الجمعة 04 / ذو القعدة / 1446 - 02 / مايو 2025
وَضَرَبَ ٱللَّهُ مَثَلًا قَرْيَةً كَانَتْ ءَامِنَةً مُّطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِّن كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ ٱللَّهِ فَأَذَٰقَهَا ٱللَّهُ لِبَاسَ ٱلْجُوعِ وَٱلْخَوْفِ بِمَا كَانُوا۟ يَصْنَعُونَ

المصباح المنير
مرات الإستماع: 0

وَضَرَبَ اللّهُ مَثَلاً قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُّطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِّن كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللّهِ فَأَذَاقَهَا اللّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُواْ يَصْنَعُونَ ۝ وَلَقَدْ جَاءهُمْ رَسُولٌ مِّنْهُمْ فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَهُمُ الْعَذَابُ وَهُمْ ظَالِمُونَ. [سورة النحل:112-113].

هذا مثلٌ أريد به أهل مكة؛ فإنها كانت آمنة مطمئنة مستقرة، ويتخطف الناس من حولها، ومن دخلها كان آمنا لا يخاف، كما قال تعالى: وَقَالُوا إِن نَّتَّبِعِ الْهُدَى مَعَكَ نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنَا أَوَلَمْ نُمَكِّن لَّهُمْ حَرَمًا آمِنًا يُجْبَى إِلَيْهِ ثَمَرَاتُ كُلِّ شَيْءٍ رِزْقًا مِن لَّدُنَّا [سورة القصص: 57]، وهكذا قال ههنا: يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا: أي هنيئاً سهلاً مِّن كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللّهِ: أي: جحدت آلاء الله عليها، وأعظمها بعثة محمد ﷺ إليهم، كما قال تعالى: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُواْ نِعْمَةَ اللّهِ كُفْرًا وَأَحَلُّواْ قَوْمَهُمْ دَارَ الْبَوَارِ ۝ جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَهَا وَبِئْسَ الْقَرَارُ [سورة إبراهيم:28-29] ولهذا بدلهم الله بحاليْهم الأوليْن خلافهما، فقال: فَأَذَاقَهَا اللّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ: أي ألبسها وأذاقها الجوع بعد أن كان يجبى إليهم ثمرات كل شيء، ويأتيها رزقها رغداً من كل مكان، وذلك لمّا استعصوا على رسول اللهﷺ وأبوا إلا خلافه فدعا عليهم بسبعٍ كسبع يوسف، فأصابتهم سنة أذهبت كل شيء لهم، فأكلوا العِلْهز وهو وبر البعير يخلط بدمه إذا نحروه.

الله المستعان، ولربما خلط بالقراد، الوبر والدم والقراد.

قوله - تبارك وتعالى - هنا: وَضَرَبَ اللّهُ مَثَلاً قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُّطْمَئِنَّةً، الذي عليه الجمهور من المفسرين، واختيار الحافظ ابن كثير وقبله ابن جرير، وممن رجحه من المعاصرين الشيخ محمد الأمين الشنقيطي - رحمه الله - أن المراد مكة، واحتجوا لهذا بقرائن من هذه الآية وما بعدها، وهو أن الله قال: قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُّطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِّن كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللّهِ، كَانَتْ آمِنَةً مُّطْمَئِنَّةً قالوا: القرآن دل على هذا، أَوَلَمْ نُمَكِّن لَّهُمْ حَرَمًا آمِنًا، ويَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِّن كُلِّ مَكَانٍ قالوا: يُجْبَى إِلَيْهِ ثَمَرَاتُ كُلِّ شَيْءٍ، والقرآن يفسر بالقرآن، وفَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللّهِ، أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُواْ نِعْمَةَ اللّهِ كُفْرًا وَأَحَلُّواْ قَوْمَهُمْ دَارَ الْبَوَارِ والنعمة هنا مفرد مضاف إلى المعرفة نِعْمَةَ اللّهِ مضاف إلى الاسم الظاهر لفظ الجلالة، وهذا للعموم، بَدَّلُواْ نِعْمَةَ اللّهِ كُفْرًا: أي بدلوا نعم الله كفراً، وَاذْكُرُواْ نِعْمَةَ اللّهِ عَلَيْكُمْ [سورة المائدة:7]: يعني اذكروا نعم الله عليكم، هذا المعنى، فقالوا هنا: فَأَذَاقَهَا اللّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ وذلك حينما دعا عليهم النبي ﷺ فأصابهم ما أصابهم من شدة الجوع حتى إن الواحد منهم كان يرى ما بينه وبين السماء مثل الدخان من شدة الجوع، حتى أكلوا العِلْهِز والميتات، وكذلك من القرائن ما قال الله بعدها: وَلَقَدْ جَاءهُمْ رَسُولٌ مِّنْهُمْ فَكَذَّبُوهُ: يعني لو قيل: الآية على العموم في أي وقت في أي قرية كانت آمنة مطمئنة، فكيف قال: وَلَقَدْ جَاءهُمْ رَسُولٌ مِّنْهُمْ فَكَذَّبُوهُ؟ فدل ذلك على أنها قرية معينة وهي مكة، وهذا القول هذه الشواهد مجتمعة تدل عليه، ولماذا ضرب الله هذا المثل بقرية معينة؟ من أجل أن يتعظ به الناس في كل زمان ومكان، فليس بين الله وبين أحد من المخلوقين نسب، ولا سبب إلا العبادة والتقوى والإيمان والتوحيد، فكل من فعل هذا الفعل فهو مستحق لهذه العقوبة، أن تُبدل نعمة الأمن إلى الخوف، ونعمة الرخاء إلى الشدة.

