قال المصنف - رحمه الله - في تفسير قوله تعالى: وَقَالَ الَّذِينَ أَشْرَكُواْ لَوْ شَاء اللّهُ مَا عَبَدْنَا مِن دُونِهِ مِن شَيْءٍ نَّحْنُ وَلا آبَاؤُنَا وَلاَ حَرَّمْنَا مِن دُونِهِ مِن شَيْءٍ كَذَلِكَ فَعَلَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَهَلْ عَلَى الرُّسُلِ إِلاَّ الْبَلاغُ الْمُبِينُ وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولاً أَنِ اعْبُدُواْ اللّهَ وَاجْتَنِبُواْ الطَّاغُوتَ فَمِنْهُم مَّنْ هَدَى اللّهُ وَمِنْهُم مَّنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلالَةُ فَسِيرُواْ فِي الأَرْضِ فَانظُرُواْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ إِن تَحْرِصْ عَلَى هُدَاهُمْ فَإِنَّ اللّهَ لاَ يَهْدِي مَن يُضِلُّ وَمَا لَهُم مِّن نَّاصِرِينَ [سورة النحل: 35-37].
يخبر تعالى عن اغترار المشركين بما هم فيه من الإشراك واعتذارهم محتجين بالقدر بقولهم: لَوْ شَاء اللّهُ مَا عَبَدْنَا مِن دُونِهِ مِن شَيْءٍ نَّحْنُ وَلا آبَاؤُنَا وَلاَ حَرَّمْنَا مِن دُونِهِ مِن شَيْءٍ : أي من البحائر والسوائب والوصائل وغير ذلك مما كانوا ابتدعوه واخترعوه من تلقاء أنفسهم ما لم ينزل به سلطاناً، ومضمون كلامهم: أنه لو كان تعالى كارهاً لما فعلنا، لأنكره علينا بالعقوبة، ولما مكننا منه، قال الله تعالى رادًّا عليهم شبهتهم: فَهَلْ عَلَى الرُّسُلِ إِلاَّ الْبَلاغُ الْمُبِينُ : أي ليس الأمر كما تزعمون أنه لم ينكره عليكم، بل قد أنكره عليكم أشد الإنكار، ونهاكم عنه آكد النهي، وبعث في كل أمة أي: في كل قرن وطائفة من الناس رسولاً، وكلهم يدعون إلى عبادة الله، وينهون عن عبادة ما سواه: أَنِ اعْبُدُواْ اللّهَ وَاجْتَنِبُواْ الطَّاغُوتَ فلم يزل تعالى يرسل إلى الناس الرسل بذلك منذ حدث الشرك في بني آدم، في قوم نوح الذين أُرسل إليهم نوح، وكان أول رسول بعثه الله إلى أهل الأرض إلى أن ختمهم بمحمد ﷺ، الذي طبقت دعوته الإنس والجن في المشارق والمغارب، وكلهم كما قال الله تعالى: وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ [سورة الأنبياء: 25]، وقوله تعالى: وَاسْأَلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رُّسُلِنَا أَجَعَلْنَا مِن دُونِ الرَّحْمَنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ [سورة الزخرف: 45]، وقال تعالى في هذه الآية الكريمة: وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولاً أَنِ اعْبُدُواْ اللّهَ وَاجْتَنِبُواْ الطَّاغُوتَ، فيكف يسوغ لأحد من المشركين بعد هذا أن يقول: لَوْ شَاء اللّهُ مَا عَبَدْنَا مِن دُونِهِ مِن شَيْءٍٍ؟، فمشيئته تعالى الشرعية عنهم منتفية؛ لأنه نهاهم عن ذلك على ألسنة رسله، وأما مشيئته الكونية وهي تمكينهم من ذلك قدراً، فلا حجة لهم فيها؛ لأنه تعالى خلق النار وأهلها من الشياطين والكفرة، وهو لا يرضى لعباده الكفر، وله في ذلك حجة بالغة وحكمة قاطعة.
