الإثنين 17 / ربيع الآخر / 1446 - 21 / أكتوبر 2024
فَمَنْ خَافَ مِن مُّوصٍ جَنَفًا أَوْ إِثْمًا فَأَصْلَحَ بَيْنَهُمْ فَلَآ إِثْمَ عَلَيْهِ ۚ إِنَّ ٱللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ

المصباح المنير مجالس في تدبر القرآن الكريم مجالس في تدبر القرآن الكريم
مرات الإستماع: 0

وقوله تعالى: فَمَنْ خَافَ مِن مُّوصٍ جَنَفًا أَوْ إِثْمًا [سورة البقرة:182]، قال ابن عباس - ا -، وأبو العالية، ومجاهد، والضحاك، والربيع بن أنس، والسدي: الجنف: الخطأ."
ذكر في الآية الجنف، والإثم، مما يدل على أن معناهما متغاير إذ الإثم الظلم، والجنف الميل، أو المجاوزة، وأراد الله بقوله: فَمَنْ خَافَ مِن مُّوصٍ جَنَفًا أي: حصل منه تجاوز بغير قصد، لعله أراد خيراً فلم يوفق إليه، أَوْ إِثْمًا بأن تعمد المخالفة، أو الإضرار بالورثة، ونحو هذا.
وقوله - سبحانه، وتعالى -: فَمَنْ خَافَ فسر بعض أهل العلم الخوف بمعنى العلم، فمن خاف أي: علم، وبعضهم يحمله على وجهه، فمن خاف أي: من خاف منه إثماً، أو جنفاً.
"وهذا يشمل أنواع الخطأ كلها بأن زاد، وارثاً بواسطة، أو وسيلة، كما إذا أوصى ببيعه الشيء الفلاني محاباة".
محاباة لأحد الورثة.
"أو أوصى لابن ابنته ليزيدها."
فيوصي لابن البنت الذي ليس له في الميراث سهم نصيبا من الوصية بالثلث؛ ليزيد في سهم أمه من التركة، يريد بذلك أن يعوضها النقص الذي لحق بها، أو يساويها بإخوانها، فهذا ما يجوز، وهو ما قصده بقوله: بأن زاد وارثاً بواسطة، أو وسيلة.
"أو نحو ذلك من الوسائل، إما مخطئا غير عامد، بل بطبعه، وقوة شفقتة من غير تبصر."
وهذا يقع فيه كثير من العامة يقول: هذه البنية مسكينة، مكسورة الجناح، ليس عندها ما تتكسب، أو أنها مطلقة لا يقوم بشأنها أحد، فيوصي لها إضافة للميراث شيئاً من أمواله من باب الارتفاق بها، بخلاف الرجال، هذا الصنيع ما يجوز، وينبغي له أن يعلم أن الله أرحم، وأحكم، وأعلم.
"أو متعمداً آثماً في ذلك، فللوصي، والحالة هذه أن يصلح القضية، ويعدل في الوصية على الوجه الشرعي."
هذا وجه من تفسير قوله: فَأَصْلَحَ بَيْنَهُمْ فَلاَ إِثْمَ عَلَيْهِ [سورة البقرة:182]، وهو وجه جيد، والمراد أصلح الوصية أي: عدل، وغير فيها بما يوافق الوجه الشرعي، وهو التغيير، والتبديل المحمود في الآية.
"ويعدل عن الذي أوصى به الميت إلى ما هو أقرب الأشياء إليه، وأشبه الأمور به، جمعاً بين مقصود الموصي، والطريق الشرعي، وهذا الإصلاح، والتوفيق ليس من التبديل في شيء، ولهذا عطف هذا فبينه على النهي عن ذلك؛ ليعلم أن هذا ليس من ذلك بسبيل، - والله أعلم -."
ويحتمل أن يكون فَأَصْلَحَ بَيْنَهُمْ، أي: أصلح بين الورثة، والموصي، والموصى له لرفع ما فيه من ضرر، وإشكال؛ لأن تلك القسمة مظنة التنازع، فيكون مصلحاً بين الأطراف الثلاثة، إذ لم يأت التحديد في الآية لمن يشملهم الصلح فتعم هذه الأصناف الثلاثة، وليس المراد من الآية مجرد إصلاح الوصية، وإن كان إصلاح الوصية نفسها هو إصلاح في الواقع بينهم؛ لأن هذه الوصية للوارث ظلم، وتعدي، وتضييع لحقوق الورثة، وتسبب مشاكل، وبلايا لا تخفى لدى كثير من الناس.
وهذا المعنى الأخير اختاره كبير المفسرين ابن جرير الطبري - رحمه الله -، أصلح بينهم، أي بين الموصي، والموصى له، والورثة، برفع الظلم، والتعدي، والمجاوزة بهذه الوصية.
"روى عبد الرزاق عن أبي هريرة قال: قال رسول الله ﷺ: إن الرجل ليعمل بعمل أهل الخير سبعين سنة، فإذا أوصى حاف في وصيته، فيختم له بشر عمله، فيدخل النار، وإن الرجل ليعمل بعمل أهل الشر سبعين سنة، فيعدل في وصيته، فيختم له بخير عمله، فيدخل الجنة، قال أبو هريرة : اقرءوا إن شئتم: تِلْكَ حُدُودُ اللّهِ فَلاَ تَعْتَدُوهَا [سورة البقرة:229]  الآية[1]."
في قوله - تبارك، وتعالى -: فَلاَ إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ [سورة البقرة:182] يمكن أن يحمل على أنه غفور للموصي إذا هم بالجور، ثم عدل عنه، رحيم بمن أصلح بينهم على قول ابن جرير - رحمه الله -.
 ويمكن أن يحمل على أنه غفور رحيم لهذا الذي غير، وبدل في الوصية تغييراً محموداً، فإن الله لا يؤاخذه بذلك؛ لأنه ساع بالحق، والإصلاح، والمعروف. 
  1. رواه ابن ماجه في سننه برقم (2704) (2/902)، وأحمد في مسنده برقم (7728) (2/278)، وضعفه الألباني في صحيح، وضعيف الجامع الصغير برقم (3382).

