وَقُلِ الْحَقُّ مِن رَّبِّكُمْ فَمَن شَاء فَلْيُؤْمِن وَمَن شَاء فَلْيَكْفُرْ إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ نَارًا أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا وَإِن يَسْتَغِيثُوا يُغَاثُوا بِمَاء كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ بِئْسَ الشَّرَابُ وَسَاءتْ مُرْتَفَقًا [سورة الكهف:29] يقول تعالى لرسوله محمد ﷺ: وقل يا محمد للناس: هذا الذي جئتكم به من ربكم هو الحق الذي لا مرية فيه ولا شك فَمَن شَاء فَلْيُؤْمِن وَمَن شَاء فَلْيَكْفُرْ [سورة الكهف:29] هذا من باب التهديد والوعيد الشديد؛ ولهذا قال: إِنَّا أَعْتَدْنَا [سورة الكهف:29] أي: أرصدنا لِلظَّالِمِينَ وهم الكافرون بالله ورسوله وكتابه نَارًا أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا [سورة الكهف:29] أي: سورها.
وقال ابن جريج: قال ابن عباس: أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا [سورة الكهف:29] قال: حائط من نار.
وقوله: وَإِن يَسْتَغِيثُوا يُغَاثُوا بِمَاء كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ [سورة الكهف:29] قال ابن عباس: المهل: ماء غليظ مثل دردي الزيت.
وقال مجاهد: هو كالدم والقيح، وقال عكرمة: هو الشيء الذي انتهى حَرّه، وقال آخرون: هو كل شيء أُذيبَ.
وقال قتادة: أذاب ابن مسعود شيئًا من الذهب في أخدود، فلما انماع وأزبد قال: هذا أشبه شيء بالمهل.
وقال الضحاك: ماء جهنم أسود، وهي سوداء، وأهلها سود.
وهذه الأقوال ليس شيء منها ينفي الآخر، فإن المهل يجمع هذه الأوصاف الرذيلة كلها، فهو أسود منتن غليظ حار؛ ولهذا قال: يَشْوِي الْوُجُوهَ [سورة الكهف:29] أي: من حره، إذا أراد الكافر أن يشربه وقَرّبه من وجهه شواه حتى يسقط جلد وجهه فيه.
وقال سعيد بن جبير: إذا جاع أهل النار استغاثوا بشجرة الزقوم، فيأكلون منها، فاجتثت جلود وجوههم، فلو أن مارًّا مر بهم يعرفهم لعرف جلود وجوههم فيها، ثم يصب عليهم العطش فيستغيثون فيغاثون بماء كالمهل، وهو الذي قد انتهى حره، فإذا أدنوه من أفواههم اشتوى من حره لحوم وجوههم التي قد سقطت عنها الجلود.
ولهذا قال تعالى بعد وصفه هذا الشراب بهذه الصفات الذميمة القبيحة: بِئْسَ الشَّرَابُ [سورة الكهف:29] أي: بئس هذا الشراب، كما قال في الآية الأخرى: وَسُقُوا مَاء حَمِيمًا فَقَطَّعَ أَمْعَاءهُمْ [سورة محمد:15] وقال تعالى: تُسْقَى مِنْ عَيْنٍ آنِيَةٍ [سورة الغاشية:5] أي: حارة، كما قال: وَبَيْنَ حَمِيمٍ آنٍ [سورة الرحمن:44].
وَسَاءتْ مُرْتَفَقًا [سورة الكهف:29] أي: وساءت النار منزلاً ومَقِيلاً ومجتمعًا وموضعًا للارتفاق، كما قال في الآية الأخرى: إِنَّهَا سَاءتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقَامًا [سورة الفرقان:66].
قوله: وَقُلِ الْحَقُّ مِن رَّبِّكُمْ فَمَن شَاء فَلْيُؤْمِن وَمَن شَاء فَلْيَكْفُرْ [سورة الكهف:29] ظاهره أن قوله: فَمَن شَاء فَلْيُؤْمِن وَمَن شَاء فَلْيَكْفُرْ [سورة الكهف:29] من جملة ما أُمر أن يقوله، أي: قل لهم ذلك، ويحتمل أن يكون هذا مما ظاهره الاتصال وهو مفصول في المعنى، بمعنى أن كل جملة من هذه تختلف من جهة قائلها، فالنبي ﷺ مأمور أن يقول: وَقُلِ الْحَقُّ مِن رَّبِّكُمْ [سورة الكهف:29] ويكون ما بعده: فَمَن شَاء فَلْيُؤْمِن وَمَن شَاء فَلْيَكْفُرْ [سورة الكهف:29] من كلام الله ، ليس من جملة ما أمر الله نبيه أن يقوله لهم، والأول - والله تعالى أعلم - أقرب.
والتوجيه الذي ذكره الحافظ ابن كثير - رحمه الله - في أقوال السلف في معنى المُهل هو توجيه جيد، يجمع هذه الأقوال باعتبار أن ذلك أشبه ما يكون باختلاف التنوع.
وقوله: بِئْسَ الشَّرَابُ وَسَاءتْ مُرْتَفَقًا [سورة الكهف:29] قال: أي وساءت النار منزلاً ومقيلاً ومجتمعاً وموضعاً للارتفاق.
ومعنى المرتفَق عند بعض أهل العلم، أي المتكَأ، يقال له: ارتفاق، بمعنى اعتماد واتكاء، والنبي ﷺ قال: لا آكل مُتكِئاً[1] من أهل العلم من فسر ذلك بالتربع، وابن القيم - رحمه الله - أدخل التربع في جملة الاتكاء باعتبار أن المتربع يحتاج إلى نوع من هذا الاعتماد، كما تشاهدون الآن من جلس منكم هكذا فإنه يعتمد بيديه، فأدخله في جملة الاتكاء، وإن كان الاتكاء يشمل صوراً أخرى ذكرها، حتى الاعتماد على الظهر ذكره في جملته، فضلاً عن الاتكاء المعروف المتبادر، وهو حينما يتكئ الإنسان على يده ويعتمد عليها.
قوله: وَسَاءتْ مُرْتَفَقًا [سورة الكهف:29] أي: منزلاً ومقيلاً ومجتمعاً وموضعاً للارتفاق، كل هذا يبين المعنى، والله تعالى أعلم.
- أخرجه البخاري في كتاب الأطعمة، باب الأكل متكئاً (7/ 72- 5398).