وَالأنْعَامَ خَلَقَهَا لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ وَمَنَافِعُ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ وَلَكُمْ فِيهَا جَمَالٌ حِينَ تُرِيحُونَ وَحِينَ تَسْرَحُونَ وَتَحْمِلُ أَثْقَالَكُمْ إِلَىَ بَلَدٍ لّمْ تَكُونُواْ بَالِغِيهِ إِلاّ بِشِقّ الأنفُسِ إِنّ رَبّكُمْ لَرَءُوفٌ رّحِيمٌ [سورة النحل:5-7].
يمتنّ تعالى على عباده بما خلق لهم من الأنعام وهي الإبل والبقر والغنم، كما فصلها في سورة الأنعام إلى ثمانية أزواج، وبما جعل لهم فيها من المصالح والمنافع من أصوافها وأوبارها وأشعارها يلبسون ويفترشون، ومن ألبانها يشربون، ويأكلون من أولادها، وما لهم فيها من الجمال وهو الزينة؛ ولهذا قال: وَلَكُمْ فِيهَا جَمَالٌ حِينَ تُرِيحُونَ وهو وقت رجوعها عشياً من المرعى فإنها تكون أمَدّه خواصر وأعظمه ضروعاً وأعلاه أسْنمةً، وحِينَ تُرِيحُونَ أي: غدوة حين تبعثونها إلى المرعى، وَتَحْمِلُ أَثْقَالَكُمْ وهي الأحمال الثقيلة التي تعجزون عن نقلها وحملها، إلَى بَلَدٍ لَمْ تَكُونُوا بَالِغِيهِ إِلَّا بِشِقِّ الْأَنْفُسِ وذلك في الحج والعمرة والغزو والتجارة وما جرى مجرى ذلك، تستعملونها في أنواع الاستعمال من ركوب وتحميل، كقوله: وَإِنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعَامِ لَعِبْرَةً نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِهَا وَلَكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ كَثِيرَةٌ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ وَعَلَيْهَا وَعَلَى الْفُلْكِ تُحْمَلُونَ [سورة المؤمنون:21-22]، وقال تعالى: اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَنْعَامَ لِتَرْكَبُوا مِنْهَا وَمِنْهَا تَأْكُلُون وَلَكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ وَلِتَبْلُغُوا عَلَيْهَا حَاجَةً فِي صُدُورِكُمْ وَعَلَيْهَا وَعَلَى الْفُلْكِ تُحْمَلُونَ وَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ فَأَيَّ آيَاتِ اللَّهِ تُنْكِرُونَ [سورة غافر:79-81]؛ ولهذا قال ههنا بعد تعداد هذه النعم: إِنَّ رَبَّكُمْ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ أي: ربكم الذي قيض لكم هذه الأنعام وسخرها لكم، كقوله: أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا خَلَقْنَا لَهُمْ مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا أَنْعَاماً فَهُمْ لَهَا مَالِكُونَ وَذَلَّلْنَاهَا لَهُمْ فَمِنْهَا رَكُوبُهُمْ وَمِنْهَا يَأْكُلُونَ [سورة يس:71-72]، وقال: وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْفُلْكِ وَالْأَنْعَامِ مَا تَرْكَبُونَ لِتَسْتَوُوا عَلَى ظُهُورِهِ ثُمَّ تَذْكُرُوا نِعْمَةَ رَبِّكُمْ إِذَا اسْتَوَيْتُمْ عَلَيْهِ وَتَقُولُوا سُبْحَانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنَا هَذَا وَمَا كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ وَإِنَّا إِلَى رَبِّنَا لَمُنْقَلِبُونَ [سورة الزخرف:12-13]، قال ابن عباس - ا -: لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ أي: ثياب، وَمَنَافِعُ ما تنتفعون به من الأطعمة والأشربة.
