وَلَقَدْ صَرَّفْنَا فِي هَذَا الْقُرْآنِ لِلنَّاسِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ وَكَانَ الإنْسَانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلا [سورة الكهف:54].
يقول تعالى: ولقد بينا للناس في هذا القرآن، ووضحنا لهم الأمور وفصلناها، كيلا يضلوا عن الحق، ويخرجوا عن طريق الهدى، ومع هذا البيان وهذا الفرقان، الإنسان كثير المجادلة والمخاصمة والمعارضة للحق بالباطل، إلا من هدى الله وبصره لطريق النجاة.
روى الإمام أحمد عن علي بن أبي طالب أن رسول الله ﷺ طرقه وفاطمةَ بنت رسول الله ﷺ ليلة، فقال: ألا تصليان؟، فقلت: يا رسول الله، إنما أنفسنا بيد الله، فإذا شاء أن يبعثنا بَعَثنا، فانصرف حين قلت ذلك، ولم يرجع إلي شيئًا، ثم سمعته وهو مولّ يضرب فخذه ويقول: وَكَانَ الإنْسَانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلا[1] أخرجاه في الصحيحين.
قوله تعالى: وَلَقَدْ صَرَّفْنَا فِي هَذَا الْقُرْآنِ يعني: بينا وأوضحنا، ونوعنا وكررنا، لِلنَّاسِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ المثل يمكن أن يقال: إنه يقصد به المعنى، المثل يطلق بإطلاقات متعددة، لكن يمكن أن يقال: صَرَّفْنَا فِي هَذَا الْقُرْآنِ لِلنَّاسِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ أي: من كل معنىً هو كالمثل في غرابته وحسنه، صَرَّفْنَا فِي هَذَا الْقُرْآنِ لِلنَّاسِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ ومرجع الأمثال أو المثل يكون بالبيان بالنظير، هو الذي يعبرون عنه أحياناً بأنه إبراز المعنى بصورة حسية، كما يقولون، ولكن المثل هنا لا يراد به الأمثال التي تكون عند الأدباء والبيانيين وإنما المقصود أن الله - تبارك وتعالى - جلى لهم المعاني وأوضحها بألوان من التصريف الواضح، وكررها ونوعها بحيث لا تترك في الحق لبساً.
وقوله: وَكَانَ الإنْسَانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلا، أكثر شيء مما يوصل بالجدل، فالإنسان أكثره جدلاً، وكثير من أهل العلم يقولون: هذا من العام المراد به الخصوص، وأن المراد بالإنسان الإنسان الكافر، قالوا: يدل على ذلك أن الله ذكره بعد قوله: وَلَقَدْ صَرَّفْنَا فِي هَذَا الْقُرْآنِ لِلنَّاسِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ، فالكافر هو الذي يجادل بهذه القضايا، ويكابر ويردها، يجادل في الإيمان والتوحيد، ويجادل في البعث والآخرة، ويجادل في الوحي والنبوة.
ثم من الآيات التي تدل على هذا قوله - تبارك وتعالى -: وَيُجَادِلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالْبَاطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ، ونحو ذلك من الآيات الدالة على هذا المعنى أن هؤلاء الكفار يجادلون مجادلة يقصدون بها إبطال الحق وتوهينه ونصرة الباطل، وإن كان هذا هو المراد وأن الآية في جدال الكافرين، وَكَانَ الإنْسَانُ أي: الكافر فإن هذا لا يمنع من استعمال العموم الذي في الآية، وَكَانَ الإنْسَانُ بحيث إن ذلك يصدق على الإنسان من حيث هو في كثرة مجادلاته، سواء كان يجادل في الإيمان أو يجادل في غيره، ويدل على ذلك حديث علي بن أبي طالب المتقدم، وأن النبي ﷺ رجع وهو يلطخ فخذه ويقول: وَكَانَ الإنْسَانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلا، فإذا قيل: إن سياق الآية في الكافر فيكون النبي ﷺ قد استعملها في الأعم مما يدل عليه ظاهر اللفظ، فوجَّه ذلك فيما وقع إلى علي ، وذلك في جوابه ورده أن هذا من الجدال، وَكَانَ الإنْسَانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلا.
وظاهر اللفظ العموم فيمكن أن يؤخذ هذا العموم ويجرى هذا اللفظ على كل ما يصدق عليه من جهة عمومه، كما سبق في أمثلة متنوعة، وكما في قوله: كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُّعِيدُهُ [سورة الأنبياء:104]، وأن النبي ﷺ ذكر عندها حشر الناس حفاة عراة غرلاً، مع أن السياق في إعادة الخلق، في الاحتجاج بالنشأة الأولى على النشأة الثانية، على البعث، وهي طريقة معروفة ومشهورة في القرآن، فيؤخذ من ظاهر اللفظ، كما في قوله تعالى: فَاسْأَلُواْ أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ [سورة النحل:43]، فهي في الرجوع إلى أهل الكتاب الذين يعرفون الكتب والنبوات فاسألوهم عن هذا إن كنتم لا تعلمون به، وتعرفون أن ما جاء به الرسول ﷺ حق، ولكن يؤخذ من ظاهر اللفظ معنىً أعم من هذا وهو الرجوع إلى أهل الاختصاص وسؤالهم والأخذ عنهم في أي فن من الفنون، فَاسْأَلُواْ أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ، الرجوع إلى العلماء في الفتيا، والرجوع إلى صاحب الصنعة في صنعته، ونحو ذلك.
والجدل في قوله: وَكَانَ الإنْسَانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلا، المراد به الذم، وهذا هو الغالب في القرآن؛ لما يحصل فيه من حضور النفس وطلب الانتصار، وما يقع بسبب ذلك من أمور لا تخفى، وغالب ما ورد في القرآن من ذكر الجدل فإنما هو على سبيل الذم، إلا في مواضع قليلة يسيرة وَلَا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ، وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ [سورة النحل:125]، فهو مقيد بهذا؛ لأن الجدال في الغالب لا يسلم، وأصل معناه يدل على هذا في كلام العرب، حيث قيل: إنه مأخوذ من الجدالة وهي الأرض الصلبة.
- رواه البخاري، كتاب التهجد، باب تحريض النبي ﷺ على صلاة الليل والنوافل من غير إيجاب، برقم (1075)، ومسلم، كتاب صلاة المسافرين وقصرها، باب ما روي فيمن نام الليل أجمع حتى أصبح، برقم (775).