مرات الإستماع: 0

يقول الله -تبارك وتعالى: كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ ۝  فَمَنْ بَدَّلَهُ بَعْدَ مَا سَمِعَهُ فَإِنَّمَا إِثْمُهُ عَلَى الَّذِينَ يُبَدِّلُونَهُ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ ۝ فَمَنْ خَافَ مِنْ مُوصٍ جَنَفًا أَوْ إِثْمًا فَأَصْلَحَ بَيْنَهُمْ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ [سورة البقرة:180-182].

هذا خطاب موجه لأهل الإيمان كُتِبَ عَلَيْكُمْ والكتْب: بمعنى الفرض، أي: فُرض عليكم، إذا حضر أحدكم علامات الموت ومُقدماته إِنْ تَرَكَ خَيْرًا إن ترك مالاً، فالمال هنا هو المراد بالخير، كما قال الله -تبارك وتعالى: وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ [سورة العاديات:8] يعني: لحب المال، فإن كان قد ترك شيئًا من المال، فإنه يوصي بجزء من هذا المال للوالدين والأقربين بالمعروف، بما لا يحصل معه إجحاف بالوارثين.

وكذلك أيضًا لا يوصي للغني ويدع الفقير من هؤلاء، أو يوصي بالكثير للغني، وبالقليل للفقير، ولا يتجاوز الثلث، فإن ذلك لا يصح في الوصية، فهذا حق ثابت يعمل به أهل التقوى، وهذه الآية التي فيها الوصية للوالدين والأقربين.

من أهل العلم من يقول: إنها منسوخة بآيات المواريث، وبعضهم يقول: نُسخت بقول النبي ﷺ: إن الله أعطى لكل ذي حق حقه، فلا وصية لوارث[1]، وهذا عند من يقولون: بأن السنة تنسخ القرآن، وهذه مسألة معروفة، والعلماء مختلفون فيها من جهتين: من جهة الجواز، هل يمكن أن تنسخ السنة القرآن؟ ولهم في ذلك قولان معروفان، وهو خلاف مُعتبر عند أهل العلم، ولكلٍ أدلة يستدلون بها.

