وقال: سعيد عن قتادة: هم أصحاب رسول الله ﷺ.
وقال أبو العالية: قال ابن مسعود: "والذي نفسي بيده، إن حق تلاوته أن يُحِلَّ حلاله، ويحرم حرامه، ويقرأه كما أنزله الله، ولا يحرف الكلم عن مواضعه، ولا يتأول منه شيئاً على غير تأويله".
وقال السدي عن أبي مالك عن ابن عباس في هذه الآية قال: يُحِلُّون حلاله، ويُحَرِّمُون حرامه، ولا يُحَرِّفُونه عن مواضعه.
وعن عمر بن الخطاب : هم الذين إذا مروا بآية رحمة سألوها من الله، وإذا مروا بآية عذاب استعاذوا منها، قال: وقد روي هذا المعنى عن النبي ﷺ أنه كان إذا مرَّ بآية رحمة سأل، وإذا مرَّ بآية عذاب تعوذ.قوله: يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلاَوَتِهِ لا شك أن من تلاوته على الوجه المطلوب أن يتدبره، وأن يتفهمه، وأن يقف عند مواضع السؤال، ويقف عند مواضع الوعيد، والتهديد، وأن يعتبر، وأن يستشعر أنه مخاطب بهذا الخطاب، وأن يعمل به، يعمل بالكتاب، ويتحاكم إليه، فكل ذلك من تلاوته حق التلاوة.
وذهب بعض السلف - ومشى عليه كبير المفسرين ابن جرير الطبري - رحمه الله - إلى أن المراد بهؤلاء الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلاَوَتِهِ [سورة البقرة:121] في هذا المقام هم علماء اليهود، وهذا على اعتبار أن "أل" هنا عهدية، يعني الكتاب المعهود الذي أنزله الله عليهم، وقص الله علينا خبره في مواضع من كتابه، فعند ابن جرير - رحمه الله - هم علماء اليهود الذين آمنوا بالله، وصدقوا رسله فأقروا بحكم التوراة، وعملوا بما أمر الله فيها من اتباع محمد ﷺ، والإيمان به، والتصديق بما جاء به عن ربه ، فهؤلاء هم الذين يتلونه حق تلاوته؛ من تلاه إذا تبعه - على قول ابن جرير - فالتلاوة تحتمل أن تكون بمعنى القراءة، وتحتمل أن تكون بمعنى الاتباع، تلا يتلو يتلوه بمعنى يتبعه.
يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلاَوَتِهِ يعني يتبعونه حق اتباعه؛ لأنهم آمنوا بالتوراة، وفي ضمن ذلك ما أخبرت به التوراة من بعث محمد ﷺ، وأنه رسول من عند الله حقاً، فهؤلاء يتبعونه حق اتباعه، بل نقل الإجماع على أن المراد بتلاوته هنا حق التلاوة هو الاتباع، أي يتبعونه حق اتباعه، ومن المعلوم أن ابن جرير - رحمه الله - ينقل الإجماع، ويريد به الأكثر، وإن خالف فيه بعضهم، فهو يطلق الإجماع على قول الأكثرين، فعلى كل حال يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلاَوَتِهِ أي يتبعونه حق اتباعه، ويبقى الاحتمال قائماً بأن التلاوة المراد بها القراءة، ولكن الذين يتلونه بمعنى يقرؤونه حق قراءته لا يكون ذلك متحققاً فيهم إلا إذا اتبعوه حق اتباعه، فلا تكفي التلاوة بل لا بد من التدبر، والتفهم، ولا بد من العمل به، والتحاكم إليه، وإلا فإن هؤلاء يكونون قد، وقعوا في شيء من هجره، كما قال تعالى: وَقَالَ الرَّسُولُ يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآنَ مَهْجُورًا [سورة الفرقان:30]، وهجره كما قال الحافظ ابن القيم: من هجر قراءته فقد هجره، من هجر تفهمه، وتدبر معانيه فقد هجره، وكذلك من هجر العمل به، أو هجر التحاكم إليه، فكل هؤلاء داخلون في هجره.
والمقصود هنا إذن يمكن أن يقال - والله تعالى أعلم - بأن الآية تحتمل المعنيين، فالتلاوة بمعنى الاتباع، والتلاوة بمعنى القراءة، وبينهما ملازمة، فإن من قرأه حق قراءته، فلا بد أن يتفهمه، وأن يعمل به، ويتحاكم إليه.
والقاعدة أن الآية إذا احتلمت معنيين فأكثر بينهما ملازمة فإنها تحمل على كل هذه المعاني، والقرآن يعبر به بالألفاظ القليلة الدالة على المعاني الكثيرة، فقوله: الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلاَوَتِهِ أُوْلَئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ [سورة البقرة:121] أي يقرؤونه حق القراءة، ويتبعون ما فيه، وينقادون لذلك، - والله أعلم -.
وقوله: أُوْلَئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ خَبَر عن الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلاَوَتِهِ [سورة البقرة:121].أي أن الضمير في قوله: يُؤْمِنُونَ بِهِ يعود على الكتاب المذكور قبله، والمعنى أن الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ من صفتهم كذا، وكذا، فهؤلاء هم الذين يؤمنون بالكتاب.
