وَلَوْ شَاء اللّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلكِن يُضِلُّ مَن يَشَاء وَيَهْدِي مَن يَشَاء وَلَتُسْأَلُنَّ عَمَّا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ وَلاَ تَتَّخِذُواْ أَيْمَانَكُمْ دَخَلاً بَيْنَكُمْ فَتَزِلَّ قَدَمٌ بَعْدَ ثُبُوتِهَا وَتَذُوقُواْ الْسُّوءَ بِمَا صَدَدتُّمْ عَن سَبِيلِ اللّهِ وَلَكُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ وَلاَ تَشْتَرُواْ بِعَهْدِ اللّهِ ثَمَنًا قَلِيلاً إِنَّمَا عِندَ اللّهِ هُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ مَا عِندَكُمْ يَنفَدُ وَمَا عِندَ اللّهِ بَاقٍ وَلَنَجْزِيَنَّ الَّذِينَ صَبَرُواْ أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ [سورة النحل: 93-96].
يقول الله تعالى: وَلَوْ شَاء اللّهُ لَجَعَلَكُمْ أيها الناس أُمَّةً وَاحِدَةً كقوله تعالى: وَلَوْ شَاء رَبُّكَ لآمَنَ مَن فِي الأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا [سورة يونس:99]: أي لوفق بينكم ولما جعل اختلافاً ولا تباغض ولا شحناء وَلَوْ شَاء رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلاَ يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ إِلاَّ مَن رَّحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ [سورة هود:118-119]، وهكذا قال ههنا: وَلكِن يُضِلُّ مَن يَشَاء وَيَهْدِي مَن يَشَاء ثم يسألكم يوم القيامة عن جميع أعمالكم فيجازيكم عليها، على الفتيل والنقير والقطمير، ثم حذر تعالى عباده عن اتخاذ الأيمان دخلاً أي: خديعة ومكراً؛ لئلا تزل قدم بعد ثبوتها، مثل لمن كان على الاستقامة فحاد عنها، وزل عن طريق الهدى بسبب الأيمان الحانثة المشتملة على الصد عن سبيل الله؛ لأن الكافر إذا رأى أن المؤمن قد عاهده ثم غدر به لم يبق له وثوق بالدين، فانصد بسببه عن الدخول في الإسلام، ولهذا قال: وَتَذُوقُواْ الْسُّوءَ بِمَا صَدَدتُّمْ عَن سَبِيلِ اللّهِ وَلَكُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ.
هنا في قوله - تبارك وتعالى -: وَلاَ تَتَّخِذُواْ أَيْمَانَكُمْ دَخَلاً بَيْنَكُمْ فَتَزِلَّ قَدَمٌ بَعْدَ ثُبُوتِهَا: هناك نهى عن اتخاذ الأيمان هذا الاتخاذ وَلاَ تَكُونُواْ كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِن بَعْدِ قُوَّةٍ أَنكَاثًا تَتَّخِذُونَ أَيْمَانَكُمْ دَخَلاً بَيْنَكُمْ، وتوعدهم على ذلك، ونهاهم عن هذا تحت أي مبرر كان، بمعنى: لا يسوغ لكم التلاعب بالعهود والمواثيق والأيمان والنقض بتسويغ ذلك بكون هؤلاء أقوى من هؤلاء وأكثر ونحو هذا، إنما يلتزم الإنسان العهد ويفي به، وهنا وَلاَ تَتَّخِذُواْ أَيْمَانَكُمْ دَخَلاً بَيْنَكُمْ فَتَزِلَّ قَدَمٌ بَعْدَ ثُبُوتِهَا، نهى عنه مبيناً أثره، وهناك ينهاهم عنه مهما كانت مبرراته، ولهذا قال: إِنَّمَا يَبْلُوكُمُ اللّهُ بِهِ ففيه تهديد مبطن، وهنا وَلاَ تَتَّخِذُواْ أَيْمَانَكُمْ دَخَلاً بَيْنَكُمْ فَتَزِلَّ قَدَمٌ بَعْدَ ثُبُوتِهَا وَتَذُوقُواْ الْسُّوءَ بِمَا صَدَدتُّمْ عَن سَبِيلِ اللّهِ ما هو الأثر؟ الحافظ ابن كثير - رحمه الله - هنا قال: مثل لمن كان على الاستقامة فحاد عنها، هو لا يقصد الآن تفسير الآية بكاملها، وإنما يقصد فقط فَتَزِلَّ قَدَمٌ بَعْدَ ثُبُوتِهَا أن هذا يمثل به لمن حاد وزل وانحرف عن الطريق، فَتَزِلَّ قَدَمٌ بَعْدَ ثُبُوتِهَا، تقول مثلاً: لا تتبع خطوات الشيطان فتزل قدم بعد ثبوتها، لا تقرأ الشُّبه ولا تصغِ إلى أهل الشبه وأهل البدع والأهواء فتزل قدم بعد ثبوتها، من عرَّض نفسه للفتنة أولاً لم ينج منها آخراً، فَتَزِلَّ قَدَمٌ بَعْدَ ثُبُوتِهَا، فهذا مثل لمن حصل له انحراف وميل عن الطريق الصحيح، لكن