الإثنين 29 / شوّال / 1446 - 28 / أبريل 2025
فِى قُلُوبِهِم مَّرَضٌ فَزَادَهُمُ ٱللَّهُ مَرَضًا ۖ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌۢ بِمَا كَانُوا۟ يَكْذِبُونَ

المصباح المنير التسهيل في علوم التنزيل لابن جزي مجالس في تدبر القرآن الكريم مجالس في تدبر القرآن الكريم
مرات الإستماع: 0

فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ فَزَادَهُمُ اللّهُ مَرَضاً وَلَهُم عَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ [سورة البقرة:10] قال السدي: عن أبي مالك وعن أبي صالح عن ابن عباس وعن مرّة الهمداني عن ابن مسعود، وعن أناس من أصحاب رسول الله ﷺ ورضي عنهم في هذه الآية: فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ قال: شَكٌّ، فَزَادَهُمُ اللّهُ مَرَضاً قال: شكًّا.إذا ذكر المرض في كتاب الله فتارة يراد به مرض الشك، والنفاق، وتارة يراد به ضعف الإيمان، وهذا بناء على القول بالتفريق في قوله - تبارك وتعالى - في سورة الأحزاب: وَإِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ [سورة الأحزاب:12]، فعلى أن الواو هنا عطفت طائفة على طائفة يكون أهل النفاق غير الذين في قلوبهم مرض، فيكون المقصود بالذين في قلوبهم أي ضعفاء الإيمان الذين اهتزت ثقتهم في يوم الأحزاب.
ومن أهل العلم من يقول: إنها طائفة واحدة، وأن هذا العطف من باب عطف الصفات كما سبق في قوله تعالى: سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى ۝ الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى ۝ وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَى [سورة الأعلى:1-3]، وكذلك في أول سورة البقرة: هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ ۝ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ ۝ والَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ وَبِالآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ [سورة البقرة:2-4]، ومن باب قول الشاعر:

هو الملك القرم وابن الهمام وليث الكتيبة في المزدحم

فكلها طائفة واحدة في موصوف واحد، فالذين في قلوبهم مرض تارة يراد بهم أهل النفاق كما هنا، وتارة يراد به ضعف الإيمان، وتارة يراد به مرض الشهوة، والميل المحرم إلى النساء كما في الموضع الوحيد من القرآن في سورة الأحزاب: فَلَا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ [سورة الأحزاب:32] بمعنى الميل المحرم إلى النساء.

وعلى كل حال إذا رأيت المرض في القرآن فالغالب أن المراد به مرض النفاق، أو ضعف الإيمان؛ إلا في موضع واحد، وهنا لا شك أن المراد به مرض النفاق، وإلا فالقلوب على كل حال تمرض، وتعتل بصور شتى، فتارة بالشك وما أشبهه، وتارة يكون ذلك بضعف الإيمان، وتارة تمرض بالقسوة، وتارة تمرض بالرياء، وحب المحمدة، وتارة تمرض بالعجب، والزهو، وغير ذلك مما يعتريها من الأمراض.

وكذلك قال مجاهد، وعكرمة، والحسن البصري، وأبو العالية، والرّبيع بن أنس، وقتادة.
وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم: فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ قال: هذا مرض في الدين، وليس مرضًا في الأجساد.
يقصد أن هذا المرض الذي يصيب هذه القلوب هو مرض معنوي، وليس مرضاً حسياً مما يحتاج الإنسان معه إلى عملية جراحية أو نحو ذلك.

قال: "هذا مرض في الدين، وليس مرضًا في الأجساد وهم المنافقون، والمرض: الشك الذي دخلهم في الإسلام، فَزَادَهُمُ اللّهُ مَرَضاً قال: زادهم رجسًا، وقرأ: الَّذِينَ آمَنُواْ فَزَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ ۝ وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ فَزَادَتْهُمْ رِجْسًا إِلَى رِجْسِهِمْ [سورة التوبة:124-125] قال: شرًا إلى شرهم، وضلالة إلى ضلالتهم"، وهذا الذي قاله عبد الرحمن - رحمه الله - حسن، وهو الجزاء من جنس العمل، وكذلك قاله الأولون، وهو نظير قوله تعالى أيضًا: وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى وَآتَاهُمْ تَقْواهُمْ [سورة محمد:17]، وقوله: بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ، وقرئ: "يكذّبون".

قوله: "وقرئ: "يكذّبون": هذه قراءة متواترة، وهي قراءة ابن كثير من السبعة، والفرق بين القراءتين أن يكذْبون - بالتخفيف - تعني أن الكذب يصدر منهم، أي أنهم يكذبون في قولهم، وفي دعواهم للإيمان.
ويكذّبون - بالتشديد - هي أشمل في المعنى إذ تدل على الكثرة؛ لأن زيادة المبنى تدل على زيادة المعنى، فيكذْب يعني لا يكون صادقاً فيما صدر منه من الأقوال، والأفعال، ويكذّب أي بالقرآن، وبالوحي، وبالنبوة، فهو مكذب في ذلك كله، ولا شك أن هذا جميعاً من الكفر، وبالتالي لما أظهر الإسلام، وأبطن هذا التكذيب؛ صار كاذباً في دعواه الإيمان.
وهذه المعاني متلازمة، فالقاعدة أن الآية إذا احتملت معنيين بينهما ملازمة فإنها تحمل عليهما جميعاً، ومن أمثلته: وَمِن شَرِّ غَاسِقٍ إِذَا وَقَبَ [سورة الفلق:3]، فمنهم من قال: إنه القمر، ومنهم من قال إنه الليل، فنقول: إنما يظهر القمر ليلاً، كما قال تعالى: فَمَحَوْنَا آيَةَ اللَّيْلِ، يعني القمر، وَجَعَلْنَا آيَةَ النَّهَارِ مُبْصِرَةً [سورة الإسراء:12] يعني الشمس، فهما قولان متلازمان لا نحتاج أن نرجح بينهما.
ومثل ذلك قوله - تبارك وتعالى - في آية الكرسي: وَلاَ يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِّنْ عِلْمِهِ [سورة البقرة:255]، هل يقال: المقصود أنهم لا يحيطون بشيء من علم ما بين أيديهم وما خلفهم أو من علم الله، يقال: لا تعارض بين المعنيين؛ لأن علم ما بين أيديهم وما خلفهم هو جزء من علم الله، والباء في قوله: بِشَيْءٍ سببية.
يقول تعالى: فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ فَزَادَهُمُ اللّهُ مَرَضاً: أي تعاطوا الأسباب التي أوقعتهم في الريبة والشك حتى ابتلوا بهذا النفاق، فلما أعرضوا عن الصدق قولاً، وفعلاً، وحالاً؛ عاقبهم الله بما يصلح ويناسب لفعلهم القبيح فزادهم من هذا المرض، وهذا بخلاف من أقبل على الله بصدق، ولجأ إليه، واهتدى بالقرآن؛ فإن الله يزيده إيماناً، وينقله من هداية إلى هداية؛ فهو أرحم بعباده كما قال : هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلَائِكَتُهُ لِيُخْرِجَكُم مِّنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيمًا [سورة الأحزاب:43]، فهو ينقلهم من رحمة إلى رحمة، ومن هدى إلى هدى، حتى يتم لهم هذا الإيمان قال تعالى: وَمَا كَانَ اللّهُ لِيُضِلَّ قَوْمًا بَعْدَ إِذْ هَدَاهُمْ حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُم مَّا يَتَّقُونَ [سورة التوبة:115].
هذا هو تفسير هذه الآية عند أهل السنة والجماعة، وهو أن الله يجازيهم على هذا النفاق، وهذا الكفر، وهذا الرجس، وتعاطي أسباب الشر؛ أن يزيدهم مرضاً إلى مرضهم، وهذا أصل معروف دلَّ عليه القرآن في مواضع كثيرة، فمن أعرض عما هو مطالب به من الحق، والعمل الصالح، والإيمان؛ ابتلي بالاشتغال بما يضره.
والشيخ عبد الرحمن بن سعدي في كتابه "القواعد الحسان" تكلم على هذا الأصل، وجاء له بأمثلة كثيرة، من ذلك أن اليهود لما تركوا التوراة، والعمل بها؛ ابتلوا باتباع الشياطين كما قال تعالى: وَاتَّبَعُواْ مَا تَتْلُواْ الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ [سورة البقرة:102].
ومن أعرض عن كتاب الله فلا يسمعه، ولا يقرؤه، ولا يتدبره؛ ابتلي بسماع الأغاني، واللهو، والغيبة، والكذب، والباطل، والزور وما أشبه ذلك، وهكذا كل من أعرض عما هو بصدده مما طلب به ابتلي بالاشتغال بضده.
 وقوله: بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ، وقرئ: "يكذّبون" وقد كانوا متصفين بهذا وهذا، فإنهم كانوا كذبة ويكذبون بالغيب، يجمعون بين هذا وهذا.
دلالة القراءة الثانية - أعني قراءة يكذّبون بالتشديد - فيها زيادة، وهي أنها تدل على التكثير، أي على كثرة الكذب منهم، أضف إلى ذلك أنها دلت على معنىً آخر وهو أنهم يكذبون بالقرآن، وبالوحي، والرسالة.
وصنيع ابن كثير - رحمه الله - بناءً على أنه حمل الآية على معنييها، والقاعدة أن تعدد القراءات ينزل منزلة تعدد الآيات، فإذا كان لكل قراءة معنىً يخصها فإنها تنزل منزلة الآية المستقلة، ومن ثم يفسر القرآن بهذه المعاني جميعاً.
وهذا التفسير أنواع: منه ما يرجع إلى ذات واحدة فيكون من باب زيادة الأوصاف مثل قوله - تبارك وتعالى -: وَجَدَهَا تَغْرُبُ فِي عَيْنٍ حَمِئَةٍ [سورة الكهف:86]، أي: منتنة متغيرة من طول المكث، وعلى القراءة السبعية الأخرى: وَجَدَهَا تَغْرُبُ فِي عَيْنٍ حَاميَةٍ يعني حارة، فهذا من باب تعدد القراءات؛ لأنه يرجع إلى ذات واحدة موصوفة هي العين، وهو من باب زيادة الأوصاف، فهي عين متغيرة، منتنة، وحارة.
وتارة تكون كل قراءة عائدة إلى معنىً آخر مثل قول الله : وَلاَ تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّىَ يَطْهُرْنَ [سورة البقرة:222]، في القراءة الأخرى يطَّهَّرْنَ، فعلى قراءة يَطْهُرْنَ يعني انقطاع الدم، وعلى قراءة يطَّهَّرْنَ يعني الاغتسال، ومن هذا النوع  قوله تعالى: بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ ويُكَذِّبونَ.
(تنبيه) قول من قال: كان ﷺ يعلم أعيان بعض المنافقين إنما مستنده حديث حذيفة بن اليمان في تسمية أولئك الأربعة عشر منافقًا في غزوة تبوك الذين هموا أن يفتكوا برسول الله ﷺ في ظلماء الليل عند عقبةٍ هناك؛ عزموا على أن ينفروا به الناقة ليسقط عنها، فأوحى الله إليه أمرهم فأطلع على ذلك حذيفة.
فأما غير هؤلاء فقد قال الله تعالى: وَمِمَّنْ حَوْلَكُم مِّنَ الأَعْرَابِ مُنَافِقُونَ وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَرَدُواْ عَلَى النِّفَاقِ لاَ تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ [سورة التوبة:101] الآية، وقال تعالى: لَئِن لَّمْ يَنتَهِ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ وَالْمُرْجِفُونَ فِي الْمَدِينَةِ لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ ثُمَّ لَا يُجَاوِرُونَكَ فِيهَا إِلَّا قَلِيلًا ۝ مَلْعُونِينَ أَيْنَمَا ثُقِفُوا أُخِذُوا وَقُتِّلُوا تَقْتِيلًا [سورة الأحزاب:60-61]، ففيها دليل على أنه لم يغر بهم ولم يدرك على أعيانهم، وإنما كانت تذكر له صفاتهم فيتوسمها في بعضهم كما قال تعالى: وَلَوْ نَشَاء لَأَرَيْنَاكَهُمْ فَلَعَرَفْتَهُم بِسِيمَاهُمْ وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ [سورة محمد:30]، وقد كان من أشهرهم بالنفاق عبد الله بن أبي بن سلول

من أهل العلم من يقول: إن النبي ﷺ أطلعه الله بعد ذلك على المنافقين، وأسر بذلك إلى حذيفة، ولهذا كان عمر يسأل حذيفة هل سماه له رسول الله ﷺ، مع أن عمر يعلم قطعاً أنه ليس من النفر الأربعة عشر الذين نفروا ناقة رسول الله ﷺ عند العقبة، حتى إن عمر كان لا يصلي على ميت حتى ينظر هل صلى عليه حذيفة أو لا يصلي عليه.

وقد كان من أشهرهم بالنفاق عبد الله بن أبي بن سلول، وقد شهد عليه زيد بن أرقم ، وقد عاتبه ﷺ عمرُ بن الخطاب .يعني أن عمر عاتب النبي ﷺ لماذا تصلي على هذا المنافق.
ومما يدل على نفاق ابن أبي ما حدث في غزوة المريسيع حيث اختصم الجهجاه - وهو رجل من غفار كان مولى لعمر - مع رجل من جهينة كان مولى لعبد الله بن أبي، اختصموا على الماء، فلطم الجهجاه الجهني، وكان الجهجاه كما في بعض الروايات كثير الدعابة، فكسع الجهني أي: ضربه بظهر قدمه على دبره، وكان العرب يكرهون هذا النوع من الضرب، ويكرهون الضرب على القفا أيضاً كما قال القائل:

كنت أُرَى أن زيداً كما قيل سيداً إذا قيل عبد القفا واللهازم
فالعبد هو الذي يضرب على قفاه، أما الحر فلا يضرب هكذا، ولذلك فالأستاذ الذي يضرب الطلاب بهذه الطريقة مخطئ؛ لأنه بهذا يذلهم.
الحاصل أن ذلك الرجل غضب، فقال: يا للأنصار، فقال الجهجهاه: يا للمهاجرين، فقال عبد الله بن أبي لما بلغه ذلك: أوَقَد فعلوها، والله ما مثلنا ومثل هؤلاء إلا كما قال الأول: سمن كلبك يأكلك، لَئِن رَّجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ [سورة المنافقون:8]، ثم لام قومه، فقال: إني نهيتكم عن إيوائهم لكنكم خالفتموني، وساكنتموهم، وأطعمتموهم، ولو تركتموهم لطلبوا داراً أخرى غير المدينة.
وقد صور الله تعالى ذلك بقوله: هُمُ الَّذِينَ يَقُولُونَ لَا تُنفِقُوا عَلَى مَنْ عِندَ رَسُولِ اللَّهِ حَتَّى يَنفَضُّوا [سورة المنافقون:7]، أي: اقطعوا عنهم الأموال، فيتفرقوا عنه.

وقد كان من أشهرهم بالنفاق عبد الله بن أبي بن سلول، وقد شهد عليه زيد بن أرقم .شهد عليه زيد لما قال: ليخرجن الأعز منها الأذل.وقد عاتبه ﷺ عمرُ بن الخطاب فيه فقال: إني أكره أن تتحدث العرب أن محمدًا يقتل أصحابه[1]
مع أن الرجل قال كفراً، وشتم النبي ﷺ بأقبح الشتم، ومع ذلك النبي ﷺ لم يقتله من باب ارتكاب أخف الضررين بدفع أعلاهما.
وكذلك في تسمية المنافقين لم يسمهم النبي ﷺ للصحابة، وإنما أعطاها لحذيفة، فلم يخبر بها حذيفة ؛ لئلا يؤدي ذلك إلى مفسدة أعظم، فيكفي معرفة الأوصاف ليحتفظ كل إنسان بمعلوماته لنفسه، فإذا أظهر هذا، وحكم على الناس علناً بمثل هذه الأمور؛ فإنه يحصل من المفاسد ما لا يخفى، يكفي أن هذه أوصافهم، فمن وجدت فيه هذه الأوصاف فهو منافق.

