الأحد 20 / ذو القعدة / 1446 - 18 / مايو 2025
يَٰٓأَبَتِ لَا تَعْبُدِ ٱلشَّيْطَٰنَ ۖ إِنَّ ٱلشَّيْطَٰنَ كَانَ لِلرَّحْمَٰنِ عَصِيًّا

المصباح المنير
مرات الإستماع: 0

"يَا أَبَتِ لَا تَعْبُدِ الشَّيْطَانَ أي لا تطعه في عبادتك هذه الأصنام، فإنه هو الداعي إلى ذلك، والراضي به كما قال تعالى: أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَن لَّا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ [سورة يس:60]، وقال: إِن يَدْعُونَ مِن دُونِهِ إِلاَّ إِنَاثًا وَإِن يَدْعُونَ إِلاَّ شَيْطَانًا مَّرِيدًا [سورة النساء:117].

وقوله: إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلرَّحْمَنِ عَصِيًّا أي مخالفاً، مستكبراً عن طاعة ربه، فطرده، وأبعده، فلا تتبعه تصر مثله يَا أَبَتِ إِنِّي أَخَافُ أَن يَمَسَّكَ عَذَابٌ مِّنَ الرَّحْمَن أي على شركك وعصيانك لما آمرك به فَتَكُونَ لِلشَّيْطَانِ وَلِيًّا يعني فلا يكون لك مولى، ولا ناصراً، ولا مغيثاً؛ إلا إبليس، وليس إليه ولا إلى غيره من الأمر شيء، بل اتباعك له موجب لإحاطة العذاب بك كما قال تعالى: تَاللّهِ لَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى أُمَمٍ مِّن قَبْلِكَ فَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَهُوَ وَلِيُّهُمُ الْيَوْمَ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ [سورة النحل:63]".

في قوله - تبارك وتعالى - عن قيل إبراهيم : يَا أَبَتِ إِنِّي أَخَافُ أَن يَمَسَّكَ عَذَابٌ مِّنَ الرَّحْمَن إني أخاف: الخوف يأتي بمعنى العلم، ويأتي بمعنى توقع المكروه من غير جزم، يقول الإنسان: أخاف أن يحصل كذا، أخاف على فلان ونحو هذا، فهو بمعنى توقع المكروه، ومن إطلاقه بمعنى العلم قول أبي محجن الثقفي في قصته المعروفة وكان يشرب الخمر، وكان مما يقول:

إذا مت فادفني إلى جنب كرمة تروي عظامي في الممات عروقها
ولا تدفنني في الفلاة فإنني أخاف إذا ما مت ألا أذوقها

كرمة يعني شجرة عنب

يقول: أخاف إذا ما مت ألا أذوقها، فهو يعلم يقينا أنه إذا مات لن يشرب الخمر، فهذا بمعنى العلم، فهنا من أهل العلم من فسره بهذا، قال: يا أبت إني أخاف أن يمسك عذاب من الرحمن، فهو متيقن، ويعلم أنه إذا مات على الكفر فإنه سيقع له ذلك لا محالة، فقالوا: إن قوله: أخاف بمعنى العلم، وهذا الذي اختاره ابن جرير - رحمه الله -، إني أخاف أي: أعلم، وبعض أهل العلم فسره بالخوف بمعنى توقع المكروه، وهل كان إبراهيم لا يوقن أنه إذا مات أنه سيناله العذاب؟ قالوا بأنه قال ذلك؛ لأنه لا يدري بماذا يختم له، فكان يرجو إيمانه، ولهذا قال له فيما بعد: سَلَامٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي [سورة مريم:47]، وعده بالاستغفار، والله يقول: وَمَا كَانَ اسْتِغْفَارُ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ إِلاَّ عَن مَّوْعِدَةٍ وَعَدَهَا إِيَّاهُ [سورة التوبة:114]، فهذه هي الموعدة فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلّهِ أي: يموت على الكفر تَبَرَّأَ مِنْهُ، وقد تحقق دعاؤه لأبيه هذا الذي وعد به حينما قال: سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي فقال: وَاغْفِرْ لِأَبِي [سورة الشعراء:86]، فهذا دعاء متحقق من إبراهيم بناء على هذا الوعد، وتعليله أنه كان يرجو إيمانه، ولكن لما تبين له ذلك تبرأ منه.

فالذين فسروه بهذا التفسير: إني أخاف بمعنى توقع المكروه، قالوا بهذا الاعتبار أنه ما كان يعلم بماذا يختم له، فلما علم ذلك تبرأ منه.

وقوله - تبارك وتعالى -: فَتَكُونَ لِلشَّيْطَانِ وَلِيًّا يقول: يعني فلا يكون لك مولى، ولا ناصر، ولا مغيث؛ إلا إبليس، وليس إليه ولا إلى غيره من الأمر شيء، بعض أهل العلم يقول: أي: تابعاً، وبعضهم يقول: بمعنى أنك تكون قريباً منه في المئآل، والنتيجة، والعاقبة، وهي دخول النار، وبعضهم يقول: أي: تلقى نفس المصير حيث تشترك معهم في العذاب، واللعن، والطرد، والإبعاد من رحمة الله - تبارك وتعالى -، ودخول النار - والله تعالى أعلم -.