الثلاثاء 08 / ذو القعدة / 1446 - 06 / مايو 2025
وَعَلَى ٱلَّذِينَ هَادُوا۟ حَرَّمْنَا مَا قَصَصْنَا عَلَيْكَ مِن قَبْلُ ۖ وَمَا ظَلَمْنَٰهُمْ وَلَٰكِن كَانُوٓا۟ أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ

المصباح المنير
مرات الإستماع: 0

قال المصنف - رحمه الله تعالى - في تفسير قوله تعالى: وَعَلَى الَّذِينَ هَادُواْ حَرَّمْنَا مَا قَصَصْنَا عَلَيْكَ مِن قَبْلُ وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِن كَانُواْ أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ ۝ ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ عَمِلُواْ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ تَابُواْ مِن بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُواْ إِنَّ رَبَّكَ مِن بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ [سورة النحل: 118-119].

لما ذكر تعالى أنه إنما حرم علينا الميتة والدم ولحم الخنزير وما أهل لغير الله به، وإنما أرخص فيه عند الضرورة - وفي ذلك توسعة لهذه الأمة التي يريد الله بها اليسر ولا يريد بها العسر - ذكر ما كان حرمه على اليهود في شريعتهم قبل أن ينسخها، وما كانوا فيه من الآصار والتضييق والأغلال والحرج، فقال: وَعَلَى الَّذِينَ هَادُواْ حَرَّمْنَا مَا قَصَصْنَا عَلَيْكَ مِن قَبْلُ: أي في سورة الأنعام في قوله: وَعَلَى الَّذِينَ هَادُواْ حَرَّمْنَا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ وَمِنَ الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُمَا إِلاَّ مَا حَمَلَتْ ظُهُورُهُمَا أَوِ الْحَوَايَا أَوْ مَا اخْتَلَطَ بِعَظْمٍ ذَلِكَ جَزَيْنَاهُم بِبَغْيِهِمْ وِإِنَّا لَصَادِقُونَ [سورة الأنعام:146] ولهذا قال ههنا: وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ: أي فيما ضيقنا عليهم وَلَكِن كَانُواْ أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ: أي فاستحقوا ذلك، كقوله: فَبِظُلْمٍ مِّنَ الَّذِينَ هَادُواْ حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ وَبِصَدِّهِمْ عَن سَبِيلِ اللّهِ كَثِيرًا [سورة النساء:160]، ثم أخبر تعالى تكرماً وامتناناً في حق العصاة المؤمنين أن من تاب منهم إليه تاب عليه، فقال: ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ عَمِلُواْ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ قال بعض السلف: كل من عصى الله فهو جاهل، ثُمَّ تَابُواْ مِن بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُواْ: أي أقلعوا عما كانوا فيه من المعاصي وأقبلوا على فعل الطاعات إِنَّ رَبَّكَ مِن بَعْدِهَا: أي تلك الفعلة والزلة لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ.