ومع هذا لما مات صلى عليه ﷺ، وشهد دفنه كما يفعل ببقية المسلمين.لأن كل من أبطن الكفر، وأظهر الإسلام؛ يجري عليه حكم الظاهر، وأمره إلى الله ، لكن هذا غير مسألة الاغترار به، والثناء عليه، وتوليته وما أشبه ذلك، ولذلك النبي ﷺ لم يولِّ أحداً منهم، لا على سرية، ولا على أكثر من ذلك ولا أقل.

وفي الصحيح إني خيرت فاخترت[2] وفي رواية: لو أعلم أني لو زدت على السبعين يغفر الله له لزدت[3].هذه أخلاق الكبار قلَّ من يصل إليها، رجل يتكلم بهذا، ويرمي عرض النبي ﷺ، ويتهم عائشة - ا - بالزنا، وينشر هذا في الناس، ويقول: سمن كلبك يأكلك، ولئن رجعنا إلى المدينة...، ولا يزال يفسد في داخل الصف كالسوسة تنخر، ثم يصلي عليه، ويكفنه في قميصه ﷺ ويقول: لو أعلم أني لو زدت على السبعين يغفر الله له لزدت، من يفعل هذا؟
تصور الآن واحد يفعل هذه الأشياء كلها، ووصل أذاه إلى عرضك، وهو منافق يفسد في المجتمع، ويفسد في الناس، هل ستقول: أستغفر له سبعين مرة، وأكثر من سبعين مرة، وأدفنه في ثوبي؟
ستقول: اللهم كفنه في جهنم، وهذا هو الذي يقوله الناس عادة إلا من روض نفسه، وغلبها، وقهرها، وارتفع.
هذه أمور لا يصلها كثير من الناس، بل كثير من الناس يتمرغ في دائرة ضيقة في داخل نفسه تغمرها الأحقاد، والحسد، وتصفية الحسابات، فلا يستطيع أن يرتفع، كلما ارتفع قعدت به نفسه فلا يسمو، وقد يكون هذا مع أقرب الناس إليه.

  1. أخرجه البخاري في كتاب: التفسير - باب قوله: يَقُولُونَ لَئِن رَّجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَا يَعْلَمُونَ [سورة المنافقون:8] (4624) (ج 4 / ص 1863)، ومسلم في كتاب: البر والصلة والآداب - باب نصر الأخ ظالماً أو مظلوماً (2584) (ج 4 / ص 1998)، ولفظهما: دعه لا يتحدث الناس أن محمداً يقتل أصحابه.
  2. أخرجه بهذا اللفظ البخاري في كتاب: الجنائز - باب: ما يكره من الصلاة على المنافقين والاستغفار للمشركين (1300) (ج 1 / ص 459).
  3. أخرجه البخاري أيضاً في كتاب: التفسير – باب: اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لاَ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِن تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَن يَغْفِرَ اللّهُ لَهُمْ [سورة التوبة:80] (4394) (ج 4 / ص 1715).

مرات الإستماع: 0

"فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ [البقرة:10] يحتمل أن يكون حقيقة، وهو الألم الذي يجدونه من الخوف، وغيره، وأن يكون مجازاً بمعنى الشك، أو الحسد".

الذي يظهر - والله أعلم - أن هذا المرض هو مرض النفاق، وليس المقصود به الألم الذي يجدونه من الخوف، وغيره، وإنما هو مرض النفاق، وهو حقيقة، وليس بمجاز؛ لأن المرض يُقال لاعتلال مزاج البدن، كما يقال أيضاً لاعتلال مزاج الروح بالضلال، والانحراف، والشهوات، وعامة المواضع في كتاب الله إذا ذُكر فيها مرض القلب، فالمقصود به النفاق، وقد يُقال للميل المُحرم إلى النساء، كما في قوله - تبارك، وتعالى -: فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ [الأحزاب:32]، ويحتمل: أن يكون المراد به في بعض المواضع ضعف الإيمان، كما في قوله - تبارك، وتعالى -: وَإِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ [الأحزاب:12] باعتبار أن العطف هنا لتغاير الذوات، فالمنافقون طائفة، والذين في قلوبهم مرض طائفة، وهم ضُعفاء الإيمان، ويحتمل أن ذلك يرجع إلى موصوف واحد، وهم المنافقون، فوصفهم بالنفاق، ووصفهم أيضاً بأن في قلوبهم مرضاً، لكن في عامة المواضع هو النفاق، والشك، والكفر بالله .

"فَزَادَهُمُ [البقرة:10] يحتمل الدعاء، والخبر".

المُتبادر أنه من قبيل الخبر، والجزاء من جنس العمل، وأما أنه يحتمل الدعاء، فيكون بمعنى أنه يدعو عليهم بزيادة المرض، لكن هذا خلاف المُتبادر - والله أعلم - ويحتمل الدعاء، والخبر معاً، يعني: أن الصيغة صيغة خبرية، مُضمنة معنى الدعاء؛ لأن الدُعاء إنشاء، وهو قسيم الخبر.

"قوله: يَكْذِبُونَ [البقرة:10] بالتشديد، أي يكذبون الرسول ﷺ وقُرئ بالتخفيف، أي: يكذبون في قولهم: آمنا". 

قوله: بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ [البقرة:10] يعني: في دعواهم الإيمان، بما كانوا يكذّبون أيضاً بما يجب الإيمان به، أو بما كانوا يكذّبون من الدعاوى من دعوى الإيمان، وغير ذلك إِذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ ۝ اتَّخَذُوا أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّهُمْ سَاءَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ [المنافقون:1 - 2] فهم كثيرة أيمانهم، والنفاق إنما مبناه على الكذب، سواء كان ذلك النفاق الاعتقادي؛ لأنه يُظهر خلاف ما يُبطن، أو النفاق العملي، فـإذا حدث كذب، وإذا، وعد أخلف[1]قيل للإمام أحمد - رحمه الله -: كيف تعرف الكذابين؟ قال: "بمواعيدهم"[2] فإخلاف المواعيد هو كذب في الواقع، وكذلك إذا أؤتمن خان، هذا يرجع إلى الكذب؛ ولذلك فإن من أهل العلم من قال بأن حقيقة الكذب في القول أن يُخبر عما يكون مُخالفاً، ومُغايراً لما في نفسه، يعني، ولو كان مُطابقاً، وموافقاً للواقع، يعني: لو سُأل أين زيد؟ وهو يعتقد أنه موجود، فقال: مُسافر، ولم يعلم أنه قد سافر فيكون كاذباً بهذا، مع أن الخبر جاء موافقاً للواقع؛ لأنه خالف ما في نفسه، فهذا هو الكذب، وهو أن يُخبر عما هو خلاف ما في نفسه، وهاتان القراءتان على كل حال أيضاً متواترتان (يُكذبون)، و(يَكْذبون) فدل ذلك على أن الكذب سبب للعذاب، وهو أصل النفاق. 

  1. أخرجه البخاري في كتاب الإيمان، باب علامة المنافق برقم: (33)، ومسلم في الإيمان، باب بيان خصال المنافق برقم: (59).
  2. أدب الإملاء، والاستملاء (ص: 40).

مرات الإستماع: 0

لما ذكر الله -تبارك وتعالى- في صدر هذه السورة الكريمة سورة البقرة الفريق الأول وهم أهل الإيمان، وذكر أوصافهم، ثم بعد ذلك ثنى بذكر ما يُقابلهم، وهم أهل الكفر وما هم عليه من الضلالة التي لا ينزعون عنها، وأن الإنذار لا يُجدي معهم؛ لأن الله قد ختم على قلوبهم وعلى سمعهم وجعل على أبصارهم غشاوة فهم لا يؤمنون.

ثم ثلث بعد ذلك بذكر هذه الطائفة وهم كما شبههم النبي ﷺ بقوله: كالشاة العوراء تعور بين الغنمين [1]وهم أهل النفاق، فهم في الظاهر يُظهرون الإسلام فيُحسبون على المسلمين، وفي بواطنهم ينطوون على الكفر بالله -تبارك وتعالى- فهذه الطوائف الثلاث صُدرت بها هذه السورة الكريمة.

الآيات الأربع في أولها في صفات الفريق الأول من أهل الإيمان، وآيتان في صفة الكافرين، ثم بعد ذلك جاء وصف هؤلاء وأطنب في ذكرهم بأوصاف متعددة: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الآخِرِ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ [سورة البقرة:8] من الناس فريق يتردد مُتحيرًا بين المؤمنين والكافرين، يقول بلسانه ما ليس في قلبه، يدعي الإيمان: آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الآخِرِ [سورة البقرة:8] وحالهم لا تدل على إيمان بالله ولا باليوم الآخر، ولهذا نفى الإيمان عنهم، فالله -تبارك وتعالى- نبه بهذه الآية على صفات هؤلاء المنافقين؛ لئلا يغتر بهم أحد من أهل الإيمان، لئلا يغتر بظاهرهم ودعواهم التي ادعوها فيقع بسبب ذلك من الفساد ما لا يُقادر قدره.

فهذه الأوصاف لهؤلاء المنافقين التي يُجلي الله بها حالهم، وظواهرهم، وبواطنهم، كل ذلك من أجل أن يُحترز ويُحتاط؛ لأنهم الفئة الأخطر هم الذين يعرفون جوانب القوة وجوانب الضعف عند المسلمين، هم الذين يعرفون أحوال المسلمين من الداخل فيطلعون على ما لا يطلع عليه الكفار فهؤلاء يُلابسونهم صباح مساء، ويُخالطونهم ويحضرون مجامعهم ويعرفون أهل الإيمان الراسخ من ضعفاء الإيمان، ويعرفون الفئة المؤثرة القوية في الصف المؤمن ويعرفون من هم دون ذلك، فإذا جاء العدو من الخارج فهؤلاء هم عينه وأدلائه عبر التاريخ، يدلون على عورات المسلمين، وعلى جوانب الضعف، فيفتك العدو، ويدلون على من لهم شأن وأثر في الأمة يدلون العدو عليهم، وعلى ما لهم من منزلة ومكانة ونحو ذلك، يُعرفونه بهم تعريفًا كاملاً ثم بعد ذلك العدو يجعلهم هدفًا من أجل ضرب الإسلام والمسلمين في مقاتل، كل هذا يكون على يد هؤلاء المنافقين، ولهذا يُحذر الله منهم، بل نزلت سورة باسمهم وهي سورة المنافقون.

وهذه الآية: وَمِنَ النَّاسِ [سورة البقرة:8] تدل على أن مُجرد الدعوى والقول باللسان لا تنفع صاحبها، فلابد أن يُصدق ذلك القلب، والعمل، فالعبرة بما يكون عليه الإنسان من حال وما ينطوي عليه قلبه من إيمان وخلافه، وما يكون عليه من العمل، أما الدعاوى فلا يعجز عنها أحد.

هؤلاء الذين تكلم الله فيهم وبين فسادهم وشرهم، وكذبهم رب العالمين الذي يعلم السر وأخفى يقولون: آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الآخِرِ [سورة البقرة:8] ونفى الله -تبارك وتعالى- عنهم الإيمان: وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ [سورة البقرة:8] فدل على أن حقيقة الإيمان ليست بمجرد الإقرار باللسان، وهكذا سائر الدعاوى.

الدعاوى سهلة، قد يقول الإنسان بأنه على حق، على إيمان، على سنة، على استقامة؛ ولكن الواقع قد لا يُسعفه ولا يُصدقه، وهكذا فيما يتصل بمُفردات الأعمال القلبية، أو أعمال الجوارح، وما إلى ذلك مما يتصل بالسلوك وغيره فقد يدعي الإنسان أنه صادق، أو أنه على أمانة، أو أنه على خُلق أو أنه كريم أو نحو ذلك؛ ولكن الواقع قد يُكذبه ويرد دعواه، وهكذا في سائر الأوصاف التي يدعيها الإنسان لنفسه إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولاً [سورة الأحزاب:72] وعامة الناس لا يُنصفون من أنفسهم، الإنصاف عزيز ولو وجه إليه الوصف الذي يليق به لغضب، ولكن الحال هي التي تدل على صدق الإنسان من كذبه.

وفي قوله -تبارك وتعالى- هنا: وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ [سورة البقرة:8] تأكيد شديد على عدم إيمانهم، لم يقل وما آمنوا، فما جاء بالفعل، وإنما عدل عنه إلى الاسم بمؤمنين مؤمن هذا اسم، ولم يُعبر بالفعل فلم يقل: وما آمنوا، وإنما: وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ [سورة البقرة:8] فهذا يُخرج حتى ذوات هؤلاء من عِداد المؤمنين، يعني: لم يكتف بنفي الإيمان عنهم فقط؛ بل نفى عنهم أيضًا كونهم في جملة أهل الإيمان، ليسوا من أهل الصف المؤمن، بل هؤلاء نبت طفيلي يعيش على مصالح الأمة وآلامها ويقتات على جسمها وجسدها، كما قال الله -تبارك وتعالى: وَإِذَا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسَامُهُمْ [سورة المنافقون:4] أجسام ما شاء الله، لماذا؟

لأن كل العناية كانت بالأجسام، والذي أوقعهم في النقاق ما هو؟ هو من أجل حفظ المُهج والأموال، فهم مع من غلب كما قال الله : وَلَوْ دُخِلَتْ عَلَيْهِمْ يعني: المدينة مِنْ أَقْطَارِهَا من نواحيها ثُمَّ سُئِلُوا الْفِتْنَةَ لَآتَوْهَا [سورة الأحزاب:14] على هذه القراءة التي نقرأ بها: لَآتَوْهَا يعني: سألوا الكفر على الراجح من أقوال المفسرين بذلوه وَمَا تَلَبَّثُوا بِهَا إِلَّا يَسِيرًا [سورة الأحزاب:14] يعني: لا يحتاج إلى تفكير وطول نظر وتقليب الأمور مُباشرة هو مع من غلب، على دين من غلب، وفي سورة المنافقون:وَإِذَا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسَامُهُمْ [سورة المنافقون:4]. 

أجسام ما شاء الله نامية مُمتدة نظارة، المؤمن لربما يبدوا فيه شيء من التعب من العبادة ومن ألوان البذل والعمل الذي يعمله ابتغاء مرضات الله -تبارك وتعالى- لكن هؤلاء أبدًا، كما قيل: "ترعى وهي رابضة"، جالس هكذا يأخذ من الغنيمة ومن الفيء وما إلى ذلك في عِداد المسلمين في الظاهر، ولكنه لا يُكلف نفسه جُهدًا: وَلَكِنْ بَعُدَتْ عَلَيْهِمُ الشُّقَّةُ [سورة التوبة:42] إذا كان السفر بعيد، الغزو بعيد مع رسول الله ﷺ أحجموا: لا تَنفِرُوا فِي الْحَرِّ قُلْ نَارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرًّا [سورة التوبة:81] هم ليس عندهم استعداد أن يُرهقوا هذه الأبدان وَإِذَا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسَامُهُمْ وَإِنْ يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ [سورة المنافقون:4] كلام جميل، ومُنمق، ومُصفف، ولكنه كملمس الحية أملس ناعم، ولكنه ينطوي على شر فاتك.

