الثلاثاء 01 / ذو القعدة / 1446 - 29 / أبريل 2025
فَٱصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ ٱلْمُشْرِكِينَ

المصباح المنير
مرات الإستماع: 0

فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ ۝ إِنّا كَفَيْنَاكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ ۝ الّذِينَ يَجْعَلُونَ مَعَ اللّهِ إِلَهاً آخَرَ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ ۝ وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِمَا يَقُولُونَ ۝ فَسَبّحْ بِحَمْدِ رَبّكَ وَكُنْ مّنَ السّاجِدِينَ ۝ وَاعْبُدْ رَبّكَ حَتّىَ يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ [سورة الحجر:94-99].

يقول تعالى آمراً رسوله ﷺ بإبلاغ ما بعثه به وبإنفاذه والصدع به، وهو مواجهة المشركين به، كما قال ابن عباس - ا - في قوله: فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ أي: أمْضِه، وفي رواية افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ [سورة الصافات:102]، وقال مجاهد: هو الجهر بالقرآن في الصلاة، وقال أبوعبيدة عن عبد الله بن مسعود - ا -: ما زال النبي ﷺ مستخفياً حتى نزلت فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ، فخرج هو وأصحابه.

الصدع معناه الأمر بإعلان الدعوة وإظهارها وإشهارها بعد أن كان النبي ﷺ يدعو سراً، وبعض أهل العلم يقول: إنه مأخوذ من الصديع وهو الصبح، فإذا صدع، فإنه يكون قد أبان وأظهر دعوته، كما ينصدع الصبح ويبين من ظلام الليل، وبعضهم يفسر الصدع بالشق، تقول: تصدع الجدار مثلاً، يعني تشقق، فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ يعني: أن النبي ﷺ أمر بالصدع، أي بما يكون به تفريق كلمتهم؛ لأنه جاء في أسماء القرآن بأنه الفرقان، فرق بين الحق والباطل، فينقسم الناس إلى فريقين: إلى مؤمنين وكفار، فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ، وهذا لا يخلو من تكلف - والله تعالى أعلم -، فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ أي: أعلن وأظهر دعوتك.

وقوله: وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ ۝ إِنّا كَفَيْنَاكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ أي: بلّغ ما أنزل إليك من ربك، ولا تلتفت إلى المشركين الذين يريدون أن يصدوك عن آيات الله، وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ [سورة القلم:9]، ولا تخفهم فإن لله كافيك إياهم وحافظك منهم، كقوله تعالى: يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ [سورة المائدة:67].

قوله: وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ ۝ إِنّا كَفَيْنَاكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ أي: لا تخفهم فإن الله كافيك وحافظك منهم، وقيل بأن قوله: وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ أي: أعرض عن معاقبتهم وإيصال الأذى إليهم، كقوله تعالى: اتَّبِعْ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ [سورة الأنعام:106]، وقوله: فَاصْفَحْ عَنْهُمْ وَقُلْ سَلَامٌ [سورة الزخرف:89]، فَأَعْرِضْ عَن مَّن تَوَلَّى عَن ذِكْرِنَا وَلَمْ يُرِدْ إِلَّا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا [سورة النجم:29]، وما شابه ذلك من الأمر بالإعراض فإن الكثيرين من أهل العلم يقولون: إن هذه الآية منسوخة، ويقولون: إن آية السيف نسختها، وهذا الذي اختاره ابن جرير - رحمه الله - وجماعة، ومن المعاصرين الشيخ محمد الأمين الشنقيطي، والأقرب - والله أعلم - أن ذلك ليس بمنسوخ، وأن هذه أطوار وأحوال تمر بها الدعوة، ففي وقت الاستضعاف: الإعراض والصفح والعفو، وَقُلْ سَلَامٌ، وفي وقت التمكن والقوة تكون المعاقبة.

قال محمد بن إسحاق: كان عظماء المستهزئين خمسة نفر، وكانوا ذوي أسنان وشرف في قومهم من بني أسد بن عبد العزى بن قصي: الأسود بن المطلب أبو زمعة، كان رسول الله ﷺ فيما بلغني قد دعا عليه لما كان يبلغه من أذاه واستهزائه، فقال: اللهم أعم بصره، وأثكله ولده[1]، ومن بني زهرة: الأسود بن عبد يغوث بن وهب بن عبد مناف بن زهرة، ومن بني مخزوم: الوليد بن المغيرة بن عبد الله بن عمر بن مخزوم، ومن بني سهم بن عمرو بن هصيص بن كعب بن لؤي: العاص بن وائل بن هشام بن سعيد بن سعد، ومن خزاعة: الحارث بن الطلاطلة بن عمرو بن الحارث بن عبد عمرو بن ملكان. فلما تمادوا في الشر وأكثروا برسول الله ﷺ الاستهزاء أنزل الله تعالى: فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ ۝ إِنّا كَفَيْنَاكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ ۝ الّذِينَ يَجْعَلُونَ مَعَ اللّهِ إِلَهاً آخَرَ فَسَوْفَ يَعْمَلُونَ.

