الثلاثاء 05 / محرّم / 1447 - 01 / يوليو 2025
وَقَدْ مَكَرُوا۟ مَكْرَهُمْ وَعِندَ ٱللَّهِ مَكْرُهُمْ وَإِن كَانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ ٱلْجِبَالُ

المصباح المنير
مرات الإستماع: 0

وقد روى شعبة عن أبي إسحاق عن عبد الرحمن بن دابيل أن علياً قال في هذه الآية وَإِنْ كَانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبَالُ قال: أخذ ذاك الذي حاج إبراهيم في ربه نسريْن صغيرين فرباهما حتى استغلظا واستفحلا وشبا، قال: فأوثق رِجل كل واحد منهما بوتد إلى تابوت وجوّعهما، وقعد هو ورجل آخر في التابوت، قال: - ورفع في التابوت عصاً على رأسه اللحم - فطارا، وجعل يقول لصاحبه: انظر ما ترى؟ قال: أرى كذا وكذا، حتى قال: أرى الدنيا كلها كأنها ذباب، قال: فصوِّب العصا، فصوبها فهبطا جميعاً، قال: فهو قوله : وَإِنْ كَانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبَالُ.

قال أبو إسحاق: وكذلك هي في قراءة عبد الله : وَإِنْ كَادَ مَكْرُهُمْ.

هذه القراءة مروية عن بعض الصحابة كعمر وأبيّ وَإِنْ كَادَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبَالُ، وهذه الرواية لعلها مأخوذة من الإسرائيليات، ولا شك أن فيها من الغرابة ما فيها، توضيح هذه الرواية: أن هذا النمرود جاء إلى نسور صغار فرباها، حتى قويت واشتدت، فجلس هو ورجل في تابوت وأوثق كل نسر على ناحية، ثم رفع عصا فيها لحم وهذه النسور مجوعة، فصارت تحاول الطيران من أجل أن تصل إلى هذا اللحم، فارتفع التابوت، حركت أجنحتها فارتفع التابوت، وفيه هؤلاء، ووصلوا إلى مكان مرتفع جداً فصاروا ينظرون إلى الجبال كما في بعض الروايات يقول: أرى الجبال كالذباب، يعني صغيرة جداً كما نرى في الطائرة، وقال: أرى الدنيا كالذباب، ثم بعد ذلك قال: صوِّب العصا، نزلْها، فنزلَها فصارت هذه النسور تتبع العصا، وصار لها جلبة قوية كادت الجبال أن تندك. فهذه الراوية فيها من الغرابة مافيها من أنها:

أولاً: النسور لا تستطيع أن تحمل تابوتاً فيه رجلان.

ثانياً: هذه النسور مُجوّعة، لا تستطيع مع ضعفها والجهد الذي بلغ بها من الجوع أن تواصل حتى تصل إلى هذا المكان العالي جداً في الارتفاع، وهي محملة بشيء ثقيل.

ثالثاً: أنه لما صوّب العصا ونزلها، نزلت النسور بسرعة ولم يحصل لهم أي شيء.

رابعاً: النمرود ملك عظيم جداً، فلا يصل به الأمر إلى أنه يخاطر ويركب في تابوت مربوط بنسرين ويطير مثل المجنون، ويخاطر بملكه، وكان بإمكانه أن يربط عبداً من عبيده أو أحد أتباعه ويضعه في التابوت، فهذه كلها وجوه للرد، وأن الإنسان لا يمكن أن يقبل مثل هذه المبالغات، وعلى هذه القراءة وَإِنْ كَادَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبَالُ، يعني: هذا لبيان شدة المكر أنه كادت الجبال تزول منه، وعلى هذه الرواية التي ذكرها أصلاً لا يصنع خفقان النسرين بالنسبة للجبال شيئاً، وعلى هذه القراءة وَإِنْ كَانَ مَكْرُهُمْ لبيان شدة مكرهم، ويقال: حتى في هذه القراءة المشهورة وَإِنْ كَانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبَالُ، فسر وَإِنْ كَانَ مَكْرُهُمْ يعني: لشدته لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبَالُ، يعني مكروا مكراً شديداً من شأنه أن يزيل الجبال لو وُجه إليها، وهذا هو المتبادر، يعني من شدة مكرهم، فإنه مكر كُبَّار عظيم يزيل الجبال، والعرب تعبر بمثل هذا، والله يقول: لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئًا إِدًّا ۝ تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنشَقُّ الْأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبَالُ هَدًّا [سورة مريم:89-90]، فالكفر يقال عنه مثل هذا والكيد والمكر الشديد، هذا معنى، والمعنى الثاني يقابله: وَإِنْ كَانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبَالُ، باعتبار أن "إن" هنا نافية بمعنى "ما"، وَإِنْ كَانَ مَكْرُهُمْأي: وما كان مكرهم لتزول منه، مكرهم ليس بشيء، لا قيمة له، عكس المعنى الأول.

وذكر مجاهد هذه القصة عن بُخْتنصَّر وأنه لما انقطع بصره عن الأرض وأهلها، نودي أيها الطاغية أين تريد؟ ففرق ثم سمع الصوت فوقه، فصوّب الرماح فصوّبت النسور.

ففزعت الجبال من هدتها، وكادت الجبال أن تزول من حس ذلك، فذلك قوله: وَإِنْ كَانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبَالُ.

ونقل ابن جريج عن مجاهد أنه قرأها: لَتَزُولُ مِنْهُ الْجِبَالُ بفتح اللام الأولى وضم الثانية.

لَتَزُولُ، وهي قراءة الكسائي.

وروى العوفي عن ابن عباس - ا - في قوله: وَإِنْ كَانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبَالُ يقول: ما كان مكرهم لتزول منه الجبال، وكذا قال الحسن البصري، ووجهه ابن جرير بأن هذا الذي فعلوه بأنفسهم من شركهم بالله وكفرهم به ما ضر شيئاً من الجبال ولا غيرها، وإِنما عاد وبال ذلك عليهم، قلت: ويشبه هذا قول الله تعالى: وَلا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحاً إِنَّكَ لَنْ تَخْرِقَ الْأَرْضَ وَلَنْ تَبْلُغَ الْجِبَالَ طُولاً، والقول الثاني في تفسيرها ما رواه علي بن أبي طلحة عن ابن عباس - ا - وَإِنْ كَانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبَالُ يقول: شركهم، كقوله: تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ الآية، وهكذا قال الضحاك وقتادة.

قوله: وَإِنْ كَانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبَالُ قال الحافظ ابن كثير - رحمه الله -: "أي شركهم، كقوله: تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ"، أي شركهم، فيحتمل أن تكون "إن" هذه مخففة من الثقيلة، بمعنى أنها ليست نافية، وَإِنْ كَانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبَالُ، ويكون هذا بياناً لشدة مكرهم، أنه كاد يزيل، أو من شأنه أن يزيل الجبال، يعني يبلغ الكيد إلى حد أنه لو وُجه إلى جبل لأزاله، والمقصود بمكرهم هو افتراؤهم على الله، وحربهم لرسله - عليهم الصلاة والسلام -، وشركهم بالله .

لكن كلام ابن جرير يوجه الآية ويفسرها باعتبار أن ذلك لبيان ضعف أثر مكرهم، فلا يضرون إلا أنفسهم، وما يضرون الله شيئاً، ومكرهم لا أثر له، والله - تبارك وتعالى - يبطله، فمكرهم ماذا سيصنع؟ لن يزيل الجبال، تحقيراً لهم ولما يبذلون، كالذي ينفخ على الشمس من أجل إطفائها، يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ [سورة الصف:8].