قال الحافظ ابن كثير - رحمه الله - في قوله: لِيَحْمِلُوا أَوْزَارَهُمْ أي: "إنما قدرنا عليهم أن يقولوا ذلك ليتحملوا أوزارهم"، فتكون اللام على هذا التفسير للعاقبة، وهم لا يقولون هذا من أجل أن يحملوا أوزارهم، لكن قدر عليهم ذلك ليحملوا أوزارهم في عاقبة الأمر، كما قال الله : فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَنًا [سورة القصص:8]، ومعلوم أنهم ما التقطوه من أجل أن يكون لهم عدواً وحزناً، بل التقطوه من أجل أن يسعدوا به، وينتفعوا به، ولكنه في العاقبة كان عدواً لهم وحزناً، ويحتمل أن تكون اللام لام الأمر أي ليحملوا أوزارهم، والأول أقرب، - والله تعالى أعلم -.
هذا لا ينافي قوله - تبارك وتعالى -: وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى [سورة فاطر:18]، فلا أحد يحمل وزر غيره وإنما كل أحد يحمل أوزاره، ولكن هؤلاء يحملون أوزارهم وأوزاراً مع أوزارهم باعتبار أن تلك الأوزار التي عملوها هي أيضاً من عملهم؛ لأنهم هم الذين دعوا إليها وأوقعوا هؤلاء فيها، فأولئك يعذبون عليها، وهؤلاء أيضاً يعذبون عليها، ومَن سنّ في الإسلام سنة سيئة فعليه وزرها ووزر من عمل بها، وكما قال الله : لِكُلٍّ ضِعْفٌ [سورة الأعراف:38] باعتبار أنه لا يخلو من إضلال، يضل ولده ومَن تحت يده، فالشاهد أن قوله: لِيَحْمِلُوا أَوْزَارَهُمْ كَامِلَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَمِنْ أَوْزَارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ، "مِن" هذه تحتمل أن تكون تبعيضية، فهم لا يحملون كل أوزار الذين يضلونهم بغير علم؛ لأن بعض أعمال أولئك ليست من إضلال هؤلاء، أعمال أولئك كثيرة متنوعة، وإنما يحملون من تلك الأوزار ما كانوا متسببين بوقوعهم فيها، يحملون هذا النوع من الأوزار، ويحتمل أن تكون هذه بيانية، وَمِنْ أَوْزَارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ، وقوله: بِغَيْرِ عِلْمٍ حال، يمكن أن تكون من الفاعل يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ أي: أنهم يقومون بالإضلال بغير علم، فهم يحملون الأوزار، وأوزاراً مع الأوزار؛ لأنهم يقومون بإضلال الناس بغير علم منهم، أي من هؤلاء المضلِّين، المعنى الثاني: أن تكون حالاً من المفعول، لِيَحْمِلُوا أَوْزَارَهُمْ كَامِلَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَمِنْ أَوْزَارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ، فهم يضللون أقواماً جهلة لا يعرفون التوحيد والإيمان والوحي فيضللونهم بهذه الأباطيل والشرك بالله ، فيكون بِغَيْرِ عِلْمٍ عائداً إلى من يقع عليهم الضلال، والآية تحتمل المعنيين، ويؤخذ منها أن كون الكافر أو الضال - سواء كان الذي يُضِل أو الذي يقع عليه الإضلال - يفعل ذلك بغير علم أن ذلك لا يكون بمجرده عذراً يعذر فيه، يكفي أنه تبلغه الدعوة ويفهم منها ما يفهم أو ما يصلح لمثله في الفهم، يكفي هذا القدر، أما كونه يقتنع فهذا ليس شرطاً في قيام الحجة عليه، ولهذا تجد الله يقول: أَفَمَن زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَنًا [سورة فاطر:8] فهو يرى هذا العمل السيئ من الكفر وعبادة غير الله يراه حسناً، يرى أنه على الحق، وأن غيره على الباطل، ويدعو إلى هذا، ويموت دونه، ويبذل الأموال في سبيله، فهذا ليس له عذر إذا بلغته الدعوة، وفَهم من الخطاب ما يصلح لمثله، ولذلك تجد من الناس من يقول: هؤلاء الكفار من اليهود والنصارى تربوا على هذا ونشئوا عليه وهم يعتقدون أنهم على حق، وأنهم على دين صحيح، وأن ما عداهم، على باطل، لكن النبي ﷺ يقول: ما من يهودي ولا نصراني يسمع بي من هذه الأمة ثم لا يؤمن بي إلا دخل النار [2]، ويقول الله: وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ [سورة يوسف:103]، وهم يجادلون الأنبياء - عليهم الصلاة والسلام -، ويستنكفون عن الحق، ويقولون: أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا [سورة ص:5] فليس من شرط قيام الحجة الاقتناع، إطلاقاً، وإنما يكفي بلوغ الحجة، وأن يفهم منها ما يصلح لمثله في الفهم فقط، فتقوم عليه الحجة، وكونه يملأ رأسه من الأباطيل وينشأ على هذا ويربى عليه صباح مساء، هذا مما يزيد في ضلاله ووزره وهلكته، وهذه القضية ينبغي أن يُتفطن لها، فلا يصح أن يُعتذر عن الكفار أو عن بعض الكفار بأنهم هكذا كانوا، فيقال لهم هذه الآيات والنصوص القرآنية: لِيَحْمِلُوا أَوْزَارَهُمْ كَامِلَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَمِنْ أَوْزَارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ [سورة النحل:25].
- رواه مسلم، كتاب العلم، باب مَن سنّ سنة حسنة أو سيئة ومن دعا إلى هدى أو ضلالة، برقم (2674).
- رواه الحاكم في المستدرك (2/372)، برقم (3309)، وقال: هذا حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه، والنسائي في السنن الكبرى (6/363)، برقم (11241)، وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة بمجموع طرقه برقم (3093).