وَإِنْ يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُسَنَّدَةٌ يَحْسَبُونَ [سورة المنافقون:4] خُشب هذا الخشب والبليد البعيد يُقال له: لوح لا يفهم كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُسَنَّدَةٌ [سورة المنافقون:4] الخشبة قد تكون هكذا في عمود يُنتفع به، قد تكون في سقف يُنتفع به، لكن هؤلاء نبتة طفيلية هكذا، مُسندة على غيرها، مُتكأة على غيرها، لا تقوم بنفسها، هي فقط تُضيق المكان تحجز مكان ولكن بلا جدوى بلا فائدة -نسأل الله العافية- يدخل ويخرج مجلس رسول الله ﷺ وإذا خرج بكل بلاهة ماذا قال آنفا؟، نزلت آيات: أَیُّكُمْ زَادَتْهُ هَـٰذِهِ إِیمَـٰنࣰا يقوله ساخرًا، يقول: ما رأينا شيء، هذه الآيات من منكم زادته إيمانًا يا شُطار، فهؤلاء هم الشر المحض.

قال: وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ [سورة البقرة:8] فعبر بهذا الاسم وعدل عن الفعل وأكده بالباء للمُبالغة، ولم يقل: وما هم أهل إيمان أو نحو ذلك، وإنما قال: وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ [سورة البقرة:8] مُبالغة في نفي الإيمان عنهم، وتسلط النفي على اسم الفاعل الذي ليس مُقيدًا بزمان؛ ليشمل النفي في جميع الأزمان: وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ [سورة البقرة:8] لأنه لو قال: وما آمنوا، فهذا في الماضي، وما يؤمنون يعني في الحاضر أو في المستقبل: وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ [سورة البقرة:8] مؤمن فجاء النفي هنا على الاسم اسم الفاعل؛ ليشمل ذلك جميع الأوقات، جميع الأزمان وما هم، لا آمنوا في الماضي، ولا هم على إيمان الآن، وليسوا أيضًا بمؤمنين في المستقبل.

وهؤلاء الله -تبارك وتعالى- أخبر عن بواطنهم، وعن هذه المُمارسات والمزاولات التي عليها قِوامهم وهي منشأ تصرفاتهم وأعمالهم: يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ [سورة البقرة:9] يُخادعون الله يعتقدون بجهلهم أنهم يُخادعون الله والذين آمنوا بإظهار الإيمان وإضمار الكفر، وما يخدعون إلا أنفسهم؛ لأن عاقبة هذا الخِداع تعود عليهم لفرط جهلهم، لكنهم لا يشعرون ولا يُحسون بذلك لفساد قلوبهم وانطماس بصائرهم وانعدام شعورهم - كما سيأتي - ومشاعرهم.

فهذه الآية تذكر هذه الأوصاف التي هي مبعث الأفعال والأقوال التي تصدر عنهم أن ذلك مبناه على الخِداع المُخادعة، لكن المُخادعة لمن؟ يُخادعون الله، ابتدأ بذكره -تبارك وتعالى- ؛ لأن مُخادعته أشد وأعظم، وما ظنكم بأحد من الناس من البشر من المساكين من الضعفاء يُخادع ربه، ما حاله؟ وما مآله؟ لا شك أنه إنما يخدع نفسه، فهذه التصرفات وهذه الأعمال التي يُخادع بها الواقع أنه يحفف بها قبره، ويُهلك بها نفسه، ويبحث فيها عن حتفه، فهو يصول ويجول في هلاك نفسه.

ثم انظروا في ما تُفيدة هذه الآية الكريم: يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا [سورة البقرة:9] أن ذلك يُفيد المزيد من الاحتياط والحذر منهم، هؤلاء يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا [سورة البقرة:9] إذا قيل لك فلان مُخادع، فلان صاحب خِداع، فلان ماكر صاحب مكر، مجرد ما تسمع باسمه تحتاط، بمجرد ما تراه تنقبض وتحتاط في كل شؤونك؛ لئلا تقع في حبائله، فهؤلاء ربنا -تبارك وتعالى- يُحذرنا منهم، مهما تجملوا به من الأقوال، إن كان هؤلاء في الجيش فهم يعطون الكفار المعلومات التي يكون بها الضرر على المسلمين، عدد المسلمين، وما معهم من أنواع السلاح، ويُخبرونهم عن قياداتهم، وعن مواقعهم، وما إلى ذلك كل التفاصيل، يُقدمونها بالمجان للعدو؛ لأنهم أعداء فهم يدلون على عورات المسلمين، ولكن كما قال الله : وَمَا يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنفُسَهُمْ [سورة البقرة:9] وهذا يؤخذ منه أن المكر السيء لا يحيق إلا بأهله.

فهؤلاء الذين يُخادعون الله يظنون أنهم قد نجحوا أو غلبوا حينما قُبل ذلك منهم في الظاهر - يعني الإسلام - فحُقنت دمائهم، وأعطوا من الغنيمة أو أعطوا من الفيء أو نحو ذلك الواقع أن هذا الخداع عائد إليهم: وَمَا يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنفُسَهُمْ [سورة البقرة:9] فجاء بأقوى صيغة من صيغ الحصر، التي جاءت بها كلمة التوحيد لا إله إلا لله أقوى صيغة النفي والاستثناء، النفي والاستثناء هذه صيغة الحصر، الحصر يكون بإنما تقول: إنما الكريم زيد، يعني: ليس هناك كريم غير زيد، إنما الشجاع زيد، لكن حينما تقول: لا شجاع إلا زيد، ولا كريم إلا زيد، هذه أقوى في الحصر، حصرت الكرم فيه.

فهنا يقول الله : وَمَا يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنفُسَهُمْ [سورة البقرة:9] فهذا يدل على أن هذه المُخادعة لا يضرون بها إلا أنفسهم، لا يضرون الله، ولا رسوله ﷺ ولا يضرون أهل الإيمان إنما ذلك يعود إليهم، فهؤلاء مثل الذي يلتذ بلعق دمه، القِط الذي يلعق مسن الجزار يتشقق لسانه ويلعق دمه الذي ينزف ثم ما يلبث أن يسقط وكان قبل ذلك يتلذذ بهذا الفعل يظن أنه يلعق دمًا من بقايا لحم في هذا المِسن، وهذا من أعجب الأمور؛ لأن المُخادع عادة كما يقول الشيخ عبد الرحمن السعدي -رحمه الله [2] إما أنه يحصل له مراده من هذه المُخادعة يحصل على بُغيته ومطلوبه، أو يسلم لا له ولا عليه، أما هؤلاء فلا سلامة، ولا حصول مُبتغى، وإنما عاد هذا الخداع عليهم وكأنهم يعملون ما يعملون من المكر لإهلاك أنفسهم، وإضرارها وكيدها؛ لأن الله تعالى لا يتضرر بذلك، ولا أهل الإيمان، وكذلك النبي ﷺ.

فهؤلاء حينما حقنوا دمائهم وأحرزوا أموالهم بهذه الدعوة دعوى الإيمان لم يكن ذلك بضرر على الله ولا على المؤمنين، ولكن الواقع أنه ضرر عليهم استمرؤوا هذا الفعل، كما قال الله -تبارك وتعالى: اتَّخَذُوا أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً [سورة المجادلة:16] يعني: تُرسا، يتقون به ما يوجه إليهم من الاتهامات، تُرس جُنة: فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ [سورة المجادلة:16] فالفاء تفيد التعليل وترتيب ما بعدها على ما قبلها، فصدوا، ما الذي جعلهم بهذا الصدود؟

اتَّخَذُوا أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً [سورة المجادلة:16] هم لما رأوا هذه الأيمان تروج، ويُقبل منهم هذا الحلف استمروا، صدوا هنا بمعنى صد اللازمة، يعني: صدوا في أنفسهم بقوا على النفاق والكفر وتركوا الإيمان، صدوا في أنفسهم، وتكون مُتعدية صدوا غيرهم، صدوا النبي ﷺ وأهل الإيمان عن إقامة حكم الله فيهم بهذه الأيمان الكاذبة، والله ما قلنا، فلم يُقم عليهم الحدود التي يستحقونها حد الردة مثلاً، حينما يسخرون بالنبي ﷺ أو بالقرآن أو نحو ذلك.

وكذلك أيضًا صدوا المؤمنين عن الجهاد، صدوهم عن الإنفاق في سبيل الله، صدوهم عن اتباع النبي ﷺ صدوا الكفار عن الدخول في الإسلام، كل هذه المعاني التي ذكرها العلماء - رحمهم الله - داخلة في هذا المعنى فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ [سورة المجادلة:16] فلم يذكر نوعًا من الصدود وإنما أطلقه، فيدخل فيه جميع هذه الأنواع، فهنا إذا قاموا يوم القيامة فَيَحْلِفُونَ لَهُ كَمَا يَحْلِفُونَ لَكُمْ [سورة المجادلة:18].

الناس يقومون من قبورهم ينفضون التراب عنهم وهؤلاء يقومون ويحلفون الأيمان أنهم على الإيمان، وأنهم لم يقولوا ولم يفعلوا، يظنون أن هذه الأيمان أنها تروج يوم القيامة عند الله، كما قُبلت منهم في الدنيا: يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعًا فَيَحْلِفُونَ لَهُ كَمَا يَحْلِفُونَ لَكُمْ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ عَلَى شَيْءٍ [سورة المجادلة:18] يبعثهم الله جميعًا يجمعهم الطيور على أشكالها تقع، الأسراب يُجمع الناس، أهل النفاق مع بعض، وأهل الإيمان وهكذا، اليهود مع بعضهم، والنصارى مع بعضهم. 

فهنا يبعثهم الله: يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعًا فَيَحْلِفُونَ لَهُ كَمَا يَحْلِفُونَ لَكُمْ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ عَلَى شَيْءٍ [سورة المجادلة:18] يعني: يظنون أن هذا الحلف ينفع، فحتى في يوم القيامة يظنون ذلك، ولذلك حينما يكون الناس على الصراط ينطفأ النور الذي مع المنافقين فيقولون لأهل الإيمان: انْظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ [سورة الحديد:13] كنا معكم في الدنيا قِيلَ ارْجِعُوا وَرَاءَكُمْ فَالْتَمِسُوا نُورًا [سورة الحديد:13] انظر إلى أثر الخداع الذي في الدنيا يُخدعون يوم القيامة يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ [سورة النساء:142] ارْجِعُوا وَرَاءَكُمْ فَالْتَمِسُوا نُورًا فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُورٍ لَهُ بَابٌ بَاطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظَاهِرُهُ مِنْ قِبَلِهِ الْعَذَابُ ۝ يُنَادُونَهُمْ أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ [سورة الحديد:13، 14] كنا معكم في الدنيا نُصلي معكم قَالُوا بَلَى وَلَكِنَّكُمْ فَتَنْتُمْ أَنْفُسَكُمْ وَتَرَبَّصْتُمْ وَارْتَبْتُمْ [سورة الحديد:14] فكان ذلك نتيجة.

تصور على الصراط ظلمة شديدة وأحد من السيف وأدق من الشعرة وتحت الصراط جنهم، ويمشي في ظلام، الإنسان يمشي في أرض فسيحة في الظلام ويخشى أن يسقط، فكيف إذا كان يمشي على صراط وتحته جنهم، وإذا سقط سقط، وبهذه الدقة وبهذه الظلمة، فعند ذلك ينطفأ النور ولا ينفعهم الدعوى السابقة القديمة وما إلى ذلك كل ذلك يتلاشى، كله بسبب كفرهم، ونفاقهم وفجورهم، وهم لجهلهم وحماقتهم وما يحملون من النفوس الغليظة الجافة الجافية لا يشعرون، لا يشعرون أنهم يفعلون ذلك بأنفسهم، نفى عنهم الشعور وهو أول مبادئ الإدراك، فبنفي أول مبادئ الإدراك ينتفي كل إدراك، الشعور هذه البداية نُفيت عنهم، إذا الفقه من باب أولى.

فهؤلاء في ضياع بكل ما تحمل هذه الكلمة من معنى، وهؤلاء في حال من الخزي؛ لأن هؤلاء ليسوا بأصحاب مبدأ، هم ليس لهم مبدأ يُدافعون عنه ويموتون عنه، ويحيون من أجله، هم يحيون من أجل البطن، والدين ليس بمُهم عندهم أينما توجه هذا البطن توجهوا معه، والله المستعان.

 

لما ذكر الله -تبارك وتعالى- الفريق الثالث في صدر سورة البقرة، وهم أهل النفاق وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الآخِرِ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ ۝ يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ [سورة البقرة:8، 9] فهم إنما قالوا آمنا بالله وباليوم الآخر مُخادعة من غير إيقان، ولا إذعان، ولا إقرار، ولا تصديق حقيقي يقوم في قلوبهم.

ثم ذكر العلة العليلة التي أوقعتهم في هذا كله، فقال: فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضًا وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ [سورة البقرة:10] هذا المرض مرض النفاق، الذي مبناه على الكذب الذي يحصل به المُخالفة بين الظاهر والباطن، فهو منشأ هذه العِلل والأوصاب التي مُني بها هؤلاء، فقلوبهم منطوية على الكفر والشك وفساد الباطن.

والمرض غالبًا يُطلق في كتاب الله -تبارك وتعالى- ويُراد به النفاق، وقد يُذكر ويُراد به ضعف الإيمان، وهو أحد القولين في قوله -تبارك وتعالى: إِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ [سورة الأنفال:49] فبعضهم يقول: هذا من باب عطف الأوصاف والموصوف واحد، فالمنافقون هم الذين في قلوبهم مرض، وبعضهم يقول: إن هؤلاء الذين عُطفوا على المنافقين والأصل أن العطف يقتضي المغايرة، أن هؤلاء هم ضعفاء الإيمان، فئة أخرى.

ولكنه في موضع واحد أُطلق المرض وأُريد به الميل المُحرم إلى النساء، مرض الشهوات، وذلك في آية الأحزاب في قوله -تبارك وتعالى: فَلا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ [سورة الأحزاب:32] مريض القلب بالميل المحرم إلى النساء.

فالقلب يصح بالإيمان إذا كان معمورًا بتقوى الله -تبارك وتعالى- ويمرض بالشهوات والشبهات، وما يتفرع عنهما من العِلل والأدواء، وكذلك القلب أيضًا يموت إذا كان خاليًا من الإيمان والتقوى والعمل الصالح، فهؤلاء عاقبهم الله -تبارك وتعالى- فزادهم مرضا؛ إذ الجزاء من جنس العمل هذا في الدنيا، وتوعدهم في الآخرة بالعذاب المؤلم الموجع.

فقوله تبارك وتعالى: فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضًا [سورة البقرة:10] المريض يجد طعم الطعام على خلاف ما هو عليه، فيرى الحامض حلوًا، والحلو مُرًا، وكذلك هؤلاء يرون الحق باطلاً والباطل حقًا، فكما أن المرض الذي يقع للجسد يكون باختلال مِزاج البدن -كما هو معروف- فتتحول عافية الإنسان، فلا يجد طعوم الأشياء كما يجدها الأصحاء، ولا يجد مذاق الطعام كما يجده الصحيح، وكذلك أيضًا هذا الذي قد أُصيب في دينه وإيمانه وقلبه، فصار قلبه مريضًا هذا المرض المعنوي تتحول عنده الأشياء بحسب هذا المرض، فيرى الباطل حقًا؛ لأن بصيرته قد تحولت.

فهذه البصيرة كالمنظار الذي يكون على العين، فإنه يرى الأشياء بحسب هذه الزجاجة، بحسب لونها، بحسب هذه العدسة، فيرى الأشياء صغيرة أو كبيرة، أو يراها ذات ألوان على غير حقيقتها، والعلة ليست في الأشياء، وإنما العلة في هذا النظر، وهذا مكمن الخطورة أن الإنسان حينما يضعف إيمانه ويقل يقينه بسبب ما يُعافس من الشهوات والأهواء، أو ما يصل إلى قلبه من الشبهات التي تورث الشك وتُزعزع اليقين تتحول بصيرته، فيرى الأشياء على غير حقيقتها، فيتغير المعيار عنده والميزان، فيستحسن ما كان يستقبح، ويستقبح ما كان يستحسن، ثم بعد ذلك يُزين الشر والباطل والمُنكر، بل والكفر والضلال في عين هذا الإنسان -نسأل الله العافية.