قوله: وَالأَنْعَامَ خَلَقَهَا الأنعام: أكثر ما يطلق ذلك على الإبل، وهذا اللفظ أيضاً يصدق على الأنواع التي ذكرها الله في سورة الأنعام: الإبل والبقر والغنم بنوعيه، كلها يقال لها أنعام، قال: وَالأَنْعَامَ خَلَقَهَا لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ قال ابن عباس - ا -: إن الدفء الثياب، يعني ما يصنع من أوبارها وأصوافها وأشعارها مما يحصل به الدفء، ويتقي فيه الإنسان البرد، وهذا هو الظاهر، وبعضهم حمل الدفء على معنىً أوسع من هذا، فحمله على ما يحصل منها من مشروب ومأكول، ونحو ذلك، وليس هذا هو المتبادر عند إطلاق هذه اللفظة، والقرآن إنما تُحمل معانيه على الظاهر المتبادر، لا سيما وأن الله قال بعده: وَمَنَافِعُ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ، فما يستخرج منها من الألبان والأزباد وما شابه ذلك مما يستخرجونه من ألبانها كالأجبان والأَقِط ونحوها، فإن ذلك داخل في قوله: وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ، وبقية الأشياء كأكل لحومها ذكرها الله بالمنافع، هذا هو الأقرب، والله تعالى أعلم.
وقوله - تبارك وتعالى -: وَلَكُمْ فِيهَا جَمَالٌ حِينَ تُرِيحُونَ وَحِينَ تَسْرَحُونَ، وَحِينَ تَسْرَحُونَ يعني: وقت الرواح هو في آخر النهار من المرعى، وقدّمه - مع أن الخروج حينما تسرح إلى المراعي يكون في أول النهار - لأنه أكمل في الحالة والصورة، فهي تغدو وتسرح وهي ضامرة البطون، ثم ترجع في آخر النهار وهي أمَدّ ما تكون خواصر وأملأ ما تكون ضروعاً، وهذا إنما تقوم عليه معايشهم، ومن يزاولون هذه الأنعام اليوم يطربون لرؤية هذه البهائم وهي ممتدة الخواصر، وقد امتلأت ضروعها بالألبان، فهذا شيء يحرك نفوسهم ويبهجها ويطربها؛ ولهذا - والله أعلم - قدم الرواح وهو الرجوع في آخر النهار على الذهاب في أوله، فالرواح يكون من المرعى إلى حظائرها والأماكن التي يكون بياتها فيها؛ ولهذا يسمى المكان الذي تبيت فيه المراح؛ لأنها تروح إليه أو تُراح إليه في وقت العشي، فهذا الذي مشى عليه الحافظ ابن كثير ومشى عليه كثير من المفسرين، وَلَكُمْ فِيهَا جَمَالٌ حِينَ تُرِيحُونَ يقولون: حينما تكون في حظائرها الناس لا يشاهدونها ولا ينظرون إليها ونحو ذلك، وهكذا حينما تكون متفرقة في المرعى، لكن عندما تخرج مجتمعة، أو حينما تكون راجعة تكون مجتمعة، سواء كانوا من أهل البادية أو من أهل القرى، فأهل البوادي تجتمع عندهم في المراح، وتخرج سارحة وهي مجتمعة، ثم بعد ذلك تتفرق في المرعى وهم لا يشاهدونها في المرعى أصلاً، ثم إذا جاءت في العشي كانت مجتمعة مسرعة وترجع من نفسها، فلو أن الراعي غفل عنها، أو نام، أو أصيب بشيء، تأتي لوحدها وتعرف طريقها، فتأتي مسرعة مندفعة، ثم تتفرق في الحظائر، وتعرف كل واحدة بيت أهلها، فتنطلق إليه مسرعة، فتتفرق، فمنظرها حينما تكون ذاهبة وآتية مجتمعة، وَلَكُمْ فِيهَا جَمَالٌ حِينَ تُرِيحُونَ وَحِينَ تَسْرَحُونَ، فذكر هذين الحالين، ومن أهل العلم من حمل الجمال وَلَكُمْ فِيهَا جَمَالٌ على معنىً آخر وهو وَلَكُمْ فِيهَا جَمَالٌ أي: تتجملون أنتم بها، بمعنى أنكم تترفعون، وإنما تكون مكانة الإنسان ومنزلته في نظر الكثيرين بما له من مال وأنعام فيحصل لهم بذلك رفعة ومكانة في نفوس كثير من الناس، وعند أنفسهم أيضاً، فملكية هذه الأنعام تعود على صاحبها بشيء من الرفعة، وأشعار العرب كثيرة في هذا، وتفاخرهم بما عندهم من الأنعام، وبعض أهل العلم حمل الجمال على ما يحصل لهم من التجمل بما ملكوا من هذه الأنعام؛ لأنها هي أموالهم، فهذه أموال ظاهرة يراها الناس، بخلاف الأموال الباطنة التي لا يطلع عليها أحد.