الإثنين 23 / صفر / 1447 - 18 / أغسطس 2025
وَٱلَّذِينَ هَاجَرُوا۟ فِى ٱللَّهِ مِنۢ بَعْدِ مَا ظُلِمُوا۟ لَنُبَوِّئَنَّهُمْ فِى ٱلدُّنْيَا حَسَنَةً ۖ وَلَأَجْرُ ٱلْءَاخِرَةِ أَكْبَرُ ۚ لَوْ كَانُوا۟ يَعْلَمُونَ

المصباح المنير
مرات الإستماع: 0

وَالَّذِينَ هَاجَرُواْ فِي اللّهِ مِن بَعْدِ مَا ظُلِمُواْ لَنُبَوِّئَنَّهُمْ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَلَأَجْرُ الآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُواْ يَعْلَمُونَ ۝ الَّذِينَ صَبَرُواْ وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ [سورة النحل: 41-42].

يخبر تعالى عن جزائه للمهاجرين في سبيله ابتغاء مرضاته، الذين فارقوا الدار والإخوان والخِلّان رجاء ثواب الله وجزائه، ويحتمل أن يكون سبب نزولها في مُهاجِرة الحبشة الذين اشتد أذى قومهم لهم بمكة حتى خرجوا من بين أظهرهم إلى بلاد الحبشة؛ ليتمكنوا من عبادة ربهم، ومن أشرافهم عثمان بن عفان ومعه زوجته رقية بنت رسول الله ﷺ، وجعفر بن أبي طالب ابن عم الرسول ﷺ، وأبو سلمة بن عبد الأسود، في جماعة قريب من ثمانين ما بين رجل وامرأة صدّيق وصدّيقة ، وقد فعل، فوعدهم تعالى بالمجازاة الحسنة في الدنيا والآخرة، فقال: لَنُبَوِّئَنَّهُمْ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً، قال ابن عباس - ا - والشعبي وقتادة: المدينة، وقيل: الرزق الطيب، قاله مجاهد، ولا منافاة بين القولين، فإنهم تركوا مساكنهم وأموالهم فعوضهم الله خيراً منها في الدنيا، فإن من ترك شيئاً لله عوضه الله بما هو خير له منه، وكذلك وقع فإنهم مكن الله لهم في البلاد، وحكمهم على رقاب العباد، وصاروا أمراء حُكاماً، وكل منهم للمتقين إماماً، وأخبر أن ثوابه للمهاجرين في الدار الآخرة أعظم مما أعطاهم في الدنيا، فقال: وَلَأَجْرُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ: أي: مما أعطيناهم في الدنيا، لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ: أي: لو كان المتخلفون عن الهجرة معهم يعلمون ما ادخر الله لمن أطاعه واتبع رسوله، ثم وصفهم تعالى فقال: الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ: أي: صبروا على الأذى من قومهم متوكلين على الله الذي أحسن لهم العاقبة في الدنيا والآخرة.

هذه الآية يقال فيها كما قيل في الآية التي سبقت وهي قوله - تبارك وتعالى -: لِّلَّذِينَ أَحْسَنُواْ فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةٌ [سورة النحل: 30] فهنا قال: لَنُبَوِّئَنَّهُمْ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً: أي مباءة حسنة، أو تبْوِئة حسنة، والذين هاجروا هنا يمكن أن يحمل على أعم مما ذكر، يعني لا يختص هذا بالذين هاجروا إلى الحبشة، أو الذين هاجروا من مكة إلى المدينة مثلاً، وإنما ذلك وعد من الله عام لكل من هاجر بدينه فراراً به؛ فإن الله وعده بهذا الوعد، وَالَّذِينَ هَاجَرُواْ فِي اللّهِ مِن بَعْدِ مَا ظُلِمُواْ، ولا يؤثر على هذا أن التعبير جاء بالفعل الماضي، وَالَّذِينَ هَاجَرُواْ، فكل من تحقق فيه هذا الوصف فهو موعود بذلك، وأولى من يدخلون فيه أولئك الذين هاجروا من مكة إلى الحبشة أو إلى المدينة، فكل ذلك يشمله هذا العموم وَالَّذِينَ هَاجَرُواْ فِي اللّهِ مِن بَعْدِ مَا ظُلِمُواْ لَنُبَوِّئَنَّهُمْ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً فهذا وعد لمن هاجر، ولهذا عبر بالفعل الماضي، ما قال: والذين يهاجرون، أو سيهاجرون، وإنما هذا تسلية ووعد لمن فقد الأهل والعشيرة والوطن في سبيل الله - تبارك وتعالى -، ومن ترك شيئاً لله عوضه الله خيراً منه، والمباءة سبق الكلام عليها، لَنُبَوِّئَنَّهُمْ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً، وهذه الحسنة التي تكون في الدنيا: من أهل العلم - كما سبق - من يقول: هي النصر على الأعداء، ومنهم من يقول: ما حصل من الفتوح، ومنهم من يقول: ما يقع لهم، أو ما وقع لهم من الذكر الجميل على مر العصور، وبعضهم يقول: الرزق الطيب ونحو ذلك، والآية هنا يقال فيها كما قيل في الآية السابقة لَنُبَوِّئَنَّهُمْ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً، فلا يفهم من هذا أن المقصود هو رغد العيش، والنعيم الذي يكون للأبدان، فإن من هؤلاء من قتل ولم يرَ هذه الفتوح، ولم يحصل له التوسع والتلذذ بالطيبات، ولكن ما يحصل لأهل الإيمان من السعادة واللذة والأنس والانشراح بمعرفة الله ، وقد يحصل معه لهم شيء من هذا الحطام العاجل في الدنيا كما حصل لكثير من أصحاب رسول الله ﷺ، وعلى كل حال في قوله هنا: وَلَأَجْرُ الآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُواْ يَعْلَمُونَ، يحتمل أن يكون قوله لَوْ كَانُواْ يَعْلَمُونَ راجعاً إلى المؤمنين، الذين وعدهم الله ، أو الذين تخلفوا عن الهجرة، فإن أجر الآخرة أكبر لو كانوا يعلمون، ويحتمل أن يكون عائداً إلى الذين ظلموهم وآذوهم وأخرجوهم، فالله يقول: وَلَأَجْرُ الآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُواْ يَعْلَمُونَ.