قوله: لَكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ أي: لكم في البُدن منافع، من لبنها، وصوفها وأوبارها وأشعارها، وركوبها.
إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى: قال مِقْسَم، عن ابن عباس في قوله: لَكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى قال: ما لم تُسَمَّ بُدنا.
البَدَنة هي الناقة أو الإبل يقال لها البُدن، والبقر على خلاف هل يقال ذلك لها أو لا؟ فالبعض قال: لا، ومنهم من قال: يقال لها بدنة، والبقر تجزئ عن سبعة كالإبل، فالسلف يقصدون ما لم تُعيَّن، فأصل البُدن يقال للإبل، ويقال للبقر على خلاف في البقر، فقد يعبر بهذه العبارة ويُقصد بها ما خُص وعُين ليكون هدياً لبيت الله الحرام، ولهذا الرجل لما قال له النبي ﷺ: اركَبْها، قال: إنها بدنة[1]، بمعنى: أن هذه قد تعينت وارتسمت بهذا بدنة، وهو لا يقصد أنها ناقة، فهذا اللفظ - والله أعلم - يطلق في أصل المعنى على الإبل، وقد يطلق على البقر، لكن في الغالب على الإبل، ويطلق بإطلاق خاص على ما سبق منها يعني ما جعل منها من قبيل الهدي، فهنا يقول: لَكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى قال ابن عباس: ما لم تُسمَّ بدناً يعني تنتفعون بهذه الإبل تركبونها وتنتفعون من أوبارها وألبانها وما أشبه ذلك، والإنسان إذا كان عنده إبل وقرر أن تكون هذه الناقة من قبيل الهدي وساقها إلى البيت أو اشتراها من السوق على هذا - على هذه النية - وصارت بدنة بإطلاق المخصص، فعلى القول بأنها ما لم تُسمَّ بدناً بهذا القيد يعني إذا صارت كذلك تعين أنه ليس له أن ينتفع بها، وإنما يبعث بها إلى البيت وتُنحر ثم بعد ذلك يأكل منها ويتصدق، على هذا القول، لكن القول الآخر هو الذي ذكره ابن كثير - رحمه الله - ابتداء قال: لَكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ أي: لكم في البدن منافع من لبنها وصوفها وأوبارها وأشعارها وركوبها إلى أجل مسمى، قال مقسم عن ابن عباس في قوله: لَكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى قال: ما لم تُسمَّ بدناً، وقيل: بل له أن ينتفع بها وإن كانت هديا، إذا احتاج إلى ذلك، ومعنى ذلك أن قوله - تبارك وتعالى -: لَكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى على قولين: إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى قبل أن يعين هذه هدياً، له أن يركب وأن ينتفع بها بأي طريقة شاء، والقول الآخر هو أنه: إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى يعني إلى وقت نحرها، فينتفع بها قبل ذلك لَكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ فله أن يركبها إذا احتاج إلى ذلك، ولهذا قال النبي ﷺ: اركَبْها، قال: إنها بدنة، قال: ويحك اركبْها، فيجوز له ركوبها على خلاف بين أهل العلم، هل ذلك يكون على سبيل الاضطرار؟ وهل له أن يحمل عليها من غير اضطرار أو لا؟ والأقرب - والله أعلم - أن هذا لا يقيد بالضرورة، وإنما يمكن أن يقال: للحاجة إذا احتاج فهذا الرجل الذي كان يمشي لم تبلغ به الحال إلى حد الضرورة، ومع ذلك قال له النبي ﷺ: اركَبْها لكن إن وُجد غيرها عنده مراكب أخرى فإنه يركب غيرها لكن إن احتاج إليها ركبها كما أنه يحمل متاعه عليها، وهكذا في ألبانها، هل له أن يشرب من ألبانها وهي بدنة؟ يقال: إذا كان ذلك مما يزيد عن حاجة ولدها، فإذا كان معها ولد فله أن يشرب، وقد لا يكون معها ولد وفيها لبن فله أن يشرب ولا مانع من هذا، والله تعالى أعلم.
وقيل: بل له أن ينتفع بها وإن كانت هدياً، إذا احتاج إلى ذلك، كما ثبت في الصحيحين عن أنس: أن رسول الله ﷺ رأى رجلا يسوق بدَنَةً، قال: اركَبْها، قال: إنها بَدنَة، قال: اركبْها، ويحك، في الثانية أو الثالثة.
وفي رواية لمسلم، عن جابر، عن رسول الله ﷺ أنه قال: اركبْها بالمعروف إذا أُلجئتَ إليها.
فهذه الرواية مقيدة: إذا أُلجئتَ إليها بمعنى أن ذلك يقيد بالحاجة، والناس الآن ما عادوا يركبون هذه الدواب ولا يكاد أحد يسوق الهدي، والناس يشترون الهدي من مكة، ولا يكون سوق الهدي إلا أن يؤتي به من الحل.
وقوله: ثُمَّ مَحِلُّهَا إِلَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ أي: مَحِل الهدي وانتهاؤه إلى البيت العتيق، وهو الكعبة، كما قال تعالى: هَدْيًا بَالِغَ الْكَعْبَةِ [سورة المائدة:95]، وقال وَالْهَدْيَ مَعْكُوفًا أَنْ يَبْلُغَ مَحِلَّهُ [سورة الفتح:25].
وذلك ليس من المحل وإنما الإحلال مَحِلُّهَا إِلَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ فعندئذ يحل نحرها، والمقصود بالبيت هنا هو هو الكعبة، والمقصود في هذه الآية الحرم، والعتيق قيل: المعتق من الجبابرة، وقيل: العتيق بمعنى القديم، والله يقول: إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ [سورة آل عمران:96] والقِدم على نوعين تارة يكون من قبيل الزيادة في نفاسة الشيء، وهذا موجود فيما يتعاطاه الناس اليوم، ويقال: هذا الطيب، والعود والدهن معتق! فبعض الأشياء القديمة يكون ذلك أعظم في حقها وأنفس، وأكثر في قدرها، وقيمتها، وأحياناً يكون العكس فيقول: هذا الثوب عتيق، وهذا بيت عتيق أي قديم لا نظر لك فيه، وبعضهم يقول في معنى العتيق: إنه تعتق فيه الرقاب من النار من عذاب الله ، ويمكن حمل الآية على هذه المعاني أنه معتق من الجبابرة، وأنه القديم وغير ذلك مما قيل فيه.
- رواه البخاري، كتاب الحج، باب ركوب البدن، برقم (1604)، ومسلم، كتاب الحج، باب جواز ركوب البدنة المهداة لمن احتاج إليها، برقم (1322).