الجمعة 26 / شوّال / 1446 - 25 / أبريل 2025
فَإِذَا قَرَأْتَ ٱلْقُرْءَانَ فَٱسْتَعِذْ بِٱللَّهِ مِنَ ٱلشَّيْطَٰنِ ٱلرَّجِيمِ

المصباح المنير
مرات الإستماع: 0

قوله: فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ ۝ إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ ۝ إِنَّمَا سُلْطَانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ وَالَّذِينَ هُم بِهِ مُشْرِكُونَ [سورة النحل:98- 100].

هذا أمر من الله تعالى لعباده على لسان نبيه ﷺ إذا أرادوا قراءة القرآن أن يستعيذوا بالله من الشيطان الرجيم، وقد قدمنا الأحاديث الواردة في الاستعاذة مبسوطة في أول التفسير، ولله الحمد والمنة، والمعنى في الاستعاذة عند ابتداء القراءة لئلا يلبس على القارئ قراءته، ويخلط عليه ويمنعه من التدبر والتفكر؛ ولهذا ذهب الجمهور إلى أن الاستعاذة إنما تكون قبل التلاوة.

وقوله: إنه لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ قال الثوري: ليس له عليهم سلطان أن يوقعهم في ذنب لا يتوبون منه، وقال آخرون: معناه لا حجة له عليهم، وقال آخرون: كقوله: إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ.

إِنَّمَا سُلْطَانه عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ قال مجاهد: يطيعونه، وقال آخرون: اتخذوه ولياً من دون الله، وَالَّذِينَ هُمْ بِهِ مُشْرِكُونَ أي: أشركوا في عبادة الله تعالى.

قوله - تبارك وتعالى -: فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ، أي: إذا أردت قراءة القرآن، وهذه الآية كقوله - تبارك وتعالى -: فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ [سورة الطلاق:2] أي: إذا قاربن بلوغ الأجل؛ لأن المطلقة إذا بلغت الأجل في العدة تكون قد بانت من زوجها، ولا يستطيع أن يمسكها.

وقال بعض أهل العلم في قوله – تبارك وتعالى -: فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ: إن الاستعاذة تكون بعد القراءة، وهذا القول على غرابته موجه بتوجيه معقول، وهو أن الاستعاذة بعد القراءة؛ لئلا يحصل للقارئ العجب بالعمل الصالح، فتفسد عليه عبادته.

والراجح - والله أعلم – المعنى الأول وهو أن الاستعاذة بالله من الشيطان الرجيم هي بين يدي القراءة، وذلك نوع طهارة وتهيؤ، كما أن الإنسان يتهيأ للقراءة بالطهارة فكذلك يتهيأ لها بنوع آخر وهو التخلص من الشيطان الرجيم، من أجل ألا يشوش عليه فكره، ويفرق قلبه، كما يحصل لبعض الناس من الوساوس والأفكار الفاسدة أثناء القراءة، ويلبس عليه أمره.

وقد بينت السنة كيفية الاستعاذة، فإذا قال القارئ: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، أو قال: أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم، أو زاد: مِن هَمْزه ونفخه ونفثه، فكل ذلك حسن.

ومعنى الشيطان: من شطن أي بعُد، فهو بعيد عن رحمة الله وعن الخير، يقال: شطنت البئر، يعني: بعد قعرها، أو من شاط يشيط، فكل عاتٍ متمرد فهو شيطان، ومنه قول الشاعر:

أيام يدعونني الشيطان من غزل وكن يهوينني إذ كنت شيطاناً

وقول الآخر يمدح سليمان :

أيّما شاطنٍ عصاه عكاه ثم يُلقَى في القيد والأكبال

ورجيم فعيل بمعنى مفعول أي: مرجوم، فهو مُبعَد عن الخير وعن رحمة الله ، وقال بعضهم: رجيم أي: مرجوم بالسب والشتم واللعن، وكل هذا صحيح، وبعضهم يقول: رجيم: فعيل بمعنى فاعل، أي: أنه راجم، يرجم الناس بالوساوس، والخواطر السيئة، لكن المشهور هو الأول.

