وقوله: اجْتُثَّتْ أي: استؤصلت من فوق الأرض، ثم أخبر سبحانه عن فضله وعدله في الفريقين، أصحاب الكلم الطيب، وأصحاب الكلم الخبيث، فأخبر أنه يثبت الذين آمنوا بإيمانهم بالقول الثابت أحوج ما يكونون إليه في الدنيا والآخرة، وأنه يضل الظالمين وهم المشركون عن القول الثابت، فأضل هؤلاء بعدله لظلمهم وثبت المؤمنين بفضله لإيمانهم"[6]أ.هـ.
وقال الحافظ ابن كثير - رحمه الله تعالى -: وروى البخاري عن ابن عمر - ا - قال: كنا عند رسول الله ﷺ فقال: أخبروني عن شجرة تشبه - أو كالرجل - المسلم، لا يتحات ورقها صيفاً ولا شتاء، وتؤتي أكلها كل حين بإذن ربها، قال ابن عمر: فوقع في نفسي أنها النخلة، ورأيت أبا بكر وعمر لا يتكلمان، فكرهت أن أتكلم، فلما لم يقولوا شيئاً، قال رسول الله ﷺ: هي النخلة، فلما قمنا قلت لعمر: يا أبتاه، والله لقد كان وقع في نفسي أنها النخلة. قال: ما منعك أن تتكلم؟ قلت: لم أركم تتكلمون، فكرهت أن أتكلم أو أقول شيئاً، قال عمر: لأن تكون قلتها أحب إليّ من كذا وكذا"[7].
وعن ابن عباس - ا - كَشَجَرةٍ طَيّبَةٍ قال: هي شجرة في الجنة، وقوله: تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ قيل: غدوة وعشياً، والظاهر من السياق أن المؤمن مثله كمثل شجرة لا يزال يوجد منها ثمر في كل وقت من صيف أو شتاء أو ليل أو نهار، كذلك المؤمن لا يزال يُرفع له عمل صالح آناء الليل وأطراف النهار في كل وقت وحين، بِإِذْنِ رَبِّهَا أي: كاملاً حسناً كثيراً طيباً مباركاً، وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ.
فقوله: "بِإِذْنِ رَبِّهَا أي: كاملاً حسناً"، ليس هو معنى بِإِذْنِ رَبِّهَا وإنما أراد أن يصل المعنى فحسب، يعني يريد أن يصل هذه الجملة بكلامٍ، تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا [سورة إبراهيم:25] كاملاً تاماً لا نقص فيه، هذا الذي قصد، ومعنى بِإِذْنِ رَبِّهَا: لا يكون شيء إلا بإذنه - تبارك وتعالى - ومشيئته، وفي مثل هذه الأشياء المقصود بالإذن فيها الإذن الكوني، بخلاف قوله - تبارك وتعالى -: مَا قَطَعْتُم مِّن لِّينَةٍ أَوْ تَرَكْتُمُوهَا قَائِمَةً عَلَى أُصُولِهَا فَبِإِذْنِ اللَّهِ وَلِيُخْزِيَ الْفَاسِقِينَ [سورة الحشر:5] والأقرب أنه يشمل الإذن الكوني والإذن الشرعي، والنبي ﷺ مثّل المؤمن بالنخلة، لكن الكلام على الكلمة الطيبة، وليس الكلام على المؤمن، فالكلمة الطيبة كشجرة طيبة، والله لم يحدد شيئاً بعينه، فيقال: كشجرة طيبة، وهو ما كان بهذه المثابة أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاء تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ، فلا يختص هذا بشجرة في الجنة، أو بشجرة بعينها، وإنما المقصود هو البيان والإيضاح للحالة المشبه بها، المضروب بها المثل.
هذا على سبيل المثال، وإلا فإن ذلك لا يختص بشجرة الحنظل، وإنما كل ما ينطبق عليه هذا الوصف؛ ولذا قال بعض السلف غير هذا، وإنما ذكروا أشياء أخرى، بعضهم يذكر من الأشجار أشجار البرية، وبعضهم يذكر غير هذا، فالمقصود هو موطن العبرة، وهو ما ضرب له المثل، حال الكافر، أو حال الكفر، كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ فإن الكفر لا يورث ثماراً، وإنما يورث ثماراً مرة، فإذا كان الإنسان كافراً فسدت أعماله وأحواله كلها، وصار كده وسعيه وشغله فيما يضره ولا ينفعه، فيما يبعده من ربه - تبارك وتعالى -، ولا يقربه، فلا يصدر منه إلا كل سيئ إما لذاته وإما لفساد قصده فيه، لا يريد به وجه الله - تبارك وتعالى -، فالكفر نجاسة غليظة، وهي داء إذا دخل في قلب الإنسان أفسد عليه أمره كله، كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ اجْتُثَّتْ مِن فَوْقِ الأَرْضِ مَا لَهَا مِن قَرَارٍ، فالكفر والشرك ليس له أصل ثابت ولا برهان ولا حجة، وإنما هو شيء لا يجاوز أفواه قائليه، وهذه المعبودات التي يعبدونها من دون الله ما هي إلا أسماء سموها هم وآباؤهم ما أنزل الله بها من سلطان.
وشجرة الحنظل ليس لها ساق، وتمتد في الأرض يخرج منها ثمر يشبه البطيخ، لكنه مستدير تقريباً، أخضر وإذا استوى صار أصفر، إذا فتحته وجدت فيه حباً أسود، في غاية المرارة، يضرب به المثل في المرارة، يقال: فلان حنظلة، يسمون حنظلة من أجل أعدائهم، أي شديد المرارة، وإذا وطأ عليه الإنسان بباطن القدم استطلق بطنه، وهو معروف ينبت ولا يُزرع، طفيلي في المزارع المهملة، أو في حواشيها، والصحاري.
- رواه البخاري برقم (131)، كتاب العلم، باب الحياء في العلم، ومسلم برقم (2811)، كتاب صفة القيامة والجنة والنار، باب مثل المؤمن مثل النخلة.
- الأمثال في القرآن الكريم (36-37)، للإمام ابن القيم، تحقيق: إبراهيم بن محمد، مكتبة الصحابة - طنطا، ط1، سنة النشر:1406هـ، وإعلام الموقعين عن رب العالمين (1/103-104)، دراسة وتحقيق: طه عبد الرءوف سعد، مكتبة الكليات الأزهرية، مصر- القاهرة- سنة النشر:1388هـ.
- الأمثال في القرآن الكريم (37) للإمام ابن القيم، وإعلام الموقعين عن رب العالمين (1/104).
- رواه الحاكم في المستدرك، (1/45)، برقم (5)، وقال: هذا حديث لم يخرج في الصحيحين ورواته مصريون ثقات، وحسنه الألباني في السلسلة الصحيحة برقم (1585)، وصححه في صحيح الجامع برقم (1590).
- الأمثال في القرآن الكريم: (38-40).
- الأمثال في القرآن الكريم للإمام ابن القيم (38-41)، وإعلام الموقعين عن رب العالمين (1/204-207).
- رواه البخاري برقم (131)، كتاب العلم، باب الحياء في العلم، ومسلم برقم (2811)، كتاب صفة القيامة والجنة والنار، باب مثل المؤمن مثل النخلة.