وَلاَ تَقْتُلُواْ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللّهُ إِلاَّ بِالحَقِّ وَمَن قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا فَلاَ يُسْرِف فِّي الْقَتْلِ إِنَّهُ كَانَ مَنْصُورًا[سورة الإسراء:33]، يقول تعالى ناهياً عن قتل النفس بغير حق شرعي، كما ثبت في الصحيحين أن رسول الله ﷺ قال: لا يحل دم امرئ مسلم يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، إلا بإحدى ثلاث: النفس بالنفس، والزاني المحصن، والتارك لدينه المفارق للجماعة [1]، وفي السنن: لَزوال الدنيا عند الله أهون من قتل مسلم [2].
وقوله: وَمَن قُتِلَ مَظْلُوماً فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيّهِ سُلْطَاناً أي: سلطة على القاتل، فإنه بالخيار فيه إن شاء قتله قَوَداً، وإن شاء عفا عنه على الدية، وإن شاء عفا عنه مجاناً، كما ثبتت السنة بذلك، وقد أخذ الإمام الحبر ابن عباس - ا - من عموم هذه الآية الكريمة ولاية معاوية السلطنة وأنه سيملك؛ لأنه كان ولي عثمان، وقد قتل مظلوماً ، وقد تمكن معاوية وصار الأمر إليه، كما قاله ابن عباس واستنبطه من هذه الآية الكريمة، وهذا من الأمر العجب.
وقوله: فَلاَ يُسْرِف فِّي الْقَتْلِ قالوا: معناه فلا يسرف الولي في قتل القاتل بأن يمثل به أو يقتص من غير القاتل، وقوله:إِنّهُ كَانَ مَنْصُوراً أي: إن الولي منصور على القاتل شرعاً وغالباً وقدراً.
قوله: وَلاَ تَقْتُلُواْ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللّهُ إِلاَّ بِالحَقِّ، النفس قيل لها النفس: من النفاسة، و الَّتِي حَرَّمَ اللّهُ قتلها، إِلاَّ بِالحَقِّ، والنفس التي حرم الله قتلها هي النفس المعصومة، كالمسلم والمعاهد والذمي والمستأمن، هذه أربعة أصناف، قال: إِلاَّ بِالحَقِّ، وهنا ذكر الحديث: لا يحل دم امرئ مسلم يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله إلا بإحدى ثلاث: النفس بالنفس إلى آخره، فهذا مفسر لقوله: إِلاَّ بِالحَقِّ، فالآية مجملة فسرها الحديث، وينبغي أن يجمع كل ما صح عن النبي ﷺ ، فيما كان حكمه القتل ولا يقتصر على الثلاثة، مثل الساحر فإن حكمه ضربة بالسيف، يُقتل حداً، ومن عَمِل عمل قوم لوط، الأصح من أقوال أهل العلم أنه يقتل بالسيف، يقتل الفاعل والمفعول به إن كان راضياً بهذا، وهكذا البهيمة إذا فُجِر بها فإنها تقتل، وكذلك كل ما ورد فيه أنه يقتل، كقطاع الطرق إِنَّمَا جَزَاء الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الأَرْضِ فَسَادًا أَن يُقَتَّلُواْ أَوْ يُصَلَّبُواْ أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُم مِّنْ خِلافٍ أَوْ يُنفَوْاْ مِنَ الأَرْضِ [سورة المائدة:33] فهؤلاء حكمهم القتل، أو يخير فيهم بين الأمور الثلاثة، فالشاهد أن الله قال: وَمَن قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا قال: "أي سلطة على القاتل، فإنه بالخيار فيه إن شاء قتله قَوَداً، وإن شاء عفا عنه" على الدية، وأصل السلطان الحجة، ولمّا ثبتت لولي الدم الحجة صار له تسلط على القاتل، والحافظ ابن كثير - رحمه الله - فسر السلطان بأنه مخيّر بين ثلاثة أشياء، وهذا الذي اختاره ابن جرير - رحمه الله -، وذهب إليه جماعة من أهل العلم، قالوا: يخير بين الأمور الثلاثة، هذا هو السلطان، ومن أهل العلم من قال: إن ذلك يختص بالقصاص، بالقتل فقط، هذا هو السلطان؛ لأن الله قال: وَمَن قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا فَلاَ يُسْرِف فِّي الْقَتْلِ، قالوا: هذا مثل التفسير له، هذه قرينة تدل على أن المراد بالسلطان القتل القصاص، فَلاَ يُسْرِف فِّي الْقَتْلِ ، وهكذا في الآية الأخرى كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى [سورة البقرة:178] إلى قوله:وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَاْ أُولِيْ الأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ [سورة البقرة:179]، فهذا قالوا: كله يفسر السلطان، وأن الحق الثابت له هو القتل قصاصاً، وإذا قلنا بأن الحق الثابت له هو القصاص فإذا