وبعضهم يقول: يجوز ذلك ولكنه لم يقع، ولا يوجد ما يمنع من ذلك صراحةـ، والواقع أن الوقائع التي يذكرها القائلون بالجواز لا تخلو من اعتراضات قوية، فمن أقوى الأمثلة التي يحتج بها من يقول بالوقوع هذا المثال، وعليه اعتراضات من جهات عدة، منها: هل هذا منسوخ أصلاً أو ليس بمنسوخ؟ وهل في الآية نسخ؟ فالذين يقولون فيها نسخ، يقولون: نسختها آية المواريث، والشافعي -رحمه الله- يقول: لا تكون السنة ناسخة إلا ومعها قرآن عاضد[2]، يعني: لا تستقل السنة بالنسخ؛ لأنها مُبينة للقرآن، وليست رافعة له، هكذا قال الإمام الشافعي -رحمه الله- ووافقه على هذا جمع من أهل العلم.

وبصرف النظر عن هذه المسألة الأصولية، فإن من أهل العلم من يقول: إن الآية أصلاً ليست منسوخة، وأنها في الوالدين والأقربين غير الوارثين، وهل يكون الوالد غير وارث؟ قالوا: نعم، إذا اختلف الدين، فإذا كان الأب على غير دين الولد فإنه لا يرث، فيوصي له وفاء بحقه، وصلة له، وكذلك فيما لو كان الأب قاتلاً للولد، يعني أنه جنى عليه جناية تقتل عادة، وقبل أن يموت الولد أوصى لأبيه؛ لأنه لن يرث، ففي هذه الحال يوصي له؛ لأنه محروم من الميراث، إلى غير ذلك مما يقوله المانعون.

وبعضهم يقول: إن الآية غير منسوخة، ويوجهها ويحملها على غير ما ذكرت، لكن لا يخلو من بُعد، والأصل أن النسخ لا يثبت بالاحتمال، فلا بد من دليل يدل عليه، والجمع مطلوب ما أمكن، فإذا أمكن حمل الآية على معنىً صحيح من غير دعوى الجمع، فإنه لا يُلجأ إلى القول بالنسخ في هذه الحال.

وقال الله -تبارك وتعالى: فَمَنْ بَدَّلَهُ بَعْدَ مَا سَمِعَهُ فَإِنَّمَا إِثْمُهُ عَلَى الَّذِينَ يُبَدِّلُونَهُ [سورة البقرة:181] فمن غير وصية الميت بعد ما سمعها، فإنما الذنب على هذا المُغير المُبدل، والله -تبارك وتعالى- سميع للأقوال، عليم بالأحوال، وما تُخفي الصدور من الميل عن الحق، والعدل، أو الجور والحيف والتبديل والتغيير، وما إلى ذلك، وسيُجازي كلاً على عمله.

فَمَنْ خَافَ مِنْ مُوصٍ جَنَفًا [سورة البقرة:182] فمن علم من موصٍ ميلاً عن الحق، يريد أن يفضل بعض الورثة على بعض، أو أن يحرم بعض الورثة، أو نحو ذلك فينصح له، فَأَصْلَحَ بَيْنَهُمْ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ [سورة البقرة:182] ينصح له، ويُذكره بالله -تبارك وتعالى-، وبوجوب العدل، فإن لم ينفع معه ذلك، فيمكن أن يتفق مع الورثة على تغيير الوصية بما يوافق الشرع والعدل، وهذا لا يكون عليه فيه إثم، ولا مؤاخذة فَأَصْلَحَ بَيْنَهُمْ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ [سورة البقرة:182] إذا وجد الجنف والظلم في هذه الوصية، فلو أوصى الإنسان بكل ماله في أعمال البر، وترك الورثة بلا شيء، ففي هذه الحال يُنفذ الثلث، وما زاد عن الثلث فإنه لا يُنفذ.

وقوله -تبارك وتعالى: كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ [سورة البقرة:180] يُؤخذ من هذه الآية كما يدل عليه ظاهر اللفظ كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ سياق الكلام على أحد الوجوه في تفسيره: كُتب عليكم الوصية للوالدين والأقربين حال كون الإنسان قد ترك خيرًا (مالاً) يوصي به، فأُخرت الوصية هنا، وبعضهم يقول: لأجل التطلع والتشوف إليها، وهذه المحامل البلاغية قد لا تخلو من نظر أو إشكال أو تكلف، ويحتمل أن يكون المعنى على غير ما ذُكر، والإعراب على غير هذا المحمل، فيكون الوصية مُبتدأ، فلا تقديم ولا تأخير.

