قوله: أَمَّا السَّفِينَةُ فَكَانَتْ لِمَسَاكِينَ يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ [سورة الكهف:79] هذا الموضع يحتج به من يقول بأن الفقير أشد حاجة من المسكين، يقولون: إن الفقير ليس عنده شيء، وأما المسكين فعنده، لكنه لا يكفيه، فأثبت الله لهؤلاء المساكين هذه السفينة، وسماهم مساكين، وبعضهم يقول بالعكس: إن المسكين هو الذي تمسكن لشدة حاجته، فسكنت جوارحه لشدة فقره وعوزه، وأما الفقير فإنه أحسن حالاً منه، ويحتجون ببيت الشعر المعروف:
أمّا الفقيرُ الذي كانت حلوبتُه | وفقَ العيال فلم يُتْرك له سَبَدُ[1].[2] |
قالوا: عنده حلوبة، وعنده دابة، بهيمة تُحلب، فعنده شيء لكنه لا يكفيه، والخلاف في هذا معروف.
وهذه الآية يحتج بها من يقول بأن المسكين أحسن حالاً من الفقير، ولكن هذا الاستدلال فيه نظر، وذلك أن المسكين إذا أطلق بمفرده من غير ذكر الفقير فإنه يكون بمعنى الفقير، فإذا اجتمعا افترقا، وإذا افترقا اجتمعا في المعنى.
لكنكم تجدون مثل هذه الآية يحتج بها من يقول بأن الفقير أحسن حالاً منه، وتجدون هذا في كتب اللغة، وفي كتب الفقه، وكتب التفسير، وأيضاً في بعض الكتب التي تتحدث عن السلوك، والاحتجاج بهذا ذكرت لكم فيه هذا الملحظ.
أما ظاهر اللفظ فقد يفهم منه أن المسكين أشد حاجة من الفقير، أنه من شدة فقره قد سكنت جوارحه، ولا حراك به، هذا من حيث ظاهر اللفظ، أما الدليل على أن هذا أشد حاجة أو ذاك أشد حاجة فلا أعلم دليلاً عليه، وهذا الدليل يُحتج به عادة، وذكرت لكم ما يرد عليه من الإشكال، والله تعالى أعلم.
قوله: لِمَسَاكِينَ يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ فَأَرَدتُّ أَنْ أَعِيبَهَا [سورة الكهف:79] وفي قراءة شاذة: لمسّاكين يعملون في البحر يريد أن يقول: إنهم لا يملكون السفينة أصلاً، هذا من يقول بأن المسكين أشد حاجة من الفقير، مسّاكين يعني: يعملون فيها لغيرهم، أو بالأجرة، وليست ملكاً لهم.
وقوله: وَكَانَ وَرَاءهُم مَّلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْبًا [سورة الكهف:79] يرِد عليه ما ذكرته بالأمس: أن ظاهره يرِد عليه سؤال قد يستشكل على القارئ، يقول: يأخذ كل سفينة غصباً فإذا خرقها الخضر فستؤخذ، فما فائدة الخرق والعيب؟ فالجواب: أنه لا يأخذ كل سفينة، وإنما يأخذ كل سفينة صالحة غصباً، ويدل على هذا قراءة ابن عباس وأُبيّ: يأخذ كل سفينة صالحة غصباً وهذه قراءة أحادية، وذكرنا أن القراءة الأحادية تفسر بها القراءة المتواترة، فخرَقَها من أجل أن لا يأخذها الملك.
وقوله: وَكَانَ وَرَاءهُم مَّلِكٌ [سورة الكهف:79] الجمهور من أهل اللغة والمفسرين يقولون: وَكَانَ وَرَاءهُم [سورة الكهف:79] أي: أمامهم، وأن هذه اللفظة - لفظة وراء - من الأضداد، تقال بمعنى خلف، وبمعنى أمام، وأنها أطلقت مراداً بها الأمام في قوله - تبارك وتعالى -: مِّن وَرَآئِهِ جَهَنَّمُ [سورة إبراهيم:16] يعني: من أمامه، هذا الذي عليه عامة أهل العلم.
والحافظ ابن القيم - رحمه الله - يعترض على هذا، ويقول: إن لفظة: وراء ما تأتي في المكان بمعنى أمام، وإنما يكون ذلك في الزمان فقط، كما في قوله: من ورائكم أيام الصبر[3] يعني: فيما تستقبلون، فـمِّن وَرَآئِهِ جَهَنَّمُ [سورة إبراهيم:16] يعني: أنه بعد حياته هذه على الكفر يصير إلى جهنم فهذا في الزمان، يعني: بعد الدنيا يصير إلى جهنم، وليست للمكان، هكذا يفرق بين الزمان والمكان، ويقول: إن ذلك لا يعرف في كلام العرب، وهذا لا يخلو من إشكال؛ لأن أهل اللغة ذكروا هذا، فقالوا: إنها من الأضداد.
وتفسير ابن القيم - رحمه الله - لـ "وراءهم" يعني: خلفهم، هذا التفسير بأن المقصود "وكان خلفهم" قد سبق إليه، فقد قال به بعض السلف، فيقولون - وهو الذي يقرره ابن القيم - رحمه الله -: وَكَانَ وَرَاءهُم [سورة الكهف:79] يعني: في طريق العودة، سيذهبون إلى هذا المكان الذي قصدوه، ثم سيرجعون وَكَانَ وَرَاءهُم مَّلِكٌ [سورة الكهف:79] فإذا رجعوا فسيمرون في طريق عودتهم بهذا الملك الذي يأخذ السفن الصالحة غصباً، هكذا فسرها ابن القيم - رحمه الله -، والتفسير الأول هو المشهور، والله أعلم.
- السَّبَد: القليل من الشعر، وماله سبد ولا لبد، لا قليل ولا كثير، القاموس (366).
- البيت منسوب للراعي، وهو: حصين بن معاوية، وكان سيداً، وإنما قيل له الراعي لأنه كان يصف راعي الإبل في شعره وولده وأهل بيته بالبادية سادة أشراف، وكان أعور، توفي سنة (90 - 91هـ 709م) الشعر والشعراء (270) في الأعلام (4/188). وانظر: فقه اللغة وسر العربية (ص: 59).
- أخرجه أبو داود في كتاب الملاحم، باب الأمر والنهي (4/ 123 -4341) وابن ماجه في كتاب الفتن، باب قوله تعالى: يا أيها الذين آمنوا عليكم أنفسكم [المائدة: 105] (2/ 1330- 4014). وقال الألباني: "صحيح لغيره" انظر: صحيح الترغيب والترهيب (3/128-3172).