قوله: إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ ۝ إِنَّمَا سُلْطَانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ وَالَّذِينَ هُمْ بِهِ مُشْرِكُونَ [النحل:99- 100]

قال الثوري: ليس له عليهم سلطان أن يوقعهم في ذنب لا يتوبون منه، وقال آخرون: معناه لا حجة له عليهم، وهذا كثير في القرآن، وهو اختيار كبير المفسرين ابن جرير، وعزاه الواحدي لعامة المفسرين.

وقد أثبت الله – تبارك وتعالى – للشيطان سلطاناً فقال: إِنَّمَا سُلْطَانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ، ونفى عنه السلطان في سورة إبراهيم فقال: وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي  [إبراهيم:22]، وقد بين العلامة الشنقيطي -في دفع إيهام الاضطراب- الجمعَ بين الآيتين، وللعلامة ابن القيم – رحمه الله – كلام على هذه المسألة.

وقد قال بعض أهل العلم: إن المراد بسلطان الشيطان هو الحجة، ويكون المعنى: إنما زينت لكم ودعوتكم بلا حجة فاستجبتم لي.

وقال بعضهم: إن المقصود أنه لم يكن له تسلط عليهم بالقدرة والقهر والإجبار، وإنما دعاهم فاستجابوا له، وبين المعنيين ملازمة؛ لأن سلطان الحجة يؤثر ويورث الاستجابة والانقياد فهو يقهر بهذه الحجة؛ ولهذا قال الله : وَمَن قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا [سورة الإسراء:33]، قيل: حجة، وقيل: تسلطاً على القاتل.

وقيل: إن المقصود أن الشيطان لم يكن له سلطان عليهم ابتداءً، ولكن هم الذين سلطوه على أنفسهم باتباع خطواته، والاستجابة لوساوسه وخواطره السيئة التي يلقيها في قلوبهم، فسلموا قيادهم له فصرعهم وغلبهم وأوقعهم فيما لا يرضي الله - تبارك وتعالى -، ولهذا قال: إِنَّمَا سُلْطَانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ.

قال الحافظ ابن القيم - رحمه الله تعالى - في بدائع التفسير، في تفسير قوله تعالى: فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللّهِ [سورة النحل:98]: "ومعنى استعذ بالله: امتنع به واعتصم به والجأ إليه، ومصدره العوذ والعياذ والمعاذ، وغالب استعماله في المستعاذ به، ومنه قوله ﷺ: لقد عذت بمعاذ[1]، وأصل اللفظة: من اللجأ إلى الشيء والاقتراب منه، ومن كلام العرب أطيب اللحم عوذه: أي الذي قد عاذ بالعظم واتصل به، وناقة عائذ: يعوذ بها ولدها، وجمعها عوذ كحُمر، ومنه في حديث الحديبية معهم العوذ المطافيل، والمطافيل: جمع مطفل وهي الناقة التي معها فصيلها.

قالت طائفة - منهم صاحب جامع الأصول -: استعار ذلك للنساء أي معهم النساء وأطفالهم، ولا حاجة إلى ذلك، بل اللفظ على حقيقته، أي قد خرجوا إليك بدوابهم ومراكبهم حتى أخرجوا معهم النوق التي معها أولادها، فأمر سبحانه بالاستعاذة به من الشيطان عند قراءة القرآن وفي ذلك وجوه:

منها: أن القرآن شفاء لما في الصدور، يُذهب لما يلقيه الشيطان فيها من الوساوس والشهوات والإرادات الفاسدة، فهو دواء لما أمره فيها الشيطان فأمر أن يطرد مادة الداء، ويخلي منه القلب ليصادف الدواء محلاً خالياً فيتمكن منه ويؤثر فيه كما قيل:

أتاني هواها قبل أن أعرفَ الهوى فصادف قلباً خالياً فتمكَّنا

فيجيء هذا الدواء الشافي إلى القلب قد خلا من مزاحم ومضاد له فينجع فيه.

ومنها: أن القرآن مادة الهدى والعلم والخير في القلب، كما أن الماء مادة النبات، والشيطان نار يحرق النبات أولاً فأولاً، فكلما أحس بنبات الخير من القلب سعى في إفساده وإحراقه، فأمر أن يستعيذ بالله منه لئلا يفسد عليه ما يحصل له بالقرآن.

والفرق بين هذا الوجه والوجه الذي قبله أن الاستعاذة في الوجه الأول لأجل حصول فائدة القرآن، وفي الوجه الثاني لأجل بقائها وحفظها وثباتها.