فقوله - تبارك وتعالى - هنا: وَعَلَى الَّذِينَ هَادُواْ حَرَّمْنَا مَا قَصَصْنَا عَلَيْكَ مِن قَبْلُ: أجمل الله هنا ما قصه على نبيه ﷺ في التحريم في باب المطعومات، وفصله في سورة الأنعام وَعَلَى الَّذِينَ هَادُواْ حَرَّمْنَا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ وَمِنَ الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُمَا إِلاَّ مَا حَمَلَتْ ظُهُورُهُمَا أَوِ الْحَوَايَا أَوْ مَا اخْتَلَطَ بِعَظْمٍ، فالشاهد أن هذه الآية يستدل بها على أن سورة النحل نزلت بعد سورة الأنعام، وكلاهما من السور المكية، وسورة النحل نازلة بعد سورة الأنعام والدليل على هذا هذه الآية، وهذا يُحتاج إليه فيما يقال فيه بالنسخ، فعلى سبيل المثال في قوله تعالى: تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَرًا [سورة النحل:67] الآية التي سبقت، وذكرنا أن بعضهم فسرها بالخمر، وقالوا: هذا قبل التحريم، فعلى هذا يكون ذكر هذه الآية على سبيل الامتنان، وفي سورة الأنعام الله يقول: قُل لاَّ أَجِدُ فِي مَا أُوْحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلاَّ أَن يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَمًا مَّسْفُوحًا أَوْ لَحْمَ خِنزِيرٍ [سورة الأنعام:145]، ولم يذكر شيئاً، والمشروب هو لون من المطعوم، بدليل قوله - تبارك وتعالى -: وَمَن لَّمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي إِلاَّ مَنِ اغْتَرَفَ غُرْفَةً بِيَدِهِ [سورة البقرة:249] فسمى الشراب مطعوماً؛ لأنه يطعم، وفي قوله تعالى: إِنَّ رَبَّكَ مِن بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ، الحافظ ابن كثير - رحمه الله - هنا قال: مِن بَعْدِهَا: أي تلك الفعلة والزلة لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ، لِلَّذِينَ عَمِلُواْ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ، وليس المقصود بالجهالة - كما هو معلوم - أنه فعله وهو لا يعلم أنه محرم؛ فإن مثل هذا الجهل بشرطه يكون مغتفراً؛ لأن من شروط التكليف العامة في كل تكليف من التكاليف العلم بخطاب الشارع، يعني بلوغ الخطاب، العقل وبلوغ الخطاب، هذا في كل تكليف، يضاف إلى ذلك الإسلام، وكلام أهل العلم في مسألة توجه الخطاب إلى الكفار بفروع الشريعة... إلى آخر ما هو معروف، وعلى كلٍّ فبلوغ الخطاب شرط، وذلك بشرطه أيضاً؛ لأن المفرط له أحكام أخرى، وإنما المقصود بالجهالة أن كل من عصى الله كما قال السلف فهو جاهل، فلو عرف عظمة الله وقدره لم يجترئ على معصيته، والجهل كما يقال لقلة العلم أو نقص العلم أو ذهاب العلم، أو عدم العلم، كذلك يقال أيضاً للتعدي حينما يقول:

ألا لا يَجهلنَّ أحدٌ علينا ......

ليس معناه أنه لا يعلم، وإنما المقصود يتعدى، فالشاهد أن الله هنا قال: ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ عَمِلُواْ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ كل من عصى الله فهو جاهل، قال: ثُمَّ تَابُواْ مِن بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُواْ في الآية الأخرى قال: إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوَءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِن قَرِيبٍ [سورة النساء:17] وكل من تاب قبل الغرغرة فقد تاب من قريب، فهنا قال: ثُمَّ تَابُواْ مِن بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُواْ الإصلاح هنا يشمل إصلاح الحال، ولهذا اشترط ابن القيم - رحمه الله - كما سبق في الكلام على التوبة أن من شروط التوبة عنده الإقبال على الله ، فجعل ذلك من علامات التوبة الصادقة، أن يُقبل الإنسان على الله وأن تتغير حاله، ويشتغل بالطاعات بدلاً من أن كان يشتغل بالمعاصي، وأما ما يتعلق بما ضرره وفساده متعدٍ فلا شك أن ما يكون ضرره متعدياً من الإفساد والتضليل أن هذا من شرط التوبة فيه الإصلاح، فالذي نشر بدعاً وأهواء وضلالات، وضلل الناس ونحو هذا، فهذا من شرط توبته أن يصلح ما أفسده، وأن يبين الضلال الذي بثه في الناس، الشاهد هنا قال: إِنَّ رَبَّكَ مِن بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ، مِن بَعْدِهَا هل المقصود من بعد ذلك العمل السيئ؟ أو المقصود مِن بَعْدِهَا: أي من بعد التوبة؟، يحتمل كما قلنا في الآية التي مضت، وعلى كل حال الله ذكر هنا أن هؤلاء الذين عملوا هذا العمل السيئ تابوا وأصلحوا، إِنَّ رَبَّكَ مِن بَعْدِهَا: أي من بعد تلك الفعلة التي تاب أصحابها منها لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ، فهذان متلازمان، التوبة والعمل السيئ؛ فإن المغفرة التي رتبها الله على ذلك هنا كانت بعد التوبة، والله أعلم.