إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتًا لِلّهِ حَنِيفًا وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ شَاكِرًا لِّأَنْعُمِهِ اجْتَبَاهُ وَهَدَاهُ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ وَآتَيْنَاهُ فِي الْدُّنْيَا حَسَنَةً وَإِنَّهُ فِي الآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ [سورة النحل:120-123].
يمدح تعالى عبده ورسوله وخليله إبراهيم إمام الحنفاء ووالد الأنبياء ، ويبرئه من المشركين ومن اليهودية والنصرانية، فقال: إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتًا لِلّهِ حَنِيفًا فأما الأمة: فهو الإمام الذي يقتدى به، والقانت: هو الخاشع المطيع، والحنيف: المنحرف قصداً عن الشرك إلى التوحيد؛ ولهذا قال: وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ، وقال مجاهد: أمة: أي أمة وحده.
وقوله: شَاكِرًا لِّأَنْعُمِهِ: أي قائماً بشكر نعم الله عليه، كقوله تعالى: وَإِبْرَاهِيمَ الَّذِي وَفَّى [سورة النجم:37]: أي قام بجميع ما أمره الله تعالى به.
في قوله هنا: إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قال: الأمة هو الإمام الذي يقتدى به، وهذا التفسير من أحسن ما ذكر في تفسير هذه اللفظة في هذا المقام، وإلا فالأمة كما هو معلوم تأتي لمعانٍ متعددة في القرآن، وسبق الكلام على شيء من هذا، ومنهم من فسر الأمة بالعالم، كَانَ أُمَّةً: أي كان عالماً، ولا شك أن ما ذكره الحافظ ابن كثير: أنه الإمام الذي يقتدى به، أبلغ من مجرد العالم، فإن العالم قد لا يقتدى به، وقد لا يعمل بعلمه، وقد لا يكون أهلاً للاتباع، وبعضهم يقول: كان معلماً للخير، وبعضهم يجمع بين الأمرين فيقول: كان عالماً ومعلماً للخير، وما ذكره الحافظ ابن كثير - رحمه الله - أبلغ أيضاً من هذا، فإن الإنسان قد يكون معلماً للخير ولكنه ليس بأهل للاقتداء، فما كل من علَّم يصلح أن يقتدى به، وهكذا قول من قال: يؤمُّه الناس ليأخذوا عنه، فإن هذا يرجع إلى بعض ما سبق، إذا كان معلماً للناس الخير باذلاً للعلم، فإن معنى ذلك أنه يرجع الناس إليه ليأخذوا عنه، فهذه المعاني كما ترون هي معانٍ جزئية، فالسلف يفسرون الشيء أحياناً ببعض معناه، والأحسن أن يفسر اللفظ بما هو أوسع من ذلك وما يشمل هذه جميعاً، فالأمة هو الرجل الجامع لخصال الخير التي تفرقت في غيره، ومن هنا صار محلاً للائتساء والاقتداء، فهو عالم معلم للخير يرجع الناس إليه فيما نابهم، وينتفعون بعلمه، إلى غير ذلك من المعاني التي ترجع إلى هذا، الرجل الجامع لخصال الخير التي تفرقت في غيره يقال له: أمة، فتجد من الناس من يتصف بالعلم، ومن الناس من يتصف بنفع الناس، ومن الناس من يتصف بصفات أخرى، فهذا جامع لخصال الخير التي تفرقت، فصار أمة وحده بهذا الاعتبار، فالقرآن الأحسن أن يفسر بهذه الطريقة، قَانِتًا القنوت سبق الكلام عليه وأنه يأتي لمعانٍ متعددة، وَالْقَانِتِينَ وَالْقَانِتَاتِ [سورة الأحزاب:35]، وَمَن يَقْنُتْ مِنكُنَّ [سورة الأحزاب:31]، وشيخ الإسلام ألَّف رسالة في قنوت الأشياء لله ، وحاول أن يستقرئ هذه اللفظة في القرآن، وما دلت عليه، والنتيجة التي خرج بها أن القنوت هو دوام الطاعة، وهذا الذي ذهب إليه أيضاً ابن القيم - رحمه الله -، دوام الطاعة يقال له: قنوت، فإن الذي يطيع فترة ثم بعد ذلك يفتر وينقطع، لا يقال له: قانت، قال النبي ﷺ: أفضل الصلاة طول القنوت[1]: يعني طول القيام، وهكذا.
وقال هنا: كَانَ أُمَّةً قَانِتًا لِلّهِ، قال: القانت الخاشع المطيع، هذا يحتاج إلى أن يقيَّد كما سبق، المطيع الذي يديم الطاعة، وهذا المعنى - أي أنه هو المطيع - هو الذي اختاره كبير المفسرين ابن جرير - رحمه الله -. قال: والحنيف: المنحرف قصداً عن الشرك إلى التوحيد، هذا مثال يصلح على التفسير باللازم، فالتفسير يكون بالمطابق أو بدلالة التضمن، أو باللازم، وقد يكون بأنواع أخرى، وهذا مثال على التفسير باللازم، من حيث إن الحنيف: هو المقبل على الشيء، فهو حنيف: أي مقبل على ربه - تبارك وتعالى - بالتوحيد والاستجابة والإنابة، فالإقبال على الشيء يقال له: حَنَفٌ، ولهذا يقال فيمن تكون إحدى رجليه مقبلة على الأخرى: أحنف، ولهذا قيل للأحنف بن قيس - رحمه الله -: الأحنف لهذا السبب، يقال: إن أمه كانت ترقصه وهو صغير وتقول:
والله لولا حَنَفٌ في رجله | ما كان في فتيانكم من مثله |
فهذا أصله بمعنى الإقبال، إقبال إحدى الرجلين على الأخرى، ولازم ذلك الميل، فبعضهم فسر به الحنَف، قال: هو الميل عن الشرك، والحنيف: هو المائل عن الشرك إلى الإسلام والتوحيد، تفسير باللازم، وإلا فأصله الإقبال على الشيء، ومِن لازم هذا الإقبال وجود هذا الميل والانحراف، فإذا فسرناه بلازمه قلنا بأنه مائل ومنحرف عن كل ملة وشرعة ودين سوى الإسلام، سوى التوحيد، هذا وجه التفسير هنا بالميل، وكثير من المفسرين يذكرون هذا، ويصح تفسير الشيء باللازم، وليس هذا من قبيل الخطأ إطلاقاً، وإذا تأملت في الأقوال المنقولة عن السلف في التفسير تجد جملة منها هي من قبيل التفسير باللازم.
- رواه مسلم: (1/520) باب أفضل الصلاة طول القنوت، برقم: (756) من حديث جابر بن عبد الله - ا -.