وكأن من قال: إن الاستعاذة بعد القراءة لاحظ هذا المعنى، وهو لعَمْر الله ملحظ جيد إلا أن السنة وآثار الصحابة إنما جاءت بالاستعاذة قبل الشروع في القراءة، وهو قول جمهور الأمة من السلف والخلف وهو محصل للأمرين.

ومنها: أن الملائكة تدنو من قارئ القرآن، وتستمع لقراءته كما في حديث أسيد بن حضير لما كان يقرأ ورأى مثل الظلة فيها مثل المصابيح، فقال : تلك الملائكة[2]، والشيطان ضد الملك وعدوه، فأمر القارئ أن يطلب من الله تعالى مباعدة عدوه عنه حتى يحضره خاص ملائكته، فهذه منزلة لا يجتمع فيها الملائكة والشياطين.

ومنها: أن الشيطان يجلب على القارئ بخيله ورجله حتى يشغله عن المقصود بالقرآن وهو تدبره وتفهمه ومعرفة ما أراد به المتكلم به سبحانه، فيحرص بجهده على أن يحول بين قلبه وبين مقصود القرآن، فلا يكمل انتفاع القارئ به، فأمر عند الشروع أن يستعيذ بالله منه.

ومنها: أن القارئ يناجي الله تعالى بكلامه، والله تعالى أشد أذناً للقارئ الحسن الصوت بالقرآن من صاحب القينة إلى قينته، والشيطان إنما قراءته الشعر والغناء، فأمر القارئ أن يطرده بالاستعاذة عند مناجاة الله تعالى واستماع الرب قراءته"[3] ا.هـ.

هذا فيه ضعف، لكن في الحديث الآخر الذي هو: ما أذن الله لشيء ما أذن لنبي حسن الصوت يقرأ القرآن يتغنى به[4]، وفسر في بعض الوجوه بأن المراد به أنه من الأذن أي الاستماع.

وقال الإمام ابن القيم - رحمه الله -: "ومنها: أن الله سبحانه أخبر أنه ما أرسل من رسول ولا نبي إِلَّا إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ [سورة الحـج:52]، والسلف كلهم على أن المعنى: إذا تلا ألقى الشيطان في تلاوته، قال الشاعر في عثمان:

تمنى كتابَ الله أوّلَ ليلِهِ وآخره لاقى حِمام المقادر

فإذا كان هذا فعله مع الرسل - عليهم السلام - فكيف بغيرهم؟؛ ولهذا يُغلّط القارئ تارة ويخلط عليه القراءة ويشوشها عليه، فيخبط عليه لسانه، أو يشوش عليه ذهنه وقلبه، فإذا حضر عند القراءة لم يعدم منه القارئ هذا أو هذا، وربما جمعهما له فكان من أهم الأمور: الاستعاذة بالله تعالى منه.

ومنها: أن الشيطان أحرص ما يكون على الإنسان عندما يهم بالخير أو يدخل فيه، فهو يشتد عليه حينئذ ليقطعه عنه، وفي الصحيح عن النبي ﷺ: إن شيطاناً تفلّت عليّ البارحة فأراد أن يقطع علىّ صلاتي[5] الحديث، وكلما كان الفعل أنفع للعبد وأحب إلى الله تعالى كان اعتراض الشيطان له أكثر، وفي مسند الإمام أحمد من حديث سبرة بن أبي الفاكه : أنه سمع النبي ﷺ يقول: إن الشيطان قعد لابن آدم بأطرقه، فقعد له بطريق الإسلام فقال: أتسلم وتذر دينك ودين آبائك وآباء آبائك؟، فعصاه فأسلم، ثم قعد له بطريق الهجرة، فقال: أتهاجر وتذر أرضك وسماءك، وإنما مثل المهاجر كالفرس في الطِّوَل؟[6]، فعصاه وهاجر، ثم قعد له بطريق الجهاد، وهو جهاد النفس والمال، فقال: تقاتل فتقتل فتنكح المرأة ويقسم المال؟ قال: فعصاه فجاهد[7]، فالشيطان بالمرصاد للإنسان على طريق كل خير.

وقال منصور عن مجاهد - رحمه الله -: ما من رفقة تخرج إلى مكة إلا جهز معهم إبليس مثل عدتهم[8]، رواه ابن أبي حاتم في تفسيره.

