الإثنين 07 / ذو القعدة / 1446 - 05 / مايو 2025
وَمَا نُرْسِلُ ٱلْمُرْسَلِينَ إِلَّا مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ ۚ وَيُجَٰدِلُ ٱلَّذِينَ كَفَرُوا۟ بِٱلْبَٰطِلِ لِيُدْحِضُوا۟ بِهِ ٱلْحَقَّ ۖ وَٱتَّخَذُوٓا۟ ءَايَٰتِى وَمَآ أُنذِرُوا۟ هُزُوًا

المصباح المنير
مرات الإستماع: 0

وَمَا مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جَاءَهُمُ الْهُدَى وَيَسْتَغْفِرُوا رَبَّهُمْ إِلا أَنْ تَأْتِيَهُمْ سُنَّةُ الأوَّلِينَ أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذَابُ قُبُلا ۝ وَمَا نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَيُجَادِلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالْبَاطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ وَاتَّخَذُوا آيَاتِي وَمَا أُنْذِرُوا هُزُوًا [سورة الكهف:55-56].

يخبر تعالى عن تمرد الكفرة في قديم الزمان وحديثه، وتكذيبهم بالحق البين الظاهر مع ما يشاهدون من الآيات والدلالات الواضحات، وأنه ما منعهم من اتباع ذلك إلا طلبهم أن يشاهدوا العذاب الذي وعدوا به عيانًا، كما قال أولئك لنبيهم: فَأَسْقِطْ عَلَيْنَا كِسَفًا مِنَ السَّمَاءِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ [سورة الشعراء:187]، وآخرون قالوا: ائْتِنَا بِعَذَابِ اللَّهِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ [سورة العنكبوت:29]، وقالت قريش: اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِنَ السَّمَاءِ أَوِ ائْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ [سورة الأنفال:32]، وَقَالُوا يَا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ ۝ لَوْ مَا تَأْتِينَا بِالْمَلائِكَةِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ [سورة الحجر:6-7] إلى غير ذلك من الآيات الدالة على ذلك.

ثم قال: إِلا أَنْ تَأْتِيَهُمْ سُنَّةُ الأوَّلِينَ من غشيانهم بالعذاب وأخذهم عن آخرهم، أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذَابُ قُبُلا أي: يرونه عيانًا مواجهة ومقابلة، ثم قال تعالى: وَمَا نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ أي: قبل العذاب مبشرين مَن صدقهم وآمن بهم، ومنذرين مَن كذبهم وخالفهم.

ثم أخبر عن الكفار بأنهم يجادلون بالباطل لِيُدْحِضُوا بِهِ أي: ليضعفوا به الْحَقَّ الذي جاءتهم به الرسل، وليس ذلك بحاصل لهم، وَاتَّخَذُوا آيَاتِي وَمَا أُنْذِرُوا هُزُوًا أي: اتخذوا الحجج والبراهين وخوارق العادات التي بعث بها الرسل وما أنذروهم وخوفوهم به من العذاب هُزُوًا أي: سخروا منهم في ذلك، وهو أشد التكذيب.

يقول: وَمَا مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جَاءَهُمُ الْهُدَى وَيَسْتَغْفِرُوا رَبَّهُمْ إِلا أَنْ تَأْتِيَهُمْ سُنَّةُ الأوَّلِينَ أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذَابُ قُبُلا، وفي الموضع الآخر إلا أن قالوا أبعث الله بشراً رسولاً [سورة الإسراء:94]، فهذا في المانع العادي أنهم استغربوا كيف يكون الرسول بشرياً، ولا يكون ملَكاً؟ فهنا في هذه الآية إلا أن قالوا هذا في المانع الحقيقي، إِلا أَنْ تَأْتِيَهُمْ سُنَّةُ الأوَّلِينَ أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذَابُ قُبُلا، يقول: إِلا أَنْ تَأْتِيَهُمْ سُنَّةُ الأوَّلِينَ يعني: بالعذاب المستأصل، كما ذكر الله - تبارك وتعالى - بعده وَتِلْكَ الْقُرَى أَهْلَكْنَاهُمْ لَمَّا ظَلَمُوا ثمود وعاد وقوم لوط وأصحاب الأيكة كل هؤلاء دمرهم الله واستأصلهم عن آخرهم، إِلا أَنْ تَأْتِيَهُمْ سُنَّةُ الأوَّلِينَ أي: عادته - تبارك وتعالى - في المكذبين للرسل ، أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذَابُ قُبُلا، هنا يقول الحافظ ابن كثير - رحمه الله -: أي يرونه عياناً مواجهة ومقابلة، وهذه الآية فيها قراءتان متواترتان، القراءة الأولى هذه: قُبُلاً، وبها قرأ الكوفيون الثلاثة: عاصم، وحمزة، والكسائي، وقرأ الأربعة الباقون من السبعة بكسر القاف، يعني قِبَلاً، ويمكن أن تفسر - والله تعالى أعلم - قراءة قِبَلاً أي: معاينة ومواجهة ومقابلة، وتفسر القراءة الأخرى قُبُلاً أي: متفرقاً، يتبع أو يتلو بعضه بعضاً، ويكون المعنى إِلا أَنْ تَأْتِيَهُمْ سُنَّةُ الأوَّلِينَ بالعذاب المستأصل، أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذَابُ قُبُلا أي: متتابعاً ليس باستئصال، متتابعاً يتلو بعضه بعضاً، هذا على قراءة قُبُلاً، وقراءة قِبَلاً هي التي يمكن أن يربط بها، أو يحمل عليها التفسير الذي ذكره الحافظ ابن كثير - رحمه الله -، أي معاينة ومواجهة، والله تعالى أعلم.

والقراءتان إن كان لكل واحدة معنى يخصها فهما بمنزلة الآيتين.

يقول: وَجَادَلُوا بِالْبَاطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ [سورة غافر:5] قال: ليضعفوا به الحق، يدحضوه أي ليبطلوه، ليضعفوه، وأصل الدحض يقال للشيء الزلق، فالذي لا تثبت عليه الأقدام والحوافر وما إلى ذلك يقال له: زلق، تنزلق عليه، ليدحضوا أي ليبطلوا، وَجَادَلُوا بِالْبَاطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ، وهذا في الكلام على الجدل أن غالبه يكون بهذه المثابة، ولهذا جاء على سبيل الذم في أكثر المواضع.

والله المستعان.