يقول: حَتَّى إِذَا أَتَيَا أَهْلَ قَرْيَةٍ [سورة الكهف:77] روى ابن جرير عن ابن سيرين: أنها الأيلة، وبعضهم يقول: أنطاكية، وبعضهم يقول: برقة، وبعضهم يقول: من قرى أذربيجان، وبعضهم يقول: من قرى الروم، كل هذا بناء على ما ذكر بالأمس في حَتَّى أَبْلُغَ مَجْمَعَ الْبَحْرَيْنِ [سورة الكهف:60]، بعض أهل العلم يقول: مجمع البحرين في الشرق، وبعضهم يقول في الغرب، وكل ذلك من المنقول عن بني إسرائيل، ومثل ذلك لا يعتمد عليه.
وقوله: فَوَجَدَا فِيهَا جِدَارًا يُرِيدُ أَنْ يَنقَضَّ فَأَقَامَهُ [سورة الكهف:77] يقول الحافظ - رحمه الله -: إسناد الإرادة هاهنا إلى الجدار على سبيل الاستعارة، بمعنى أنه ليس بحقيقة، بعضهم يدخل الاستعارة في المجاز، وبعضهم يجعلها نوعاً قائماً بذاته، وهذا المثال من أشهر الأمثلة التي يمثل - أو يستدل - بها أصحاب المجاز، يقولون: أسند الإرادة إلى الجدار، والجدار لا إرادة له، هذا مجاز وليس بحقيقة، هذا مع قوله - تبارك وتعالى - فيما مضى في سورة يوسف : وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ الَّتِي كُنَّا فِيهَا [سورة يوسف:82] قالوا: والقرية لا تُسأل، وإنما المقصود أهل القرية، وهذا من مجاز الحذف، وهنا فَوَجَدَا فِيهَا جِدَارًا يُرِيدُ أَنْ يَنقَضَّ فَأَقَامَهُ [سورة الكهف:77]، استعار للجدار إرادة، ولا إرادة للجمادات، والذين يقولون بنفي المجاز بعضهم يقول: إن هذا مما يفهم من السياق، فإذا قيل: اسأل القرية، فإن المقصود بالسؤال سؤال أهل القرية، أو يقال بأن القرية والعير تطلق على هذا وهذا، تطلق على الحال والمحل، تطلق على أهلها، وتطلق على كل ذلك، فعلاقته كما يقول أهل المجاز: الحالية والمحلية، فالذين ينفون المجاز يقولون: هذا يفهم من السياق، وليس بمجاز بل هو حقيقة، وبعضهم يزيد على هذا ويقول: ما المانع من سؤال نفس القرية التي هي البنيان؟ وما المانع من أن يكون للجدار إرادة؟، فالله قال للسماوات والأرض: اِئْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ [سورة فصلت:11] والنبي ﷺ قال: إني لأعرف حجراً كان يسلم عليّ بمكة قبل أن أبعث[2] ويذكرون حنين الجذع، وما أشبه ذلك، ويقولون: هذه كما أخبر الله أنه يسجد له ما في السماوات وما في الأرض، وكذلك أيضاً يسبح لله ما في السماوات وما في الأرض، فهذه الجمادات تسبح وتسجد وتعرف ربها، فما المانع من أن يكون للجدار إرادة ؟ هكذا قالوا.
ومسألة المجاز مسألة معروفة، والخلاف فيها موجود بين أهل السنة، لا يترتب عليه تبديع ولا قدح في عقيدة قائله، إذا لم يسلط ذلك على النصوص التي لا يسوغ تأويلها بحال من الأحوال، فلا دليل فيها على هذا التأويل، كما في نصوص الصفات والمعاد، وما أشبه هذا، والغلط الذي وقع فيه أرباب المجاز أنهم جعلوا ذلك مِعْولاً سلطوه على النصوص فحرفوها عن معانيها الظاهرة إلى معانٍ أُخر من غير دليل يوجب ذلك، فهذا من التحريف؛ ولهذا سمى الحافظ ابن القيم - رحمه الله - المجاز بحمار التأويل، فإن التأويل يأتي راكباً على المجاز حتى يصل إلى النصوص، ومن شاء فليراجع في هذا مثل كتاب الرسالة المدنية وكتاب الإيمان الكبير لشيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله -، وكتاب الصواعق المرسلة، وكذا كتاب منع جواز المجاز في المنزل للتعبد والإعجاز للشيخ محمد الأمين الشنقيطي، وتوجد على كل حال كتابات في هذا، ورسائل جامعية، والله أعلم.
- أخرجه مسلم في كتاب الفضائل، باب من فضائل الخضر (4/1850- 172) (2380).
- أخرجه الطبراني في "المعجم الكبير" (2/244/1907) و"الأوسط" (2206) و"الصغير" (رقم 185 -الروض) ومن طريقه أبو نعيم في "أخبار أصفهان" (1/108) و"دلائل النبوة" (ص341). وضعفه الألباني في سلسلة الأحاديث الضعيفة والموضوعة (14/ 171).