وقوله - تبارك وتعالى - هنا: فَأَذَاقَهَا اللّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ هنا عبر بأمرين بالإذاقة وباللباس، فأما الإذاقة لـلِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ - والذي يذاق هو الطعام من مشروب ومأكول - فعبر بها فيما يتعلق بالجوع والخوف، - والله تعالى أعلم - لشدة تمكنه منهم حتى بلغ منهم مبلغاً فصار ذلك بمنزلة الذوق الذي يجتمع فيه الإدراكان، فَأَذَاقَهَا اللّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ، وأما اللباس، فقد سماه لباساً، لِبَاسَ الْجُوعِ لما يظهر عليهم من آثاره، لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ من الشحوب والهزال وما إلى ذلك مما لا يخفى، حينما تقع الشدة في قوم فإن ما يعانيه الإنسان لا شك أنه يظهر على وجهه، فالسرور يظهر على وجه الإنسان، والنعمة والرغد تظهر على وجهه، وشدة الحال تظهر على وجهه، والمرض يظهر والخوف يظهر، كل ذلك يبين عنه الوجه، فهو مرآة تعكس حال الإنسان، ولهذا قال الله : تَعْرِفُهُم بِسِيمَاهُمْ [سورة البقرة: 273]، والراجح في تفسيرها كما قال ابن جرير وغيره: تَعْرِفُهُم بِسِيمَاهُمْ: أي بما يظهر على وجوههم، وما يظهر عليهم من شدة الحال، من شحوب الوجه ورثاثة الثياب وما إلى ذلك، فالفقير يعرف من حاله ولباسه، وهكذا، حينما تأتي بناس فقراء وناس أغنياء ألا يظهر هذا على تقاسيم وجوههم، وأولادهم؟ يعرف الفقير من الغني من الوجه غالباً.

وقوله: وَالْخَوْفِ وذلك أنهم بُدلوا بأمنهم خوفاً من رسول الله ﷺ وأصحابه حين هاجروا إلى المدينة، من سطوته وسراياه وجيوشه، وجعل كل ما لهم في دمار وسفال حتى فتحها الله على رسوله ﷺ وذلك بسبب صنيعهم وبغيهم وتكذيبهم الرسول ﷺ الذي بعثه الله فيهم منهم، وامتن به عليهم في قوله: لَقَدْ مَنَّ اللّهُ عَلَى الْمُؤمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِّنْ أَنفُسِهِمْ [سورة آل عمران:164] الآية. وقوله تعالى: فَاتَّقُوا اللَّهَ يَا أُوْلِي الْأَلْبَابِ الَّذِينَ آمَنُوا قَدْ أَنزَلَ اللَّهُ إِلَيْكُمْ ذِكْرًا ۝ رَّسُولًا يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِ اللَّهِ مُبَيِّنَاتٍ لِّيُخْرِجَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَمَن يُؤْمِن بِاللَّهِ وَيَعْمَلْ صَالِحًا يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا قَدْ أَحْسَنَ اللَّهُ لَهُ رِزْقًا [سورة الطلاق:10-11]، وقوله: كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولاً مِّنكُمْ يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِنَا وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُعَلِّمُكُم مّا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ ۝ فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُواْ لِي وَلاَ تَكْفُرُونِ [سورة البقرة:150-151] وكما أنه انعكس على الكافرين حالهم فخافوا بعد الأمن، وجاعوا بعد الرغد، فبدل الله المؤمنين من بعد خوفهم أمناً، ورزقهم بعد العيلة، وجعلهم أمراء الناس وحكامهم وسادتهم وقادتهم وأئمتهم، وهذا الذي قلناه من أن هذا المثل ضرب لأهل مكة قاله العوفي عن ابن عباس - ا -، وإليه ذهب مجاهد وقتادة وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم، وحكاه مالك عن الزهري - رحمهم الله -.

مع أنه حكي عن الزهري، جاء عن الزهري أن المقصود بذلك المدينة، وهذا في غاية الغرابة، بل هو قول مردود - أن المراد بذلك المدينة -؛ لأنه متى بدلوا نعمة الله كفراً وأحلوا قومهم دار البوار؟، متى وقع لهم مثل هذا، فَأَذَاقَهَا اللّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ؟.