قال المصنف - رحمه الله - في تفسير قوله تعالى: هُوَ الّذِي أَنْزَلَ مِنَ السّمَاءِ مَآءً لّكُم مّنْهُ شَرَابٌ وَمِنْهُ شَجَرٌ فِيهِ تُسِيمُونَ يُنبِتُ لَكُمْ بِهِ الزّرْعَ وَالزّيْتُونَ وَالنّخِيلَ وَالأعْنَابَ وَمِن كُلّ الثّمَرَاتِ إِنّ فِي ذَلِكَ لآية لّقَوْمٍ يَتَفَكّرُونَ [سورة النحل:10-11].
لما ذكر تعالى ما أنعم به عليهم من الأنعام والدواب شرع في ذكر نعمته عليهم في إنزال المطر من السماء - وهو العلو - مما لهم فيه بُلْغَة، ومتاع لهم ولأنعامهم، فقال: لَكُمْ مِنْهُ شَرَابٌ أي: جعله عذباً زلالاً يسوغ لكم شرابه، ولم يجعله ملحاً أجاجاً، وَمِنْهُ شَجَرٌ فِيهِ تُسِيمُونَ أي: وأخرج لكم منه شجراً ترعون فيه أنعامكم، كما قال ابن عباس - ا - وعكرمة والضحاك وقتادة وابن زيد في قوله: فِيهِ تُسِيمُونَ أي: ترعون، ومنه الإبل السائمة، والسوم: الرعي.
وقوله: يُنْبِتُ لَكُمْ بِهِ الزَّرْعَ وَالزَّيْتُونَ وَالنَّخِيلَ وَالْأَعْنَابَ وَمِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ أي: يخرجها من الأرض بهذا الماء الواحد على اختلاف صنوفها وطعومها وألوانها وروائحها وأشكالها؛ ولهذا قال: إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ أي: دلالة وحجة على أنه لا إله إلا الله، كما قال تعالى: أَمَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَنْبَتْنَا بِهِ حَدَائِقَ ذَاتَ بَهْجَةٍ مَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُنْبِتُوا شَجَرَهَا أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ يَعْدِلُونَ [سورة النحل:60].
فقوله - تبارك وتعالى -: هُوَ الّذِي أَنْزَلَ مِنَ السّمَاءِ مَآءً لّكُم مّنْهُ شَرَابٌ وَمِنْهُ شَجَرٌ فِيهِ تُسِيمُونَ، هذه الآية اشتملت على ثلاثة من براهين البعث المعروفة التي تتكرر في القرآن، وهي خلق السماوات والأرض، وخلق الإنسان من النطفة، وإحياء الأرض بعد موتها، وذكر في هذه الآية إنزال المطر من السماء، وما يحصل به من الإنبات، ثم ذكر بعدها آيات أورد فيها تلك البراهين، وقد ورد من براهين البعث وقدرة الله على إحياء الموتى في سورة البقرة خمسة، وقوله تبارك تعالى: هُوَ الّذِي أَنْزَلَ مِنَ السّمَاءِ مَآءً لّكُم مّنْهُ شَرَابٌ إلى آخره، كقوله : أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَسُوقُ الْمَاء إِلَى الْأَرْضِ الْجُرُزِ فَنُخْرِجُ بِهِ زَرْعًا تَأْكُلُ مِنْهُ أَنْعَامُهُمْ وَأَنفُسُهُمْ أَفَلَا يُبْصِرُونَ [سورة السجدة:27]، وكقوله: وَأَنزَلْنَا مِنَ الْمُعْصِرَاتِ مَآءً ثَجَّاجاً لِنُخْرِجَ بِهِ حَبًّا وَنَبَاتًا وَجَنَّاتٍ أَلْفَافًا [سورة النبأ:14-16]، وكقوله: وَنَزَّلْنَا مِنَ السَّمَاء مَاء مُّبَارَكًا فَأَنبَتْنَا بِهِ جَنَّاتٍ وَحَبَّ الْحَصِيدِ وَالنَّخْلَ بَاسِقَاتٍ لَّهَا طَلْعٌ نَّضِيدٌ [سورة ق:9-10]، إلى غير ذلك من الآيات.
يقول: لّكُم مّنْهُ شَرَابٌ وَمِنْهُ شَجَرٌ فِيهِ تُسِيمُونَ، فسر الحافظ ابن كثير - رحمه الله - فقال: تُسِيمُونَ "أي: وأخرج لكم منه شجراً ترعون فيه أنعامكم"، فسر ذلك بالرعي، قال: "ومنه الإبل السائمة"، والسوم: الرعي. أصل السوم: بعض أهل اللغة يقول: إنه الإبعاد في المرعى، وبعضهم يقول: السوم من السِّمة وهي العلامة، وذلك أن هذه البهائم والدواب السارحة تترك أثراً في الأرض، فقيل لها: سائمة بهذا الاعتبار، هكذا قال أهل اللغة، والأول أشهر، والعلم عند الله - تبارك وتعالى -.
العلماء يتكلمون على سبب تقديم الزرع على بقية الأشياء في قوله: يُنبِتُ لَكُم بِهِ الزَّرْعَ وَالزَّيْتُونَ وَالنَّخِيلَ وَالأَعْنَابَ ويقولون: إنه أصل الغذاء بالنسبة للإنسان وما بعده كالزيتون هو فاكهة.