فهو بالرصد ولا سيما عند قراءة القرآن، فأمر سبحانه العبد أن يحارب عدوه الذي يقطع عليه الطريق ويستعيذ بالله تعالى منه أولاً ثم يأخذ في السير، كما أن المسافر إذا عرض له قاطع طريق اشتغل بدفعه ثم اندفع في سيره.

ومنها: أن الاستعاذة قبل القراءة عنوان وإعلام بأن المأتى به بعدها القرآن؛ ولهذا لم تشرع الاستعاذة بين يدي كلام غيره، بل الاستعاذة مقدمة وتنبيه للسامع أن الذي يأتي بعدها هو التلاوة، فإذا سمع السامع الاستعاذة استعد لاستماع كلام الله تعالى، ثم شرع ذلك للقارئ وإن كان وحده لما ذكرنا من الحِكم وغيرها، فهذه بعض فوائد الاستعاذة.

وقد قال أحمد في رواية حنبل: لا يقرأ في صلاة ولا غير صلاة إلا استعاذ؛ لقوله : فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ.

وقال في رواية ابن مشيش: كلما قرأ يستعيذ، وقال عبدالله بن أحمد: سمعت أبي إذا قرأ استعاذ يقول: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم إن الله هو السميع العليم.

وفي المسند والترمذي من حديث أبي سعيد الخدري قال: كان النبي ﷺ إذا قام إلى الصلاة استفتح ثم يقول: أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم، من همزه، ونفخه، ونفثه[9].

وقال ابن المنذر: جاء عن النبي ﷺ أنه كان يقول قبل القراءة: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم[10]، واختار الشافعي وأبو حنيفة والقاضي في الجامع أنه كان يقول: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم. وهو رواية عن أحمد بظاهر الآية وحديث ابن المنذر.

وعن أحمد من رواية عبدالله: أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم، لحديث أبي سعيد، وهو مذهب الحسن وابن سيرين، ويدل عليه ما رواه أبو داود في قصة الإفك: أن النبي ﷺ جلس وكشف عن وجهه وقال: أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم[11].

وعن أحمد رواية أخرى أنه يقول: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم إن الله هو السميع العليم، وبه قال سفيان الثوري ومسلم بن يسار واختاره القاضي في المجرد وابن عقيل؛ لأن قوله: فَاسْتَعِذْ بِاللّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ، ظاهره أنه يستعيذ بقوله: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، وقوله في الآية الأخرى: فَاسْتَعِذْ بِاللّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ العَلِيمُ، يقتضي أن يلحق بالاستعاذة وصفه بأنه هو السميع العليم في جملة مستقلة بنفسها مؤكدة بحرف "إن"؛ لأنه سبحانه هكذا ذكر"[12] ا.هـ.

حديث أبي داود في قصة الإفك أن النبي ﷺ جلس وكشف عن وجهه وقال: أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم، قال: رواه أبو داود في الصلاة باب من لم يجهر ببسم الله الرحمن الرحيم، وقال: هذا حديث منكر.

وقال ابن القيم - رحمه الله تعالى -: "ولما كان الغضب مركب الشيطان فتتعاون النفس الغضبية والشيطان على النفس المطمئنة التي تأمر بدفع الإساءة بالإحسان، أمر أن يعاونها بالاستعاذة منه فتمد الاستعاذة النفس المطمئنة فتقوى على مقاومة جيش النفس الغضبية، ويأتي مدد الصبر الذي يكون النصر معه، وجاء مدد الإيمان والتوكل فأبطل سلطان الشيطان فـ إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ [سورة النحل:99].

قال مجاهد وعكرمة والمفسرون: ليس له حجة، والصواب أن يقال: ليس له طريق يتسلط به عليهم لا من جهة الحجة، ولا من جهة القدرة، والقدرة داخلة في مسمى السلطان، وإنما سميت الحجة سلطاناً لأن صاحبها يتسلط بها تسلط صاحب القدرة بيده"[13].

والسلطان يأتي بمعنى الحجة، ويأتي بمعنى القدرة، وقول الله : وَمَن قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا [سورة الإسراء:33]، قال بعضهم المراد به: حجة، ويمكن أن يجمع بين هذا وهذا فيقال: له حجة وسبيل يتسلط به على القاتل، فيكون مخيراً بين ثلاثة أمور، فعبر الحافظ ابن القيم - رحمه الله - بعبارة دقيقة، ذكر الحجة وذكر القدرة؛ لأن الحجة هذه هي السبيل التي يتوصل بها إلى الاقتدار.