فهذا خطير، فإذا رأيته وجدته على خلاف ما عهدته من حُسن النظر في الأمور، ومحبة الخير والحق والهدى والنور، فتحول إلى خُفاش أعشاه النهار بضوئه، فلم يعد يرى الحقائق كما كان يُبصرها، وما يستحسن الحق ويقبله، بل تحول الحق عنده إلى باطل كريه، مُر المذاق، فهذه مُصيبة إذا وقعت في قلب الإنسان تحولت عنده المقاييس والموازين؛ ولذلك ينبغي على الإنسان أن يتعاهد قلبه دائمًا، ولهذا جاء عن بعض السلف في معيار الفتنة إذا فُتن الإنسان: أن يستحسن ما كان يستقبح، وأن يستقبح ما كان يستحسن.

يعني: كيف يعرف الإنسان أنه مفتون؟ بأمور كان يُنكرها، وكان يستقبحها، ثم بعد ذلك صار يستحسنها، هي هي لم تتغير، كان يذم أشياء من الأعمال، والأوصاف، والأشخاص، ثم بعد ذلك صار يستحسن ذلك كله، ولم يتغير من ذلك شيء، يعني: لم يتحول هذه الأعمال، أو الأوصاف، أو الأشخاص إلى شيء آخر إلى خير، أو نحو هذا، فهذا هو الخطير، هذه هي الفتنة، هذا هو المفتون الذي قد نُكس قلبه.

ثم أيضًا هذا الإنسان إذا لم يكن إقبال على الحق، وكان قلبه مريضًا؛ فإن الجزاء من جنس العمل، فإن الله يُعاقبه نكاية به فيزداد مرض قلبه، ويبقى من انتكاسة لانتكاسة، ومن حفرة إلى هوة، ولهذا يحتاج العبد دائمًا يُجدد التوبة، وأن يسأل ربه أن يلطف به، وأن يغفر له زلـله، وأن يُريه الحق حقًا، وأن يرزقه اتباعه، وأن يُريه الباطل باطلاً، وأن يرزقه اجتنابه، يخاف على نفسه رَبَّنَا لا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ [سورة آل عمران:8] يخاف الإنسان من أن يزيغ قلبه، فهذا في عالم الانتكاسات التي تسمعون وتشاهدون عبر الأيام والشهور والسنين، هؤلاء ما الذي غيرهم؟ وما الذي حولهم؟ كيف كانوا وإلى أي شيء صاروا؟ ماذا كانوا يقولون؟ ثم بعد ذلك ماذا صاروا يفعلون؟ تغيرت.

قد يبقى للإنسان ظاهر من الصلاح، قِشرة لا زالت تُغلفه، ولكنه منخور من الباطن، يغشى القبائح والكبائر، ويتكلم ويتفوه لسانه بكل مُنكر وقبيح، بعد ما كان يلهج بذكر الله بعد ما كان قلبه رقيقًا شفافًا، بعد ما كان وجهه مشرقًا بالطاعة، تحول إلى وجه مُظلم، فهذا يخاف العبد دائمًا من مثل هذه العاقبة وهذه الحال.

ونحن ندعوا: "ربنا لا تجعل مصيبتنا في ديننا"، هذه المصيبة في الدين، أن يُصاب الإنسان في دينه، إذا أُصيب الإنسان بأدنى علة في بدنه، ذهب وطلب الأطباء، وبدأ الناس يتفقدونه، ويسألون عنه وعن علته ما فعل الله به وبها، ولكنه إذا أُصيب في إيمانه، إذا أُصيب في دينه، لربما لا يسأل لا هو، ولا يسأل غيره عن ذلك، ولربما يكره ويشنأ ويُبغض من تعاهده من أجل ذلك ونصحه بأن يُعالج قلبه وإيمانه.

نأخذ من هذه الآية أن منشأ وسبب ضلال العبد منه، وأن الله -تبارك وتعالى- حكم عدل، فهؤلاء لما كان المرض في قلوبهم زادهم الله مرضا، كما قال الله تعالى: فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ [سورة الصف:5] وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِلَّ قَوْمًا بَعْدَ إِذْ هَدَاهُمْ حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُمْ مَا يَتَّقُونَ [سورة التوبة:115] والله يقول: وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ [سورة البقرة:143] الصلاة إلى بيت المقدس، وكذلك أيضًا سائر الأعمال، فالعبرة بعموم اللفظ والمعنى لا بخصوص السبب، فالله بالناس رؤوف رحيم، ولكن العبد يجني على نفسه.

وتأمل قوله -تبارك وتعالى: فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ هذا المرض كما يقول القُرطبي: سكونهم إلى الدنيا، وحبهم لها، وغفلتهم عن الآخرة وإعراضهم عنها [3] لأن الذي أوقع المنافقين في هذا هو هذا الحرص الشديد على استبقاء المُهجة، وإحراز المال، فيبيع دينه ومبادئه من أجل هذا الهدف الحقير، ليس له مبدأ، فالتعلق الشديد بالدنيا أوقعهم في ذلك فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضًا وكلهم إلى أنفسهم، وجمع عليهم هموم الدنيا، فلم يتفرغوا من ذلك إلى اهتمام بالدين، الدين لا يرفعون به رأسًا، ولا يُعنون به.

وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ وقد نقل عن الجُنيد قوله: عِلل القلوب من اتباع الهوى، كما أن علل الجوارح من مرض البدن[4].

ثم قال الله -تبارك وتعالى: وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لا تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ [سورة البقرة:11] إذا نُصحوا، إذا وجه إليهم الخطاب من قِبل أهل النُصح والشفقة لا تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ كفوا عن الفساد والإفساد في الأرض بالكفر والمعاصي، وإفشاء أسرار المؤمنين، وموالاة الكافرين، قالوا كذبًا وزورًا وجدالاً بالباطل: إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ بهذه الصيغة التي تفيد الحصر، حصروا أنفسهم في الصلاح، مُصلحون، وهم أهل الفساد حقيقة، وقد ذكر شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- أخذًا من هذه الآية: أن كل من عمل بمعصية الله فهو مُفسد، قال: والمحرمات معصية لله، فالشارع ينهى عنه ليمنع الفساد ويدفعه، ولا يوجد قط في شيء من صور النهي صورة ثبتت فيها الصحة بنص، ولا إجماع[5].

يعني: فيما نهى الله عنه، لا يوجد في شيء نهى الله عنه ما ثبت فيه الصحة لا بنص ولا إجماع، هذا الذي نهى الله عنه هو شر وفساد، فهذه المعاصي هي فساد والوالغون فيها والغون في الفساد، والمُذيعون لها والناشرون لها هم مُذيعون للفساد، هؤلاء دهاقنته، ومروجوه في المجتمع.

ومن أعظم البلوى أن يُزين للإنسان الفساد حتى يرى إنه إصلاح، انظروا إلى هؤلاء يقولون: إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ ويؤخذ من هذه الآية أنه ليس كل من ادعى شيئًا يصدق في دعواه، هؤلاء ادعوا هذه الدعوة العريضة، وبهذا الأسلوب الذي يُفيد الحصر بـ "إنما" وهي من أقوى صيغ الحصر، فالله كذبهم أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ رد عليهم وأكذبهم بهذه الصيغة القوية، أيضًا التي تُنادي عليهم بالفساد ألا، وجاء بـ "إن" المؤكدة إنهم، وجاء بـ "هم" ضمير الفصل الذي يفيد تقوية النسبة بين طرفي الجملة، وطرفي الكلام هم، وأدخل "أل" على المُفسدون، كأن هؤلاء قد حصلوا الوصف الكامل من الإفساد، كأنه لا مُفسد إلا هؤلاء أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ.

فهذا رد من الله -تبارك وتعالى- عليهم ليس بقول أحد من البشر يُخطئ ويُصيب، أو يتحامل، أو نحو ذلك، أو بينه وبينهم سوء في فهم، أو في معاملة، أو في علاقة، أو غير ذلك، فليس كل ما زينته النفس لصاحبها يكون حسنًا والله يقول: أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَنًا فَإِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ [سورة فاطر:8].

فالقضية لا ترجع إلى الأذواق، كما لا ترجع إلى الدعوى العريضة التي يدعيها المُفسد، ويقول: أنا مُصلح، وإنما المعيار والميزان هو هذا الوحي الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه، ولا من خلفه، هذا القرآن وما يشرحه من سنة رسول الله ﷺ فبه توزن الأعمال، والأقوال، والأحوال، ويتبين المُحق من المُبطل، والمُصلح من المُفسد.

ثم تأمل أيضًا هذه الصيغة التي عبروا بها: إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ صيغة الحصر والقصر، قصر الموصوف على الصفة، فهذا كأنهم يقولون: إن شأننا ليس إلا الإصلاح، وإن حالنا مُتمحضة عن شوائب الفساد، وهم أكثر الناس فسادًا، وإفسادًا.

وقد أحسن من قال: أصعب الحرام أوله، ثم يسهل، ثم يُستساغ، ثم يؤلف، ثم يحلو، ثم يُطبع على القلب، ثم يبحث عن حرام آخر. وهكذا، نسأل الله العافية.

أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلَكِنْ لا يَشْعُرُونَ [سورة البقرة:12] هذا الذي يفعلونه ويزعمون أنه إصلاح هو عين الفساد والإفساد، لكن بسبب مُكابرتهم، وطمس بصائرهم، لا يشعرون، لا يُحسون، فهنا أكد على هذا الوصف الذي وصفهم به أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلَكِنْ لا يَشْعُرُونَ فرد بهذا الرد البليغ على قولهم: إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ حيث قصروا أنفسهم على هذا الوصف، فجاء الرد، فبدأ بجملة استئنافية اسمية للدلالة على الثبوت، أن هذا الوصف ثابت فيهم الإفساد أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ حيث جاء بهذه الصيغة وافتتحها بألا التي تُفيد التنبيه إلى تحقق ما بعدها، وإن التي للتأكيد وتقرير النسبة، وأتى بضمير الفصل - كما سبق - كل هذا من أجل التأكيد على أن كل هؤلاء هم أهل الشر والفساد والإفساد.

ونأخذ من هذه الآية: أن العمل السيء يُعمي البصيرة، فلا يشعر الإنسان بالأمور الظاهرة، نسأل الله العافية؛ لقوله تعالى: وَلَكِنْ لا يَشْعُرُونَ يعني: هو مُفسد، ولا يشعر أنه مُفسد، يُكابر في هذه القضية مع أن الإفساد أمر واقع مُتحقق في الخارج، يراه كل أحد، وهؤلاء لا يشعرون لما حصل عندهم من التبلد التام، والعمى الكامل للبصائر؛ فانعدم الشعور عندهم، ولذلك تجد الإنسان أحيانًا يُمعن، وأهل القلوب الحية يعجبون من جُرأته على ربه -تبارك وتعالى- وكيف لا يرعوي، ولا يتوب، ولربما كان في حال من المرض المُشفي على الهلكة، أو كان في حال من الضعف والعجز وتقادم العمر الذي قد انقرض بالفساد والإفساد، والنفاق ومُحادة الله -تبارك وتعالى- وتقول: ألا يتوب هذا، ماذا بقي؟! ألا يرجع إلى الله -تبارك وتعالى- في لحظاته الأخيرة وأيامه الأخيرة؟!، هو يعلم أنه سيموت والأطباء يقولون لم يبق لك شيء، والأعمار بيد الله، وتقول: ألا يتوب؟! ألا يُحاسب نفسه ويُراجع؟!

هو انعدم الشعور عنده، هذا يتحدث عنه أصحاب القلوب الحية، يقولون: ألا يتوب؟ لكن هو لم يعد يشعر، فما لجرح بميت إيلام، إن قد مات عضو من أعضائه، وهذا العضو يُصيبه الجدار، ويُصيبه كل شيء يُدميه، أو يجرحه، أو غير ذلك، ولا يتحرك، تقول: ألا يشعر؟ هو لا يشعر؛ لأن هذا العضو ميت، فكيف إذا كان الموت في القلب؟

فهذا -نسأل الله العافية- يلهم المُنكر والمال الحرام، ويفعل أنواع القبائح والفجور والكبائر والفواحش وهو يضحك بملء فيه، والمؤمن لربما وقعت منه الزلة، أو الكلمة، أو النظرة، أو غير ذلك، ويشعر أنه جبل يكاد يسقط عليه، ولا يدري العقوبة تأتي من أين؟ من أين تقع العقوبة؟ من أين تأتيه؟ من هنا، أو من هناك، ينتظر بس العقوبة متى تصل؟ ومن أي نوع تكون؟

وذاك يعمل الفواحش والكبائر، والمصائب، ويضحك بملء فيه، يشرب الأسطال، ويأكل الأرطال، وقلب ميت يتقلب في نِعم الله ويرعى كالبهيمة، ويتكلم بالكُفر والاستهزاء والسخرية من آيات الله -تبارك وتعالى- وهو يضحك لا يشعر، فهذا حينما يموت القلب ينتفي الشعور، بل ويتعجب ويقول ماذا ترى، ماذا ترى؟! لأنه لا يرى شيئًا، ماذا ترون؟ 

قال الله -تبارك وتعالى- عن أهل النفاق بعد أن بين وصفهم: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الآخِرِ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ ۝ يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ ۝ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضًا وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ ۝ وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لا تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ ۝ أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلَكِنْ لا يَشْعُرُونَ [سورة البقرة:8، 12].

هذا كان جوابهم إذا قيل لهم لا تفسدوا في الأرض.

فما جوابهم إذا نُصحوا، ووجه إليهم الخطاب بأن يؤمنوا إيمانًا صحيحًا كما آمن أهل الإيمان من صحابة رسول الله ﷺ ؟ وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا كَمَا آمَنَ النَّاسُ قَالُوا أَنُؤْمِنُ كَمَا آمَنَ السُّفَهَاءُ أَلا إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهَاءُ وَلَكِنْ لا يَعْلَمُونَ [سورة البقرة:13] إذا قيل لهؤلاء المنافقين آمنوا كإيمان الصحابة الإيمان الصحيح الذي يكون إقرارًا وتصديقًا وإذعانًا، وإيقانًا بالقلب، مع الإقرار باللسان، والعمل بالجوارح والأركان، استنكفوا، وقالوا: أَنُؤْمِنُ كَمَا آمَنَ السُّفَهَاءُ كما آمن ضعفاء العقول، فنكون نحن وهم في السفه سواء، فرد الله -تبارك وتعالى- عليهم بأن السفه متوجه إليهم، بل هو مقصور عليهم، وهم لا يعلمون أن ما هم فيه هو الضلال والسفه والخُسران.

فهذه الآية يؤخذ منها من الهدايات: أن من الحكمة في الدعوة إلى الله -تبارك وتعالى- أن يُذكر للمدعو والمُخاطب والمُطالب بالإيمان، أو التزام شرائع الله -تبارك وتعالى- وحدوده، أن يُذكر له من استجاب؛ ليكون له ذلك أسوة ومُنشطًا، ومقويًا لقلبه ونفسه من أجل الامتثال، فإذا قيل للإنسان افعل كما فعل الآخرون؛ حيث سلكوا هذا الطريق والتزموا شرائع الله -تبارك وتعالى- فيكون ذلك أدعى للقبول والامتثال؛ لأن النفوس قد جُبلت على تشبه بعضها ببعض، كما قالوا: الناس كأسراب القطا، جُبلوا على تشبه بعضهم ببعض، فإذا رأى في الخارج من آمن؛ فإن ذلك يكون دعوة صامتة للإيمان، فإذا وجد من يدعوه إليه، فإن ذلك يكون مقويًا لهذا الداعي الذي يراه في الخارج مع ما يوجد في نفس الإنسان من مقتضى الفطرة، وما يوجد من داعي الله -تبارك وتعالى- في نفس المؤمن.