ثم إنه تعالى قد أخبر أنه أنكر عليهم بالعقوبة في الدنيا بعد إنذار الرسل، فلهذا قال: فَمِنْهُم مَّنْ هَدَى اللّهُ وَمِنْهُم مَّنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلالَةُ فَسِيرُواْ فِي الأَرْضِ فَانظُرُواْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ: أي: اسألوا عما كان مِنْ أمر مَنْ خالف الرسل، وكذب الحق كيف دَمَّرَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَلِلْكَافِرِينَ أَمْثَالُهَا [سورة محمد:10]، فقال: وَلَقَدْ كَذَّبَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ [سورة الملك:18]، ثم أخبر الله تعالى رسوله ﷺ أن حرصه على هدايتهم لا ينفعهم إذا كان الله قد أراد إضلالهم كقوله تعالى: وَمَن يُرِدِ اللّهُ فِتْنَتَهُ فَلَن تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللّهِ شَيْئًا [سورة المائدة:41]، وقال نوح لقومه: وَلاَ يَنفَعُكُمْ نُصْحِي إِنْ أَرَدتُّ أَنْ أَنصَحَ لَكُمْ إِن كَانَ اللّهُ يُرِيدُ أَن يُغْوِيَكُمْ [سورة هود:34]، وقال في هذه الآية الكريمة: إِن تَحْرِصْ عَلَى هُدَاهُمْ فَإِنَّ اللّهَ لاَ يَهْدِي مَن يُضِلُّ كما قال الله تعالى: مَن يُضْلِلِ اللّهُ فَلاَ هَادِيَ لَهُ وَيَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ [سورة الأعراف:186] وقال تعالى: إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَتُ رَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ وَلَوْ جَاءتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ حَتَّى يَرَوُاْ الْعَذَابَ الأَلِيمَ [سورة يونس:96-97]. وقوله: فَإِنَّ اللّهَ: أي شأنه وأمره أنه ما شاء كان، وما لم يشأ لم يكن، فلهذا قال: لا يَهْدِي مَنْ يُضِلّ: أي من أضله، فمن ذا الذي يهديه من بعد الله؟ أي لا أحد، وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ: أي ينقذونهم من عذابه ووثاقه، أَلاَ لَهُ الْخَلْقُ وَالأَمْرُ تَبَارَكَ اللّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ [سورة الأعراف:54].
فقوله - تبارك وتعالى -: وَقَالَ الَّذِينَ أَشْرَكُواْ لَوْ شَاء اللّهُ مَا عَبَدْنَا مِن دُونِهِ مِن شَيْءٍ نَّحْنُ وَلا آبَاؤُنَا وَلاَ حَرَّمْنَا مِن دُونِهِ مِن شَيْءٍ، هؤلاء كما ذكر الحافظ ابن كثير - رحمه الله - يحتجون بالقدر على المعائب، ومعلوم أن القدر لا يجوز أن يحتج به على المعائب، وإنما يمكن أن يحتج به على المصائب، فالله - تبارك وتعالى - يهدي من يشاء، ويضل من يشاء بعلم وحكمة، وما قدره الله - تبارك وتعالى - وقضاه فهو كائن، وهو القائل: فَأَمَّا مَن أَعْطَى وَاتَّقَى وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى وَأَمَّا مَن بَخِلَ وَاسْتَغْنَى وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى [سورة الليل:5-10] والقائل: وَمَا كَانَ اللّهُ لِيُضِلَّ قَوْمًا بَعْدَ إِذْ هَدَاهُمْ حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُم مَّا يَتَّقُونَ [سورة التوبة:115]، وهؤلاء احتجوا على المعائب بالقدر، وهو احتجاج باطل، ووجه احتجاجهم قولهم: لَوْ شَاء اللّهُ مَا عَبَدْنَا مِن دُونِهِ مِن شَيْءٍ: أي: أن الله قدر ذلك علينا، واحتجوا بهذا التقدير على أن الله - تبارك وتعالى - يرضى هذا ويحبه، فظنوا أن مشيئته العامة وقدره الكوني يقتضيان المحبة، كما هو قول بعض طوائف المبتدعة، ومعلوم أن مشيئته العامة وقدره الكوني لا يقتضيان المحبة، فالله - تبارك وتعالى - قدر وجود الكفر ومع ذلك فهو يقول: إِن تَكْفُرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنكُمْ وَلَا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ [سورة الزمر:7]، وإنما يريد الإيمان والطاعة وفعل الخيرات واجتناب المعاصي، وهذه إرادة شرعية، وتجتمع هذه الإرادة مع الإرادة الكونية فيمن استجاب، وأناب، وآمن، وأطاع الله ورسوله ﷺ.
