يقول الله: قُل لَّوْ كَانَ فِي الأَرْضِ مَلآئِكَةٌ يَمْشُونَ مُطْمَئِنِّينَ: يعني أن الناس قد ألفوهم واعتادوا على رؤيتهم، لَنَزَّلْنَا عَلَيْهِم مِّنَ السَّمَاء مَلَكًا رَّسُولاً، ولكن لمّا كان الناس لا يألفون ذلك ولا يطيقونه؛ فإنهم لا يحتملون رؤية الملك على هيئته، كما أنهم لا يحتملون الأخذ والتلقي عنه مباشرة، فجبريل رآه النبي ﷺ على هيئته له ستمائة جناح على كرسي بين السماء والأرض قد سد ما بين الأفق، فالملائكة خلق هائل عظيم، لا يطيق البشر النظر إليهم ورؤيتهم، فكيف يطلب هؤلاء أن يأتي الملائكة ويأتي الله معهم؟!، فهؤلاء ما قدروا الله حق قدره، لمّا تجلى ربنا للجبل جعله دكّاء، وخرَّ موسى صعقاً، وهو موسى ، لم يطق ذلك مع أنه ما رآه، والجبل لم يحتمل مع شدته وضخامته وصلابته فكيف بالبشر؟ والله ذكر في سورة الأنعام:وَلَوْ جَعَلْنَاهُ مَلَكًا لَّجَعَلْنَاهُ رَجُلاً وَلَلَبَسْنَا عَلَيْهِم مَّا يَلْبِسُونَ[سورة الأنعام:9] لصار رجلاً من أجل أن يتمكنوا من الأخذ عنه، وإذا صار بهذه الهيئة وهذه المثابة فكيف يعرفون أنه ملك؟ سيجادلون ويكابرون أن هذا بشر وليس بملك، فيقع عليهم اللبس، والآيات كثيرة في هذا المعنى، والمقصود أنهم كانوا يستبعدون غاية الاستبعاد أن يبعث الله أحداً من البشر؛ ليكون مبلغاً ورسولاً من قِبَله، وهذه دعوى قالها قائلون قبلهم من الأمم، فما نفعهم ذلك ولا أجدى عنهم شيئاً، وأخبر الله أن الرسل - عليهم الصلاة والسلام - كما هي سنته الجارية- بشرٌ يأكلون الطعام ويمشون في الأسواق، وجعل الله لهم أزواجاً وذرية، وهذا هو مقتضى حكمته - تبارك وتعالى -؛ لأن الله لو أرسل إليهم رسولاً من غير جنسهم وتمكنوا من الأخذ عنه، فإنهم قد يتذرعون بترك العمل والامتثال باعتبار أن هذا الرسول ليس من جنسهم، فهو يخاطبهم بأمور لا يطيقونها، ولا يحتملونها، فهو وإن قام بها وعملها وأطاقها، لكنه ليس من جنس البشر، فالبشر قد ركبت فيهم الشهوات، وفيهم من ألوان الضعف والعجز ما يقعدهم عن كثير من المقامات والأعمال الفاضلة، فسيعتذرون بمثل هذه الأعذار، لكن إذا جاء بشر يرونه ويعرفونه، ويصيبه ما يصيبهم من اللأواء والتعب والعنت والأذى، ويرون صبره وبذله وتحمَّله في ذات الله، ويخاطبهم بما يفهمون، ويرون عبادته وعمله، فهذا يكون محلاً للاقتداء.