وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً وَيَخْلُقُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ [سورة النحل:8].
هذا صنف آخر مما خلق - تبارك وتعالى - لعباده يمتن به عليهم، وهو الخيل والبغال والحمير التي جعلها للركوب والزينة بها، وذلك أكبر المقاصد منها، وقد ثبت في الصحيحين عن جابر بن عبد الله - ا - قال:" نهى رسول الله ﷺ عن لحوم الحمر الأهلية، وأذن في لحوم الخيل"[1].
ورواه الإمام أحمد وأبو داود بإسنادين كل منهما على شرط مسلم عن جابر قال: ذبحنا يوم خيبر الخيل والبغال والحمير، فنهانا رسول الله ﷺ عن البغال والحمير ولم ينهنا عن الخيل[2]، وفي صحيح مسلم عن أسماء بنت أبي بكر - ا - قالت: نحرنا على عهد رسول الله ﷺ فرساً فأكلناه ونحن بالمدينة[3].
هذه الأحاديث التي أوردها الحافظ ابن كثير - رحمه الله - باعتبار أن من أهل العلم من فهم أن الخيل لا يجوز أكلها؛ لأن الله لما ذكر الأنعام قال: وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ [سورة النحل:5]، وذكر الخيل مع البغال والحمير ولم يذكر الأكل، وإنما قال: لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً، ما قال: وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ، فقالوا: إن حكم الخيل هو حكم البغال والحمير، لا يؤكل منها، وإنما للركوب والزينة فقط، فاحتجوا بأمرين من هذه الآية، الأول: دلالة الاقتران، قرنها مع البغال والحمير، والثاني: أن الله لم يذكر الأكل، وإنما ذكر الركوب والزينة بخلاف الأنعام، فقالوا: فرَّق بينهما، والواقع أنه لا دليل في واحد منهما، أما دلالة الاقتران فهي دلالة ضعيفة عند الأصوليين لا يحتج بها، وحينما ذكر الله الركوب والزينة، يمكن أن يحتج بأنه سبحانه لم يذكر في الآية السابقة الركوب، وعليه يمكن أن يقال: لا يجوز ركوب الأنعام بما في ذلك الإبل، والعلماء اختلفوا في البقر هل يجوز الحمل عليها والركوب؟ وفي الحديث: "الرجل الذي كان يركب بقرة فقالت: إني لم أخلق لهذا"[4]، فأخذ منه بعض أهل العلم أن البقر لا يجوز ركوبها ولا الحمل عليها، ولكن هذا يختلف، فمن الأبقار ما لا يحتمل ذلك، ومنها ما تكون بهيئة عظيمة كما في بعض أنواعها وفصائلها كالجواميس ونحوها يحمل عليها الأثقال، ويركب عليها الناس في بعض البلاد ولا يضرها، فالشاهد أنه لما ذكر الأنعام ما ذكر الركوب، مع أنه لا إشكال في ركوبها إطلاقاً، والآيات واردة في هذا المعنى: وَإِنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعَامِ لَعِبْرَةً نُّسقِيكُم مِّمَّا فِي بُطُونِهَا وَلَكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ كَثِيرَةٌ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ وَعَلَيْهَا وَعَلَى الْفُلْكِ تُحْمَلُونَ [سورة المؤمنون:21-22]، وَعَلَيْهَا يعني: الأنعام، فذكر الحافظ ابن كثير - رحمه الله - ركوبها، وهكذا في قوله: اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَنْعَامَ لِتَرْكَبُوا مِنْهَا وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ وَلَكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ وَلِتَبْلُغُوا عَلَيْهَا حَاجَةً فِي صُدُورِكُمْ [سورة غافر:79-80]، تنتقلون إلى البلاد البعيدة، تحملون الأثقال، وتقطعون المسافات، ولم يذكر في آية النحل الركوب في الأنعام، فإذا