ثم قال تعالى: وَلاَ تَشْتَرُواْ بِعَهْدِ اللّهِ ثَمَنًا قَلِيلاً: أي: لا تعتاضوا عن الأيمان بالله عرض الحياة الدنيا وزينتها؛ فإنها قليلة، ولو حيزت لابن آدم الدنيا بحذافيرها لكان ما عند الله هو خير له، أي جزاء الله وثوابه خير لمن رجاه وآمن به وطلبه وحفظ عهده رجاء موعوده، ولهذا قال: إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ مَا عِندَكُمْ يَنفَدُ: أي يفرغ وينقضي، فإنه إلى أجل معدود محصور مقدر مُتناهٍ وَمَا عِندَ اللّهِ بَاقٍ: أي وثوابه لكم في الجنة باقٍ لا انقطاع ولا نفاد له، فإنه دائم لا يحول ولا يزول وَلَنَجْزِيَنَّ الَّذِينَ صَبَرُواْ أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ قسم من الرب تعالى مؤكد باللام، أنه يجازي الصابرين بأحسن أعمالهم، أي: ويتجاوز عن سيئها.
أحسن - كما تعلمون -: صيغة تفضيل، وَلَنَجْزِيَنَّ الَّذِينَ صَبَرُواْ أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ، فهذا المعنى الذي مشى عليه ابن كثير هو الذي اختاره ابن جرير أيضاً، بمعنى يجزيهم بأحسن ما كانوا يعملون، فيتجاوز عن السيئ، ويجازيهم بأحسنها لا بأسوئها، هذا معنىً، وبعض أهل العلم يقول: يجزيهم بأحسن ما كانوا يعملون أي: يجعل لهم الأجر والثواب على مقدار ما يكون فاضلاً من أعمالهم الصالحة، فالأعمال الصالحة تتفاوت، ويتفاوت الناس في إحسانهم فيها، من حضور القلب، وشدة الإخلاص والإخبات أثناء العمل، وما أشبه هذا مما يحصل فيه تفاضل بسبب المتعلق من جهة الزمان والمكان، فيكون الجزاء على الأرفع منها، فيرفع الضعيف وما كان جزاؤه قليلاً تكون المحاسبة على الأعلى، فمثلا: أنت عندك بضاعة منها ما هو جيد ومنها ما هو رديء، وكلها بضاعة، عندك مواد مصنوعة، عندك منسوجات منها ما هو جيد ومنها ما هو ركيك أو رديء، فتكون المحاسبة لك إذا أردنا أن نعطيك حقك تماماً أن يعطى كل نوع منها ما يستحقه، فعلى هذا المعنى هنا؟، لا، بل يعامل الجميع معاملة الأحسن والأفضل منها، من كرم الله وفضله على عباده، يجبر لهم الضعف، ويرفع لهم الأجور، بحيث إنها تكافئ الأفضل من أعمالهم، نجزيهم بِأَحْسَنِ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ، وهذا معنىً ذكره بعض أهل العلم، وهو معنىً حسن، وسبب الاختلاف، أن "أحسن" أفعل تفضيل إذا استعملناها في بابها الذي وضعت له، وهو أن شيئين اشتركا في صفة فزاد أحدهما على الآخر، فحينئذ الأعمال السيئة -كما مشى عليه ابن كثير وابن جرير - رحمهما الله - غير داخلة في المفاضلة؛ لأنه لا يفاضل بين الأعمال السيئة والحسنة، ما يقال: الطاعة أفضل من المعصية.
ألم تر أنّ السيف ينقصُ قدرُه | إذا قيل: إن السيف أمضى من العصا |
وإنما يكون في شيئين اشتركا في صفة، تقول: زيد أعلم من عمرو، الفرائض أفضل من النوافل، وكل ذلك فاضل، فهنا تكون هذه الأعمال قد اشتركت بالحسن فزاد بعضها على الآخر، فبعضهم قال: السيئ غير مشترك في الحسن هنا، ما الذي يشترك في الحسن؟ قالوا: المباح، والسيئ مذموم، إذاً يجزيهم بأحسن: يعني بالطاعات دون المباحات، أعمالُهم فيها المعصية وفيها المباح وفيها العمل المشروع الذي أمر الله به ورسوله ﷺ أمْر إيجاب أو ندب، هذا المشروع، هذا القسم الثالث، فالتي اشتركت في الحسن غير مذمومة شرعاً هي المباحات والأمور الأخرى المشروعة، فيجزيهم بأحسن ما كانوا يعملون، يعني بأحسن أعمالهم، وأما المباح فلا يحاسب الإنسان عليه، هذا المعنى الثالث، هي ثلاثة معانٍ على كل حال، والله تعالى أعلم.