الأحد 06 / ذو القعدة / 1446 - 04 / مايو 2025
إِنَّ ٱلْمُبَذِّرِينَ كَانُوٓا۟ إِخْوَٰنَ ٱلشَّيَٰطِينِ ۖ وَكَانَ ٱلشَّيْطَٰنُ لِرَبِّهِۦ كَفُورًا

المصباح المنير
مرات الإستماع: 0

وَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَلاَ تُبَذِّرْ تَبْذِيرًا ۝ إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُواْ إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِرَبِّهِ كَفُورًا ۝ وَإِمَّا تُعْرِضَنَّ عَنْهُمُ ابْتِغَاء رَحْمَةٍ مِّن رَّبِّكَ تَرْجُوهَا فَقُل لَّهُمْ قَوْلاً مَّيْسُورًا[سورة الإسراء:26-28].

لما ذكر تعالى بر الوالدين، عطف بذكر الإحسان إلى القرابة وصلة الأرحام، وفي الحديث أمك وأباك، ثم أدناك أدناك[1]. وفي رواية:ثم الأقرب فالأقرب[2]، وفي الحديث: من أحب أن يبسط له في رزقه وينسأ له في أجله فليصل رحمه[3].

وقوله:وَلاَ تُبَذِّرْ تَبْذِيرًا لما أمر بالإنفاق، نهى عن الإسراف فيه، بل يكون وسطاً كما قال في الآية الأخرى:وَالَّذِينَ إِذَا أَنفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا[سورة الفرقان: (67)] الآية، ثم قال منفراً عن التبذير والسرف:إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُواْ إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ: أي أشباههم في ذلك. قال ابن مسعود : التبذير الإنفاق في غير حق، وكذا قال ابن عباس - ا -، وقال مجاهد: لو أنفق إنسان ماله كله في الحق لم يكن مبذراً، ولو أنفق مُدًّا في غير حق كان مبذراً. وقال قتادة: التبذير: النفقة في معصية الله تعالى، وفي غير الحق، والفساد.

وروى الإمام أحمد عن أنس بن مالك أنه قال: أتى رجل من بني تميم إلى رسول الله  ﷺ فقال: يا رسول الله إني ذو مال كثير، وذو أهل وولد وحاضرة، فأخبرني كيف أنفق، وكيف أصنع؟، فقال رسول الله ﷺ:تخرج الزكاة من مالك إن كان، فإنها طهرة تطهرك، وتصل أقرباءك، وتعرف حق السائل والجار والمسكين فقال: يا رسول الله أقلل لي، قال:وَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَلاَ تُبَذِّرْ تَبْذِيرًا فقال: حسبي يا رسول الله، إذا أديت الزكاة إلى رسولك فقد برئت منها إلى الله وإلى رسوله؟ فقال رسول الله ﷺ:نعم إذا أديتها إلى رسولي فقد برئت منها، ولك أجرها، وإثمها على من بدلها.

وقوله:إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُواْ إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ: أي في التبذير والسفه وترك طاعة الله وارتكاب معصيته، ولهذا قال:وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِرَبِّهِ كَفُورًا: أي جحوداً؛ لأنه أنكر نعمة الله عليه، ولم يعمل بطاعته، بل أقبل على معصيته ومخالفته.

وقوله: وَإِمَّا تُعْرِضَنَّ عَنْهُمُ ابْتِغَاء رَحْمَةٍ مِّن رَّبِّكَ الآية، أي إذا سألك أقاربك ومن أمرناك بإعطائهم، وليس عندك شيء وأعرضت عنهم لفقد النفقة فَقُل لَّهُمْ قَوْلاً مَّيْسُورًا: أي عِدْهم وعداً بسهولة ولين، إذا جاء رزق الله فسنصلكم إن شاء الله، هكذا فَسّر قولَه:فَقُل لَّهُمْ قَوْلاً مَّيْسُورًا  بالوعد: مجاهد وعكرمة وسعيد بن جبير والحسن وقتادة وغير واحد.