وقوله -تبارك وتعالى: كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ هذا يدل على وجوب الوصية إذا كان عنده ما يوصي به، فهذا حق على المُتقين، فالحق هو الثابت، فبناء على أن هذه الآية لم تُنسخ، فهذا مما يُستدل به على وجوب الوصية إذا كان الإنسان عنده شيء من مال، ونحو ذلك، والواقع أن الوصية واجبة إن كان عليه حقوق، وهذا تدل عليه السنة، وأما إن لم يكن له مال، وليس له شيء، فإن قيل: إن هذه الآية غير منسوخة، وله والد غير وارث، قام به مانع من موانع الإرث، أو بعض القرابة المحتاجين، ونحو ذلك، فإنه إن كان عنده مال يكفي للوصية وللميراث، فإنه يوصي لهؤلاء، ويُحسن إليهم، ويصلهم.

وأيضًا نلاحظ أنه قدم الوالدين هنا؛ لأن الوالدين أحق وأولى بالصلة والإحسان، وهذا أمر معلوم.

ويُؤخذ أيضًا من هذه الآية الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ قد يكون عنده غير الوالدين والأقربين ممن يريد أن يوصي لهم، من معارف أو جيران، أو نحو ذلك، وإنما خص الوالدين والأقربين؛ لأنهم الأولى والأحق، أو باعتبار أنهم كانوا يوصون لأولادهم في الجاهلية، وربما نسوا غيرهم من الوالدين والأقربين، فذكر بهم، وهذا قد يتأتى -على القول بأن الآية منسوخة- أن ذلك كان قبل نزول المواريث، فكانوا يورثون أولادهم، ويتركون من عداهم، فذكّر بهؤلاء وأحقيتهم بالوصية.

ويُؤخذ أيضًا من هذه الآية: أهمية البر بالوالدين، وعِظم الحق لهما، والإحسان إليهما في الحياة وبعد الممات؛ لأن الوصية تكون بعد الموت، حتى الدعاء، كما قال الله -تبارك وتعالى: وَقُلْ رَّبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا [سورة الإسراء:24] فبعد ما أوصى بالبر والإحسان بجميع وجوهه وضروبه وصوره وأشكاله، جاء بعد ذلك بالدعاء؛ ليكون البر مُحققًا؛ وليستوفي ما وقع من نقص بالعمل الذي برهما به، فهو لا يستطيع أن يوفي مهما فعل، إلا ما جاء مُستثنىً في الحديث.

ويُؤخذ أيضًا من هذا: أهمية الوصية، وتأكد ذلك من قوله: كُتِبَ ومن قوله: حَقًا عَلَى المَتَقِينَ فهذا يُحرك النفوس للامتثال، والعناية بهذا الجانب، وخصّ المتقين؛ لأنهم هم الذين يقومون بحقوق الله -تبارك وتعالى-، ويُراعون حدوده.

إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ هنا تتأكد الوصية، لكن الأفضل أن الإنسان يُبادر فيها، فلا يبيت إلا ووصيته مكتوبة عنده إذا كان عند ما يوصي به؛ لأن الإنسان لا يدري ما يفجأه وينوبه، فقد يموت في لحظة في سكتة، وقد يموت في حادث، أو غير ذلك، ولا يستطيع حينها أن يوصي، وقد لا يكون بحضرته من يوصيه، وقد يكون في حال فيها لا يتمكن أصلاً من الوصية.

ويُؤخذ من قوله -تبارك وتعالى: فَمَنْ بَدَّلَهُ بَعْدَ مَا سَمِعَهُ فَإِنَّمَا إِثْمُهُ عَلَى الَّذِينَ يُبَدِّلُونَهُ [سورة البقرة:181] أن هذا التبديل قد يكون بالتحريف والتغيير، وقد يكون بالكتمان، ويكون بعد ذلك آثمًا، وقد جاء عن ابن عباس -رضي الله عنهما- وغيره: أنه يكون قد وقع أجر الميت على الله، وتعلق الإثم بالذين بدلوا ذلك[3]

يعني: لو أنه مثلاً أوصى لبعض قرابته من غير الوارثين، فجاء من بدل هذه الوصية وألغاها، أو قلل من المقدار الذي أوصي به، فالأجر حاصل للموصي، وما قصده من الصلة والإثم على المُبدل، لو أنه أوصى ببناء مسجد، فجاء من ألغى ذلك، أو كتمه، فإن أجر الموصي على الله، والإثم يتحمله هذا المُبدل والمغير.