وقال - رحمه الله -: "وقد أخبر سبحانه أنه لا سلطان لعدوه على عباده المخلصين المتوكلين، قال في سورة الحجر: قَالَ رَبِّ بِمَآ أَغْوَيْتَنِي لأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الأَرْضِ وَلأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ ۝ إِلاَّ عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ ۝ قَالَ هَذَا صِرَاطٌ عَلَيَّ مُسْتَقِيمٌ ۝ إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ إِلاَّ مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغَاوِينَ [سورة الحجر:39-42].

وقال في سورة النحل: إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ ۝ إِنَّمَا سُلْطَانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ وَالَّذِينَ هُم بِهِ مُشْرِكُونَ [سورة النحل:99-100]، فتضمن ذلك أمرين:

أحدهما: نفي سلطانه وإبطاله على أهل التوحيد والإخلاص.

والثاني: إثبات سلطانه على أهل الشرك وعلى من تولاه[14]، إلى آخره.

وقال - رحمه الله -: "فإن قيل: فقد أثبت له على أوليائه هاهنا سلطاناً، فكيف نفاه بقوله تعالى حاكياً عنه مقرراً له: وَقَالَ الشَّيْطَانُ لَمَّا قُضِيَ الأَمْرُ إِنَّ اللّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدتُّكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُم مِّن سُلْطَانٍ إِلاَّ أَن دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي [سورة إبراهيم:22]"[15].

ما يذكره الله - تبارك وتعالى - حكاية عن قول قائل فإما أن يأتي قبله أو معه أو بعده ما يدل على بطلانه، أو يسكت عنه، ويدل ذلك على صحته غالباً، فحينما يقول الله مثلاً: سَيَقُولُونَ ثَلَاثَةٌ رَّابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ وَيَقُولُونَ خَمْسَةٌ سَادِسُهُمْ كَلْبُهُمْ رَجْمًا بِالْغَيْبِ [سورة الكهف:22]، فقوله: رَجْمًا بِالْغَيْبِ دل على أن هذا القول غير صحيح، ولما قال: وَيَقُولُونَ سَبْعَةٌ وَثَامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ، ما أبطله ولا ذكر ما يدل على بطلانه، ففهم منه أن هذا هو القول الصحيح، وقد يذكر أمرين فيكون أحدهما حقاً والآخر باطلاً، فيبطل الباطل ويسكت عن الحق، وَإِذَا فَعَلُواْ فَاحِشَةً قَالُواْ وَجَدْنَا عَلَيْهَا آبَاءنَا وَاللّهُ أَمَرَنَا بِهَا قُلْ إِنَّ اللّهَ لاَ يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاء [سورة الأعراف:28] وسكت عن وَجَدْنَا عَلَيْهَا آبَاءنَا، فهذا حق، لكن قوله: وَاللّهُ أَمَرَنَا بِهَا هذا باطل، وقوله: وَقَالُواْ لَن يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلاَّ مَن كَانَ هُوداً أَوْ نَصَارَى تِلْكَ أَمَانِيُّهُمْ قُلْ هَاتُواْ بُرْهَانَكُمْ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ [سورة البقرة:111]، وقوله: وَقَالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى نَحْنُ أَبْنَاء اللّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُم بِذُنُوبِكُم بَلْ أَنتُم بَشَرٌ مِّمَّنْ خَلَقَ [سورة المائدة:18]، وهذا غالباً، فقوله تعالى عن الذين غلبوا على أمرهم: قَالَ الَّذِينَ غَلَبُوا عَلَى أَمْرِهِمْ لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِم مَّسْجِدًا [سورة الكهف:21]، وما عقب عليها، هل معنى هذا جواز اتخاذ المساجد على القبور؟، وهذا يحتج به القبوريون، ويجاب عنه بجوابين قطعاً لاحتجاجهم، الأول: أن يقال: إن القواعد أغلبية، وليست كلية، بمعنى الكلية التي تحيط بجميع الجزئيات، والأمر الثاني: أن ذلك لو كان كما قلتم، وأنه جائز في شرع من قبلنا، فقد دلت هذه الشريعة على تحريمه، والنصوص صريحة عن النبي ﷺ في هذا، فغاية ما يقال في شرع من قبلنا: إنه شرع لنا ما لم ينسخ، مع أنه كان محرماً في الشرائع السابقة، وفي الحديث: لعن الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد[16]، ولو كان يجوز في شرعهم لما استحقوا اللعن، كيف يلعنون على شيء يجوز في شريعتهم؟.