فهؤلاء خوطبوا بمثل هذا آمِنُوا كَمَا آمَنَ النَّاسُ [سورة البقرة:13] لا داعي للتلون، ولا داعي لمثل هذا الكذب الذي ادعوا معه الإيمان مع أن ذلك لا حقيقة له.

ويؤخذ أيضًا من هذه الآية: أن الحكمة كمال النظر، وحُسن النظر في الأمور، إنما يكون ذلك بالإيمان بالله -تبارك وتعالى- والاستقامة على صراطه المُستقيم، ولزوم شرعه، هذا هو الحصافة، وكمال الرأي، وحُسن النظر، وكمال العقل أن يكون الإنسان بهذه المثابة، أما من تنكب الطريق، وأعرض عن الإيمان، وخالف شرع الله -تبارك وتعالى- فهذا هو السفيه الذي لا يعرف مصلحته، الذي لا يجاوز نظره أنفه، فنظره قصير، ينظر إلى مطامع قريبة، إلى حظوظ عاجلة، إلى شهوات مُتقضية، ولكنه لا ينظر إلى المدى البعيد هناك الدار الآخرة.

ولذلك ذكر العلماء - رحمهم الله - أمثالاً لهذه القضية، من ذلك: ما ذكره ابن حزم الأندلسي -رحمه الله- مثّل هذا بطريقين:

أحدهما: ضيق، ولكنه يُفضي إلى موضع واسع فسيح، يلتذ الإنسان بالوصول إليه والإقامة به.

والآخر: واسع، ومليء بمُشتهيات النفوس ومُتطلباتها، ولكنه يُفضي إلى دار ضيقة كأيبة.

فما هو مُقتضى العقل؟ ما هو حُسن النظر في مثل هذا؟ الذي يختار الطريق الواسعة التي تُفضي به إلى موضع في غاية الضيق، يُقيم فيه أبدًا، هذا لا عقل له، ولا رأي عنده، أما الذي يؤثر سلوك الطريق الضيقة التي فيها ما فيها من العنت والمشقات حتى يُفضي به ذلك إلى قصور واسعة، ونعيم مُقيم ولذات لا تنقضي، يعيش فيها أبدًا، هذا الذي يقتضيه حُسن النظر.

فهذه الحياة الدنيا وما فيها من الشهوات هي سجن المؤمن، يحتاج إلى صبر قليل، ولا يدري متى يُقال له ارحل، فإذا صبر قليلاً أفضى به ذلك إلى روح وريحان، وجنة عرضها السماوات والأرض.

أما إذا توسع في هذه الدنيا، وترهل مع لذاتها وشهواتها، ومطامح النفوس فيها؛ فإن ذلك يُفضي به بعد ذلك إلى ضيق وعذاب، وألم وحسرات لا تنقضي.

هذه هي الحقيقة التي يحتاج المرء أن يُدركها إدراكًا صحيحًا، ويعمل بمُقتضاها، الشهوات التي نحبس النفوس عنها، فِطام النفوس عن هذه اللذات المُحرمة هو هذا الطريق الضيق الذي يُفضي بك بعد ذلك إلى السعة، ومن توسع اليوم بالمحرمات كان ذلك سببًا لضيق يجده في عاقبته ومآله ومصيره.

فالسفيه هو الذي لا يعرف المصلحة الحقيقية، فيؤثر ما يضره على ما ينفعه، فمثل هذا يحتاج إلى حجز عن هذه المقارفات من أجل أن يسلك الطريق الصحيح.

هؤلاء أهل النفاق يستنكفون حينما يُخاطبون بالإيمان أَنُؤْمِنُ كَمَا آمَنَ السُّفَهَاءُ هذا استفهام إنكاري يقصدون به الاستنكاف والاستهزاء، فهم يتبرؤون من الإيمان على أبلغ وجه، باعتبار أنهم لا يريدون الاستواء مع هؤلاء الذين وصموهم ووصفوهم بالسفه، وهذا كما هو ظاهر يدل على كِبر وغطرسة، وتعالٍ على الحق وأهله، والنبي ﷺ حينما فسر الكبر قال: هو بطر الحق، وغمط الناس [6] بطر الحق، يعني: رد الحق، وغمط الناس، يعني: احتقار الناس، هو لا يرى الناس إلا أمثال الذر، وهو الذي له شأن وفهم، وعقل ومنزلة، فهذا قد يؤدي به هذا الكِبر إلى رد دعوة الرسل -عليهم الصلاة والسلام- كما فعل اليهود، وكما فعل كثير من الكفار، فكانوا يستنكفون من اتباع النبي ﷺ وبحثوا عن اسم لربما تنقبض منه النفوس: ابن أبي كبشة، فقالوا: قد أمِر أمر ابن أبي كبشة أن يخافه ملك بني الأصفر.

ابن أبي كبشة، لم يقولوا محمد بن عبد الله الاسم المعروف، ابن أبي كبشة، هكذا الإسقاطات؛ لإيجاد ما يكون سببًا لانقباض النفوس عن القبول والاتباع والاقتداء، هؤلاء الكفار الذين قالوا: لَوْلَا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ [سورة الزخرف:31] يعني: هذا اليتيم، لماذا يُختار ليكون هو النبي؟

وفرعون كان يقول لقومه الذين استخفهم: أَمْ أَنَا خَيْرٌ مِنْ هَذَا الَّذِي هُوَ مَهِينٌ وَلا يَكَادُ يُبِينُ [سورة الزخرف:52] هكذا الاحتقار والتكبر، هذا الاحتقار، وهذا التكبر أوقع الكثيرين قد لا يملكون مُلك فرعون، ولكنهم أُعجبوا بعلوم، أو أُعجبوا بذكاء، أو بعقول لم تُسعفهم؛ ولذلك ينبغي أن نُدرك جيدًا أن العقل قد يكون جناية على صاحبه، وأن الذكاء قد يكون جناية على صاحبه، فهم أوتوا ذكاء، ولم يأتوا زكاء، كما قيل عن الفلاسفة، وكثير من المُتكلمين ممن ضلوا عن الاعتقاد الصحيح، كانوا من أذكياء العالم، لكن هذا الذكاء لم يُسعفهم.

واليوم تجد الكثيرين ممن قد يكون له فضل ذكاء، فيترفع عن أن يكون أسوة غيره، فيكون مُقتديًا، مُتبعًا، مُلتزمًا شرائع الله مُهتديًا بنصوص الوحي من الكتاب والسنة، كما كان عليه طوائف من أهل الكلام الذين كانوا يستنكفون من اتباع النصوص، ويسمون أهل السنة، وأهل الحديث بالحشوية، يعني: هم في حشو الناس، أو أنهم أصحاب حشو، فهؤلاء في نظرهم أنهم لا يفهمون، ولذلك كانوا يقولون عن الصحابة  كما قال عمرو بن عُبيد المُعتزلي، يقول عن عبد الله بن عمر : بأنه حشوي، إلى هذا الحد؟!

وصفوهم بهذا، كأنهم في حشو الناس، كأنهم ليسوا بأهل تحقيق؛ ولذلك إذا تلطف الواحد من أولئك واعتذر لأصحاب رسول الله ﷺ يقول: قد شغلوا بالجهاد، والغزو مع رسول الله ﷺ ولم يتفرغوا لتمحيص هذه المعاني، يعني: حتى جاء هؤلاء فتفرغوا لها؛ ولهذا تجد في عباراتهم أن مذهب السلف أسلم، ومذهب الخلف أعلم وأحكم، عندهم أن مذهب السلف هو التفويض، كانوا يعتقدون أن السلف مفوضة، ولم يكن السلف كذلك، كانوا يعتقدون أن السلف فوضوا معاني هذه النصوص في الصفات لله -تبارك وتعالى- ثم جاء هؤلاء من أهل الكلام فحققوا المعاني بزعمهم.

مثل هؤلاء لم تنفعهم عقولهم، وقد ذكرت في بعض المناسبات ما هم فيه من الحيرة، وما كانوا يقولون عند موتهم، الواحد منهم يبكي، ويضع الملحفة على وجهه، ويقول: لا أدري ما أعتقد، والآخر يقول:

نهاية إقدام العقول عِقال وغاية سعي العالمين أذى ووبال
ولم نستفد من بحثنا طول عمرنا سوى أن جمعنا فيه قيل وقالوا
وكم من جبال على شرفاتها رجال فزالوا والجبال جبال

هذا الذكاء، وهذا الحِذق، وهذا الفهم بزعمهم أودى بهم إلى هذه الحال.

واليوم تجد لربما كثيرًا من هؤلاء الفتية الذين لربما يتمتعون بشيء من الذكاء، فلا يريد الواحد منهم أن يكون كغيره من الناس من آحاد طلاب العلم، يقرأ النص، ويبحث عن النص الشرعي، والحديث والآية، وما أشبه ذلك، وما عرفوا قدر الآيات والأحاديث، وما فيها من الهدايات والمعاني البديعة العجيبة، والحِكم البالغة، فيظنون أن الهدايات والمعاني هي في قول فلاسفة معاصرين في كتب تُعرب، ثم تُنقل على عِلاتها، فيأتون بهذه العبارات، قال فلان، وقال فلان، من هؤلاء الفلاسفة الغربيين.

ويُرددون كلامًا أحسن حالاته أنه كلام إن كان من قبيل الحق، فهو يحمل قشة من المعنى، تجد ما هو أعمق، وأنفع وأبرك أكثر بركة منها في بعض آية، وهذا يبني كتابًا كاملاً في هذه القضية التي يُدندن حولها، ويدور حولها، وأقول هذا الكلام من واقع معرفة في بعض الكتب، ولست ولله الحمد من المُكثرين، ولكني أحيانًا إذا أردت أن أتحدث عن موضوع، أو نحو ذلك حاولت أن أقرأ كل ما كُتب فيه، فيكون من جملة هذه الكتابات تلك الكتب المُترجمة، التي والله يا إخوان إني أُشفق على مؤلفيها، وإن كانوا من الكفار أرحمهم، معنى قشة، معنى ضحل.

والله يقول: وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ أَنْ صَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ أَنْ تَعْتَدُوا [سورة المائدة:2] ويقول: اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى [سورة المائدة:8] ويقول: وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا [سورة المائدة:8] فالعدل مطلوب مع العدو، والصديق، والمؤمن والكافر، فنحن لا نغمط الناس حقهم، لكن بالنظر إلى الهدايات والمعاني التي في القرآن، وما في الوحي الذي يشرحه من سنة رسول الله ﷺ هذا لا شيء، الكلام الطويل الذي يُكثرون منه.

فأقول: إذا كان هذا الذكاء لا يُسعف صاحبه فيرد الوحي من أجل أن يكون له مزية على غيره كما فعل أسلافه من أهل الكلام، الذين قال عنهم شيخ الإسلام -رحمه الله- حينما تحدث عن طريقة الحِوار والرد والمناقشة، والمُناظرة بأنه يُرد من أقرب طريق، وبنصوص الوحي، وما أشبه ذلك، يقول: لكن من النفوس ما يكون مريضًا، مُعتلاً، فلا ينفع معه إلا الدواء المُر لاستخراج علته، فمثل هذا قد لا يقبل أن تورد عليه النصوص، قال الله، قال رسوله ﷺ فيمكن أن يُرد عليه، وأن يُجادل بعبارات ومُصطلحات وألفاظ صعبة وعِرة المسالك، فلربما يقبل مثل هذا؛ لأنه يريد أن يكون له مزية على غيره وأن يُخاطب بخطاب لا يفهمه عامة الناس، أو طلاب العلم، هذا الذكاء يضر صاحبه.

فالذكاء يضر أحيانًا، يضر أحيانًا في هذا، يضر أحيانًا فيما يورثه أحيانًا من فساد العلاقات الاجتماعية، أنه يتعامل مع الآخرين بشيء من الترفع والاستنكاف والاستكبار، قد يضر المرأة أحيانًا، فترد الأكفاء باعتبار أنها ذكية، وأنها تملك ذكاء خارقًا، أو نحو ذلك، كل ما تقدم لها شخص ردته بحاجة أنها تريد من يساويها في الذكاء وتبقى.

والأخطر من هذا كما قلت أن يُرد الحق بسبب هذا الذكاء، فهؤلاء الذين ردوا دعوة الرسل -عليهم الصلاة والسلام- ماذا كانوا يقولون؟ وَاتَّبَعَكَ الأَرْذَلُونَ [سورة الشعراء:111] وَمَا نَرَاكَ اتَّبَعَكَ إِلَّا الَّذِينَ هُمْ أَرَاذِلُنَا بَادِيَ الرَّأْيِ [سورة هود:27] فكانوا ينظرون إلى هؤلاء أنهم لا يفهمون.

وهكذا في قول بعض هؤلاء الكفار لَوْ كَانَ خَيْرًا مَا سَبَقُونَا إِلَيْهِ وَإِذْ لَمْ يَهْتَدُوا بِهِ فَسَيَقُولُونَ هَذَا إِفْكٌ قَدِيمٌ [سورة الأحقاف:11] يعني: هم يعتقدون أنهم لفضلهم في ذكائهم وفهمهم إن كانوا يفهمون أن لو كان في هذا من الخير ما فيه لما سبقهم إليه هؤلاء السُذج البُسطاء، فهؤلاء السُذج البُسطاء هم الذين أفضت بهم سذاجتهم وبساطتهم إلى سعادة الدنيا والآخرة.

وأحيانًا يكون هذا الاحتقار بسبب الشهادات العالية التي يُحصلها الإنسان، فيحتقر الحق ممن جاء به، ولا يقبل من الناس شيئًا، أحيانًا يكون بحِذق في بعض العلوم، فلا يرى الناس شيئًا؛ ولذلك تجدون في كلام بعض أهل العلم كالإمام أحمد وغيره لربما بعض العبارات التي قد يُفهم منها كراهية التعمق في بعض علوم الآلة كاللغة؛ لأن ذلك قد يورث صاحبه شيئًا من الزهو والترفع، فإذا تكلم مُتكلم عنده رأى أن كلامه ليس بشيء؛ لأن هذا الكلام لم يكن بالقوالب التي تليق بمثله أن يُخاطب بها، هكذا بزعمه، فيُرد الحق بسبب هذا، يقيس الناس بحسب ما يرى من حذقهم في كلامهم وخطابهم وصحة منطقهم من جهة القوالب اللفظية فقط لا من جهة المضامين والمعاني، فهذا خطير.

وانظروا ماذا قال الله -تبارك وتعالى: أَلا إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهَاءُ وَلَكِنْ لا يَعْلَمُونَ [سورة البقرة:13] جاء بهذه الصيغة أَنُؤْمِنُ كَمَا آمَنَ السُّفَهَاءُ أَلا إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهَاءُ فجاء بأداة التنبيه هذه (ألا) وجاء بـ "إن" المؤكدة، وضمير الفصل بين طرفي الكلام؛ ليؤكده هُمُ السُّفَهَاءُ وأدخل على السفهاء "أل" التي تُشعر بالاختصاص، أو الحصر كأنهم حصلوا الوصف الكامل من السفه وَلَكِنْ لا يَعْلَمُونَ [سورة البقرة:13].

لاحظ هنا: وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا كَمَا آمَنَ النَّاسُ قَالُوا أَنُؤْمِنُ كَمَا آمَنَ السُّفَهَاءُ أَلا إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهَاءُ وَلَكِنْ لا يَعْلَمُونَ [سورة البقرة:13].

