الأحد 06 / ذو القعدة / 1446 - 04 / مايو 2025
وَلَا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَىٰ عُنُقِكَ وَلَا تَبْسُطْهَا كُلَّ ٱلْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُومًا مَّحْسُورًا

المصباح المنير
مرات الإستماع: 0

وَلاَ تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلاَ تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُومًا مَّحْسُورًا ۝ إِنَّ رَبَّكَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَن يَشَاء وَيَقْدِرُ إِنَّهُ كَانَ بِعِبَادِهِ خَبِيرًا بَصِيرًا[سورة الإسراء:29-30 ].

يقول تعالى آمراً بالاقتصاد في العيش، ذامًّا للبخل، ناهياً عن السرف: وَلاَ تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ: أي لا تكن بخيلاً مَنُوعاً، لا تعطي أحداً شيئاً، كما قالت اليهود -عليهم لعائن الله -:يَدُ اللّهِ مَغْلُولَةٌ [سورة المائدة:64]: أي نسبوه إلى البخل، تعالى وتقدس الكريم الوهاب، وقوله:وَلاَ تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ : أي ولا تسرف في الإنفاق، فتعطي فوق طاقتك، وتخرج أكثر من دخلك، فتقعد ملوماً محسوراً، وهذا من باب اللف والنشر، أي: فتقعد إن بخلت ملوماً يلومك الناس ويذمونك ويستغنون عنك، ومتى بسطت يدك فوق طاقتك، قعدت بلا شيء تنفقه، فتكون كالحسير، وهو: الدابة التي عجزت عن السير فوقفت ضعفاً وعجزاً، فإنها تسمى الحسير، وهو مأخوذ من الكلال، كما قال: فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرَى مِن فُطُورٍ ۝ ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ يَنقَلِبْ إِلَيْكَ الْبَصَرُ خَاسِِئاً وَهُوَ حَسِيرٌ [سورة الملك: 3-4]: أي كليل عن أن يرى عيباً، هكذا فَسّر هذه الآيةَ - بأن المراد هنا البخل والسرف - ابنُ عباس - ا - والحسن وقتادة وابن جريج وابن زيد وغيرهم.

وقد جاء في الصحيحين من حديث أبي الزناد عن الأعرج، عن أبي هريرة : أنه سمع رسول الله ﷺ يقول:مثل البخيل والمنفق كمثل رجلين عليهما جبتان من حديد من ثديهما إلى تراقيهما، فأما المنفق فلا ينفق إلا سَبَغت - أو وفرت - على جلده حتى تُخفي بنانه وتعفو أثره، وأما البخيل فلا يريد أن ينفق شيئاً إلا لزقت كل حلقة منها مكانها، فهو يوسعها فلا تتسع . هذا لفظ البخاري في الزكاة[1].

وفي الصحيحين من طريق معاوية بن أبي مُزَرِّد عن سعيد بن يسار عن أبي هريرة قال: قال رسول الله ﷺ : ما من يوم يصبح العباد فيه إلا وملكان ينزلان من السماء يقول أحدهما: اللهم أعط منفقاً خلفاً، ويقول الآخر: اللهم أعط ممسكاً تلفاً [2].

وروى مسلم عن أبي هريرة مرفوعاً  ما نقص مال من صدقة، وما زاد الله عبداً أنفق إلا عزاً، ومن تواضع لله رفعه الله [3] وفي حديث أبي كثير عن عبد الله بن عمرو - ا - مرفوعاً إياكم والشحّ؛ فإنه أهلك من كان قبلكم، أمرهم بالبخل فبخلوا، وأمرهم بالقطيعة فقطعوا، وأمرهم بالفجور ففجروا [4].

وقوله: إِنَّ رَبَّكَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَن يَشَاء وَيَقْدِرُإخبار أنه تعالى هو الرزاق القابض الباسط المتصرف في خلقه بما يشاء، فيغني من يشاء، ويفقر من يشاء لما له في ذلك من الحكمة، ولهذا قال: إِنَّهُ كَانَ بِعِبَادِهِ خَبِيرًا بَصِيرًا : أي خبيراً بصيراً بمن يستحق الغنى ويستحق الفقر، وقد يكون الغِنى في حق بعض الناس استدراجاً، والفقر عقوبة، عياذاً بالله من هذا وهذا.

