وقوله: وَقُرْآناً فَرَقْنَاهُ أما قراءة من قرأ بالتخفيف فمعناه فصلناه من اللوح المحفوظ إلى بيت العزة من السماء الدنيا، ثم نزل مفرقاً منجماً على الوقائع إلى رسول الله ﷺ في ثلاث وعشرين سنة، قاله عكرمة عن ابن عباس -ا-، وعن ابن عباس أيضاً أنه قرأ: فرّقناه بالتشديد أي أنزلناه آية آية مبيناً ومفسراً؛ ولهذا قال: لِتَقْرَأَهُ عَلَى النّاسِ أي: لتبلغه الناس وتتلوه عليهم، عَلَىَ مُكْثٍ أي: مهل وَنَزّلْنَاهُ تَنْزِيلاً أي: شيئاً بعد شيء.
قوله - تبارك وتعالى -: وَبِالْحَقِّ أَنزَلْنَاهُ أي أنزلناه إنزالاً متلبساً بالحق، وَبِالْحَقّ نَزَلَ أي: نزل متضمناً للحق، وفيه من الحقائق والهدايات والأمور التي يحتاج إليها الناس مما يتوقف عليه مساعدتهم ونجاتهم وفلاحهم، فالله - تبارك وتعالى - جعله تبياناً لكل شيء، وقوله -تبارك وتعالى-: وَقُرْآناً فَرَقْنَاهُ، قرآناً هنا منصوبة بفعل محذوف مقدر يفسره ما بعده، أي فرقناه، يقدرون هكذا: وفرقنا قرآناً، وَقُرْآناً فَرَقْنَاهُ، فرقنا قرآناً، قال: "أما قراءة من قرأ بالتخفيف"، من قرأ بالتخفيف يعني: الراء غير مشددة، فَرَقْنَاهُ هذه قراءة التخفيف وهي القراءة المتواترة، فمعناها فصلناه من اللوح المحفوظ،فَرَقْنَاهُ فصلناه، فرَق بين كذا وكذا بمعنى فصل، فرَق بين الخصوم فصل بينهم، فرَق بين الحق والباطل يعني فصل، هذا وجه، والمعنى الثاني وَقُرْآناً فَرَقْنَاهُ أي: بيناه وأوضحناه، وفرَقنا فيه بين الحق والباطل، وهذا هو المشهور في معنى فَرَقْنَاهُ قراءة التخفيف، وهو الذي اختاره أبو عبيد القاسم بن سلام - رحمه الله - وهو إمام في التفسير واللغة والقراءة، ويمكن أن تفسر بهذا وهذا؛ لأن ذلك جميعاً من معنى هذه اللفظة، فما ذكره مستشهداً بقول ابن عباس -ا- قال: فصلناه من اللوح المحفوظ إلى بيت العزة من السماء الدنيا ثم نزل مفرقاً منجماً، فالقرآن في اللوح المحفوظ، كما قال الله -تبارك وتعالى-:فِي لَوْحٍ مَّحْفُوظٍ[سورة البروج:22]، وكذلك أيضاً في صحف بأيدي الملائكة كما في قوله: فِي صُحُفٍ مُّكَرَّمَةٍ مَّرْفُوعَةٍ مُّطَهَّرَةٍ بِأَيْدِي سَفَرَةٍ كِرَامٍ بَرَرَةٍ [سورة عبس:13-16]، وكذلك أيضاً نزل إلى بيت العزة من سماء الدنيا، فهذا الأثر عن ابن عباس جاء من طرق متعددة، وهو ثابت صحيح، ومثله لا يقال من جهة الرأي، مثل هذا له حكم الرفع، فالقرآن فُصل من اللوح المحفوظ إلى بيت العزة في السماء الدنيا، في ليلة القدر إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ [سورة القدر:1] يعني: أنزلناه إلى بيت العزة في السماء الدنيا، وكذلك أيضاً أن الله -تبارك وتعالى- أنزله على نبيه ﷺ، فهذه تنزلات أربعة للقرآن، التنزل الأول في اللوح المحفوظ، التنزل الثاني إلى بيت العزة، التنزل الثالث وهو أن الله جعله في صحف مكرمة مرفوعة مطهرة بأيدي سفرة وهم الملائكة السفراء بين الله ورسله ﷺ، والتنزل الرابع وهو نزوله على النبي ﷺ، وعقيدة أهل السنة والجماعة كما هو معلوم أن التنزل الرابع هذا إلى النبي ﷺ لم يكن من بيت العزة، ولا من اللوح المحفوظ، ولا من الصحف التي بأيدي الملائكة، بل من الله مباشرةً، ويدل على هذا حديث التكلم في الوحي، عن عبد الله بن مسعود قال: قال رسول الله ﷺ:إذا تكلم الله بالوحي سمع أهل السماء للسماء صلصلةً كجر السلسلة على الصفا، فيصعقون فلا يزالون كذلك حتى يأتيهم جبريل حتى إذا جاءهم جبريل فزع عن قلوبهم، قال: فيقولون يا جبريل ماذا قال ربك؟ فيقول: الحق، فيقولون: الحق الحق[1]، وكذلك قول الزهري -رحمه الله-: "أحدث آية بالعرش آية الدين"، فلم يقل ببيت العزة في السماء الدنيا، ولا باللوح المحفوظ، وإنما قال بالعرش، فهذه التنزلات لا تنفي عنه أنه متلقًّى من الله مباشرةً، تلقاه جبريل فنزل به، لكن هذا مما يبين شدة عناية الله بهذا القرآن، وعظم هذا القرآن، ومنزلته.
قال: وَقُرْآناً فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النّاسِ عَلَىَ مُكْثٍ، والقراءة الأخرى قرأ بها جماعة من الصحابة فمن بعدهم، عليٌّ وابن مسعود وأبو قتادة، وقرأ بها جماعة من التابعين كالشعبي، لكنها ليست متواترة، قرآناً فرّقناه قال: "أي أنزلناه آية آية مبيناً مفسراً"، يدل على هذا المعنى قوله: لِتَقْرَأَهُ عَلَى النّاسِ عَلَىَ مُكْثٍ يعني: في مدة بقائه ﷺ.
- رواه البخاري معلقاً في كتاب التوحيد، باب قول الله تعالى:وَلَا تَنفَعُ الشَّفَاعَةُ عِندَهُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ حَتَّى إِذَا فُزِّعَ عَن قُلُوبِهِمْ قَالُوا مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ قَالُوا الْحَقَّ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ[سورة سبأ:23] ولم يقل ماذا خلق ربكم؟، ووصله أبو داود، كتاب السنة، باب في القرآن، برقم (4738)، وصححه الألباني في صحيح الجامع برقم (437).