الخميس 17 / ذو القعدة / 1446 - 15 / مايو 2025
قَالَ رَبِّ ٱجْعَل لِّىٓ ءَايَةً ۚ قَالَ ءَايَتُكَ أَلَّا تُكَلِّمَ ٱلنَّاسَ ثَلَٰثَ لَيَالٍ سَوِيًّا

المصباح المنير
مرات الإستماع: 0

"قال تعالى: قَالَ رَبّ اجْعَل لِيَ آيَةً قَالَ آيَتُكَ أَلاّ تُكَلّمَ النّاسَ ثَلاَثَ لَيَالٍ سَوِيّاً ۝ فَخَرَجَ عَلَىَ قَوْمِهِ مِنَ الْمِحْرَابِ فَأَوْحَىَ إِلَيْهِمْ أَن سَبّحُواْ بُكْرَةً وَعَشِيّاً[سورة مريم:10-11] يقول تعالى مخبراً عن زكريا أنه قال: قَالَ رَبّ اجْعَل لِيَ آيَةً أي: علامة ودليلاً على وجود ما وعدتني، لتستقر نفسي، ويطمئن قلبي بما وعدتني، كما قال إبراهيم : رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي الآية، قَالَ آيَتُكَ أي: علامتك أَلاّ تُكَلّمَ النّاسَ ثَلاَثَ لَيَالٍ سَوِيّاً أي: أن تُحبَس لسانُك عن الكلام ثلاث ليال، وأنت صحيح سوي؛ من غير مرض، ولا علة؛ قال ابن عباس، ومجاهد، وعكرمة، ووهب، والسدي، وقتادة وغير واحد: "اعتُقل لسانه من غير مرض، ولا علة"، وقال ابن زيد بن أسلم: "كان يقرأ، ويسبح، ولا يستطيع أن يكلم قومه إلا إشارة".

وقال العوفي عن ابن عباس ثَلاَثَ لَيَالٍ سَوِيّاً أي متتابعات، ثَلاَثَ لَيَالٍ سَوِيّاً أي متتابعات، والقول الأول عنه وعن الجمهور أصح كما قال تعالى في آل عمران: قَالَ رَبِّ اجْعَلْ لِي آيَةً قَالَ آيَتُكَ أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلاثَةَ أَيَّامٍ إِلَّا رَمْزاً وَاذْكُرْ رَبَّكَ كَثِيراً وَسَبِّحْ بِالْعَشِيِّ وَالْإِبْكَارِ [سورة آل عمران: 41]، وهذا دليل على أنه لم يكن يكلم الناس في هذه الليالي الثلاث وأيامها، إِلَّا رَمْزاً أي: إشارة، ولهذا قال في هذه الآية الكريمة: فَخَرَجَ عَلَىَ قَوْمِهِ مِنَ الْمِحْرَابِ أي: الذي بشر فيه بالولد فَأَوْحَىَ إِلَيْهِمْ أي: أشار إشارة خفية سريعة، أَن سَبّحُواْ بُكْرَةً وَعَشِيّاً أي: موافقة له فيما أمر به في هذه الأيام الثلاثة زيادة على أعماله شكراً لله على ما أولاه، قال مجاهد: فَأَوْحَىَ إِلَيْهِمْ أي: أشار، وبه قال وهب وقتادة".

فقوله - تبارك وتعالى- عن قول زكريا : قَالَ رَبّ اجْعَل لِيَ آيَةً قال: "علامة ودليلاً على وجود ما وعدتني، لتستقر نفسي، ويطمئن قلبي بما وعدتني"، هذا بناء على التفسير السابق الذي عليه الجمهور وهو أن زكريا ﷺ لما بشره الله بالولد، وتعجب من قدرة الله - تبارك وتعالى - أراد أن يعرف علامة علوق الحمل بالرحم متى تكون امرأته حبلى، والذين قالوا إن سؤاله حينما سأل أن يكون لي غلام أنه التبس ذلك عليه ما وسوسة الشيطان، فأراد أن يميز، ويفرق؛ هل هو من الله أو من الشيطان، فطلب العلامة الفارقة، ولكن هذا القول فيه بُعد؛ لأن الأنبياء - عليهم الصلاة والسلام - لا يلتبس عليهم وحي الله مع وسوسة الشيطان، فتكون العلامة التي طلبها اجعل لي آية أي أعرف وقوع الحمل، فذلك مقتضى هذا البشرى بالغلام أن امرأته تحمل.

