الأحد 21 / ربيع الأوّل / 1447 - 14 / سبتمبر 2025
وَنَسُوقُ ٱلْمُجْرِمِينَ إِلَىٰ جَهَنَّمَ وِرْدًا

المصباح المنير
مرات الإستماع: 0

"يَوْمَ نَحْشُرُ الْمُتّقِينَ إِلَى الرّحْمَنِ وَفْداً ۝ وَنَسُوقُ الْمُجْرِمِينَ إِلَىَ جَهَنّمَ وِرْداً ۝ لاّ يَمْلِكُونَ الشّفَاعَةَ إِلاّ مَنِ اتّخَذَ عِندَ الرّحْمَنِ عَهْداً [سورة مريم:85-87].

يخبر تعالى عن أوليائه المتقين الذين خافوه في الدار الدنيا، واتبعوا رسله، وصدقوهم فيما أخبروهم، وأطاعوهم فيما أمروهم به، وانتهوا عما عنه زجروهم، أنه يحشرهم يوم القيامة وفداً إليه، والوفد هم القادمون ركباناً، ومنه الوفود، وركوبهم على نجائب من نور من مراكب الدار الآخرة، وهم قادمون على خير موفود إليه إلى دار كرامته، ورضوانه، وأما المجرمون المكذبون للرسل، المخالفون لهم؛ فإنهم يساقون عنفاً إلى النار وِرْداً عطاشاً، قاله عطاء وابن عباس - ا - ومجاهد، والحسن وقتادة وغير واحد، وهاهنا يقال: أَيُّ الْفَرِيقَيْنِ خَيْرٌ مَقَاماً وَأَحْسَنُ نَدِيّاً [سورة مريم:73].

وروى ابن أبي حاتم عن عمرو بن قيس المُلائي عن ابن مرزوق يَوْمَ نَحْشُرُ الْمُتّقِينَ إِلَى الرّحْمَنِ وَفْداً قال: "يستقبل المؤمن عند خروجه من قبره أحسن صورة رآها، وأطيبها ريحاً، فيقول: من أنت؟ فيقول: أما تعرفني؟ فيقول: لا، إلا أن الله قد طيب ريحك، وحسن وجهك، فيقول: أنا عملك الصالح، وهكذا كنت في الدنيا حسن العمل، طيبه، فطالما ركبتك في الدنيا، فهلم اركبني، فيركبه، ذلك قوله: يَوْمَ نَحْشُرُ الْمُتّقِينَ إِلَى الرّحْمَنِ وَفْداً"، وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس - ا -: يَوْمَ نَحْشُرُ الْمُتّقِينَ إِلَى الرّحْمَنِ وَفْداً قال: "ركبانا"، وقوله: وَنَسُوقُ الْمُجْرِمِينَ إِلَىَ جَهَنّمَ وِرْداً أي: عطاشا، لاّ يَمْلِكُونَ الشّفَاعَةَ أي: ليس لهم من يشفع لهم".

الوفد هم الجماعة، وكثيرٌ من أهل العلم من المفسرين، ومن أهل اللغة يقولون: الركبان، والوفد هم الجماعة الذين ينتدبون أو يقدمون على أمر له شأن من قدوم على ملك، أو مطاع، أو نحو ذلك، يقال لهم: وفد، كثير من أهل العلم يقيدون ذلك بالركبان، جماعة ركبان، ولهذا يفسرون هذا الموضع من كتاب الله - تبارك وتعالى -: نَحْشُرُ الْمُتّقِينَ إِلَى الرّحْمَنِ وَفْداً يعني أنهم يكونون ركباناً، وهذا يشكل عليه أو قد يشكل عليه في بادئ الأمر ما جاء عن النبي ﷺ من أن الناس يحشرون يوم القيامة حفاة، عراة، غرلاء[1]، ولهذا قال بعض المفسرين كالقرطبي - رحمه الله -: بأن ذلك لا يكون في حشرهم من قبورهم إلى محشرهم، وإنهم يخرجون من القبور كما قال الله : كَأَنَّهُمْ جَرَادٌ مُّنتَشِرٌ [سورة القمر:7]، ولا يكونون بهذه المثابة وإنما ذلك بعد المحشر، فإن أهل الإيمان يذهبون بهذه الصفة إلى الرحمن إلى دار كرامته، وجنته، والمجرمون - نسأل الله العافية - يساقون إلى النار في هذه الحالة التي وصفها الله - تبارك وتعالى -، فهنا أهل الإيمان يحشرون وفداً، والكفار - نسأل الله العافية - كما قال: "يساقون عنفاً إلى النار وِرْداً أي: عطاشا"، وأصل هذه المادة الورد يقال: للإتيان إلى الماء، كقوله: وَلَمَّا وَرَدَ مَاء مَدْيَنَ [سورة القصص:23] الجماعة الذين يأتون إلى الماء يقال لهم ورد، لكن لما كان الذي يرد إلى الماء عادة إنما يرد إليه العطشان قيل: للجماعة من العطشاء، قيل لهم ذلك، قيل لهم: ورد، ونحشر المجرمين إلى جنهم ورداً أي: عطاشاً، هذا هو المشهور، وهو الذي اختاره ابن جرير - رحمه الله -.