فهنا نفى عنهم العلم، وفي الإفساد: وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لا تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ ۝ أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلَكِنْ لا يَشْعُرُونَ [سورة البقرة:11، 12] لاحظ في الإفساد قال: لا يشعرون، وهنا في السفه قال: لا يعلمون، فما الفرق بينهما؟

يمكن أن يُقال -والله تعالى أعلم- بأن الفساد لما كان ظاهرًا يراه كل أحد فهو ملموس يُدرك بالحواس أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلَكِنْ لا يَشْعُرُونَ [سورة البقرة:12] فالفساد أمر مُدرك بالحواس يشعر به كل أحد، لكن هؤلاء لتبلد إحساسهم صاروا لا يشعرون، مع ظهوره وانكشاف فسادهم فهو ظاهر لكل أحد، ومع ذلك لا يشعرون.

أما السّفه فإنها قد تظهر آثاره سوء التصرف أن يختار الإنسان غير الأنفع له، غير الأصلح أن يبحث عن أشياء تضره فيُقبل عليها، فهذا سفه، فهذا إنما يُدرك بآثاره، فهذا يحتاج إلى علم من أجل أن يُميز به الإنسان بين ما ينفعه وما يضره، فقال: أَلا إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهَاءُ وَلَكِنْ لا يَعْلَمُونَ [سورة البقرة:13] هو لا يعلم أنه سفيه، ولو كان يعلم ما ينفعه مما يضره لأقبل على الإيمان، لكنه لا يعلم، فظن أن هذا الإيمان الذي قبله المؤمنون وسلكوا طريقه أنه هو السفه، وما علم أنه هو السفيه لكنه قد أوغل بجهله فصار في عمى عن ما ينفعه وأقبل واشتغل بما يضره، هذا هو حاله، بينما هم في الإفساد وَلَكِنْ لا يَشْعُرُونَ فالإفساد ظاهر، مُدرك بالحواس، فهؤلاء لا يشعرون به، والله المستعان.

  1.  أخرجه أحمد في المسند، برقم (4872)، وقال محققوه: "إسناده ضعيف". 
  2.  انظر: تفسير السعدي (ص: 42)، (ص: 210).
  3.  تفسير القرطبي (1/ 197). 
  4.  المصدر السابق. 
  5.  مجموع الفتاوى (29/ 283). 
  6.  أخرجه مسلم، كتاب الإيمان، باب تحريم الكبر وبيانه، رقم: (91). 

مرات الإستماع: 0

الله -تبارك وتعالى- يذكر فيها أوصاف المنافقين، وبعد أن تم ذكر تلك الأوصاف، بين الله -تبارك وتعالى- حقيقة الحال التي اختاروها لأنفسهم، وأن هؤلاء الذين كانوا يعتقدون أنهم على شيء من الحصافة والفِطنة، وأن أهل الإيمان هم السفهاء أَنُؤْمِنُ كَمَا آمَنَ السُّفَهَاءُ أَلا إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهَاءُ وَلَكِنْ لا يَعْلَمُونَ [سورة البقرة:13] فالله -تبارك وتعالى- يقول عنهم هنا: أُوْلَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدَى فَمَا رَبِحَتْ تِجَارَتُهُمْ وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ [سورة البقرة:16] هؤلاء أهل النفاق باعوا أنفسهم في صفقة خاسرة، فاختاروا الكفر، وتركوا الإيمان، فكانت صفقتهم في غاية الخسارة والغبن، وهذا هو الخُسران الحقيقي، وهؤلاء أبعد ما يكون الواحد منهم عن الاهتداء، وهذه حاله.

تأمل قول الله -تبارك وتعالى: أُوْلَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدَى [سورة البقرة:16] جاء هنا بالإشارة إلى البعيد؛ لبُعد حال هؤلاء عن الهدى؛ لأنهم في منزلة من السفول والانحطاط سحيقة، فجاءت الإشارة بذلك، كما يقول بعض أهل العلم، والعلم عند الله تعالى.

ثم تأمل كيف عبّر عن هذه الحال بأنهم اشتروا، فالله -تبارك وتعالى- قد سمى المُعاملة معه تجارة فَمَا رَبِحَتْ تِجَارَتُهُمْ [سورة البقرة:16] هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ [سورة الصف:10] وسمى ذلك بيعًا فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ [سورة التوبة:111] وسماه تجارة، وسماه شراء اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدَى [سورة البقرة:16] اشْتَرَوُا الْكُفْرَ بِالإِيمَانِ [سورة آل عمران:177].

وكذلك أيضًا سمى الخسارة في هذه المعاملة سماها خسارة، وسمى يوم الجزاء والحساب: بيوم التغابن، والغبن في الأصل إنما يكون في البيع والشراء ونحوهما.

فهؤلاء كانوا في غاية الغبن؛ وذلك أن ربنا -تبارك وتعالى- أعطى كل واحد رأس مال، هذه الأنفاس، هذا العمر ليتجر مع ربه -تبارك وتعالى- بالأعمال الصالحة، فهؤلاء جدوا واجتهدوا في تحصيل المنازل، في الدرك الأسفل من النار، وأهل الإيمان جدوا واجتهدوا في تحصيل المنازل العالية في الجنة، فدخل أهل الإيمان الجنة، وأيضًا أورثهم الله -تبارك وتعالى- منازل أهل النار التي في الجنة، وأولئك أدخلهم الله النار، وأورثهم أيضًا منازل أهل الجنة التي في النار.

فهذا لا شك أنه غاية في الغبن، فهؤلاء أهل النفاق رغبوا في الضلالة رغبة المشتري للسلعة، الذي يكون من رغبته فيها أنه يبذل فيها الأثمان والأموال، وهذا تصوير لشدة إقبالهم على الضلال والكفر والانحراف، فجعل الضلالة التي هي غاية الشر كالسلعة، وجعل الهدى الذي هو غاية الصلاح بمنزلة الثمن اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدَى فَمَا رَبِحَتْ تِجَارَتُهُمْ [سورة البقرة:16].

مع أن هؤلاء لم يكونوا على هدى، فبذلوه مُقابل أخذ الضلالة، ولكن من أهل العلم من يقول: إن ذلك بتركهم نور الفطرة، فكل مولود يولد على الفطرة، وأحسن من هذا -والله تعالى أعلم- أن يُقال: إن إيثارهم الضلالة على الهدى هو بهذه المثابة اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدَى فهذا الاختيار منهم والإيثار للضلالة هو بمنزلة الاشتراء، وإنما يشتري الإنسان ما يرغب فيه، فهؤلاء لما كانت فِطرهم قد تدنست، وفسدت، صارت نفوسهم تُقبل على القبائح والرذائل، كالجُعلان تدفع بآنافها النتن، فهذا حيث تنتكس الفِطر.

كما أن هذه الآية أيضًا تدل على الإنسان قد يتصور أنه على حال من التمام والكمال، والاستقامة في الحال والعمل، ولا يشعر بما هو فيه من الإساءة والضياع، فانظر إلى هؤلاء، كيف اشتروا بالضلالة بالهدى؟ ظنًا منهم أنهم على صواب، وأنهم رابحون؛ ولهذا قال الله -تبارك وتعالى: فَمَا رَبِحَتْ تِجَارَتُهُمْ وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ [سورة البقرة:16].

ومثل هذا التركيب يدل على العموم، ما ربحت بحال من الأحوال، وبصورة من الصور، فهم خاسرون خاسرة مُحققة من كل وجه حتى في الدنيا، حيث ظنوا أنهم قد أحرزوا أموالهم، وحقنوا دماءهم، فهم ينغمسون في الضلالة، وهم مُتحققون بالخسارة، وكذلك أيضًا: وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ يعني: بحال من الأحوال.

فَمَا رَبِحَتْ تِجَارَتُهُمْ وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ فهم لم يكونوا على شيء من الاهتداء، لا في هذا الاختيار، ولا فيما هم عليه من الاعتقاد، ومع ذلك يرون أنهم أهل معرفة، وحُسن نظر في الأمور، ويصفون أهل الإيمان بالسفهاء.

فهكذا إذا طُمست البصائر يختار الإنسان ما يضره، كما قال الله -تبارك وتعالى: وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ [سورة الحشر:19] وإذا أنسى الله -تبارك وتعالى- العبد نفسه صار إقباله على ما يضره، فيبذل الأموال فيما يكون فيه ضرره المُحقق، ويكون عمله على غير اهتداء، وسعيه في غي، وانظر فيما تراه، وما تُشاهده في هذه الأوقات، وفي غيرها من الأوقات، كيف تعمى البصائر؟ فيُقدم الإنسان على أعمال وأحوال لا يمكن أن يُقبل عليها من فتح الله بصيرته، وأنار الله قلبه، فقد يبذل مُهجته ونفسه، ويكون في حال من كراهة المنظر، وسوء المُنقلب -نسأل الله العافية- وهو يظن أنه على حق، وعلى اهتداء، وفعله هذا في غاية الفساد والإفساد والشر، وقد يكون ذلك سببًا لفتنة نائمة فيوقظها، والنبي ﷺ يقول: الفتنة نائمة لعن الله من أيقظها [1].

ويظن أنه على خير، وعلى هدى، فتسمع بالعجائب والغرائب، والله -تبارك وتعالى- يهدي من يشاء، ويوفق من يشاء، ويُضل من يشاء، لكن انظروا إلى أثر طمس البصائر، كيف يصنع بأهله وأصحابه؟

ثم بعد ذلك هو لا يتردد في كونه على صواب وهدى وحق، ويرى أهل الحق والإيمان أنهم في غاية السفه.

ثم ضرب لهم المثل، وقد تكلمنا على هذا المثل تفصيلاً في ألفاظه، ومضامينه، ومراميه، ولكن في مثل هذه المجالس إنما يُشار إلى بعض الفوائد والهدايات التي تُستخرج من الآيات.

مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا فَلَمَّا أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهُ ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لا يُبْصِرُونَ [سورة البقرة:17] هذا مثل ضربه الله لهؤلاء المنافقين بعد أن بين حالهم، وما هم فيه من الخسارة المُحققة، وما هم فيه من مُجانبة الاهتداء.

والمثل تكلمنا عليه تفصيلاً في مجالس، وأن عامة موارد هذه المادة ترجع إلى معنى الشبه، بل إن بعض أهل العلم أعاد ذلك في جميع موارده إلى معنى الشبه، كما فعل شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- وخلق من أهل العلم قبله وبعده، ولكن على كل حال ليس هذا محل اتفاق إلا إنه الغالب في الاستعمال.

مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا وهذا من الأمثال الصريحة في القرآن، فإن الأمثال في القرآن منها ما هو صريح مُصرح فيه بلفظ المثل، ومنه ما يُذكر فيه أداة التشبيه، ومنه ما لا يُذكر فيه هذا.

فهنا صرح الله -تبارك وتعالى- بأن ذلك من قبيل المثل، وهذا المثل هو أحد المثلين الناريين في كتاب الله -تبارك وتعالى- فهذا الذي في سورة البقرة مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا والمثل المائي هو الذي بعده أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّمَاءِ فِيهِ ظُلُمَاتٌ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ [سورة البقرة:19] إلى آخر ما ذكر الله .

وذكر المثلين أيضًا المائي والناري في قوله: أَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا فَاحْتَمَلَ السَّيْلُ زَبَدًا رَابِيًا ثم ذكر المثل الناري بعده وَمِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي النَّارِ ابْتِغَاءَ حِلْيَةٍ أَوْ مَتَاعٍ زَبَدٌ مِثْلُهُ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْحَقَّ وَالْبَاطِلَ [سورة الرعد:17] فهذا في ضرب الحق والباطل، وما هنا في سورة البقرة هو في بيان حال هؤلاء المنافقين على خلافًا بين المُفسرين، هل هذان المثلان لطائفة واحدة في أحوال مختلفة، أو أن ذلك لنوعين وفئتين من المنافقين.

فالله -تبارك وتعالى- يقول: مَثَلُهُمْ حال هؤلاء الذين أظهروا الإيمان، ولم يكن ذلك في قلوبهم بأنهم بهذه المثابة كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا هذا إنسان في مكان مُظلم، فاستعار نارًا استوقدها، ثم بعد ذلك فَلَمَّا أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهُ وانتفع بهذه الإضاءة ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لا يُبْصِرُونَ [سورة البقرة:17] فبقوا في الظلام بعد أن انتفعوا بهذا النور شيئًا من الوقت.

تأمل في هذا المثل المضروب لهؤلاء مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا "استوقد" السين والتاء للطلب، يعني: كأن هذا قد استعاره من غيره فهو لا يكون نابعًا من داخله وإنما هو شيء اجتلبه اسْتَوْقَدَ نَارًا فهؤلاء أهل النفاق هم لا يملكون الإيمان، ولم يتحققوا به، وإنما هو شيء ادعوه فهو خارج عن ذواتهم،  اسْتَوْقَدَ نَارًا فَلَمَّا أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهُ ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ لاحظ ما أضاءت قلوبهم، ونفوسهم، ودواخلهم، وإنما أضاءت ما حوله، فجعل هذا خارجًا عنهم مُنفصلاً عن ذواتهم، ولو اتصل الضوء بهم ولابسهم؛ فإنه يبقى، ويستنير به القلب، ويتحقق بذلك الإيمان، ولكنه ضوء مجاورة لا مُلابسة ومُخالطة، فهو ضوء عارض، والظُلمة أصلية ثابتة في نفوس هؤلاء وقلوبهم.

فلما انكشفت الحقائق رجع الضوء إلى معدنه، والظلمة إلى معدنها، فـذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ [سورة البقرة:17] بقوا على الأصل، انتفعوا بعض الوقت بهذه الدعوى -دعوى الإيمان- فحصل لهم من حقن الدماء وإحراز الأموال، فذهب ذلك النور، وبقيت الظلمة.

وتأمل التنكير في قوله: مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا قد يُفهم من هذا التنكير التعظيم استوقد نارًا عظيمة فانتفع بها، فدعوى الإيمان هذه التي ادعوها هي دعوة كبيرة، لكنها لا تُمثل حقيقة في نفوس هؤلاء.

ثم إن ذلك أيضًا يدل على أن الإيمان له نور، لكن هذا النور لم يكن في نفوس هؤلاء، وإنما كان من حولهم، فإن الإيمان يحصل به استنارة القلب، ويحصل به من المنافع في الحياة الدنيا، وفي البرزخ، وفي القيامة وفي الجنة، ويكفي ما جاء في ذلك من أنه: أخرجوا من النار من كان في قلبه مثقال حبة من خردل من إيمان [2] وفي رواية: اذهبوا فمن وجدتم في قلبه مثقال ذرة من إيمان فأخرجوه [3] هذا الإيمان الصحيح المُنجي.

فهؤلاء ليس في قلوبهم شيء من الإيمان فَلَمَّا أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهُ إذًا لم يكن ذلك في قلوبهم ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ لاحظ "استوقد نارا"، ثم لم يقل ذهب الله بنارهم قال: فَلَمَّا أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهُ لم يقل ذهب بضوئهم، وإنما قال: ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ فهذه ثلاثة أشياء: النار التي استوقدوها، فالنار فيها الإحراق وفيها أيضًا الضياء، فهذا النور الذي يكون معه حرارة يُقال له ضوء هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاءً وَالْقَمَرَ نُورًا [سورة يونس:5] فهذا النور الذي يكون من الشمس يُقال له ضياء؛ لأن معه حرارة، ولهذا قال النبي ﷺ: الصلاة نور. .. والصبر ضياء [4] الصبر لما فيه من الحرارة، وأما الصلاة فهي نور، ليس فيها حرارة وجُعلت قُرة عيني في الصلاة [5] قُرة العين، القُرة البرودة، قرت عينه كما ذكرنا في بعض المُناسبات أنه حينما يفرح الإنسان يحصل له بسبب ذلك شيء من برودة القلب، والجوف، وتكون دموع الفرح باردة، وأما إذا كان الإنسان في حال من الحُزن فإنه يشعر بحرارة في جوفه، وتكون دموع الحُزن ساخنة، بل إنه يجد مع الحُزن السخونة في نفس العين، يجد فيها حرارة.