يقول: "قَالَ آيَتُكَ أي: علامتك"؛ لأن الآية تأتي بمعنيين: بمعنى العلامة كما هنا، كما قال الشاعر:

توهمت آيات لها فعرفتها لستة أعوامٍ وذا العام سابعُ

آيات يعني علامات لدار محبوبته، وهذا هو أحد القولين في تفسير الآيات الكونية، والآيات الشرعية، هذه الآيات التي نقرأها من أهل العلم من يقول أنه قيل لها آية؛ لأنها من الدلالة - من العلامة - إما باعتبار أنها تدل على صدق من جاء بها، أو لأنها علامة يميز بها غيرها من الآيات يعني نهاية هذه، وبداية هذه، أو غير ذلك.

والمعنى الثاني أن الآية بمعنى الجماعة فقيل: إن الآية قيل لها آية في كتاب الله - يعني الآيات الكونية - باعتبار العلامة أنها علامة تدل على الخالق الواحد الأحد - -، وباعتبار الجماعة، يمكن أن يقال باعتبار اجتماع الحروف والكلمات ونحو ذلك، وهنا لا يرد هذا المعنى لكنه معروف في كلام العرب، منه قول العرب: جاء القوم بآياتهم أي بجماعتهم.

أَلاّ تُكَلّمَ النّاسَ ثَلاَثَ لَيَالٍ سَوِيّاً أي: "أن تحبس لسانك عن الكلام ثلاث ليال من غير مرض، ولا علة"؛ فهذه هي العلامة التي تعرف بها وقوع الحمل، فلا تستطيع الكلام.

القول الآخر الذي أشار إليه الحافظ ابن كثير - رحمه الله - ثلاث ليال سوياً يكون من صفة الليالي ليالي من غير انقطاع، يعني متتابعة، ولكن المعنى الأول هو الأقرب، وهو الأشهر، وهو الذي عليه عامة المفسرين، وقوله: قَالَ رَبِّ اجْعَل لِّيَ آيَةً قَالَ آيَتُكَ أَلاَّ تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلاَثَةَ أَيَّامٍ إِلاَّ رَمْزًا [سورة آل عمران:41] باعتبار الإشارة، فإذ قيل أن الرمز ليس من الكلام، وأن الكلام ما يكون بحرف وصوت؛ فإن الاستثناء يكون منقطعاً، وهذا هو المعروف من الكلام أنه ما كان باللفظ؛ ولهذا يقول فيه النحاة: الكلام هو اللفظ المفيد، فائدة يحسن السكوت عليها، يعبرون أحياناً باللفظ المركب المفيد بالوضع، وهو وإن كان في اللغة أوسع من هذا وأعم هي تطلق على ذلك، وعلى غيره؛ مما يفيد أو لا يفيد لكنه لا يكون إلا باللفظ.

يقول: إِلاَّ رَمْزًا أي إشارة؛ ولهذا قال: فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ أي أشار إليهم، هذا هو الرمز والوحي سواء كانت هذه الإشارة باليد، أو بالعين، أو بغير ذلك مما يشار به ليعرف مقصود المشير فإن ذلك يقال له وحي، ومن إطلاقه على الإشارة هذه الآية، ومنه قول الشاعر:

فأوحى إليها الطرف أني أحبها فأثر ذاك الوحي في وجناتها

يعني أنها فهمت تلك الإشارة بطرفه، فأثر في وجناتها حمرة، وحياء؛ من أثر الحياء، هذا هو المراد هنا - والله تعالى أعلم -، وإن كان الوحي يأتي لمعان أخر غير هذا يأتي بمعنى الكتابة:

فوحي الصحائف من عهد كسرى فأهداها لاعجم طمطمي

أي ما يكتب فيها، والعرب يقولون: وحي في حجر، يعبرون به عن كتمان السر يعني النقش والكتابة في الحجر.