والحافظ ابن كثير - رحمه الله - في قوله: وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولاً أَنِ اعْبُدُواْ اللّهَ وَاجْتَنِبُواْ الطَّاغُوتَ [سورة النحل:36]، فسَّر الأمة هنا فقال: بعث في كل أمة: أي في كل قرن وطائفة من الناس رسولاً، وهنا جمع بين معنيين، والأمة في أصلها تأتي للمدة الزمنية، وتأتي للجماعة من الناس، وتأتي لمعانٍ أُخَر، وهنا قال: فِي كُلِّ أُمَّةٍ: أي في كل قرن وطائفة من الناس رسولاً أَنِ اعْبُدُواْ اللّهَ وَاجْتَنِبُواْ الطَّاغُوتَ، ثم هنا في قوله - تبارك وتعالى -: أَنِ اعْبُدُواْ اللّهَ وَاجْتَنِبُواْ الطَّاغُوتَ، الطاغوت: يقال لكل ما عبد من دون الله وهو راضٍ، وكل ما تجاوز حده أو تجاوز الناس به الحد وهو راضٍ إن كان ممن يعقل فهو طاغوت، فما عبد من الأشجار والأحجار والأصنام ومن البشر وما إلى ذلك كل هذا يقال له: طاغوت.
وقوله - تبارك وتعالى -: فَإِنَّ اللّهَ لاَ يَهْدِي مَن يُضِلُّ أي: من أضله فمن ذا الذي يهديه من بعد الله؟، لاَ يَهْدِي مَن يُضِلُّ: من أضله، فإنه لا أحد يهديه، هكذا فسرها الحافظ ابن كثير، فالمعنى: إِن تَحْرِصْ عَلَى هُدَاهُمْ فَإِنَّ اللّهَ لاَ يَهْدِي مَن يُضِلُّ: أي: من قدر عليه الضلالة فإنه لا يهديه، لاَ يَهْدِي مَن يُضِلُّ، وهذا هو ظاهر الآية، ورجحه الشيخ محمد الأمين الشنقيطي - رحمه الله - في تفسيرها، وتحتمل الآية معنىً آخر وهو أن الله لاَ يَهْدِي مَن يُضِلُّ: أي من يُضلُّ الناسَ، ولكن هذا فيه بعد؛ لأن المعنى أوسع من هذا، والآية فيها على كل حال قراءتان متواترتان، فهذه القراءة التي نقرأ بها لاَ يَهْدِي هي قراءة الكوفيين، وقرأ بقية القراء لاَ يُهْدَى مَن يُضِلُّ، وهذه القراءة في المعنى أكثر وضوحاً من الأولى، إِن تَحْرِصْ عَلَى هُدَاهُمْ فَإِنَّ اللّهَ لاَ يُهْدَى مَن يُضِلُّ، من يضله الله فلا أحد يهديه من الناس، وأما القراءة الأولى لاَ يَهْدِي مَن يُضِلُّ: من سبقت له الشقاوة عند الله -تبارك وتعالى- فإن الله لا يهديه.