فهنا اسْتَوْقَدَ نَارًا فَلَمَّا أَضَاءَتْ أثر هذه النار هو الضوء؛ لأن فيه حرارة، ما الذي ذهب؟ لم تذهب النار، ولم يذهب الضوء، وإنما ذهب النور فقط، فالنور من غير حرارة ولا إحراق، فذهب النور، وبقيت الحرارة والإحراق -نسأل الله العافية- انظر إلى حال هؤلاء، وهذا من استهزاء الله -تبارك وتعالى- بهم، يذهب النور، وتبقى الحرارة، لو قال: ذهب الله بضوئهم، فإنه يذهب الحرارة وكذلك أيضًا النور، لو قال: ذهب الله بنارهم تذهب الحرارة ويذهب النور، ولكنه قال: ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ.

إذًا: ما الذي بقي حينما ذهب النور؟ بقي الإحراق والحرارة.

هكذا كل من تمتع بشيء يبذل في سبيله دينه، ولكنه يكون من سخط الله -تبارك وتعالى- ومُحادته وحرب أوليائه، فإنه يتمتع به قليلاً بمال أو وظيفة أو جاه، أو نحو ذلك، لكن سُرعان ما يذهب هذا النور، ثم بعد ذلك تبقى الحرارة والإحراق، يبقى عليه ذلك سُبة في الدنيا وعذابًا في الآخرة، إن لم يغفر الله له.

ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لا يُبْصِرُونَ [سورة البقرة:17] ولاحظ هنا أن الله -تبارك وتعالى- قال: ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ فوحد النور لكن الظلمات وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لا يُبْصِرُونَ تركهم في ظلمات جمع الظلمات؛ لأن الحق واحد والضلالات كثيرة جدًا، ومن أزاغ الله -تبارك وتعالى- قلبه لم يُبال به بأي وادٍ هلك، فقد يركب أي ملة، أو نِحلة أو ضلالة، لكنه في النهاية سالك طريق الغواية، والشر والضلال، والانحراف الذي يؤدي به إلى سخط الله ومقته وعذابه، فطُرق الضلال كثير وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لا يُبْصِرُونَ.

وبهذا نعرف أن الطريق الموصل إلى الله واحد، ومن أراده فعليه أن يتبع، ويلزم الصراط المستقيم الذي رسمه الله لعباده من أجل سلوكه.

وتأمل في قوله -تبارك وتعالى: اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِيَاؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ [سورة البقرة:257].

ثم أيضًا تأمل ما ذكره الله -تبارك وتعالى- هنا: وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لا يُبْصِرُونَ [سورة البقرة:17] قد يكون الإنسان في ظُلمة لكنه يُبصر معها إبصارًا ضعيفًا أما هؤلاء في عمى تام، نفى عنهم الإبصار بالكلية؛ لئلا يتوهم أن هذه الظلمات يكون معها شيء من الإبصار، وهذا يُبين حال هؤلاء أهل النفاق، وكذلك أيضًا حال أهل الكفر فهم يتخبطون في ظلمات.

وقد ضرب الله المثل لهذه الظلمات كما في سورة النور أَوْ كَظُلُمَاتٍ فِي بَحْرٍ لُجِّيٍّ يَغْشَاهُ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ سَحَابٌ ظُلُمَاتٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ إِذَا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا [سورة النور:40] هذه ظلمة القلب، وظلمة الكفر، وظلمة الطبع، وظلمة المعاصي، هي ظلمات بعضها فوق بعض إذا أخرج يده لم يكد يراها.

مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا فَلَمَّا أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهُ ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لا يُبْصِرُونَ [سورة البقرة:17].

تأمل قوله -تبارك وتعالى: فَلَمَّا أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهُ ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ [سورة البقرة:17] فهذه الإضاءة التي حصلت هي كما أشرنا في مضامين الكلام في الليلة السابقة هو هذا الانتفاع المؤقت الذي حصل لهم بسبب إظهارهم الإيمان، والإتيان بحرف الجر الباء ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ يُشعر أن هؤلاء لم يبق لهم شيء من ذلك النور، ولا مطمع لهم فيه بحال من الأحوال، ذهب الله بنورهم، ذهب به بالكلية، لم يُبق لهم شيئًا، ولذلك انظروا إلى هذا التعقيب بعده وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لا يُبْصِرُونَ [سورة البقرة:17] والجزاء من جنس العمل، لما اختار هؤلاء طرائق الظلام، وسلوك المسالك المُنحرفة والمعوجة عاقبهم الله -تبارك وتعالى- بتركهم في ظلمات لا يُبصرون، فسلب عنهم النور، وهذا يقتضي سلب الهداية بالكلية.

فهذه الهداية منحة ربانية، ولها أسباب تكون من العبد، فمن أقبل على أسباب الهداية بصدق ورغبة، وعامل الله -تبارك وتعالى- مُعاملة صادقة لا التواء فيها، ولا اعوجاج؛ فإن مثل هذا يُرجى له أن يُسدد ويوفق ويُهدى، وأما من حاد عن الطريق، واختار مسالك الانحراف والضلال؛ فإن هذا يكون عاقبته سلب النور، والبقاء في حالة من الضلالة يتردد فيها حيث ما توجه.

ثم إن هذا أيضًا فيه إشارة إلى سر انقطاع تلك المعية الخاصة التي تكون لأهل الإيمان، المعية بالحفظ والكلاءة والرعاية، والتسديد، والنصر والتأييد، وما إلى ذلك، فالله مع الذين اتقوا والذين هم محسنون، الله مع الصابرين.

فذهاب هذا النور مؤذن بانقطاع معيته؛ لأن الله لا يكون مع هؤلاء من أهل الضلال والظلام، بل هم أعداؤه، والله -تبارك وتعالى- يُنزل بهم بأسه ورجزه وعذابه، فقطع ذلك عن المنافقين، فليس لهم نصيب من قوله -تبارك وتعالى: لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا [سورة التوبة:40] ولا من قوله: كَلَّا إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ [سورة الشعراء:62].

وإذا انقطع العبد عن ربه -تبارك وتعالى- وانقطع عنه ذلك المدد من النور والهدى فلا تسأل عن حاله بعد ذلك، ولذلك ينبغي على العبد أن يخاف من الزيغ، وأن يتباعد من أسباب الغي والضلال جاهدًا؛ وذلك بالبُعد عن أصول الشر التي ترجع إلى أصلين معروفين: الشبهات، والشهوات، ولهذا قالوا: من عرض نفسه للفتنة أولا، لم ينجُ منها آخرا، الذي يُعرض نفسه للفتنة فتنة الشبهات، فيتتبع هنا وهناك، ويقرأ ويُتابع حسابات في وسائل الاتصال هذه، التي اُبتلي بها الناس في مثل هذه الأوقات، أو يتتبع المواقع والمدونات التي تُثير الشبهات وتُشكك في الإيمان، وتُزعزعه في النفوس، أو تدعوا إلى أنواع الضلالات وتُزينها؛ فإن مثل هذا لا يؤمن عليه من أن يزيغ قلبه، قد يكون في البداية يُريد النظر، ويكون ذلك من غلبة الفضول، فيكون كالعابث، لكنه ما يفتأ أن يتسلل ذلك إلى قلبه، ثم بعد ذلك لا يستطيع الخروج والخلاص منه، قد يقع في الإلحاد، قد يشك في ثوابت الإيمان، قد يقع في بدعة وضلالة من الضلالات.

وكذلك أيضًا أبواب الشهوات، حينما يُعرض نفسه لهذه الشهوات فينظر إلى هذه الصورة، أو يدخل في مواقع سيئة؛ فإن قلبه قد يُقلب، فيضل ويُريد أن يرجع ويتوب، ولكنه لا يستطيع، من عرض نفسه للفتنة أولا لم ينجُ منها آخرا، فيبتعد الإنسان عن الشر، وأسباب الشر، وأسباب الغي، وأسباب الضلال، ويسأل ربه أن يُثبت قلبه على الحق، وأن يهديه، وأن يدله على مرضاته، وأن يسلك به صراطه المستقيم، فإن الموفق من وفقه الله .

ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لا يُبْصِرُونَ [سورة البقرة:17] قد يظن الظآن، أو يتوهم المتوهم أن هؤلاء من المنافقين قد تُركوا فسلموا في الدنيا، ولكن الواقع أنهم لم يسلموا، يكفي في مُصابهم أن الله -تبارك وتعالى- سلب عنهم النور، نور الهداية، وأن الله -تبارك وتعالى- قد تركهم في ظلمات لا يُبصرون، فهذا الترك يعني أن الله -تبارك وتعالى- قد تخلى عنهم، تخلى عنه هداية هؤلاء، وعن إنزال ألطافه بهم، فصاروا في حال من الضياع والتيه، فلم يرجع هؤلاء إلى حق ولم يشعروا بما هم فيه من الباطل.

فإذا ترك الله العبد ونفسه، فلا تسأل عن حاله بعد ذلك، الغي، والضلالة، والانحراف، والضياع بكل ما تحمل هذه العبارة من معنى ودلالة، الضياع بجميع صوره وأحواله.

هذا التشبيه بصاحب النار الذي استوقدها، يكون باعتبار أن انتفاع هؤلاء في الدنيا بدعوى الإيمان شبيه بالنور، وأن عذابهم في الآخرة شبيه بالظلمة بعده، هذا ذكره بعض أهل العلم وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ.

وذكر بعضهم: أن استخفاء كفرهم كالنور، وأن فضيحتهم كالظلمة، وذكر آخرون: أن ذلك فيمن آمن منهم ثم كفر فإيمانه نور، وكفره بعده ظلمة ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا [سورة المنافقون:3] والذي يظهر والله أعلم، أو ما يُمكن أن يُقال: لو قاله قائل أنه قريب أن هؤلاء -كما سبق- إنما ادعوا دعوى لا حقيقة لها، وهذا الإيمان لم يصل إلى قلوبهم، فذلك كالذي استعار هذه النار فأضاءت ما حوله وما أضاءت نفسه، وما استنار قلبه وباطنه، ثم بعد ذلك انتفع فيها بعض الانتفاع، حقن دمه، وأحرز ماله، ثم بعد ذلك سُلب هذا النور، فبقي الإحراق، وذهب الإشراق، ذهب النور، وبقيت الظلمة والحرارة والنار، حرارة النار، والظلام وذهب عنه النور الذي يُبصر به الأشياء، فدل ذلك على عمى هؤلاء المنافقين، فإن الضلال يكون عمى -كما هو معلوم- وقد وصف الله -تبارك وتعالى- هؤلاء الضُلال في كتابه بأنهم عُمي صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ [سورة البقرة:18] فهذه الأبصار إنما يُبصرون بها المُتشخصات، لكنهم لا يُبصرون بها الحقائق، والبصر الحقيقي هو بصر القلب.

إن يأخذ الله من عيني نورهما ففي فؤادي وقلبي منهن نور
عقلي ذكي وقلب غير ذي دغل وفي فمي صارم كالسيف مشهور
إذا رزق الله المروءة والتقى فإن عمى العينين ليس يضير

فالعمى عمى القلب، وليس عمى البصر، ولهذا عقب الله ذلك بهذه الآية: صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لا يَرْجِعُونَ [سورة البقرة:18].

هؤلاء وصلوا إلى حال من الغي والضلال فطبع على قلوبهم، فصاروا بهذه المثابة، فهم صُم عن سماع الحق، لا ينتفعون به، بُكم عن النُطق به، عُمي عن إبصار الهُدى، مهما كان ظهور أعلامه، وبراهينه وشواهده، فهم يعمون عن ذلك كله، ومن كان بهذه المثابة لا يرجع إلى الإيمان، ولهذا قال: فَهُمْ لا يَرْجِعُونَ [سورة البقرة:18] لا يرجعون إلى الحق، فإذا خوطبوا، إذا وجه إليهم الخطاب، فإن هذا الخطاب يطرق أسماعًا قد صُمت، وحينما تظهر دلائل الحق وشواهده، فإن هؤلاء لا يرونها، خفافيش أعماها النهار بضوئه، فهؤلاء أصحاب بصائر خُفاشية يُعشيها النهار بضوئه، فلا يرون الحق الذي يراه أهل الإيمان، ومهما يُقدم لهم من الدلائل والبراهين؛ فإن ذلك لا يُحرك فيهم شعره، فمن استحكمت ضلالته فلا سبيل إلى هدايته، ومن أضله الله -تبارك وتعالى- فلا هداي له، وهذه حقيقة ينبغي أن نُدركها؛ ولذلك فإن بعض الخطاب حينما يوجه إلى من زاغ قلبه، واتبع هواه، فإن ذلك يكون من قبيل العبث، كالذي يصيح في واد، وينفخ في رماد، إلا أن ذلك يكون فيه ما فيه من إقامة الحجة على هؤلاء، ولكنهم لا ينتفعون به؛ لهذه الأمور الصمم والبكم الذي فيهم، فهذا الأبكم هو لا ينطق بالحق، ولا يتكلم به ولذلك لا يُستغرب حينما يلهج بالباطل صباح مساء، ويفيض هذا الباطل على قلمه وكتاباته، إنما الذي يُستغرب لو أنه تكلم بالحق أو كتبه.

فمن رُزق الهداية فينبغي أن يتمسك بأهدابها، ويخاف أن يُسلب ذلك منه، وأن يشتغل بإصلاح نفسه، ولا يكون شغله بغيره ويغفل عن قلبه وحاله، وتفقد عمله وخطراته، ونياته ومقاصده.

هكذا يفعل الضلال بأهله، لاسيما من ترك الحق عن معرفة، بخلاف من ترك الحق عن جهل به؛ فإنه قريب المأخذ يمكن أن يُبين له ويرجع، ولكن الانحراف إنما يرجع إلى أصلين، أو ثلاثة:

الأول: سوء القصد، فهذا سيء القصد مهما رأى من الدلائل والشواهد والبراهين، هو يأبى الحق، لسوء قصده، فهو لا يقبله.

الثاني: سوء الفهم، قد يبحث ويقرأ ويُطالع، ولكنه يخرج بنتائج مقلوبه، الدليل الواضح الظاهر يفهم منه خلاف المقصود، عكس المقصود، فهذا لا طب فيه.

الثالث: الجهل، وهذا أمر قريب، يمكن أن يُعالج بالعلم، لكن صاحب القصد الفاسد، والفهم الفاسد هذا يُجادل، فإذا تكلم أهل العلم سخر منهم، وسخر من فهومهم وعلومهم ومعارفهم وأقوالهم وفتاواهم؛ لسوء قصده، أو لسوء فهمه، وقد يجتمع في العبد وهذا يجتمع في العبد هذا وهذا، نسأل الله العافية، يعني: يجتمع فيه سوء القصد وسوء الفهم معًا، فمثل هذا يطير في الضلالة، ويكون قُحمة في الفِتن، فلا يُبالِ الله به في أي واد هلك رَبَّنَا لا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ [سورة آل عمران:8].

هذا هو المثل الثاني الذي ضربه الله -تبارك وتعالى- للمنافقين، وهو المثل المائي في هذه السورة الكريمة سورة البقرة، والمثل الذي قبله وهو المثل الناري وهو قوله -تبارك وتعالى: مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا فَلَمَّا أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهُ ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لا يُبْصِرُونَ ۝ صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لا يَرْجِعُونَ [سورة البقرة:17، 18].