فقوله - تبارك وتعالى -:  وَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ ما ذكره الحافظ ابن كثير - رحمه الله - قال: لما ذكر تعالى بر الوالدين ثم بعده في قوله: وَلاَ تُبَذِّرْ تَبْذِيرًا  قال: لما أمر بالإنفاق نهى عن الإسراف. إلى آخره، هذا كله مما يقال له المناسبة بين الآيات، وجه الارتباط بين الآية وما قبلها.

 وَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ المتبادر إلى الذهن وهو الذي عليه الجمهور أن المقصود قرابة الإنسان، من يرتبطون معه بالقرابة، فإن حق الوالديْن هو الحق الذي يأتي بعد حق الله ؛ لأنهما سبب وجود الإنسان، وهما أصله، ثم بعد ذلك من يرتبط بهم من طريق الوالدين، من فروع الوالدين وهم الإخوة والأخوات، ومن حواشيهم الأعمام والأخوال، وما شابه ذلك، هؤلاء كلهم هم القرابة، وَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ، فالمقصود قرابتك خلافاً لمن قال: إن المقصود بالقربى قرابة النبي ﷺ ، وحق القريب هو الصلة سواء كانت بالمال أو بالتعهد بالزيارة أو غير ذلك مما يدخل في هذا الإطلاق، وَالْمِسْكِينَ معروف وهو الفقير هنا، وَابْنَ السَّبِيلِ أيضاً هو الذي انقطع في طريقه في السفر لفقد ماله، أو نفاد ما عنده، فهو بحاجة إلى إعانة حتى يرجع ويصل إلى أهله، أو إلى مبتغاه، فهذا ابن السبيل، والسبيل هي الطريق، ونسب إليها للملازمة، كما قيل للطائر المعروف ابن الماء؛ لملازمته للماء.

