وقوله: وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لا تُحْصُوهَا يخبر تعالى عن عجز العباد عن تعداد النعم فضلاً عن القيام بشكرها، وفي صحيح البخاري أن رسول الله ﷺ كان يقول: اللهم لك الحمد غير مكفيّ ولا مودع ولا مستغنىً عنه ربنا[1].
وقد روي في الأثر أن داود قال: يا رب كيف أشكرك وشكري لك نعمة منك عليّ؟ فقال الله تعالى: الآن شكرتني يا داود. أي حين اعترفت بالتقصير عن أداء شكر المنعم.
وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبّ اجْعَلْ هََذَا الْبَلَدَ آمِناً وَاجْنُبْنِي وَبَنِيّ أَن نّعْبُدَ الأصْنَامَ رَبّ إِنّهُنّ أَضْلَلْنَ كَثِيراً مّنَ النّاسِ فَمَن تَبِعَنِي فَإِنّهُ مِنّي وَمَنْ عَصَانِي فَإِنّكَ غَفُورٌ رّحِيمٌ [سورة إبراهيم:35-36].
يذكّر تعالى في هذا المقام محتجاً على مشركي العرب بأن البلد الحرام بمكة إنما وضعت أول ما وضعت على عبادة الله وحده لا شريك له، وأن إبراهيم الذي كانت عامرة بسببه آهلة تبرّأ ممن عبد غير الله، وأنه دعا لمكة بالأمن فقال: رَبّ اجْعَلْ هََذَا الْبَلَدَ آمِناً وقد استجاب الله له، فقال تعالى: أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا حَرَمًا آمِنًا [سورة العنكبوت:67] الآية، وقال تعالى: إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكاً وَهُدىً لِلْعَالَمِينَ فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ مَقَامُ إِبْرَاهِيمَ وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِناً [سورة آل عمران:96] وقال في هذه القصة: رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِناً فعرّفه لأنه دعا به بعد بنائها؛ ولهذا قال: الْحَمْدُ لِلّهِ الَّذِي وَهَبَ لِي عَلَى الْكِبَرِ إِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَقَ [سورة إبراهيم:39]، ومعلوم أن إسماعيل أكبر من إسحاق - عليهما السلام - بثلاث عشرة سنة، فأما حين ذهب بإسماعيل وأمه وهو رضيع إلى مكان مكة فإنه دعا أيضاً فقال: رَبِّ اجْعَلْ هَذَا بَلَداً آمِناً، كما ذكرناه هنالك في سورة البقرة مستقصى مطوّلاً.
وقوله: وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنَامَ ينبغي لكل داع أن يدعو لنفسه ولوالديه ولذريته، ثم ذكر أنه افتتن بالأصنام خلائق من الناس، وأنه تبرأ ممن عبدها.
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:
فقوله - تبارك وتعالى -: وَإِن تَعُدّواْ نِعْمَةَ اللّهِ لاَ تُحْصُوهَا إِنّ الإنْسَانَ لَظَلُومٌ كَفّارٌ، الإحصاء: هو العد، وأصل ذلك فيما يُذكر - والله تعالى أعلم -: أن العادّ في السابق كان كلما بلغ عقداً في الأعداد وضع حصاة، من أجل أن يضبط العد، فصار ذلك يقال له: الإحصاء، أخذاً من وضع الحصى، هكذا قيل، كما قيل في اليمين: إن أصلها أن الرجل كان إذا حلف أخذ بيمين صاحبه توثيقاً لليمين، توثيقاً للقول بالفعل، فقيل له يمين، - والله تعالى أعلم -، وما ذكره الحافظ ابن كثير - رحمه الله - عند قوله - تبارك وتعالى -: وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِنًا، والفرق بينه وبين ما في البقرة: رَبِّ اجْعَلْ هََذَا بَلَدًا آمِنًا [سورة البقرة:126]، فدعا لها بشيئين: أن يصير هذا المكان بلداً؛ لأنه جاء إلى وادٍ ليس فيه أحد، ودعا لها بالأمن، كما في قوله: رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِناً وجاءها مرة أخرى بعد أن صارت بلداً، فقال: رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِناً، فدعا لها هنا بشيء واحد وهو الأمن.
ومن الأدلة على أن هذه هي المرة الثانية أنه قال: الْحَمْدُ لِلّهِ الَّذِي وَهَبَ لِي عَلَى الْكِبَرِ إِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَقَ إِنَّ رَبِّي لَسَمِيعُ الدُّعَاء [سورة إبراهيم:39]؛ لأن إسحاق لم يكن موجوداً حينما جاء أول مرة، إنما جاء بإسماعيل وأمه.