ثم قال: أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّمَاءِ فِيهِ ظُلُمَاتٌ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ يَجْعَلُونَ أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ مِنَ الصَّوَاعِقِ حَذَرَ الْمَوْتِ وَاللَّهُ مُحِيطٌ بِالْكَافِرِينَ ۝ يَكَادُ الْبَرْقُ يَخْطَفُ أَبْصَارَهُمْ كُلَّمَا أَضَاءَ لَهُمْ مَشَوْا فِيهِ وَإِذَا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قَامُوا وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ [سورة البقرة:19، 20] فهذا المثل الذي صُدر بهذا الحرف "أو" فإن "أو" هذه يحتمل أن تكون للتنويع بمعنى أن المثل الأول الناري قد ضُرب لفئة من المنافقين لنوع من المنافقين، وهذا المثل المائي يكون قد ضُرب لفئة أخرى وطائفة أخرى من المنافقين، فحال هؤلاء المنافقين منهم من يكون كذاك الذي: اسْتَوْقَدَ نَارًا فَلَمَّا أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهُ ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ الآية، ويكون حال طائفة أخرى كأولئك الذين ذكر الله وصفهم هنا في هذا المثل وضربه لهم: أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّمَاءِ فِيهِ ظُلُمَاتٌ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ وعلى هذا مشى جمع من المفسرين سلفًا وخلفًا، وممن قال بأن "أو" للتنويع شيخ الإسلام تقي الدين ابن تيمية -رحمه الله [6] والحافظ ابن كثير[7] وجماعة.

وأما الذين قالوا: بأن "أو" هنا هي بمعنى "الواو"، وأن هذين المثلين مضروبان للمنافقين فحالهم تكون كذاك الذي استوقد نارا، وإن شئت فمثل حالهم بذاك الصيب الذي يسير فيه هؤلاء في هذه الظلمات مع البرق والرعد إلى آخر ما ذكره الله -تبارك وتعالى- في هذا المثل المضروب بمعنى أن "أو" هنا بمعنى الواو، أن تكون "أو" هذه للتخيير، كما يقول: صاحب الحسن أو ابن سيرين، يعني: أنت مُخير بين هذا وهذا، فيكون ذلك كله مما ضربه الله -تبارك وتعالى- للمنافقين.

وهذا كأنه هو الأقرب -والله أعلم- فيكون المعنى في المثل الأول أن مثل حال هؤلاء في دعوى الإيمان وما حصل لهم من الانتفاع المؤقت بذلك كذاك الذي استوقد نارا فلما أضاءت ما حوله، انتفع بهذه الدعوى فحقن دمه، وأحرز ماله وحصل له ما حصل من المكاسب القريبة العاجلة المُتقضية، وحال هؤلاء مع القرآن ومع براهينه ووعده ووعيده كمثل حال هذا الصيب الذي ينزل ويصوب بشدة وقوة مع ما يحتف بذلك من الرعد والبرق، وهؤلاء يسيرون بهذه الصفة من التردد في سيرهم والخوف، وما إلى ذلك.

وقد مضى الكلام مُفصلاً على هذين المثلين في الكلام على الأمثال في القرآن، وليس هذا موضع الحديث عن التفسير والمعاني، ولكن لابد من كلمة تُقرب المُراد من أجل أن يحصل التدبر والتفهم لكتاب الله -تبارك وتعالى.

فهذا يصور حالهم حينما يظهر لهم الحق تارة ويشكون فيه تارة حينما تظهر لهم براهين الحق: أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّمَاءِ فِيهِ ظُلُمَاتٌ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ [سورة البقرة:19] فهذه الظلمات ظلمات الكفر، ظلمات الجهل، ظلمات المعاصي، ظلمات النفاق، كظلمة الليل، وظلمة المطر، وظلمة السحاب فهي ظلمة مُستحكمة يسيرون في هذه الظلمات التي يكون بعضها فوق بعض، إنسان يسير في طريق يكون فوقه يكون في ليل بهيم وفوقه سحاب مع مطر يصوب والبرق صوته يملأ المكان والبرق يبهر الأبصار فيكاد أن يخطفها، هذا يكون في حال من التردد في هذا السير، فهم كما قال الله -تبارك وتعالى: فِيهِ ظُلُمَاتٌ هذه الظلمات الحسية هي ظلمة السحاب والليل وكذلك أيضًا المطر، والمعنوية الكفر، والنفاق، والمعاصي، والجهل فهي ظلمة قلوب نفوس، وأعمال، وأحوال من تلون، وتقلب.

فهنا: فِيهِ ظُلُمَاتٌ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ وهذا الرعد المقصود به زواجر القرآن، فإذا سمعوا هذه الزواجر والوعيد فإنه لا تتمالك نفوسهم من الخوف والهلع، وأما بالبرق فتلك براهينه وحُججه القوية التي تكاد أن تخطف أبصارهم وتذهب بها فهم أصحاب بصائر خُفاشية ضعيفة لا تحتمل هذه الحُجج القوية الباهرة التي تكاد أن تأتي على تلك البصائر أو الأبصار الضعيفة التي لا تحتمل هذا النور الشديد، وهؤلاء المساكين في هذه الحال يَجْعَلُونَ أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ مِنَ الصَّوَاعِقِ حَذَرَ الْمَوْتِ [سورة البقرة:19].

فهم يجعلون رؤوس الأصابع في الآذان فكأنهم لشدة خوفهم، كأنهم جعلوا الأصابع بأكملها في الآذان لشدة ما ينتابهم من الخوف والهلع فهذا يصور ما هم فيه يَجْعَلُونَ أَصَابِعَهُمْ ثم انظر إلى هذا الفعل الذي لا غناء فيه، ولا دفع، فهذا الذي يحذر الصواعق فيكون غاية ما هنالك من الجُهد والدفع والامتناع والتحصن هو أن يضع أُصبعيه في أُذنيه فهذه الأصابع لا ترد الصاعقة، لا ترد عنه المكروه.

هذا مثل الإنسان الذي يركب في سيارة في مركبة ثم بعد ذلك إذا كان في حال من الشعور بالخوف، وأنه أمام مُفاجأة وهو لا يقود هذه المركبة وإنما يركب فيها فتجد أنه يضرب برجله وليس تحت رجله شيء، يعني: ليس هو الذي يقودها، ودفعه برجله بقوة لن يدفع عنه شيئًا ولن يُغير من الأمر شيئًا، ولن يوقف هذه المركبة، ولن يدفع تلك التي قد أقبلت مُندفعة إليها، وهكذا حينما يكون خائفًا فإنه يقبض على ما استطاع من مقابضها بقوة حتى إن يديه تكادان تجفان وتيبسان في هذه الحال من القبض، مع أن قبضه هو يشعر هو لو أنه أطلقها لانفلتت وذهبت كل مذهب ولهلكت ولهلك من فيها، مع أن قبضه عليها لا يُغير من الأمر شيئًا، ولذلك تجد الإنسان أحيانًا حينما يفجأه ما يخاف منه لربما اتقى بيديه، مع أن الاتقى بيديه لا يُغير من الأمر شيئًا، ولكن تلك المشاعر المُختزنة في نفس الإنسان يُفرغها بحركاته لا غناء فيها ولا دفع، لو أنه تبصر وتفكر.

فهؤلاء يخافون من الصواعق فيكون غاية الجهد في التحصن منها أن يضع الواحد أُصبعيه في أُذنيه محتميًا بذلك، وذلك لا يُغني عنه شيئًا، ولا يدفع عنه الهلاك: يَجْعَلُونَ أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ مِنَ الصَّوَاعِقِ حَذَرَ الْمَوْتِ [سورة البقرة:19] فوضع الأصابع في الأذان خوفًا من الهلاك يخشون أن تنزل الصاعقة، والصاعقة ذكر المفسرون فيها معانٍ من أقربها أنها ما قد عُلم مما ينزل من السماء يكون كما يقول المعاصرون بأنها شُحنة كهربائية قوية، والسابقون كانوا يُعبرون عنها بنار مُحرقة، الواقع أن ذلك تفسير بأثرها -والله أعلم؛ لأن من أصابته هذه الصاعقة فإنه يحترق، ففسروها بأثرها وإلا فإن أصلها حينما تنزل هذه الصاعقة هي لا تُرى نار في السماء وإنما هي شُحنة فإذا نزلت وفُرغت لقوتها فإن ما وقعت عليه يحترق من إنسان أو بهيمة، أو غير ذلك.

يَجْعَلُونَ أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ مِنَ الصَّوَاعِقِ حَذَرَ الْمَوْتِ وَاللَّهُ مُحِيطٌ بِالْكَافِرِينَ [سورة البقرة:19] محيط بهم علمًا وقدرة فهم لا يستطيعون أن ينفذوا من أقطار السماوات والأرض ولا أن يردوا عنهم من قدر الله -تبارك وتعالى- شيئًا وهم لا يُعجزونه ولا يفوتونه.

تأمل في هذه الآية: أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّمَاءِ [سورة البقرة:19] حيث نُكر الصيب هنا وهذا التنكير قد يُشعر بالتعظيم، هناك: مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا [سورة البقرة:17] فنُكرت النار قال بعض أهل العلم هذا يدل على التعظيم، دعوى الإيمان هذه الكبيرة التي ادعوها هي بمنزلة هذه النار التي استضاءوا بها استضاءة مؤقتة، هنا: أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّمَاءِ [سورة البقرة:19] الشيء النازل يُقال له: صيب، فقيل: للمطر صيب كما ذكرنا في الكلام على تفسير ابن جُزي في الجزء المتصل بالغريب منه أن ذلك باعتبار النزول فما ينزل من أعلى إلى أسفل يُقال: صاب يصوب فهو صيب، وذلك يُقال للمطر الكثير الشديد: أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّمَاءِ [سورة البقرة:19] فنكره هنا وذلك يُشعر بالتعظيم؛ لأن المطر الخفيف لا يتأذى منه الناس ولا ينزعجون، ولا يحصل معه عادة مثل هذه المخاوف، فهذا مطر شديد هائل.

ثم أيضًا تأملوا: أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّمَاءِ [سورة البقرة:19] يصوب من السماء، ينزل من السماء فِيهِ ظُلُمَاتٌ هنا جُمعت الظلمات وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ أُفرد الرعد والبرق، فبعض أهل العلم يقول: ذلك باعتبار أن المُقتضي للرعد والبرق واحد وهو السحاب، وأما المُقتضي للظلمة فهو مُتعدد فهناك الليل، وهناك السحاب، وهناك المطر فهذه الظلمة قد اجتمعت من هذه الأمور جميعًا فجُمعت أَوْ كَظُلُمَاتٍ كما قال الله -تبارك وتعالى- في سورة النور لما ذكر الظلمات أيضًا: أَوْ كَظُلُمَاتٍ فِي بَحْرٍ لُجِّيٍّ يَغْشَاهُ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ سَحَابٌ ظُلُمَاتٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ [سورة النور:40].

فهنا يقول الله -تبارك وتعالى: فِيهِ ظُلُمَاتٌ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ يَجْعَلُونَ أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ مِنَ الصَّوَاعِقِ حَذَرَ الْمَوْتِ وَاللَّهُ مُحِيطٌ بِالْكَافِرِينَ ۝ يَكَادُ الْبَرْقُ [سورة البقرة:19، 20] يعني: يُقارب، من شدة لمعانه وبريقه أن يسلب أبصار هؤلاء من ذوي البصائر الخُفاشية، ومع ذلك: يَكَادُ الْبَرْقُ يَخْطَفُ أَبْصَارَهُمْ كُلَّمَا أَضَاءَ لَهُمْ مَشَوْا فِيهِ [سورة البقرة:20] يمشون في ضوئه، وإذا ذهب وقفوا قاموا، قام بمعنى وقف هنا، الماشي إذا قام يُقال ذلك بمعنى الوقوف، يقومون في أماكنهم، ولولا إمهال الله لهم لسلب سمعهم وأبصارهم وهو قادر على ذلك كله فهو على كل شيء قدير.

يَكَادُ الْبَرْقُ يَخْطَفُ أَبْصَارَهُمْ [سورة البقرة:20] هذه حُجج القرآن لقوتها، براهين القرآن، تكاد تخطف أبصار هؤلاء لشدتها كُلَّمَا أَضَاءَ لَهُمْ مَشَوْا فِيهِ [سورة البقرة:20] أضاء لهم اتضح لهم الطريق، استنارت نفوسهم وبصائرهم استنارة محدودة مؤقتة لشدة بريقه ولمعانه فإنهم يمشون، على قول بعض المفسرين.

والقول الآخر: أنه كُلَّمَا أَضَاءَ لَهُمْ مَشَوْا فِيهِ [سورة البقرة:20] إذا وجدوا فيه ما يُلائهم ويُناسبهم فإنهم يسلكون وينقادون ويستجيبون ويُقبلون، وإذا جاء وهو الغالب ما يكون على خلاف نفوسهم المُظلمة فإنهم يتوقفون ويتحيرون فهم ليسوا على سير مُتحد، وسلوك للصراط المُستقيم وإنما ذلك يصور أحوالهم مع الوحي المُنزل وما فيه من الحُجج والبراهين والوعد والوعيد وما أشبه ذلك، فإذا جاء الوعد انتظمت نفوسهم معه، واستروحت له، وإذا جاء الوعيد أو جاءت حُجج القرآن حصل لهم الانقباض والانكماش والخوف والتحير.

وهنا الله -تبارك وتعالى- يقول: وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ [سورة البقرة:20] هذا يؤخذ منه أن العبد ينبغي له أن يسأل ربه -تبارك وتعالى- أن يُمتعه بسمعه وبصره، وأن يجعل ذلك هو الوارث منه، ثم أيضًا قد خص الله -تبارك وتعالى- هنا ذكر السمع والبصر أنه لو شاء لأذهبها مع أن الله لو شاء لأهلكهم، لكنه خص السمع والبصر دون سائر المنافع والأعضاء والأبعاض وذلك أنه ذكر ما يرتبط قال: يَجْعَلُونَ أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ مِنَ الصَّوَاعِقِ حَذَرَ الْمَوْتِ [سورة البقرة:19] وقال: يَكَادُ الْبَرْقُ يَخْطَفُ أَبْصَارَهُمْ [سورة البقرة:20] فذكر ما يتعلق بالسمع وما يتعلق بالبصر، ولهذا قال: وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ [سورة البقرة:20] وإلا فإن الله قادر على إذهابهم مع سمعهم وأبصارهم.

ثم أيضًا تأمل وصف الله -تبارك وتعالى- نفسه بالقدرة على كل شيء في هذا الموضوع، وذلك لأنه حذر المنافقين بأسه وسطوته، وأخبرهم بأنه مُحيط بهم، وأنه قادر على إذهاب سمعهم وأبصارهم إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ [سورة البقرة:20] فمن متعه الله -تبارك وتعالى- بالسمع والبصر فهذه نعمة تستوجب الشكر، ومن متعه الله -تبارك وتعالى- بالبصيرة فإن ذلك أعظم النِعم فبها يعرف مراد الله -تبارك وتعالى- وبها يُميز بين الحق والباطل، وبها ينكشف له معدن الحق من معدن الشبهات فلا يكون الحق مُلتبسًا عليه فيضل.

هذه البصيرة إذا رُزقها العبد فإنه ينتفع بالوحي ومواعظ القرآن، والأمثال المضروبة في ذلك، وما يتبع ذلك من الهداية والعمل والإيمان والاستقامة على أمر الله ، وتقدست أسمائه. 

  1.  أخرجه الرافعي في تاريخ قزوين (1/ 291)، قال عنه الألباني: منكر. انظر: سلسلة الأحاديث الضعيفة والموضوعة وأثرها السيئ في الأمة (7/ 255). 
  2.  أخرجه البخاري، كتاب الإيمان، باب: تفاضل أهل الإيمان في الأعمال، رقم: (22)، ومسلم، كتاب الإيمان، باب إثبات الشفاعة وإخراج الموحدين من النار، رقم: (184). 
  3.  أخرجه البخاري، كتاب التوحيد، باب قول الله تعالى:  وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ ۝ إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌࣱ رقم: (7439). 
  4.  أخرجه مسلم، كتاب الطهارة، رقم: (223). 
  5.  أخرجه النسائي، كتاب عشرة النساء، باب حب النساء، رقم: (3940). 
  6.  مجموع الفتاوى (7/ 276). 
  7.  تفسير ابن كثير (1/ 189، 190).