أردنا أن نحتج أو نستدل على هؤلاء الذين قالوا: إن الخيل لا يجوز أكلها بناءً على أن الله ذكرها هنا وذكر المنفعة التي تحصل وتستخرج منها وهي الركوب والزينة، فنقول: هناك لم يذكر الركوب، فلا يقال: لا يجوز ركوب الأنعام؛ لأن الله لم يذكره، فذِكْر بعض المنافع في موضع وترْك بعضها لا يعني أن ذلك ليس من منافعها وأنه لا يسوغ ولا يجوز، ووردت أحاديث تدل على جواز أكل لحوم الخيل، والله - تبارك وتعالى - في هذه الآية لما ذكر الأنعام قال: وَلَكُمْ فِيهَا جَمَالٌ حِينَ تُرِيحُونَ وَحِينَ تَسْرَحُونَ، ذكر هذين الوقتين، والجمال فسر بامتداد خواصرها وامتلاء ضروعها، والمعنى الثاني جَمَالٌ أنكم أنتم تتجملون؛ لأن هذه أموال ظاهرة ويراها الناس، ولما ذكر الخيل والبغال والحمير قال: لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً وَيَخْلُقُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ، وَزِينَةً يعني: تتزينون بركوبها، ولا شك أن أجمل هذه المذكورات جميعاً هو الخيل، ولما ذكر الله هذه الثلاثة الخيل والبغال والحمير ذكرها مرتبة من الأعلى إلى الأدنى، فالخيل أجمل وأشرف ثم البغال ثم بعد ذلك الحمير، ومن حيث القوة والتحمل أقواها الحمار، ولهذا يكنى بأبي صابر، ثم يليه بعد ذلك البغل، وهو قوي جداً أقوى من الخيل من ناحية التحمل، ثم بعد ذلك يأتي الخيل، فهي بالنسبة للقوة مرتبة من الأدنى إلى الأعلى، وبالنسبة للجمال والشرف مرتبة من الأعلى إلى الأدنى، وبالمناسبة فقد ظهرت الاحتفالات التي تسمى مزايين الإبل، وهذه ليست مسابقة فقط بين الجميلات من الإبل بل يجمع لها الأموال الهائلة، فبعض القبائل جمعت أكثر من سبعين مليوناً، وبعضهم رصف طريقاً مُضاءً في الصحراء إلى المكان الذي تقام فيه المسابقة مع أن المسافة شاسعة، وسمعت أن بعضهم يحمِّل السيارة الكبيرة أغناماً ويدور على المخيمات ويعطيهم، ولا يمر أحد إلا ويدعى من الخيام للحم إن شاء أن يأكل مما صنع، وإن شاء أن يأخذه نيئاً لم يطبخ، فتصرف أموال هائلة، وسيارات وهدايا بأغلى الأثمان على الجميلة من الإبل، ولا فخر في هذا، فالإبل لا تعرف بالجمال، إنما الجمال في الخيل، وما ذكره الله فيها من الجمال على معنيين - حينما تكون سارحة أو راجعة -: امتداد خواصرها أو امتلاء ضروعها، وليس في هيئتها أنها جميلة تعشقها الأنظار ونحو ذلك إطلاقاً، وما ذكره الشيخ محمد الأمين الشنقيطي - رحمه الله - أنها جمال لأهلها بمعنى أنهم يرتفعون بامتلاك الأنعام؛ لأنها أموال العرب، والمقصود أن مثل هذه التصرفات خلاف الدين، فإن الله نهى عن إضاعة الأموال، ثم هذه الأموال المصروفة لا فائدة منها للبهائم ولا للآدميين، ولا للمجتمع، وإنما فيها تفكيك المجتمع، وإحياء القبليات والنعرات الجاهلية، حتى عند الأطفال، فهم يتناقلون أشعاراً نبطية، والرموز المكتوبة على السيارات، وعلى الشوارع وعلى الجدران ترمز إلى قبائل، ونحن إذا شاهدنا تلك الرموز لا نعرفها، لكن نسمع من الصغار من يقول: هذا القبيلة الفلانية، وهذه القبيلة الفلانية، فضلاً عن الكبار، فكيف يفتخر بالقبيلة وما أشبه ذلك، والنبي ﷺ قال: دعوها فإنها منتنة[5]، وقال: أبدعوى الجاهلية وأنا بين أظهركم؟