قوله: وَلاَ تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ، يقول: أي لا تكن بخيلاً مَنوعاً لا تعطي أحداً شيئاً... إلخ، وهذا تفسير بالمعنى، وجعل اليد مغلولة إلى العنق أي مربوطة مشدودة إليه، بحيث لا يستطيع الإنسان أن يتصرف أو يبسط يده أو ينفق، لكن ليس هذا هو المراد، أن تكون اليد كما هو معلوم، ولكن يقال لتصوير هذا المعنى في البخل والإمساك والشح،

وَلاَ تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلاَ تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُومًا مَّحْسُورًايقول: وهذا من باب اللف والنشر، والمقصود باللف والنشر أنه يذكر أموراً ثم يذكر أحكامها بعد ذلك، وهو على نوعين، لف ونشر مرتب، ولف ونشر مشوَّش، فالمرتب مثل هذا على هذا التفسير، باعتبار أنه قال:وَلاَ تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلاَ تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُومًا مَّحْسُورًا، ملوماً إذا كان الإنسان شحيحاً، يلومه الناس، إذا كانت يده مغلولة إلى عنقه، وَلاَ تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فيكون محسوراً أي ينقطع فلا يستطيع التصرف والإنفاق وما أشبه ذلك، ولكل واحدة مما سبق حكمها، جاءت الأحكام على الترتيب بحسب القضايا المذكورة قبله، والمشوَّش: أن يذكر قضايا ثم يذكر أحكامها على غير الترتيب السابق، بتقديم وتأخير، مثل: قوله :يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ أَكْفَرْتُم بَعْدَ إِيمَانِكُمْ فَذُوقُواْ الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ ۝ وَأَمَّا الَّذِينَ ابْيَضَّتْ وُجُوهُهُمْ فَفِي رَحْمَةِ اللّه[سورة آل عمران:106-107] هذا يقال له: مشوّش.

وأيضاً يأتي هذا المعنى في البسط، فَتَقْعُدَ مَلُومًا مَّحْسُورًا: أي تلومك نفسك ويلومك الناس، فصار بهذا الاعتبار قوله:مَلُومًا يرجع أيضاً إلى وَلاَ تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ، بحيث يحصل له اللوم من نفسه، إذا بسط يده كل البسط، فقد يندم إذا احتاج، فتلومه نفسه، ويلومه أيضاً أصحاب الحقوق والقرابات، وأهله؛ حيث لم يُبقِ لهم شيئاً، فاللوم يحصل بهذا وبهذا، فإذا كان الإنسان شحيحاً فإن الناس يلومونه على الشح، وإذا كان مسرفاً مضيعاً فقد تلومه نفسه، ويلومه غيره ممن له حق.

وقوله:فَتَقْعُدَ مَلُومًا مَّحْسُورًا قال: فتكون كالحسير، وهو: الدابة التي عجزت عن السير فوقفت، يعني التي انقطعت، الذي يقولون له: حرنت الدابة، حرنت القصواء - كما قالوا - يعني انقطعت؛ وذلك من طول السير والتعب الكبير، وهو معروف في الإبل، كما قال الشاعر:

بها جِيَف الحسرى فأما عظامهافبيضٌ وأما جلدها فصليب

هو يصف الأماكن التي قطعها من المفاوز البعيدة التي تنقطع فيها الدواب، واستطاع أن يقطعها، يقول: الأماكن التي قطعتها تجد فيها جيف الحسرى، يعني الدواب، والإبل، والمراكب التي انقطعت بالسفر من طوله، فيصور حالها:

بها جيف الحسرى فأما عظامها فبيض، وأما جلدها فصليب

 يعني منكمشة ميتة، وتفسخت عنها جلودها، وعلى كلٍّ فهذا معنى مَّحْسُورًا: أي: تنقطع لا تستطيع التصرف في شئونك؛ لأنه لم يبقَ في يدك شيء، ثم قال:إِنَّ رَبَّكَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَن يَشَاء وَيَقْدِرُ يقدر يعني يضيّق،وَمَن قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ [سورة الطلاق:7]. فكل ذلك يكون بحسب علم الله  لا ذهولاً ولا نسياناً ولا غفلة، وإنما بحسب ما يصلح الخلق،وَلَوْ بَسَطَ اللَّهُ الرِّزْقَ لِعِبَادِهِ لَبَغَوْا فِي الْأَرْضِ وَلَكِن يُنَزِّلُ بِقَدَرٍ مَّا يَشَاء إِنَّهُ بِعِبَادِهِ خَبِيرٌ بَصِيرٌ [سورة الشورى:27].

سؤال:

عن علاقة الشح بالفجور:

الله  يقول:وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ[سورة الحشر: 9]، وذلك أن الشح يحمل الإنسان على فعل ما لا يجمل ولا يليق من قطيعة الرحم، والتطلع إلى ما في أيدي الناس، وتضييع المروءات، وارتكاب ما حرمه الله  من أكل الربا وغصب أموال الآخرين، وهكذا مما تذهب به دنياه وآخرته؛ إذ هو لا يتورع عن شيء، ولا يتنزه من شيء، ولا يؤدي الحقوق التي أوجبها الله  عليه ولا يفعل ما يجمل به، أو يترك ما لا يحسن مما يكون سبباً لضياع شرفه ومروءته ونحو هذا، هذا هو الشح، ولهذا قال النبيﷺ  فإنه أهلك من كان قبلكم، أمرهم بالبخل فبخلوا، وأمرهم بالقطيعة فقطعوا، وأمرهم بالفجور ففجروا ، وكما قال اللهوَلَا تُكْرِهُوا فَتَيَاتِكُمْ عَلَى الْبِغَاء إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّنًا [سورة النور:33] نزلت في عبد الله بن أبي رأس المنافقين وكان عنده جاريتان أسلمتا، وكان يكرههما على الزنا بأجرة، من أجل أن يكتسب من هذا المال، ويضربهما على ذلك.

فائدة في المراد بالرحمة التي يرجوها:

المقصود - والله تعالى أعلم - ما يتعلق بهذا السياق، - وهو التوسعة في الرزق والعطاء - أن الله يوسع عليك فتعطيهم ابْتِغَاء رَحْمَةٍ مِّن رَّبِّكَ تَرْجُوهَا، ترجو أن الله يعطيك ويرزقك فتعطي هؤلاء، وحين تعدهم تكون قد نويت الإعطاء والصدقة والبذل، ولو لم تكن مقتدراً ، وتؤجر على هذا، فيستصحب الإنسان النية الطيبة معه دائماً، وإن عجز عن الفعل.

  1. صحيح البخاري: (2/523) كتاب الزكاة، باب مثل المتصدق والبخيل: (1375)، ومسلم: (2/708) كتاب الزكاة، باب مثل المنفق والبخيل: (1021).
  2. صحيح البخاري: (2/522) كتاب الزكاة، باب قول الله تعالى:  فَأَمَّا مَن أَعْطَى وَاتَّقَى ۝ وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى ۝ فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى ۝ وَأَمَّا مَن بَخِلَ وَاسْتَغْنَى ۝ وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى ۝ فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى  [سورة الليل: 5-10] اللهم أعط منفق مال خلفاً: برقم: (1374) وصحيح مسلم: (2/700) كتاب الزكاة، باب في المنفق والممسك: برقم: (1010).
  3. رواه مسلم (4/2001) كتاب البر والصلة والآداب، باب استحباب العفو والتواضع: برقم: (2588) ولفظه: ما نقصت صدقة من مال وما زاد الله عبداً بعفو إلا عزًّا وما تواضع أحد لله إلا رفعه الله .
  4. سنن أبي داود: (2/133) باب في الشح: برقم: (1698) وسنن البيهقي الكبرى: (4/187) باب كراهية البخل والشح والإقتار: برقم: (7607).