معنى الآية: وَلاَ تَتَّخِذُواْ أَيْمَانَكُمْ دَخَلاً بَيْنَكُمْ فَتَزِلَّ قَدَمٌ بَعْدَ ثُبُوتِهَا، الحافظ ابن كثير فسر ذلك بأنه يتسبب في فتن غير المسلمين حينما يرون المسلمين يتلونون، وينقضون العهود والمواثيق، بحسب ما يرونه مصالح عاجلة وقريبة، فهم مَصْلحيُّون لا يقفون عند مبدأ ولا يرعون للعهد حرمة، وإنما ينكثون العهود والمواثيق متى ما رأوا الفرصة مواتية، فيصدهم ذلك عن دين الله ، ولا يقبلون الإسلام؛ لأنهم يرون الغدر والخيانة، هذا المعنى الذي ذكره الحافظ ابن كثير، فَتَزِلَّ قَدَمٌ بَعْدَ ثُبُوتِهَا: يعني أن ذلك يكون صداً لغير المسلمين، لكن هذا لا يخلو من إشكال - والله أعلم -؛ لأن هؤلاء الكفار لم تثبت أقدامهم أصلاً على الصراط حتى تزل، هم بعيدون عن الصراط المستقيم، ولهذا قال بعضهم: فَتَزِلَّ قَدَمٌ بَعْدَ ثُبُوتِهَا: أي أن ذلك الناكث هو المراد بقوله: فَتَزِلَّ قَدَمٌ بَعْدَ ثُبُوتِهَا، فيكون قد حاد عن الحق وخرج عنه بنقضه للعهد وصار بهذا منحرفاً ظالماً مستحقاً للعقوبة، وهذا أقرب من المعنى الأول، وبعضهم يفسر هذا بأيمان البيعة التي تعطى للنبي ﷺ، فخصه بنوع من الأيمان والعهود، فتلك في عموم العهود والمواثيق والأيمان، وهذه في نوع خاص منها وهو ما يعطى لرسول الله ﷺ من أيمان البيعة، فإذا نقض فإن ذلك يكون فتاً في عضد المسلمين، وضعفاً في الإسلام، وسبباً للتضعضع والتراجع وغلبة العدو، إذا نكثتم عهودكم وبيعتكم ولم تفوا بذلك فإن ذلك يكون سبباً لضعف المسلمين وتراجعهم، وطمع عدوهم أو غلبته عليهم، وهذا لا دليل عليه، - أي التخصيص بهذا المعنى -، ولهذا الأقرب - والله تعالى أعلم -: فَتَزِلَّ قَدَمٌ بَعْدَ ثُبُوتِهَا أنه قدم الناكث، فهو الذي يكون قد انحرف وخرج عن الحق بنقضه للعهود والمواثيق، فَتَزِلَّ قَدَمٌ بَعْدَ ثُبُوتِهَا وَتَذُوقُواْ الْسُّوءَ بِمَا صَدَدتُّمْ عَن سَبِيلِ اللّهِ، الحافظ ابن كثير ربما يحتج بهذا الجزء من الآية بأنه قرينة على أن المقصود فَتَزِلَّ قَدَمٌ بَعْدَ ثُبُوتِهَا قدمُ غير المسلمين، فتكونون قد صددتم عن سبيل الله، لكن على المعنى الذي ذكرته آنفاً وهو أنه تزل قدم الناكث وَتَذُوقُواْ الْسُّوءَ بِمَا صَدَدتُّمْ عَن سَبِيلِ اللّهِ فلا شك أن نقض العهود يتسبب عنه صد الناس عن الحق، وليس فقط نقض العهود بل كل التصرفات التي تسيء إلى الإسلام والمسلمين تكون صداً عن سبيل الله، ولهذا المؤمن يدعو ربه أن لا يكون فتنة للذين آمنوا، كما أن الله علّمنا: رَبَّنَا لَا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِّلَّذِينَ كَفَرُوا [سورة الممتحنة:5]، وكما سبق أن الفتنة مصدر، تأتي بمعنى الفاعل وتأتي للمفعول، لَا تَجْعَلْنَا بمعنى الفاعل، لا تجعلنا فاتنين بأن تسلطهم علينا، كما قال طائفة من السلف : أنْ تُسلطهم علينا فيغلبونا ويقهرونا فيقال: لو كان هؤلاء على الحق لما كانوا بهذه المثابة، فهذا معنى، ويدخل فيه لَا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً بأن الناس لا يلتزمون شرع الله ، ويصدر عنهم ما ينفر الناس عن الدخول في الإسلام، كما هو واقع الأمة اليوم، فيكون ذلك صداً عن سبيل الله وفتنة للناس عن الدخول فيه، وبمعنى المفعول لَا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِّلَّذِينَ كَفَرُوا لا تسلطهم علينا فيقهرونا ويغلبونا، فنُفتن في ديننا، ونُصَدَّ عن سبيل الله، لا تسلطهم علينا فيفتنونا عن ديننا، والقرآن يعبر به بالألفاظ القليلة الدالة على المعاني الكثيرة، فهذه المعاني داخلة فيه، والله تعالى أعلم، لكن هنا وَتَذُوقُواْ الْسُّوءَ بِمَا صَدَدتُّمْ عَن سَبِيلِ اللّهِ بتصرفهم السيئ هذا، ونقضهم للعهود والمواثيق، لا شك أن هذا يتسبب عنه الصد عن سبيل الله - تبارك وتعالى -.