ويأتي بمعنى أوسع من هذا، فكل ما ألقيته إلى غيرك ليعلمه فهو وحي بأي طريق كان، ولا يشترط فيما ذكر الحافظ ابن كثير - رحمه الله - وإن كان ذلك مشهوراً يقول: أي أشار إشارة خفية سريعة فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ هذا هو المشهور، وذكره جمع من أهل العلم، وبعض أهل اللغة إشارة إلى السرعة، والخفاء، وهذا - والله أعلم - ليس بلازم في الوحي، فالكتاب يقال له: وحي في كلام العرب، وإن لم يكن ذلك بسرعة، ولا خفاء؛ يكون بسرعة، وخفاء، مثل الإشارة التي قد تخفى على غير المشار إليه فإن ذلك يصدق عليه هذا المعنى.

يقول: فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ أي: أشار إشارة سريعة خفية، يقول: فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ مِنَ الْمِحْرَابِ يعني يمكن أن يقال من مصلاه، وبعضهم يقول: المحراب مشتق من الحرب؛ لأن ملازمه كأنه يحارب الشيطان هكذا قال بعض أهل العلم، وبعضهم يقول: من الحرب؛ لأن ملازمه يلقى تعباً، وقد يكون هذا وقد لا يكون، ولكن العرب تطلق ذلك يعني المحراب على أرفع المواضع كقوله - تبارك وتعالى -: فَنَادَتْهُ الْمَلآئِكَةُ وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرَابِ [سورة آل عمران:39]، فأرفع المواضع، وأشرف المواضع تقول له العرب ذلك، يقولون: محراب أشرف المجالس، وبعضهم يقول: كانوا يتخذون المحاريب فيما ارتفع من الأرض، والمحراب عند العرب يطلق على المجالس، وعلى صدور المجالس، وأشرف المجالس، والمقصود به هنا - والله تعالى أعلم - المكان الذي كان يتعبد ويصلي فيه، وهذا لا ينافي كونه أشرف المواضع، ولهذا قيل للمحاريب في المساجد؛ لأنها في صدر المسجد، وفي مقدمه، وفي أشرف موضع منه - والله تعالى أعلم -.

يقول: فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ مِنَ الْمِحْرَابِ لكن لا تفهم إطلاقاً أن المقصود من المحراب أنه خرج وهو قائم يصلي في المحراب في هذا المكان المقوس فإن هذا محدث، وإذا أطلق ليس المراد به هذا المكان، وإنما سمي هذا بناء على ما ذكرت من أن أشرف المواضع يقال له: المحراب، وإلا فإن الله يقول عن داود ﷺ والخصم الذين جاءوا إليه قال: إِذْ تَسَوَّرُوا الْمِحْرَابَ [سورة ص:21]، وليس المقصود به ما نشاهده هنا في المسجد، وإنما المقصود به المكان الذي كان يخلو فيه.

يقول: فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ أي أشار إشارة خفية سريعة أن سبحوا بكرة وعشياً يعني هو أمر قال الله أمره بأن يذكر ربه كثيراً وَاذْكُر رَّبَّكَ كَثِيرًا وَسَبِّحْ بِالْعَشِيِّ وَالإِبْكَارِ [سورة آل عمران:41]، فأمر قومه بذلك زيادة في شكر الله - تبارك وتعالى -، وهذا التسبيح بعضهم يقول: المراد به الصلاة سبحوا بكرة وعشياً، وبعضهم يقول: التسبيح المراد به الذكر المعروف تنزيه الله - تبارك وتعالى - عن العيوب والنقائص، واللفظ يحتمل هذا وهذا؛ ولهذا يقال للصلاة تسبيح فيقول ابن عمر: "لو كنت مسبحاً لأتممت"[1] يعني لو كنت مصلياً الراتبة لأتممت الصلاة في السفر، بمعنى لا أقصر.

  1. رواه مسلم، كتاب صلاة المسافرين وقصرها، باب صلاة المسافرين وقصرها، برقم (689).