فَمَنْ بَدَّلَهُ بَعْدَ مَا سَمِعَهُ فَإِنَّمَا إِثْمُهُ عَلَى الَّذِينَ يُبَدِّلُونَهُ [سورة البقرة:181]، فهذه الصيغة: فَإِنَّمَا إِثْمُهُ عَلَى الَّذِينَ يُبَدِّلُونَهُ تدل على الحصر، فَإِنَّمَا إِثْمُهُ فيكون الإثم على هؤلاء فقط الذين بدلوا، ولا يكون على غيرهم شيء، وقد يكون بقية الورثة أولياء الميت لا علم لهم، وقد تكون هذه الوصية بيد الابن الأكبر، وقد يعلمون بذلك وأرادوا أن يُقيموه كما أوصى مورثهم، ولكن هذا الذي قد أخذ بالوصية، وكانت له الولاية أبى وامتنع، فمثل هذا لا يُلام ولا يُؤاخذ فيه بقية الورثة.

وأحيانًا يتحرجون؛ لأن والدهم مثلاً أوصى لبعض القرابة، أو أوصى ببناء مسجد، أو أعمال بر، ومثل هذا قد حجز عنهم هذه الوصية، ولم يُطلعهم عليها، وأبقى الأمر ربما حتى الميراث لم يوزع، وقد يمضي على ذلك أربعون سنة، بل سبعون سنة وأكثر، ويموت أولاد المورث وقد يكونون في غاية الحاجة والفقر وهذه ملايين لم تُقسم ولا تُوزع، بل قد تضييع، ثم يكثر الورثة بعد ذلك، ويكون الذي ينال هؤلاء ويطالهم أشياء قليلة فلا ينشطون بعد ذلك بالبحث عنها لكثرتهم، وتضييع، تبقى عشرات السنين ولا تُقسم، فيأتي الأحفاد يسألون عنها، وصية فيها أوقاف قد لا تُستخرج إلا بعد مائة سنة وأكثر، فيُضيعها من يُضيعها إما إهمالاً، أو أنه بخل بذلك على أعمال البر، أو على الورثة أن يُعطيهم حقوقهم، أو أن من طبيعته التسويف، وعدم الإنجاز لشيء من مهامه، أو من مهام غيره، فهذا هو الذي يتحمل الإثم، فَمَنْ بَدَّلَهُ بَعْدَ مَا سَمِعَهُ فَإِنَّمَا إِثْمُهُ أي: إثم هذا التبديل عَلَى الَّذِينَ يُبَدِّلُونَهُ [سورة البقرة:181] ونلاحظ أنه لم يقل: فإنما إثمه عليه، فأظهر في موضع الإضمار للإشهار، كأنه يُنادي عليهم بهذا الجُرم والذنب الذي هو التبديل.

مع أن المشروع أن يُعجل الناس بتقسيم الميراث؛ لأن الميراث هو انتقال للمال من المورث (الميت) إلى الوارثين انتقالاً جبريًا، يعني: الهبة والهدية تتوقف على قبول الموهوب، أو المُهدى، فلو أعطاك إنسان هبة أو هدية لا تكون داخلة في مُلكك إلا إذا قبلتها، والإنسان قد لا يقبلها، إذا رأى أن في هذا مِنة، أو تفضل أو إحسان، أو شيء من هذا القبيل، فلا تدخل في ملكه إلا إذا قبلها، وأما الميراث فإنه تمليك جبري، يدخل في مُلك الإنسان، ثم بعد ذلك إن أراد أن يتصدق به فهي صدقة له، أو يتبرع به، أو يجعله لبعض الوارثين، كأن يتنازل به لأمه، أو لأخته أو لأحد من الورثة، أو غير ذلك، فهذا شأنه.