رواه محمد بن إسحاق من غير إسناد، فلا يصح، والروايات الواردة في هذا المعنى إِنّا كَفَيْنَاكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ أنهم خمسة، وجاءت تسميتهم على اختلاف في بعض الروايات، والعقوبات التي حلت بهم كثيرة منها ما هو موضوع، ومنها ما يمكن أن يقال: إن أقل أحواله أنه حسن لغيره، ومجموع الروايات يدل على أن لذلك أصلاً، فـ إِنّا كَفَيْنَاكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ نزلت في أشخاص بأعيانهم، كانوا معروفين بشدة عتوهم واستهزائهم فأنزل الله بهم عقوبات متنوعة، فأهلكهم الله - تبارك وتعالى -، هذا الذي يؤخذ من مجموع الروايات، والروايات المذكورة تشبه هذه الرواية على تفاوت في ذكر بعض التفاصيل، والله تعالى أعلم.

قال المصنف - رحمه الله - في تتمة كلامه على قوله -جل وعلا-: إِنَّا كَفَيْنَاكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ [سورة الحجر:95] الآيات.

قال محمد بن إسحاق: كان عظماء المستهزئين خمسة نفر، وكانوا ذوي أسنان وشرف في قومهم، من بني أسد بن عبد العزى بن قصي: الأسود بن المطلب أبو زمعة، كان رسول الله ﷺ فيما بلغني قد دعا عليه لما كان يبلغه من أذاه واستهزائه، فقال: اللهم أعم بصره، وأثكله ولده[2]، ومن بني زهرة: الأسود بن عبد يغوث بن وهب بن عبد مناف بن زهرة، ومن بني مخزوم: الوليد بن المغيرة بن عبد الله بن عمر بن مخزوم، ومن بني سهم بن عمرو بن هصيص بن كعب بن لؤي: العاص بن وائل بن هشام بن سعيد بن سهم، ومن خزاعة: الحارث بن الطُلاطلة بن عمرو بن الحارث بن عبد عمرو بن ملكان.

معنى الطلاطلة في اللغة: الداهية.

ضبط بعضهم مَلْكان، وبعضهم مَلَكان، وبعضهم مِلْكان بالكسر والإسكان.

فلما تمادوا في الشر وأكثروا برسول الله ﷺ الاستهزاء أنزل الله تعالى: فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ ۝ إِنَّا كَفَيْنَاكَ الْمُسْتَهْزِئينَ ۝ الَّذِينَ يَجْعَلُونَ مَعَ اللّهِ إِلهًا آخَرَ فَسَوْفَ يَعْمَلُونَ [سورة الحجر:94-96].

وقال ابن إسحاق: فحدثني يزيد بن رومان عن عروة بن الزبير أو غيره من العلماء: أن جبريل أتى رسول الله ﷺ وهو يطوف بالبيت، فقام وقام رسول الله ﷺ إلى جنبه، فمر به الأسود بن المطلب فرمى في وجهه بورقة خضراء فعمي، ومر به الأسود بن عبد يغوث فأشار إلى بطنه، فاستسقى بطنه فمات منه حَبَناً، ومر به الوليد بن المغيرة فأشار إلى أثر جرحٍ بأسفل كعب رجله، وكان أصابه قبل ذلك بسنتين، وهو يجر إزاره، وذلك أنه مر برجل من خزاعة يريش نبلاً له.

الحَبَن انتفاخ البطن، فمات منه حَبَناً.

يريش نبلاً له: يعني يلصق فيه الريش، والسهم يوضع فيه الريش من أجل أن ينطلق بطريقة لا ميل فيها.

فتعلق سهم من نبله بإزاره فخدش رجله ذلك الخدش، وليس بشيء، فانتقض به فقتله، ومر به العاص بن وائل فأشار إلى أخمص قدمه فخرج على حمار له يريد الطائف، فربض على شِبْرِقة فدخلت في أخمص قدمه شوكة فقتلته، ومر به الحارث بن الطلاطلة فأشار إلى رأسه فامتخض قيحاً فقتله.

فانتقض: يعني جراحه انتقضت، أي تجددت بعدما برئت.

فامتخض بالضاد، فامتخض قيحاً، يعني تحرك القيح في رأسه وانتشر فمات.

وقوله: الَّذِينَ يَجْعَلُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ تهديد شديد ووعيد أكيد لمن جعل مع الله معبوداً آخر.

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:

فكما أن الأثر السابق لا يصح، فكذلك هذا لا يصح، "وعن عروة بن الزبير أو غيره من العلماء: أن جبريل.. إلى آخره"، وجاء أيضاً بنحوه عن ابن عباس - ا - عند أبي نعيم ولكن بإسناد حكم عليه بالوضع، ولا يوجد من الآثار التي تشبه هذا ما هو أحسن حالاً وأقوى سنداً، ومجموع هذه الروايات يدل على أن لذلك أصلاً، والله أعلم.

  1. انظر: معالم التنزيل في تفسير القرآن (4/395)، والسيرة النبوية، لابن هشام (2/256).
  2. وذكره الحافظ – أيضا - في البداية والنهاية (3/105)، وابن هشام في السيرة (2/256).