أراد أن يتحول عنه إلى الدية، أو يطلب الدية بدلاً من القصاص فإن ذلك يرجع إلى موافقة الجاني، فإذا قال ولي الدم: أنا لا أريد القصاص أريد الدية، فعندئذٍ يرجع هذا إلى رضا الجاني، فإذا قال الجاني: لا، أنا لا أرضى بالدية، اقتلوني ولا أعطيكم دية، فعلى هذا القول فإنه ليس لهم أن يلزموه بدفع الدية، وإذا قلنا بأن الحق له ثابت وأنه مخير بين هذه الأمور الثلاثة، فإنه إن طلب الدية أُلزم بها الجاني، وهذا حق لولي القتيل، وبالنسبة للاستنباط الذي ذكره عن ابن عباس باعتبار أن معاوية كان يطالب بدم عثمان فهو ولي القتيل بهذا الاعتبار، فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا فَلاَ يُسْرِف فِّي الْقَتْلِ يعني: تسلطاً على القاتل وظهوراً عليه فهذا الاستنباط الذي نقله عن ابن عباس قد لا يخلو من إشكال ومناقشة، باعتبار أن عليًّا لم يكن هو القاتل، ولم يكن له في القتل يدٌ أصلاً وإنما كان هو الخليفة الشرعي الذي بايعه الجميع، ومنهم طلحة والزبير بايعوه، فجاءوا يطالبون، وكان الذين قتلوا عثمان دخلوا في جيش علي ، فغاية ما هنالك أن يقال: إنهم يمكنون منهم ولو بعد حين، وهذا الذي حصل، فعلي ما استطاع أن يقتلهم، فتحصل فتنة في داخل الصف عنده، ولمّا ولي معاوية الخلافة لم يستطع أن يقتل واحداً منهم، حتى إنه لما زار المدينة صِحنَ بنات عثمان لما دخل عليهن، فقال لهن كلاماً ذكر فيه أنهم على صلح مع الناس على دخل وريبة، بمعنى أنه على صلح فيه توجس من كل طرف، فلا يريد أن يثير أمراً، فترك مطالبتهم، ولم يقتل أحداً منهم، لأنه لم يتمكن من هذا، وهذا يبرئ ساحة علي ، وإنما تتبع من وجُد منهم بعضُ الأمراء فأخذوهم وقتلوهم، وعلى كل حال قال: " فَلاَ يُسْرِف فِّي الْقَتْلِ قالوا: معناه فلا يسرف الولي في قتل القاتل بأن يمثل به أو يقتص من غير القاتل"، فَلاَ يُسْرِف فِّي الْقَتْلِ يعني: الولي، وفي قراءة أخرى متواترة فَلاَ تُسْرِف فِّي الْقَتْلِ ، على الخطاب فَلاَ يُسْرِف ، بعضهم يفسرها بمعنى فلا تسرف في القتل أيها الولي، وبعضهم يفسر القراءتين فَلاَ يُسْرِف و فَلاَ تُسْرِف أيها القاتل، يعني: يخاطب القاتل يقول: إن قتلت فالقتل ينتظرك، فعلى رسْلك، فَلاَ تُسْرِف فِّي الْقَتْلِ إِنَّهُ كَانَ مَنْصُورًا، وبعضهم يقول: إِنَّهُ كَانَ مَنْصُورًا أي الولي، وبعضهم يقول: القتيل، بأن يؤخذ بثأره ويقتص من قاتله، ومن أهل العلم كابن جرير من يقول: إن قوله: فَلاَ تُسْرِف فِّي الْقَتْلِالخطاب للنبي ﷺ وللأمة من بعده، وأيضاً جاء في قراءة غير متواترة لأبي بن كعب فلا تسرفوا في القتل إن ولي القتيل كان منصوراً ، فيكون تفسيراً للضمير في قوله: إِنَّهُ كَانَ مَنْصُورًا أي: ولي القتيل، والإسراف في القتل يدخل فيه صور متعددة، ما كانوا عليه في الجاهلية مثلاً كالتمثيل بالقاتل لا على وجه القصاص وإنما كان تشفياً فقط، وكذلك يدخل فيه قتل أكثر من واحد بواحد إذا لم يكن لهم يد في قتله، يرون أنه ما يكافئه واحد، كما كانوا في الجاهلية، كما قال الشاعر:
كلُّ قتيلٍ في كليبٍ غُرَّة | حتى يوافي القتلُ آلَ مُرّة |
غُرة أي: عبد، والغُرة ما تأتي شيئاً بالنسبة لديّة الحر يعني تبلغ نصف العشر، أي خمس من الإبل إذا قدرنا العبد، فهي نصف عشر دية الحر، فهذا يقول:
كلُّ قتيلٍ في كليبٍ غُرَّة | حتى يوافي القتلُ آلَ مُرّة |
يقتلهم كلهم، وعساهم يكافئون كليباً، وبعضهم كان يقتل غير القاتل، يرى أن هذا المقتول هو فارس القبيلة مثلاً، وأنه لا يكافئه هذا الإنسان الذي قتله، فيرى أنه لا يُقتل فيه إلا فلان، فيقتلونه به، فهذا كله من الإسراف في القتل.
- رواه مسلم، كتاب القسامة والمحاربين والقصاص والديات، باب ما يباح به دم المسلم، برقم (1676).
- رواه النسائي من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص - ا - عن النبي ﷺ قال: لزوال الدنيا أهون عند الله من قتل رجل مسلم ، كتاب تحريم الدم، باب تعظيم الدم، برقم (3987)، والترمذي، كتاب الديات عن رسول الله ﷺ ، باب ما جاء في تشديد قتل المؤمن، برقم (1395)، وصححه الألباني في صحيح الجامع برقم (5077).