، لما قال رجل: "يا للمهاجرين"، وقال آخر: "يا للأنصار"[6]، مع أن هذه أسماء شرعية، فهذا رد للناس إلى مآثر الجاهلية وافتخارها بالأحساب والأنساب، والنبي ﷺ أخبر أن ذلك مما يبقى في هذه الأمة، لا يتركونه من أمر الجاهلية، وهذا يعيدها فتيّة، وأصبح كثير من الناس يتناقلون في جوّالاتهم قصائد هذه القبيلة في هذه القبيلة، وهذه القبيلة في هذه القبيلة، ثم إن الخيل معروفة بالجمال وهي أحق وأولى بأن يقام لها مزايين، ولا تُهوّن من أمر الحمير والبغال، فربما تحتاج أيضاً أن يقام لها مزايين، فالله ذكرها كلها وذكر الزينة بعدها، فضلاً عن البقر والشياه وغيرها، والقبائل الذين يربون البقر، ويربون الأغنام وليسوا بأهل إبل، هؤلاء تجدهم يتنافسون على الأقل فيما بينهم بمزايين البقر أو مزايين الغنم، فتخصيص الإبل بالمزايين تخصيص بلا مخصص، يعني بلا موجب، وتفريق بلا مفرق، وإلا فكما قيل:
| ما ثم غير مشيئة قد رجحت | مثلاً على مثل بلا رجحان |
فمثل هذه الأشياء يجب إنكارها وبيان خطر هذا على المجتمع، وعلى الأمة، ولسنا بحاجة إلى مزيد من الفرقة والانقسام، والله المستعان.
وقوله: وَيَخْلُقُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ، كثير من المفسرين يقولون: المقصود به: من المخلوقات من دواب البحر، والوحش، والديدان، والكائنات الحية بجميع أنواعها، مما نعرفه وما لا نعرفه، وما يمكن مشاهدته بالعين المجردة وما لا يمكن مشاهدته، فهذه عوالم لا زال الناس يكتشفون منها أشياء وأشياء إلى يومنا هذا، وبعض أهل العلم كالشيخ محمد الأمين الشنقيطي - رحمه الله - يقول: وَيَخْلُقُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ يعني: من المركوبات؛ لأن السياق في ذكر المراكب، وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً وَيَخْلُقُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ من المركوبات، يقول: وذلك مثل القطارات والطيارات والسيارات وغير ذلك من المراكب المتنوعة.
- رواه البخاري، كتاب الذبائح والصيد، باب لحوم الخيل، برقم (5201)، ومسلم، كتاب الصيد والذبائح وما يؤكل من الحيوان، باب في أكل لحوم الخيل، برقم (1941).
- رواه أبو داود، كتاب الأطعمة، باب في أكل لحوم الخيل، برقم (3789)، وأحمد في المسند برقم (14840)، وقال محققوه: إسناده صحيح على شرط مسلم، وقال الألباني: وهذا على شرط مسلم، إرواء الغليل في تخريج أحاديث منار السبيل (8/138).
- رواه البخاري، كتاب الذبائح والصيد، باب النحر والذبح، برقم (5193).
- رواه البخاري من حديث أبي هريرة ، كتاب فضائل الصحابة، باب قول النبي ﷺ: لو كنت متخذا خليلا، برقم (3463)، ومسلم، كتاب فضائل الصحابة ، باب من فضائل أبي بكر الصديق ، برقم (2388).
- رواه البخاري، كتاب التفسير، باب قوله: سَوَاء عَلَيْهِمْ أَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ أَمْ لَمْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ لَن يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ [سورة المنافقون:6]، برقم (4622)، ومسلم، كتاب البر والصلة والآداب، باب نصر الأخ ظالما أو مظلوما، برقم (2584).
- رواه البخاري، كتاب التفسير، تفسير سورة المنافقون، برقم (4622)، من حديث جابر بن عبد الله - ا - ولفظه: ما بال دعوى جاهلية، قالوا: يا رسول الله كسع رجل من المهاجرين رجلا من الأنصار، فقال: دعوها فإنها منتنة الحديث، ومسلم بلفظ:ما بال دعوى الجاهلية، كتاب البر والصلة والآداب، باب نصر الأخ ظالما أو مظلوما، برقم (2584).