وبعض أهل اللغة كالفراء وابن الأعرابي يقول: "مشاة"، أهل الإيمان، وأهل الجنة؛ يحشرون ركباناً، وهؤلاء يحشرون مشاة، وبعضهم كالأزهري يقول: "مشاة وعطشى"، والله المستعان.

أما أنهم يحشرون على نجايب من نور، أو ركائب من نور أو نحو ذلك؛ فلم يرد فيه حديث صحيح عن النبي ﷺ جاء هذا في بعض الآثار، ولكن مثل هذا يتوقف قبوله على النقل عن المعصوم - عليه الصلاة والسلام -.

وبعضهم يقول: يحشرون على النوق، وبعضهم يقول: آثار متعددة وردت عن السلف، ولا يوجد عن النبي ﷺ دليل صحيح بما أعلم على شيء من ذلك.

وقول ابن كثير - رحمه الله -: "وأما المجرمون المكذبون للرسل، المخالفون له؛ فإنهم يساقون عنفاً إلى النار"، وأهل الإيمان وهم قادمون على خير موفودٍ إليه، إلى دار كرامته، ورضوان، قال القرطبي - رحمه الله -: بأنه ليس المقصود من قبورهم إلى أرض المحشر؛ وإنما إلى الجنة، أو إلى النار.

"كما يشفع المؤمنون بعضهم لبعض، كما قال تعالى مخبراً عنهم: فَمَا لَنَا مِن شَافِعِينَ ۝ وَلَا صَدِيقٍ حَمِيمٍ [سورة الشعراء:100-101].

وقوله: إِلَّا مَنِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمَنِ عَهْداً هذا استثناء منقطع بمعنى لكن من اتخذ عند الرحمن عهداً، وهو شهادة أن لا إله إلا الله، والقيام بحقها، قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس - ا -: إِلَّا مَنِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمَنِ عَهْداً قال: العهد شهادة أن لا إله إلا الله، ويبرأ إلى الله من الحول، والقوة، ولا يرجو إلا الله ".

قوله - تبارك وتعالى -: لاّ يَمْلِكُونَ الشّفَاعَةَ، وَنَسُوقُ الْمُجْرِمِينَ إِلَى جَهَنَّمَ وِرْدًا [سورة مريم:86]، فمن أعاد الضمير في قوله: لاّ يَمْلِكُونَ الشّفَاعَةَ على المجرمين باعتبار أنهم آخر مذكور، والضمير يرجع إلى أقرب مذكور، فإنه يعد من قبيل الاستثناء المنقطع، وعرفنا أن الاستثناء المنقطع هو ما كان المستثنى فيه من غير جنس المستثنى منه، فقوله: لَا يَمْلِكُونَ الشَّفَاعَةَ إِلَّا مَنِ اتَّخَذَ عِندَ الرَّحْمَنِ عَهْدًا فإذا فسر العهد بلا إله إلا الله، أو العهد بأن الله أعطاهم ذلك، وهذا غير موجود؛ فلا يوجد منهم أحد يتحقق هذا الشرط، فإن هذا الاستثناء يكون من قبيل الاستثناء المنقطع بهذا الاعتبار.

وقوله: فَمَا لَنَا مِن شَافِعِينَ ۝ وَلَا صَدِيقٍ حَمِيمٍ يحتمل أن يكون الضمير في قوله: لاّ يَمْلِكُونَ الشّفَاعَةَ عائد إلى الجميع، فالله ذكر الطائفتين، ذكر المتقين، وذكر المجرمين، ثم قال: لاّ يَمْلِكُونَ الشّفَاعَةَ؛ لأن الشفاعة إنما يملكها الله قُل لِّلَّهِ الشَّفَاعَةُ جَمِيعًا [سورة الزمر:44]، والله - تبارك وتعالى - يقول: مَن ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلاَّ بِإِذْنِهِ [سورة البقرة:255]، وَلَا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى [سورة الأنبياء:28]، وبهذا الاعتبار يكون الاستثناء من قبيل المتصل، لا يملكون الشفاعة لا أهل الإيمان، ولا هؤلاء من المجرمين إلا من اتخذ عند الرحمن عهداً، وذلك إذا فسر بلا إله إلا الله يكون يصدق على أهل الإيمان، فيكون: إلا من اتخذ عند الرحمن عهداً، ويكون بهذا الاعتبار الاستثناء متصل، فهو يخرج بعض الأفراد من المستثنى منه، لا يملكون الشفاعة إلا من اتخذ عند الرحمن عهداً، وهو شهادة أن لا إله إلا الله، أو الإيمان، أو العهد بذلك، فيكون متصلاً - والله أعلم -، وكل واحد من هذين القولين يوجد من كتاب الله  ما يشهد له.

  1. رواه البخاري، كتاب التفسير، باب وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مَرْيَمَ إِذِ انتَبَذَتْ مِنْ أَهْلِهَا، برقم (3263)، ومسلم، كتاب الجنة وصفة نعيمها وأهلها، باب فناء الدنيا وبيان الحشر يوم القيامة، برقم (2860)، من حديث ابن عباس - ا -.