الخميس 17 / ذو القعدة / 1446 - 15 / مايو 2025
وَلَقَدْ عَلِمْنَا ٱلْمُسْتَقْدِمِينَ مِنكُمْ وَلَقَدْ عَلِمْنَا ٱلْمُسْتَـْٔخِرِينَ

المصباح المنير
مرات الإستماع: 0

وقوله: وَإِنَّا لَنَحْنُ نُحْيِي وَنُمِيتُ [سورة الحجر:23] إخبار عن قدرته تعالى على بدء الخلق وإعادته، وأنه هو الذي أحيا الخلق من العدم، ثم يميتهم ثم يبعثهم كلهم ليوم الجمع، وأخبر أنه تعالى يرث الأرض ومن عليها، وإليه يرجعون، ثم أخبر تعالى عن تمام علمه بهم أولهم وآخرهم.

الله - تبارك وتعالى - يرث الأرض ومن عليها كما قال الله : إِنَّا نَحْنُ نَرِثُ الْأَرْضَ وَمَنْ عَلَيْهَا وَإِلَيْنَا يُرْجَعُونَ [سورة مريم:40] بمعنى أن كل شيء يرجع إليه، فالله - تبارك وتعالى - هو الوارث، وما بأيدي الخلق إنما هو عارية، ثم بعد ذلك يرجع إلى المالك المعبود .

فقال: وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَقْدِمِينَ مِنكُمْ [سورة الحجر:24] الآية، قال ابن عباس - ا -: المستقدمون كل من هلك من لدن آدم ، والمستأخرون من هو حي ومن سيأتي إلى يوم القيامة، وروي نحوه عن عكرمة ومجاهد والضحاك وقتادة ومحمد بن كعب والشعبي وغيرهم.

وروى ابن جرير عن محمد بن أبي معشر، عن أبيه: أنه سمع عون بن عبد الله يذاكر محمد بن كعب في قوله: وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَقْدِمِينَ مِنكُمْ وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَأْخِرِينَ، وأنها في صفوف الصلاة، فقال محمد بن كعب: ليس هكذا وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَقْدِمِينَ مِنْكُمْ الميت والمقتول، والْمُسْتَأْخِرِينَ من يخلق بعد، وَإِنَّ رَبَّكَ هُوَ يَحْشُرُهُمْ إِنَّهُ حَكِيمٌ عَلِيمٌ [سورة الحجر:25]، فقال عون بن عبد الله: وفقك الله وجزاك خيراً.

يقول الله - تبارك وتعالى -: وَإنَّا لَنَحْنُ نُحْيِي وَنُمِيتُ وَنَحْنُ الْوَارِثُونَ ۝ وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَقْدِمِينَ مِنكُمْ وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَأْخِرِينَ، ثم قال: وَإِنَّ رَبَّكَ هُوَ يَحْشُرُهُمْ إِنَّهُ حَكِيمٌ عَلِيمٌ [سورة الحجر:25]، ما قبلها وما بعدها يوضح المراد، فقوله: عَلِمْنَا الْمُسْتَقْدِمِينَ أي: مَن مضى، بعض السلف يقول: الأمم المتقدمة، وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَأْخِرِينَ يعني: هذه الأمة، ويمكن أن يفسر بما هو أعم من هذا فيقال: وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَقْدِمِينَ مِنْكُمْ أي: من مضى من الأمم والأفراد ممن هلك وفارق الحياة، وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَأْخِرِينَ يعني: الذين لا زالوا على قيد الحياة، أو أولئك الذين سيوجدون بعد ذلك، ثم قال: وَإِنَّ رَبَّكَ هُوَ يَحْشُرُهُمْ يجمع الأولين والآخرين، كما قال الله : قُلْ إِنَّ الْأَوَّلِينَ وَالْآخِرِينَ ۝ لَمَجْمُوعُونَ إِلَى مِيقَاتِ يَوْمٍ مَّعْلُومٍ [سورة الواقعة:49-50]، فاستعمال مثل هذه الجملة في القرآن يرد لهذا المعنى في المتقدمين والمتأخرين في الوجود والحياة، والله يقول: مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُم مَّن قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُم مَّن يَنتَظِرُ [سورة الأحزاب:23]، قَضَى نَحْبَهُ جميع الأقوال التي قيلت فيها - والله تعالى أعلم - ترجع إلى شيء واحد، والمقصود أنه قَضَى نَحْبَهُ يعني: مات على الصدق والوفاء، وَمِنْهُم مَّن يَنتَظِرُ أي: لا زال على قيد الحياة، وهو الذي يدل عليه ظاهر القرآن، - والله تعالى أعلم -، ومن أهل العلم من يقول: وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَقْدِمِينَ مِنكُمْ أي: في فعل الخيرات، وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَأْخِرِينَ الذين يتباطئون ويتثاقلون، وبعضهم يقول: في صف القتال، مستقدمين في صف القتال، وذكر الحافظ ابن كثير - رحمه الله -: "عن عون بن عبد الله أنه ذاكر محمد بن كعب - يعني القرضي - في الآية، وأنها في صفوف الصلاة، وقال محمد بن كعب: ليس هكذا، وإنما الميت والمقتول"، يعني من مضى وفارق الحياة ومن بقي، ولما قال له محمد بن كعب القرضي: إن القرينة تدل على هذا، "فقال عون بن عبد الله: وفقك الله وجزاك خيراً"، يعني كأنه حل الإشكال، جاء في الحديث عند أحمد والترمذي والنسائي وابن ماجه أنها في صفوف الصلاة، - والحديث صححه جماعة، منهم الشيخ أحمد شاكر والشيخ الألباني - رحمهما الله - وأن المقصود بالمتقدمين والمتأخرين أنه كانت تصلي في مقدم صفوف النساء امرأة جميلة، كما جاء عن ابن عباس - ا -، فكان بعضهم يتقدم من أجل أن لا يراها، يصلي في الأمام، وبعضهم يتأخر؛ من أجل أن ينظر إليها إذا ركع، وهذا صح إسناده، لكنه من أشكل المواضع في التفسير، والحافظ ابن كثير - رحمه الله - أورد هذه الرواية في الأصل وقال: "وهذا فيه نكارة شديدة"، وبعض الذين يحققون ويكتبون استغربوا من الحافظ ابن كثير - رحمه الله - هذا القول وردوا عليه، وهم إنما ينظرون إلى الإسناد، والحافظ ابن كثير - رحمه الله - ينظر إلى المتن فرأى أن فيه نكارة؛ لأن السياق لا يدل على هذا إطلاقاً لا من قريب ولا من بعيد، فلو نظرنا إلى السياق لا يفهم منه أنه في صف الصلاة من أجل النظر إلى المرأة، إذ كيف يحصل هذا ممن رسول الله ﷺ في أوسطهم وهو إمامهم ويصلي بهم، وزكت نفوسهم بالقرآن، فهل يظن بأصحاب رسول الله ﷺ أنهم يأتون ويصلي منهم من يصلي آخر الصف؛ من أجل أن ينظر لهذه المرأة وهو راكع بين يدي ربي العالمين في هذه اللحظات، هذا لا يفعله أراذل الناس أو أسفه السفهاء، ثم إذا وقع هذا فالنبي ﷺ مستحيل أن يترك من يعمل هذا من غير تأديب؛ فلهذا استنكره الحافظ ابن كثير - رحمه الله -، وابن جرير - رحمه الله - حمل الآية على ما هو أعم من ذلك، ولم يحملها على هذا المعنى بخصوصه.