قول عيسى : إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ، وقول إبراهيم : وَمَنْ عَصَانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ، والفرق بين هذا وبين قول الأنبياء كنوح : رَّبِّ لَا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا [سورة نوح:26]، وقول موسى وهارون - عليهما الصلاة والسلام -: رَبَّنَا إِنَّكَ آتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَمَلأهُ زِينَةً وَأَمْوَالاً فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا رَبَّنَا لِيُضِلُّواْ عَن سَبِيلِكَ الآية [سورة يونس:88]، فدعاء الأنبياء هؤلاء - عليهم الصلاة والسلام - على قومهم يمكن أن يقال فيه - والله تعالى أعلم -: إن نوحاً قال ذلك لما أخبره ربه - تبارك وتعالى -: أَنَّهُ لَن يُؤْمِنَ مِن قَوْمِكَ إِلاَّ مَن قَدْ آمَنَ [سورة هود:36]، وجلس فيهم هذه المدة الطويلة، وأما قول موسى ﷺ فيمكن أن يكون قد قال ذلك بعد أن قالوا له: مَهْمَا تَأْتِنَا بِهِ مِن آيَةٍ لِّتَسْحَرَنَا بِهَا فَمَا نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ [سورة الأعراف:132]، فلما يئس منهم دعا عليهم، ولكل مقام مقال، فالحال أحياناً قد يكون المناسب فيها الدعاء عليهم، وأحياناً الدعاء لهم، فقد يقول: اللهم اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون[3]، وقد يدعو عليهم ويقول: اللهم اجعلها عليهم سنينَ كسِنِيّ يوسف[4]، فالدعاء لهم ليس بمطرد في كل المواضع، ولا إشكال في هذا، وإبراهيم يقول: وَمَنْ عَصَانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ الله - تبارك وتعالى - لا يغفر للكفار، فيحمل هذا باعتبار أن المراد وجود سبب المغفرة، بأن يتوب الله عليهم، يوفقهم للتوبة فيغفر لهم، ويمكن أن يقال بأن ذلك كقوله لما دعا لأبيه: وَاغْفِرْ لِأَبِي الآية، [سورة الشعراء:86] وقال: سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي [سورة مريم:47]، ورَبّنَا اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيّ وَلِلْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ يَقُومُ الْحِسَابُ [سورة إبراهيم:41]، حتى نهاه ربه - تبارك وتعالى - عن ذلك، كما وقع للنبي ﷺ حينما استأذن ربه أن يستغفر لأمه، وقال لأبي طالب: لأستغفرن لك ما لم أنه عنك[5]، واستغفر بعض الصحابة لآبائهم الذين ماتوا على الشرك احتجاجاً باستغفار إبراهيم لأبيه، فأنزل الله : مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُواْ أَن يَسْتَغْفِرُواْ لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُواْ أُوْلِي قُرْبَى مِن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ[سورة التوبة:113].
- [1] - رواه البخاري برقم (5142)، كتاب النفقات، باب ما يقول إذا فرغ من طعامه.
- رواه مسلم برقم (202)، كتاب الإيمان، باب دعاء النبي ﷺ لأمته وبكائه شفقة عليهم.
- رواه البخاري، كتاب الأنبياء، باب أم حسبت أن أصحاب الكهف والرقيم، برقم (3290)، ومسلم، كتاب الجهاد والسير، باب غزوة أحد، برقم (1792)، من حديث عبد الله بن مسعود .
- رواه البخاري، كتاب الدعوات، باب الدعاء على المشركين، برقم (6030)، ومسلم، كتاب المساجد ومواضع الصلاة، باب استحباب القنوت في جميع الصلاة إذا نزلت بالمسلمين نازلة، برقم (675).
- رواه البخاري برقم (1294)، كتاب الجنائز، باب إذا قال المشرك عند الموت: لا إله إلا الله، ورواه بلفظ: مالم أُنْه عنه برقم (3671)، كتاب فضائل الصحابة، باب قصة أبي طالب، ومسلم برقم (24)، كتاب الإيمان، باب الدليل على صحة إسلام من حضره الموت ما لم يشرع في النزع وهو الغرغرة، ونسخ جواز الاستغفار للمشركين، والدليل على أن من مات على الشرك فهو في أصحاب الجحيم، ولا ينقذه من ذلك شيء من الوسائل.