ثم بعد أن خلقه وبيّن فضله عليهم، وعلمه أسماء الأشياء، أمرهم بالسجود له، ولا منافاة، ثم إن قوله - تبارك وتعالى -: فَسَجَدَ الْمَلآئِكَةُ كُلّهُمْ أَجْمَعُونَ إِلاّ إِبْلِيسَ أَبَىَ أَن يَكُونَ مَعَ السّاجِدِينَ فإذا قيل: إن إبليس من الملائكة فالاستثناء متصل، فَسَجَدَ الْمَلآئِكَةُ كُلّهُمْ أَجْمَعُونَ إِلاّ إِبْلِيسَ أبى أن يسجد، ومعلوم أن الملائكة لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ [سورة التحريم:6]، فالذين قالوا: إنه من الملائكة، قالوا: إن الله - تبارك وتعالى - قد كتب عليه الشقاء؛ وذلك لحكمة عظيمة وهي تحقق الابتلاء في هذه الحياة الدنيا، والصراع بين الحق والباطل والخير والشر، وقوله تعالى: إِلَّا إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ [سورة الكهف:50] تدل على أنه ليس من الملائكة، وقوله: فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ أي: خرج عن أمر ربه، والذين يقولون: إنه من الملائكة مختلفون في توجيه قوله: كَانَ مِنَ الْجِنِّ فيقول بعضهم: يوجد صنف من الملائكة يقال لهم: الجن، وبعضهم يأخذ المعنى العام لكلمة الجن، من الاجتنان، فتقول: المِجَنّ؛ لأنه يستر المقاتل من ضرب السيوف ورمي النبال وما أشبه ذلك، والجنين لأنه مختفٍ، والجَنّة؛ لأنها تستر من دخلها، لكثرة أشجارها، ونحو ذلك، وهذا كله لا يخلو من تكلف، والذين قالوا: إنه من الملائكة ليس لهم مستند إلا مثل هذا الاستثناء، ويمكن أن يكون هذا الاستثناء من قبيل المنقطع، بمعنى "لكن"، أي: سجد الملائكة لكن إبليس لم يسجد، ولم يكن منهم أصلاً، لكنه كان في الملأ الأعلى، وأما ما نقله عن سعيد بن جبير - رحمه الله - من أنه لما لعن تغيرت صورته عن الملائكة، فهذا باعتبار أنه من الملائكة، ثم إن مثل هذا يحتاج إلى دليل؛ لأن هذا إما أن يكون من قبيل المأخوذ عن بني إسرائيل، ولا عبرة به، وإما أن يكون مما تُلقي عن رسول الله ﷺ؛ لأنه لا يقال من جهة الرأي، ومثل هذا يكون من قبيل المرسل.