ولهذا تجب على الوارثين الزكاة في هذا المال بعد موت المورث إن لم يكن قد تعلق به حق لله من زكاة لم تُخرج، لكن يبدأ حساب حول جديد بعد موته ما لم يقم مانع، مثل أن تكون هذه التركة محجوزة عند المحكمة، لأمر ومُلابسات، أو بالورثة مشاكل بينهم، فحُجزت عنهم، فهنا لا يخرجون الزكاة، وقد تُحجز عنهم عشر سنين وأكثر، ففي هذه الحال لا يخرجون الزكاة؛ لأنها ممنوعة منهم، لكن إذا كانت تحت تصرفهم لكنهم توسعوا وتساهلوا وتباطأوا في قسم الميراث، فإنهم يُخرجون الزكاة منها كل سنة، فهذا مُلك يحصل بغير موافقة الإنسان، أو إجازته، أو نحو ذلك، فينبغي أنه يصل إلى هؤلاء الناس حقوقهم، ويجب أن تصل إليهم أموالهم، فلا يجوز لأحد أن يؤخر أو يُماطل أو أن يتباطأ، أو يقول: أنا مشغول، فإن كان مشغولاً فيكل هذا إلى غيره، أما أن يبقى الناس في حال من شدة وحاجة، وعليهم حقوق، أو ديون أو نحو هذا، وأموال كثيرة هي من حقهم في هذا الميراث، وتذهب أعمارهم وهم يُكابدون العيش ربما في وظائف مردود مالي قليل، وهذه الأموال محجوزة عنهم بسبب هذا الوارث الذي يكسل أو يتباطأ أو يتهاون أو يسوف أو غير ذلك، هذا لا يصح، وهو من الظلم.

وهكذا ما يحصل من التصرف بهذه التركة من قِبل بعض الوارثين، يعني: قد يكون هذا الولد يسكن في فِلة تابعة للميراث والسيارة تابعة للميراث، وهي تابعة للمؤسسة أو الشركة التي تركها أبوهم، فهذا مشكلة، والمُفترض أن هذا يُحسب عليه بأُجرة المِثل، فالسيارة تُحسب عليه للورثة بأُجرة المِثل، والبيت الذي يسكنه من جملة الميراث فيُحسب عليه بأجرة المثل، كما تساوي هذه الفلة مؤثثة، فيُحسب عليها بأجرة المثل، وهكذا، فمثل هذه الأشياء يتورع فيها، والله المستعان.

وفي قوله -تبارك وتعالى: إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ [سورة البقرة:181] تهديد مُبطن، فهو سامع للأقوال، وعليم بالأحوال، وما تُكنه الصدور، فهذا الإنسان الذي يُبدل هذه الوصية التي سمعها الله -تبارك وتعالى-، والله سمع وعلم بحال هذا المُبدل المُغير الذي أبدى لهم غير الحقيقة، فالله يسمع كلامه وتبديله، وهو عليم بحقيقة الحال، فهذا وعيد مُغلف، فمعنى ذلك أنه يُجازيهم، وجاء بالتأكيد إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ وجاء بالجملة الاسمية التي تدل على الثبوت، فهو يسمع كل المسموعات، وعليم بكل الأحوال، ولا يخفى عليه خافية.

فَمَنْ خَافَ مِنْ مُوصٍ جَنَفًا أَوْ إِثْمًا فَأَصْلَحَ بَيْنَهُمْ [سورة البقرة:182] في هذا فضيلة الإصلاح، وأهميته فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ [سورة البقرة:182] كثير الغفر على كثرة العباد، وكثرة الجنايات والذنوب، رحيم عظيم الرحمة، فهذه كلها صيغ مُبالغة، فنفى عنه الإثم، وأثبت المغفرة والرحمة، وقد يكون هنا اجتهاد يُراد به الإصلاح، وقد تبقى بعض الأمور لا يتمكنون من تداركها وتلافيها، فالله -تبارك وتعالى- يغفر لهم ما يعجزون عنه، وهو رحيم بعباده، لكن ذاك الذي تولى كِبره، وبدل وغير، أو ضيع الوصية، وضيع الحقوق، أو لبس عليهم بأوراق أخرى، فهذا هو الذي يتحمل هذه الجناية، والله أعلم. 

  1. أخرجه الترمذي في أبواب الوصايا، باب ما جاء لا وصية لوارث برقم: (2120) وأبو داود في كتاب الوصايا، باب ما جاء في الوصية للوارث برقم: (2870) وابن ماجه في كتاب الوصايا، باب لا وصية لوارث برقم: (2713) وصححه الألباني.
  2. الرسالة للشافعي (1/ 138).
  3. تفسير الطبري = جامع البيان ت شاكر (3/ 397).

