الأربعاء 21 / ذو الحجة / 1446 - 18 / يونيو 2025
وَإِذَآ أَرَدْنَآ أَن نُّهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا۟ فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا ٱلْقَوْلُ فَدَمَّرْنَٰهَا تَدْمِيرًا

المصباح المنير
مرات الإستماع: 0

قال المصنف - رحمه الله تعالى - في تفسير قوله تعالى: وَإِذَا أَرَدْنَا أَن نّهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُواْ فِيهَا فَحَقّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمّرْنَاهَا تَدْمِيراً [سورة الإسراء: 16].

اختلف المفسرون في معناها، فقيل: معناه أمرنا مترفيها ففسقوا فيها أمراً قدرياً، كقوله تعالى: أَتَاهَا أَمْرُنَا لَيْلاً أَوْ نَهَاراً[سورة يونس:24] فإن الله لا يأمر بالفحشاء، قالوا: معناه أنه سخرهم إلى فعل الفواحش، فاستحقوا العذاب، وقيل: معناه أمرناهم بالطاعات ففعلوا الفواحش، فاستحقوا العقوبة، رواه ابن جريج عن ابن عباس - ا -، وقاله سعيد بن جبير أيضاً.

قال علي بن طلحة عن ابن عباس - ا - قوله: أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُواْ فِيهَا، يقول: سلطنا أشرارها فعصوا فيها، فإذا فعلوا ذلك أهلكهم الله بالعذاب، وهو قوله:وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ أَكَابِرَ مُجْرِمِيهَا[سورة الأنعام:123] الآية، وكذا قال أبو العالية ومجاهد والربيع بن أنس.

وقال العوفي عن ابن عباس - ا -  وَإِذَا أَرَدْنَا أَن نّهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُواْ فِيهَا يقول: أكثرنا عددهم، وكذا قال عكرمة والحسن والضحاك وقتادة، وعن مالك عن الزهري أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا أكثرنا.

فقوله - تبارك وتعالى -: وَإِذَا أَرَدْنَا أَن نّهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُواْ فِيهَا،  أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا ذكر عدة أقوال: القول الأول: بمعنى أنه أمر قدري، أي الأمر الكوني، ومعلوم أنه لا يمكن أن يقال بأن الأمر هنا الأمر الشرعي إلا إذا حمل على الأمر بالطاعة، ومعلوم أن الأمر نوعان: أمر كوني قدري، وأمر ديني شرعي، فالأمر الكوني: بمعنى أن الله ﷺ يقضي بالأمر ويقدره فيكون،إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَا أَرَدْنَاهُ أَن نَّقُولَ لَهُ كُن فَيَكُونُ  [سورة النحل:40]، فهذا أمر قدري، فـ أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا أي: أمرناهم أمراً كونياً قدرياً بالمعصية والكفر والفجور فَفَسَقُواْ، وهذا الأمر كما هو معلوم لا يقتضي المحبة، ولا ملازمة بينه وبين الرضا؛ ولهذا قال الله إِن تَكْفُرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنكُمْ وَلَا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ [سورة الزمر:7]، لا يرضاه لهم ديناً، وهذا القول بأنه الأمر الكوني قال به طائفة من أهل العلم من السلف فمن بعدهم، واختاره الحافظ ابن القيم - رحمه الله -، باعتبار لفظ الأمر، وأنه لا يتأتى في الأمر الشرعي، ومثل هذا القول لا محظور فيه، يعني من جهة المعنى وهو جارٍ على الاعتقاد الصحيح، أمرناهم أمراً كونياً.

ثم ذكر القول الآخر: أمرناهم بالطاعات ففعلوا الفواحش فاستحقوا العقوبة، والأمر في قوله: أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُواْ فِيهَا فيه مقدر محذوف، أمرنا مترفيها بالطاعة فَفَسَقُواْ فِيهَا، أما على القول الأول أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَافهو أقرب إلى الظاهر، أمرهم ففسقوا، فتكون الفاء مرتبة لما بعدها على ما قبلها، أمرناهم ففسقوا، تكون كالنتيجة لهذا الأمر، القول الآخر: أمرناهم بالطاعة فعصوا، ويكون الأمر هو الأمر الديني الشرعي، وهذا القول أيضاً ليس بمستبعد، وهو اختيار كبير المفسرين ابن جرير - رحمه الله -، وممن اختاره من المعاصرين الشيخ محمد الأمين الشنقيطي - رحم الله الجميع -.

يقول: عن ابن عباس - ا - من طريق علي بن طلحة  أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُواْ فِيهَا يقول: "سلطنا أشرارها فعصوا فيها، فإذا فعلوا ذلك أهلكهم الله"، وساق قوله:  وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ أَكَابِرَ مُجَرِمِيهَا لِيَمْكُرُواْ فِيهَا[سورة الأنعام:123]، وهذا يمكن أن يكون جارياً على القراءة المروية عن بعض السلف كأبي عثمان النهدي وأبي رجاء وأبي العالية والربيع ومجاهد والحسن أمَّرنا مترفيها  يعني: جعلناهم متأمرين أمراء، هذا معنى سلطناهم، ففسقوا فوقع العذاب، وهو معنىً رابع عن ابن عباس من طريق العوفي ولا يصح هذا الطريق، يقول: "أكثرنا عددهم"، ونقله عن جماعة، أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا أي: أكثرنا، تقول: أمر القوم إذا كثروا، وجاء في قراءة مروية عن بعض السلف ، بعض الصحابة: علي وابن عباس والحسنآمرنا مترفيها بالمد، يعني أكثرها، فَفَسَقُواْ فِيهَا، بالنسبة للقراءة المتواترة أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا إما أن يحمل ذلك على الأمر الكوني، وإما أن يحمل على الأمر الشرعي، أمرناهم بالطاعة ففسقوا، ولا يبعد أن يحمل على المعنيين، أي أمرناهم أمراً كونياً فوقع منهم الكفر، وأمرناهم أمراً شرعياً فعصوا وكفروا، وبين الأمرين ملازمة بالنسبة لهذا الإنسان الكافر، إذا قلنا بأن الأمر هنا الأمر الكوني، أن الله قضى كفره، ثم إذا قيل: أيضاً الأمر الشرعي أمره بالطاعة فوقع منه الكفر، هذا الكفر الذي وقع منه إنما وقع بقضاء الله وقدره، لكن الإرادة الشرعية، تخلفت في هذا الكافر؛ لأن الله   لم يرد منه الكفر شرعاً، ومعلوم أن الإرادتين الكونية والشرعية تجتمعان في المؤمن، وتوجد الإرادة الكونية في الكافر، لكن إذا فسرت الآية هنا أمرناهم بالطاعة فكفروا، فكفرهم هذا إنما كان بقدر الله ، فلا يقع في الكون شيء إلا بإرادة الله الكونية، -والله تعالى أعلم-، ووجه تخصيص المترفين يمكن أن يقال:  أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُواْ فِيهَا باعتبار أن الناس تبعٌ لهم، ولهذا قيل: عادات الملوك ملوك العادات، تنتشر العادات بين الناس عن طريق الكبراء أولاً، فيقتدي بهم بقية الناس، فقد يكون من هذا الباب أنه خص المترفين  أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُواْ فِيهَا فوقع الفجور من البقية والكفر بالله .