أي من أقام كتابه من أهل الكتب المنزلة على الأنبياء المتقدمين حق إقامته، آمن بما أرسلتك به يا محمد، كما قال تعالى: وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُواْ التَّوْرَاةَ وَالإِنجِيلَ وَمَا أُنزِلَ إِلَيهِم مِّن رَّبِّهِمْ لأكَلُواْ مِن فَوْقِهِمْ وَمِن تَحْتِ أَرْجُلِهِم [سورة المائدة:66] الآية، قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَسْتُمْ عَلَى شَيْءٍ حَتَّىَ تُقِيمُواْ التَّوْرَاةَ وَالإِنجِيلَ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْكُم مِّن رَّبِّكُمْ [سورة المائدة:68]، أي: إذا أقمتموها حق الإقامة، وآمنتم بها حَقَّ الإيمان، وصَدَّقتم ما فيها من الأخبار بمبعث محمد ﷺ، ونَعْتِه، وصفته، والأمر باتباعه، ونصره، ومؤازرته، قادكم ذلك إلى الحق، واتباع الخير في الدنيا، والآخرة كما قال تعالى: الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِندَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنْجِيلِ [سورة الأعراف:157] الآية، وقال تعالى: قُلْ آمِنُواْ بِهِ أَوْ لاَ تُؤْمِنُواْ إِنَّ الَّذِينَ أُوتُواْ الْعِلْمَ مِن قَبْلِهِ إِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلأَذْقَانِ سُجَّدًا وَيَقُولُونَ سُبْحَانَ رَبِّنَا إِن كَانَ وَعْدُ رَبِّنَا لَمَفْعُولاً [سورة الإسراء:107-108] أي: إن كان ما، وعدنا به من شأن محمد ﷺ لواقعًا.وعلى هذا تحمل الآيات التي هي نظير لهذه الآية، وهي التي يتعلق بها الملبسون المدلسون الذين يذكرون مثل هذه الآيات ليقولوا: إن اليهود، والنصارى على دين حق، وقد أثنى الله عليهم، ووعد المحسن منهم بالجنة، وأنهم ناجون عند الله ، ولا يجوز أن نكفرهم، وكل ذلك من الكذب، بل هم كفار أعداء لله، ولرسله، وإنما هذه الآيات التي أثنى الله فيها على طائفة منهم هم الذين كانوا قبل مبعث محمد ﷺ، وكانوا على دين صحيح من غير تحريف، أو الذين أدركوه فاتبعوه، فإن إيمانهم بكتابهم حقاً يقتضي الاتباع لمحمد - عليه الصلاة، والسلام - فمن لم يتبع رسول الله ﷺ فهو من حطب النار، وهم أكفر أهل الدنيا؛ لأنهم كفروا على علم، حيث أنزل الله عليهم كتبه، وأرسل رسله، ومع ذلك، وقعوا في هذا التكذيب، والجحد، والكفر العظيم، فما أحوجنا إلى تفهم هذه المعاني، وبثها في الناس، وخاصة في مثل هذه الأيام.
وقال تعالى: الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ مِن قَبْلِهِ هُم بِهِ يُؤْمِنُونَ وَإِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ قَالُوا آمَنَّا بِهِ إِنَّهُ الْحَقُّ مِن رَّبِّنَا إِنَّا كُنَّا مِن قَبْلِهِ مُسْلِمِينَ أُوْلَئِكَ يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُم مَّرَّتَيْنِ بِمَا صَبَرُوا وَيَدْرَؤُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ [سورة القصص:52-54]، وقال تعالى: وَقُل لِّلَّذِينَ أُوْتُواْ الْكِتَابَ وَالأُمِّيِّينَ أَأَسْلَمْتُمْ فَإِنْ أَسْلَمُواْ فَقَدِ اهْتَدَواْ وَّإِن تَوَلَّوْاْ فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلاَغُ وَاللّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ [سورة آل عمران:20]، ولهذا قال تعالى: وَمن يَكْفُرْ بِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ [سورة البقرة:121] كما قال تعالى: وَمَن يَكْفُرْ بِهِ مِنَ الأَحْزَابِ فَالنَّارُ مَوْعِدُهُ [سورة هود:17].الضمير في قوله: بِهِ يرجع إلى نفس الكتاب المذكور، أي أن كل هذه الضمائر المذكورة ترجع إلى شيء واحد هو الكتاب، سواء في قوله: أُوْلَئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ [سورة البقرة:121]، أو في قوله: وَمن يَكْفُرْ بِهِ [سورة البقرة:121]، أو في قوله: هُم بِهِ يُؤْمِنُونَ [سورة القصص:52].... الخ..
وفي الصحيح: والذي نفسي بيده لا يسمع بي أحد من هذه الأمة يهودي، ولا نصراني، ثم لا يؤمن بي، إلا دخل النار[1]
- أخرجه مسلم في كتاب الإيمان - باب، وجوب الإيمان برسالة نبينا محمد ﷺ إلى جميع الناس، ونسخ الملل بملة (153) (ج 1 / ص 134).