في قوله: قَالُوا يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِنَّ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ مُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ فَهَلْ نَجْعَلُ لَكَ خَرْجًا [سورة الكهف(94)] مفسدون في الأرض، يقول الحافظ ابن كثير - رحمه الله -: مفسدون في الأرض: تحمل على أعم معانيها ولا حاجة لتخصيص ذلك بنوع من الإفساد، كما يقول بعضهم: إنه إذا ظهر الربيع مثلاً في أرض هؤلاء عدا عليهم هؤلاء فلم يبقوا لهم خضراء، وغير ذلك من الأقاويل التي تذكر، هم مفسدون في الأرض بالقتل، والتعدي على الناس في أموالهم إلى غير ذلك مما يتصور من ألوان الإفساد.
مُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ فَهَلْ نَجْعَلُ لَكَ خَرْجًا [سورة الكهف:94] وقرأه الكوفيون: خراجاً، وبعض أهل العلم يقول بأن الخرج والخراج بمعنى واحد، وبعضهم يفرق بينهما في المعنى، وبعضهم يقول: إن الخراج هو الاسم، والخَرج هو المصدر، وبعضهم يقول: الخراج ما يجعل على الأرض، والخرج ما يجعل على الرقاب مثل الجزية.
وبعضهم يقول: فَهَلْ نَجْعَلُ لَكَ خَرْجًا [سورة الكهف:94] يعني: كالأجرة، أو ما يجعل لمن عمل عملاً أو نحو ذلك من العطاء، وأما الخراج فإنه ما يُجعل على الأرض، والله ذكر هذا وهذا، فهذا يدل على أنهم أرادوا شيئاً واحداً، والله - تبارك وتعالى - أعلم.
فهل نجعل لك خرجاً أو خراجاً؟ المقصود به: أنهم عرضوا عليه أن يعطوه أجرة على هذا العمل، فترفّع عن ذلك وتعفف، وقال: ما آتاني الله خير من هذا الذي تجعلونه لي، كما قال سليمان .
وقوله - تبارك وتعالى - عن قول ذي القرنين: أَجْعَلْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ رَدْمًا [سورة الكهف:95] هناك قال: سداً وهنا قال: ردماً، والمعنى متقارب، الردم والسد هو كل ما يحجز بين شيئين فإنه يقال له ذلك، وبعضهم يفرق بينهما كما سبق، فيقول: كل ما حجز بين شيئين فهو سد، وما كان بعضه على بعض فهو ردم، إن كان مبنياً من الحجارة أو اللبن أو غير ذلك فهو ردم، والسد يمكن أن يكون بقطعة واحدة بخشبة أو بحديدة، أو نحو ذلك، والعلم عند الله .
قال: آتُونِي زُبَرَ الْحَدِيدِ [سورة الكهف:96] يقول: جمع زبرة، وهي القطعة منه، وبعضهم قيده بالقطعة العظيمة، وهذا الذي ذهب إليه الخليل بن أحمد - رحمه الله -، زُبر الحديد يعني: القطع العظيمة من الحديد، فيجعل ذلك بمنزلة اللبن، يضع هذه القطع على بعض، ثم بعد ذلك يوقد عليها، وهي كاللبنة، يقال: كل لبنة زنة قنطار بالدمشقي أو تزيد.
إذا ساوى في الصُّدُفين: في قراءة ابن كثير وابن عامر وأبي عمرو بالضم، ضم الصاد والدال الصُّدُفين، والصَّدَفين بالفتح يعني: بين رأسي الجبلين، أو بين جانبي الجبلين، وإذا تحاذى الجبلان فكأنهما تصادفا أو تلاقيا، فيقال لذلك: صدفان، يعني: ساوى بين طرفي أو بين ناحيتي أو بين جانبي الجبلين إلى رءوسهما.
هذا قول جمهور المفسرين وأهل اللغة: إن القطر المقصود به النحاس المذاب، وبعضهم قال: إنه الحديد المذاب، وبعضهم يقول: الرصاص، لكن المشهور هو هذا، وهذا الذي يدل عليه القرآن، والله تعالى أعلم.