 ولا تبذر تبذيراً يقول هنا: عن ابن مسعود : التبذير الإنفاق في غير حق. وما ذكره بعده هو في نفس المعنى، فالتبذير هو الإنفاق في غير حق، هذا تفسير يشمل ما قيل فيها، فإذا قلنا بأن النفقة بالحرام قلَّ ذلك أو كثر، فهذا لا شك أنه تبذير، وهكذا أيضاً التوسع في المباح على وجه لا يصلح لمثله، فهذا يكون من التبذير، وهذا أمر نسبي يختلف من شخص لآخر، فقد يكون هذا النوع الثاني تبذيراً بالنسبة لبعض الناس، وليس بتبذير بالنسبة لبعضهم، بخلاف الأول، فالأول: يكون تبذيراً بإطلاق، ممن صدر منه، قل ذلك أو كثر، والثاني يكون تبذيراً أحياناً وليس بتبذير في بعض الأحيان، فهذا يختلف باختلاف الناس، فإذا كان الإنسان قليل ذات اليد ويشتري أشياء من الأمور الكمالية بأسعار وقيم مرتفعة فمثل هذا يعتبر من التبذير والتضييع للمال، ولو كان ينتفع بهذا الشيء، ولذلك لا يحكم على هذه الأمور بحكم واحد بالنسبة للناس، وإنما بحسب أحوالهم وتفاوتهم، فمن الناس من يقال له: إن هذا الثوب الذي اشتراه مثلاً بألف ليس من التبذير، ويقال لآخر: هذا من التبذير، وهكذا ما يقال في المراكب واللباس والمساكن والمآكل وغير ذلك يكون تبذيراً باعتبار بعض الأشخاص وليس بتبذير لبعضهم، وقد يشتري أثاثاً بمائة ألف ولا يكون تبذيراً، وقد يشتري آخر أثاثاً بعشرة آلاف ويعتبر من التبذير، وكذلك أيضاً النوع الثالث: وهو بذل المال في شيء مباح لكن على وجه لا ينتفع فيه، مثل بذل الأموال في المآكل وغيرها مما لا يحتاج إليه، مما يزيد عن حاجته فيكون ذلك تضييعاً للمال فيتلف، فهذا كله داخل في هذا المعنى، ويبقى النوع الرابع، والعلماء مختلفون فيه، وهو الإنفاق في سبيل الله، هل فيه تبذير أو لا؟ فالله لما أمر بالإنفاق أو بالصلة للوالدين والقرابات، نهى عن التبذير ثم قال: وَلاَ تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلاَ تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُومًا مَّحْسُورًا [سورة الإسراء: 29 ]، فهذا بعد الأمر بالإنفاق على القرابات، وَلاَ تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ، فلو أن أحداً بسط يده كل البسط في الإنفاق في سبيل الله، هل يقال لهذا تبذير أو لا؟ من أهل العلم من يقول: نعم، وليس له ذلك، واحتجوا بهذه الآية، واحتجوا بما ورد من الأحاديث، كحديث سعد بن أبي وقاص   لما أراد أن يتصدق بماله ونهاه النبي ﷺ ، وكان مما قال له: الثلث، والثلث كبير أو كثير، إنك إن تذر ورثتك أغنياء خير من أن تذرهم عالة يتكففون الناس [4]، وكذلك أيضاً ذلك الرجل الذي جاء إلى النبي ﷺ بمثل البيضة من ذهب أصابها في بعض المغازي، - فقال أحمد في بعض المعادن وهو الصواب - فقال: يا رسول الله، خذها مني صدقةً، فوالله مالي مال غيرها، فأعرض عنه، ثم جاءه عن ركنه الأيسر، فقال مثل ذلك، ثم جاءه من بين يديه، فقال مثل ذلك، ثم قال:  هاتها  مغضباً، فحذفه بها حذفة لو أصابه لأوجعه، أو عقره، ثم قال: يعمد أحدكم إلى ماله لا يملك غيره فيتصدق به، ثم يقعد يتكفف الناس [5] أو كما قال - عليه الصلاة والسلام -، فهذا استدل به من قال بأن الإنسان لا ينفق كل ما بيده، والأقرب - والله تعالى أعلم - هو أن يقال: إن ذلك أيضاً يختلف باختلاف الناس، النفقة في سبيل الله تارة يمنع الإنسان من أن يتصدق بكل ماله، وتارة يقبل ذلك منه بحسب حاله، فالنبي ﷺ قبل من أبي بكر التصدق بكل ماله، ولما سأله عما تركه لأهله قال: تركت لهم الله ورسوله ﷺ ، وجاء عمر بنصف ماله فقبل ذلك منه، ولهذا يقال - والله أعلم - كما قال الشاطبي - رحمه الله -: إن ذلك يختلف باختلاف الناس، فمن كان في يقينه وتوكله كأبي بكر وعمر، بحيث لا يتطلع إلى ما في أيدي الناس، ولا يتعلق قلبه بهم ولا يلتفت إليهم فلا إشكال، ومن كان دون ذلك بحيث إذا أنفق ماله يبدأ قلبه يتوجه إلى الناس أن يعطوه، فمثل هذا لا يحسن به، فهذا التفصيل في مسألة التبذير، هل يكون في النفقة في سبيل الله أو لا، وما هو ضابط التبذير.

