الإثنين 07 / ذو القعدة / 1446 - 05 / مايو 2025
وَلَا تَقْتُلُوٓا۟ أَوْلَٰدَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلَٰقٍ ۖ نَّحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُمْ ۚ إِنَّ قَتْلَهُمْ كَانَ خِطْـًٔا كَبِيرًا

المصباح المنير
مرات الإستماع: 0

قال المصنف - رحمه الله تعالى - في تفسير قوله تعالى: وَلاَ تَقْتُلُوَاْ أَوْلادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلاقٍ نّحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيّاكُم إنّ قَتْلَهُمْ كَانَ خِطْئاً كَبِيراً [سورة الإسراء:31]، هذه الآية الكريمة دالة على أن الله تعالى أرحم بعباده من الوالد بولده؛ لأنه نهى عن قتل الأولاد كما أوصى الآباء بالأولاد في الميراث، وكان أهل الجاهلية لا يورثون البنات بل كان أحدهم ربما قتل ابنته لئلا تكثر عيلته، فنهى الله تعالى عن ذلك وقال: وَلاَ تَقْتُلُوَاْ أَوْلادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلاقٍ أي: خوفٍ أن تفتقروا في ثاني الحال؛ ولهذا قدم الاهتمام برزقهم فقال: نّحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيّاكُم ، وفي الأنعام:  وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ مِنْ إِمْلاقٍ أي: من فقر نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ، وقوله: إنّ قَتْلَهُمْ كَانَ خِطْئاً كَبِيراً أي: ذنباً عظيماً، وقرأ بعضهم: كان خَطَأً كبيراً وهو بمعناه، وفي الصحيحين عن عبد الله بن مسعود قلت: يا رسول الله أي الذنب أعظم؟ قال: أن تجعل لله نداً وهو خلقك قلت: ثم أي؟ قال:  أن تقتل ولدك خشية أن يطعم معك قلت: ثم أي؟ قال: أن تزاني بحليلة جارك [1].

فقوله - تبارك وتعالى -: وَلاَ تَقْتُلُوَاْ أَوْلادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلاقٍ يقول: "هذه الآية دالة على أنه تعالى أرحم بعباده من الوالد بولده"، ووجه هذا ظاهر؛ فالآباء يقتلون الأولاد، والله - تبارك وتعالى - أرحم بهؤلاء الأولاد من آبائهم، فهو ينهاهم عن قتلهم، يقول: "كما أوصى الآباء بالأولاد في الميراث"، يُوصِيكُمُ اللّهُ فِي أَوْلاَدِكُمْ لِلذَّكَرِ [سورة النساء:11]، وهل الوالد بحاجة إلى وصية وقد جُبِل قلبه على الشفقة والمحبة والحرص على مصلحة الولد؟، الله تعالى أرحم بالولد من الوالد بولده، ولهذا يعد العلماء مثل هذه الآيات من آيات الرجاء في كتاب الله تعالى.

قال: "وكان أهل الجاهلية لا يورثون البنات، بل كان أحدهم ربما قتل ابنته لئلا تكثر عيلته"، بمعنى أنه يكثر من يعول فيفتقر، وهذه الآية كما هو صريح من ظاهرها وَلاَ تَقْتُلُوَاْ أَوْلادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلاقٍ، يعني خوف الفقر، والمعروف في التاريخ أنهم كانوا يقتلون البنت خشية العار، والله - تبارك وتعالى - نهاهم عن قتل الأولاد، والولد يشمل الذكر والأنثى،خَشْيَةَ إِمْلاقٍ خوف الفقر، ويمكن أن يقال بأن الولد أطلق على أحد النوعين، وهو البنت، خشية العار فهذا يكون بالاعتبار الثاني، وهذا لا إشكال فيه؛ لأنهم يخشون عليها أن تفتقر ثم بعد ذلك تضطر إلى بيع عرضها فيئول أمرها إلى الفضيحة من هذا الباب، فنهاهم عن قتلهم خشية الفقر، كما كانوا يقولون في كلامهم وأشعارهم.

إذا تذكرتُ بنتي وهي تندبني فاضتْ لعَبرة بنتي عبرتي بدمي
أحاذر الدهر يوماً أن يلمّ بها فيهتكَ السترِ عن لحم على وضم
أخشى عليها فظاظة عم أو جفاء أخٍ وكنت أخشى عليها من أذى الكلم
تهوى حياتي وأهوى موتها شفقاً والموت أكرم نزّال على الحُرم

والآخر الذي عنده بنت اسمها مودة:

مودةُ تهوى عمر شيخ يسره لها الموت لو أنها تدري

والآخر الذي عنده بنت يقال لها: الجرباء، خُطبت، فقال:

إني وإن سيق إليّ المهر عبدٌ وألفان وذود عشر

أحبُّ أصهاري إلي القبر

وكان بعضهم يقتل الولد الذكر من أجل الفقر، وهذا موجود، ولم يكن القتل سواءً للبنات أو للأولاد عند جميع العرب، وإنما كان عند بعضهم، كأسد، وتميم بن مر، وبعض قبائل العرب، ليس عند كل العرب، على كل حال يقول: فنهى الله تعالى عن ذلك وقال: وَلاَ تَقْتُلُوَاْ أَوْلادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلاقٍ، يعني هم الآن ليسوا فقراء، لكن يخشى أن يكثر من يعول فعند ذلك يفتقر، قال: ولهذا قدم الاهتمام، قال: نَّحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُم؛ لأن هنا ليسوا فقراء،وَلاَ تَقْتُلُوَاْ أَوْلادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلاقٍ يخشى أن يفتقر في المستقبل، فوعد برزق الأولاد فيأتي رزقهم معهم، وفي آية الأنعاموَلاَ تَقْتُلُوَاْ أَوْلادَكُمْ مِنْ إِمْلاقٍ: يعني من فقر موجود واقع، فقدم رزق الآباء وقال: نَّحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُم.

وقوله تعالى هنا:إنَّ قَتْلَهُمْ كَانَ خِطْئاً كَبِيرًا قال: أي ذنباً عظيماً، يقول: وقرأ بعضهم:كان خَطَأً كبيراً، قرأ بها ابن عامر وهي قراءة متواترة، وقال: وهو بمعناه، وقيل: هما لغتان خِطْئاً وخَطَأً، ويوجد في بعض القراءات الأخرى المتواترة مثل قراءة ابن كثير خطاءً، بعض أهل العلم يقول: إن خطاءً من خطئ إذا أجرم، وبعضهم يقول: "خطاءً" لغة من خطئ يقال: خطئ فهو خاطئ، وأخطأ فهو مخطئ، وبعضهم يقول: إن خطِئ يقال لما وقع فيه الإنسان من الخطأ عمداً، وخطَأ بالفتح لما وقع فيه من غير قصد، لكن قراءة ابن عامر، كان خَطَأً كبيراً، يدل على أن خطأ تأتي بمعنى الوقوع بالمخالفة قصداً، وأنها لغة فيها، ويمكن أن يقال: غالباً ما يأتي الخطأ في الوقوع، معبَّراً به عن الوقوع في المخالفة من غير قصد، وبالكسر يكون لما كان بقصد، فيكون صاحبه مذموماً، وقوله: خَشْيَةَ إِمْلاقٍ، الإملاق الفقر، وأصله يقال: أملق الرجل إذا لم يبق له إلا الملقات، والملقات هي الحجارة الكبيرة الملساء.

  1. رواه البخاري، كتاب التفسير، باب قوله:وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ وَلَا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَا يَزْنُونَ وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا[سورة الفرقان:68]، برقم (4483).