الأربعاء 02 / ذو القعدة / 1446 - 30 / أبريل 2025
وَإِن كَادُوا۟ لَيَسْتَفِزُّونَكَ مِنَ ٱلْأَرْضِ لِيُخْرِجُوكَ مِنْهَا ۖ وَإِذًا لَّا يَلْبَثُونَ خِلَٰفَكَ إِلَّا قَلِيلًا

المصباح المنير
مرات الإستماع: 0

وَإِن كَادُواْ لَيَسْتَفِزّونَكَ مِنَ الأرْضِ لِيُخْرِجوكَ مِنْهَا وَإِذاً لاّ يَلْبَثُونَ خِلافَكَ إِلاّ قَلِيلاً ۝ سُنّةَ مَن قَدْ أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِن رّسُلِنَا وَلاَ تَجِدُ لِسُنّتِنَا تَحْوِيلاً [سورة الإسراء:76-77].

نزلت في كفار قريش لما هموا بإخراج رسول الله ﷺ من بين أظهرهم، فتوعدهم الله بهذه الآية، وأنهم لو أخرجوه لما لبثوا بعده بمكة إلا يسيراً، وكذلك وقع، فإنه لم يكن بعد هجرته من بين أظهرهم بعدما اشتد أذاهم له إلا سنة ونصف، حتى جمعهم الله وإياه ببدر على غير ميعاد، فأمكنه منهم وسلطه عليهم وأظفره بهم، فقتل أشرافهم وسبى ذراريهم؛ ولهذا قال تعالى:سُنَّةَ مَنْ قَدْ أَرْسَلْنَا الآية، أي هكذا عادتنا في الذين كفروا برسلنا وآذوهم بخروج الرسول من بين أظهرهم يأتيهم العذاب، ولولا أنه ﷺ رسول الرحمة لجاءهم من النقم في الدنيا ما لا قبل لأحد به؛ ولهذا قال تعالى: وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ [سورة الأنفال:33] الآية.

قوله:وَإِن كَادُواْ لَيَسْتَفِزّونَكَ مِنَ الأرْضِ لِيُخْرِجوكَ مِنْهَا وَإِذاً لاّ يَلْبَثُونَ خِلافَكَ إِلاّ قَلِيلاً، ظاهر كلام الحافظ ابن كثير - رحمه الله - الذي فسر به الآية أن ذلك وقع منهم، وأن العقوبة التي توعدهم الله بها حلت بهم في يوم بدر، ولكن هذا الكلام لا يخلو من إشكال لوجوه متعددة، فمن هذه الوجوه: أن الله  قال:وَإِن كَادُواْ لَيَسْتَفِزّونَكَ مِنَ الأرْضِ، ومعلوم أن "كاد" تدل على المقاربة دون وقوع الشيء، فذلك لم يقع، ومعنى الاستفزاز: الإزعاج، كَادُواْ لَيَسْتَفِزّونَكَ بمعنى أنهم يزعجونه ﷺ إزعاجاً يخرجه من بين أظهرهم، مِنَ الأرْضِ المقصود بالأرض يعني أرض مكة، فـ"ال" عهدية، والأمر الآخر: أن الله قال: وَإِذًا لاَّ يَلْبَثُونَ خِلافَكَ إِلاَّ قَلِيلاً، في القراءة الأخرى المتواترة قراءة نافع وابن كثير وأبي عمروخلفك، والمعنى واحد.

سُنَّةَ مَن قَدْ أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِن رُّسُلِنَا يمكن أن يكون منصوباً على نزع الخافض، أو يمكن أن يكون بمقدر محذوف، يعني: سَنّ بهم مثلاً سنة من قد أرسلنا، وسنة الله -تبارك وتعالى- في الأمم السابقة نزول العذاب المستأصل الذي يقطع دابرهم، وهذا لم يقع لأهل مكة، فهذا هو الأمر الثاني، قال:وَإِذًا لاَّ يَلْبَثُونَ خِلافَكَ، لا يلبثون، إِلاَّ قَلِيلاً، فمعنى ذلك أنه يَنزِل عليهم عذابٌ يقطع دابرهم، وهذا لم يقع، وسنته - تبارك وتعالى - في الأمم المكذبة السابقة التي نزلت بها المَثُلات والعقوبات العامة المستأصلة لم تحصل في هذه الأمة، ومعلوم أن النبي ﷺعرض عليه الملَكُ أن يطبق عليهم الأخشبين، فالنبي ﷺ رفض رجاء أن يخرج الله من أصلابهم من يوحد الله لا يشرك به شيئاً، فالمعنى الذي ذكره الحافظ ابن كثير لا يخلو من إشكال، والذي عليه عامة المفسرين أن ذلك لم يقع، ولا يفسر بيوم بدر، وقد يقول قائل: إن النبي ﷺ خرج من بين أظهرهم، اضطروه للخروج، والله أضاف ذلك إليهم وَكَأَيِّن مِّن قَرْيَةٍ هِيَ أَشَدُّ قُوَّةً مِّن قَرْيَتِكَ الَّتِي أَخْرَجَتْكَ أَهْلَكْنَاهُمْ فَلَا نَاصِرَ لَهُمْ [سورة محمد:13]، فأضاف الخروج إليهم، يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ وَإِيَّاكُمْ [سورة الممتحنة:1]، وتارة يضيف الخروج إلى المؤمنين، وتارة يورِد ذلك بالبناء للمجهول الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِن دِيَارِهِمْ [سورة الحج:40] فالشاهد أن خروج النبي ﷺ كان بأمر الله في وقتٍ وقّته، ولهذا لم يهاجر النبي ﷺ لمجرد أنهم أزعجوه أو اضطروه إلى الخروج، أو أنهم قاموا بإخراجه فعلاً، وإنما كان يصبر على الأذى ويتحمل، ويأمر أصحابه بالصبر، ثم أمرهم فهاجروا إلى الحبشة، وبقي النبي ﷺ ينتظر أمر الله، ثم بعد ذلك جاءه الأمر بالخروج فعرض ذلك على أبي بكر كما هو معلوم- أن يصحبه معه في سفر الهجرة، فهذا هو الجواب الذي يذكر على هذا الإيراد أو السؤال أو الإشكال، فيكون الإخراج المقصود في الآية هو أن يقوم هؤلاء الكفار بإخراجه فعلاً، وأما خروجه ﷺ فكان بأمر الله - تبارك وتعالى- ، والله أعلم.