ثم بعد ذلك في قوله - تبارك وتعالى -: إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُواْ إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ، الحافظ ابن كثير - رحمه الله - ذكر حينما استشهد بها أولاً قال: أي: أشباههم في ذلك، وهنا قال: أي في التبذير والسفه، وترك طاعة الله وارتكاب معصيته، والمعنى واحد، ما ذكره أولاً وما ذكره ثانياً، يعني أنهم شابهوهم في معصية الله ومخالفة أمره، ومقارفة هذا الفعل الذي هو من كفر النعمة، والأخوّة تطلق باعتبار المشاركة في أمر من الأمور، ولهذا يمكن أن تكون الأخوة في قوله:إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِباعتبار المشابهة، تشابهٌ بينهم وبين الشياطين في المعصية، وكفر النعمة، والإضاعة وما أشبه ذلك، شابهوهم في فعلهم، ولا يبعد من هذا قول من قال بأن وجه الأخوة بينهم وبين الشياطين هو أنهم يسيرون على آثارهم، ويتبعونهم فيما يملون عليهم، وكل من تابع غيره وسار على آثاره فإنه يقال له ذلك، يقال: فلان أخو فلان، ويمكن أن تكون هذه الأخوة باعتبار الاشتراك في المآل، أنهم جميعاً في النار، فهذه أخوة، وعلى كلٍّ فالذين يشتركون في أمر ما يمكن أن يقال لهم: إن هؤلاء إخوة لهؤلاء، كأن يشتركوا في بلد واحد مثلاً فيقال لهم: إخوة بهذا الاعتبار، كما قال الله وهو أحد الأوجه في تفسير الآية: وَالْقَائِلِينَ لِإِخْوَانِهِمْ هَلُمَّ إِلَيْنَا [سورة الأحزاب: 18]، باعتبار أنهم في بلد واحد، أو يشتركون في نسب، فيقال لهم ذلك، وهو أحد الأقوال في تفسير الآية الآنفة، أو باعتبار الدين، وهكذا.

 كَانُواْ إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِرَبِّهِ كَفُورًا، الحافظ ابن كثير استأنس بهذا التعقيب في تفسير الأخوة هنا بالمشابهة أن الشياطين يكفرون نعمة الله ، وهذا المبذر لم يشكر هذه النعمة بل كفرها، فشابههم بهذا الاعتبار.

ثم قال: وَإِمَّا تُعْرِضَنَّ عَنْهُمُ ابْتِغَاء رَحْمَةٍ مِّن رَّبِّكَ تَرْجُوهَا فَقُل لَّهُمْ قَوْلاً مَّيْسُورًا يقول: أي عِدْهم وعداً بسهولة ولين: إذا جاء رزق الله فسنصلكم. قل لهم قولاً ميسوراً بالوعد الحسن، الرد الجميل، وهذا تعليم للمسلم بأن ينوي الخير دائماً، ولو لم يكن مقتدراً، ولو كانت قدرته لا تمكنه من فعله في الوقت الحالي، لكنه ينويه ويقصده، فيؤجر على ذلك.

  1. صحيح مسلم: (4/1974) كتاب البر والصلة، باب بر الوالدين وأنهما أحق به: برقم: (2548) بلفظ: قال رجل يا رسول الله من أحق الناس بحسن الصحبة؟ قال:أمك ثم أمك ثم أمك ثم أبوك ثم أدناك أدناك.
  2. سنن أبي داود: (4/336) باب في بر الوالدين: برقم: (5139).
  3. صحيح البخاري: (5/2232) باب من بُسط له في الرزق بِصلة الرحم: برقم: (5640) ومسلم: (4/1982) باب صلة الرحم وتحريم قطيعتها: برقم: (2557). وفيهما:وينسأ له في أثره، وعند ابن حبان: وينسأ له في أجله فليتق الله وليصل رحمه انظر: صحيح ابن حبان (2/181) ذكر البيان بأن طيب العيش في الأمن وكثرة البركة في الرزق للواصل رحمه إنما يكون ذلك إذا قرنه بتقوى الله: برقم: (439).
  4. صحيح البخاري: (1/435) باب رثى النبي ﷺ سعد بن خولة: برقم: (1233) و(5/2047) كتاب النفقات، باب فضل النفقة على الأهل: برقم: (5039) وصحيح مسلم: (3/1250) كتاب الوصية، باب الوصية بالثلث: برقم: (1628).
  5. سنن الدارمي: (1/479) كتاب الزكاة، باب النهي عن الصدقة بجميع ما عند الرجل: برقم: (1659).