وقال - رحمه الله -: في قوله: وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ فَاتَّبَعُوهُ إِلَّا فَرِيقًا مِّنَ الْمُؤْمِنِينَ ۝ وَمَا كَانَ لَهُ عَلَيْهِم مِّن سُلْطَانٍ إِلَّا لِنَعْلَمَ مَن يُؤْمِنُ بِالْآخِرَةِ مِمَّنْ هُوَ مِنْهَا فِي شَكٍّ [سورة سبأ:20-21]

قيل: السلطان الذي أثبته له عليهم غير الذي نفاه من وجهين:

أحدهما: أن السلطان الثابت هو سلطان التمكن منهم وتلاعبه بهم وسوقه إياهم كيف أراد، بتمكينهم إياه من ذلك بطاعته وموالاته، والسلطان الذي نفاه سلطان الحجة فلم يكن لإبليس عليهم من حجة يتسلط بها غير أنه دعاهم فأجابوه بلا حجة ولا برهان[17].

الثاني: أن الله لم يجعل له عليهم سلطاناً ابتداءً ألبته، ولكن هم سلطوه على أنفسهم بطاعته، ودخولهم في جملة جنده وحزبه، فلم يتسلطن عليهم بقوته، فإن كيده ضعيف وإنما تسلطن عليهم بإرادتهم واختيارهم، والمقصود: أن من قصد أعظم أوليائه وأحبابه ونصحائه فأخذه وأخذ أولاده وحاشيته وسلمهم إلى عدوه كان من عقوبته أن يسلَّط عليه ذلك العدو نفسه"[18].

وقال - رحمه الله - تعالى: "ولما علم عدو الله أن الله تعالى لا يسلطه على أهل التوحيد والإخلاص قال: فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ ۝ إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ [سورة ص:82-83]، فعلم عدو الله أن من اعتصم بالله وأخلص له وتوكل عليه لا يقدر على إغوائه وإضلاله، وإنما يكون له سلطانٌ على من تولاه وأشرك مع الله، فهؤلاء رعيته، فهو وليهم وسلطانهم ومتبوعهم.

فإن قيل: فقد أثبت له السلطان على أوليائه في هذا الموضع فكيف ينفيه ....؟"[19].

  1. رواه ابن ماجه، كتاب الطلاق، باب متعة الطلاق، برقم (2037)، وأحمد في المسند (25/460)، برقم (16061)، وقال محققوه: إسناده صحيح على شرط البخاري، وقال الألباني: منكر بذكر أسامة أو أنس، صحيح بلفظ: فأمر أسيد أن يجهزها ويكسوها ثوبين أزرقين، صحيح ابن ماجه برقم (1657)، والحديث أخرجه البخاري بلفظ عن عائشة - ا -: أن ابنة الجون لما أدخلت على رسول الله ﷺ ودنا منها قالت: أعوذ بالله منك، فقال لها: لقد عذت بعظيم الحقي بأهلك، كتاب الطلاق، باب من طلق وهل يواجه الرجل امرأته بالطلاق، برقم (4955).
  2. رواه البخاري، كتاب فضائل القرآن، باب نزول السكينة والملائكة عند قراءة القرآن، برقم (4730)، ومسلم، كتاب صلاة المسافرين وقصرها، باب نزول السكينة لقراءة القرآن، برقم (796).
  3. انظر: بدائع التفسير، للإمام ابن القيم (2/121-123)، وإغاثة اللهفان من مصائد الشيطان، لابن القيم (1/91-93).
  4. رواه البخاري، كتاب التوحيد، باب قول الله تعالى: وَلَا تَنفَعُ الشَّفَاعَةُ عِندَهُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ حَتَّى إِذَا فُزِّعَ عَن قُلُوبِهِمْ قَالُوا مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ قَالُوا الْحَقَّ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ [سورة سبأ:23]، ولم يقل ماذا خلق ربكم، برقم (7044)، ومسلم، كتاب صلاة المسافرين وقصرها، باب استحباب تحسين الصوت بالقرآن، برقم (793).
  5. رواه البخاري عن أبي هريرة ، عن النبي ﷺ قال: إن عفريتا من الجن تفلت عليّ البارحة - أو كلمة نحوها -؛ ليقطع عليّ الصلاة، فأمكنني الله منه، وأردت أن أربطه إلى سارية من سواري المسجد حتى تصبحوا وتنظروا إليه كلكم، فذكرت قول أخي سليمان: قَالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكًا لَّا يَنبَغِي لِأَحَدٍ مِّنْ بَعْدِي [سورة ص:35]، قال رَوْح: فردَّه خاسئا، أبواب المساجد، باب الأسير أو الغريم يربط في المسجد، برقم (449)، ومسلم، كتاب المساجد ومواضع الصلاة، باب جواز لعن الشيطان في أثناء الصلاة، برقم (541).
  6. هو الحبل الذي يربط به الفرس،، يدور في مساحة معينة لا يتجاوزها.
  7. رواه النسائي، كتاب الجهاد، باب ما لمن أسلم وهاجر وجاهد، برقم (3134)، وأحمد في المسند (25/315)، برقم (15958)، وقال محققوه: إسناده قوي، وابن حبان في صحيحه (10/453)، برقم (4593)، وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة برقم (2979)، وفي صحيح الجامع برقم (1652).
  8. أي: مثل عددهم.
  9. رواه أبو داود، كتاب الصلاة، باب من رأى الاستفتاح بسبحانك اللهم وبحمدك، برقم (775)، والترمذي، كتاب الصلاة، باب ما يقول عند افتتاح الصلاة، برقم(242)، وأحمد في المسند (18/51)، برقم (11473)، وقال محققوه: إسناده ضعيف، وصححه الألباني في تحقيقه مشكاة المصابيح برقم (1217)، وفي صحيح أبي داود برقم (748).
  10. قال الشيخ الألباني رحمه الله: " لم أقف على هذا في شيء من كتب السنة المعروفة إلا ما في " مراسيل أبي داود " عن الحسن أن رسول الله ﷺ كان يتعوذ فذكره، وهذا مع ضعفه - لأنه من مراسيل الحسن البصري - فليس فيه أن هذه الصيغة كانت في الصلاة، فالأفضل أن يستعيذ بما في حديث جبير بن مطعم وأن يزيد أحيانا : "السميع العليم" كما ورد في بعض الأحاديث مثل حديث أبي سعيد الخدري عند أبي داود والترمذي وغيرهما بسند حسن وهما مخرجان في" الإرواء " (342)" انظر: تمام المنة في التعليق على فقه السنة (176).
  11. رواه أبو داود، كتاب الصلاة، باب من لم يجهر ببسم الله الرحمن الرحيم،، وقال: هذا حديث منكر، برقم (785)، وضعفه الألباني في ضعيف أبي داود برقم (139).
  12. انظر: بدائع التفسير، للإمام ابن القيم (2/123-125)، وإغاثة اللهفان من مصائد الشيطان، لابن القيم (1/93-95).
  13. إغاثة اللهفان من مكائد الشيطان، لابن القيم (1/98).
  14. إغاثة اللهفان من مكائد الشيطان، لابن القيم (1/98).
  15. انظر: عدة الصابرين وذخيرة الشاكرين، للإمام ابن القيم (17).
  16. رواه البخاري، كتاب الجنائز، باب ما يكره من اتخاذ المساجد على القبور، برقم (1265)، ومسلم، كتاب المساجد ومواضع الصلاة، باب النهى عن بناء المساجد على القبور واتخاذ الصور فيها والنهى عن اتخاذ القبور مساجد، برقم (529)، من حديث عائشة - ا.
  17. جمع - رحمه الله - بين الحجة والقدرة،، فالحجة هي السبيل إلى الانقياد والإذعان،، فإن الناس ينقادون لها، ويخضعون كما يخضعون لصاحب القدرة.
  18. عدة الصابرين وذخيرة الشاكرين، للإمام ابن القيم (17-18).
  19. إغاثة اللهفان من مصائد الشيطان، لابن القيم (1/99).