مرات الإستماع: 0

لما ذكر الله -تبارك وتعالى- أحكام هذه المعاملات من الربا، وما ينبغي من الإرفاق بالمدين المُعسر، ذكر بعد ذلك أحكامًا تتصل بالمداينات في آية الدين من سورة البقرة، وهي أطول آية في كتاب الله، في أطول سورة، فقال: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ وَلْيَكْتُبْ بَيْنَكُمْ كَاتِبٌ بِالْعَدْلِ وَلا يَأْبَ كَاتِبٌ أَنْ يَكْتُبَ كَمَا عَلَّمَهُ اللَّهُ فَلْيَكْتُبْ وَلْيُمْلِلِ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ وَلا يَبْخَسْ مِنْهُ شَيْئًا فَإِنْ كَانَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ سَفِيهًا أَوْ ضَعِيفًا أَوْ لا يَسْتَطِيعُ أَنْ يُمِلَّ هُوَ فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ بِالْعَدْلِ [سورة البقرة:282] إلى آخر ما ذكر الله -تبارك وتعالى- في هذه الآية الكريمة.

فهذه أطول آية، وقد قال بعض السلف: بأنها أرجى آية في كتاب الله ، بمعنى أنها أكثر آيات القرآن ترجية بسعة رحمة الله ، وهذا قد يبدو لأول وهلة غريبًا، ولكن إذا عُرف مأخذه اتضح وجهه؛ وذلك أنهم قالوا: إن الله -تبارك وتعالى- احتاط لمال عبده المؤمن بهذه الاحتياطات الكثيرة؛ لئلا يضيع، ولو كان قليلاً، وشيئًا يسيرًا، فالمؤمن أعظم حرمة عند الله -تبارك وتعالى- من ماله، فإذا كان الله قد احتاط لمال المؤمن، فالمؤمن أعظم حرمة عنده -تبارك وتعالى، فإذا كان لم يُضيع ماله، واحتاط له هذه الاحتياطات، فذلك يعني أن الله لا يُضيع عبده المؤمن، فهذا وجه القول بأنها أرجى آية في كتاب الله، مع أن المشهور أن أرجى آية في كتاب الله هي قوله: قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا [سورة الزمر:53] وهناك آيات أخرى قال قائلون من السلف بأنها أرجى آية في كتاب الله.

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا يا من أقرت وأذعنت وانقادت قلوبهم لما يجب الإذعان والإقرار به.

إِذَا تَدَايَنتُمْ بِدَيْنٍ إذا تعاملتم بمداينة، فليكن ذلك مكتوبًا، وهذا يشمل سائر أنواع الديون، مما يحصل فيه التأخير، إما للثمن، أو المُثمن، يعني: إما الثمن وهو المال الذي يُدفع، فيؤخر، أو أن يكون المُثمن كالسلَم مثلاً فيُعطيه المال على أن يتقاضى منه حبًا من البُر مثلاً، لكن بكيلٍ معلوم، أو إذا كان الشيء موزونًا بوزن معلوم، فيكون الأجل معلومًا، فهذه المداينات بأنواعها داخلة في هذا إِذَا تَدَايَنتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ إلى وقت معلوم فاكتبوه؛ وذلك احترازًا وحفظًا للحقوق، والأموال، ودفعًا للخصومات، فقد يتطرق النسيان، أو الشك، أو غير ذلك.

وَلْيَكْتُبْ بَيْنَكُمْ كَاتِبٌ بِالْعَدْلِ الذي ينهض بالكتابة يكون من أهل الأمانة والضبط، من أجل أن لا يحصل منه تبديل أو تغيير أو بخس، ثم أرشد هذا الكاتب أن لا يمتنع وَلا يَأْبَ كَاتِبٌ أَنْ يَكْتُبَ كَمَا عَلَّمَهُ اللَّهُ فلا يمتنع من الكتابة كَمَا عَلَّمَهُ اللَّهُ يحتمل المعنى هنا يعني كما مّن الله عليه بهذه النعمة، وهي الكتابة، فليبذل ذلك، فليكن شاكرًا لنعمة الله عليه، وليكتب لغيره إذا احتاج الناس إلى كتابته.

ويحتمل أن يكون المعنى: أن يكتب على الوجه المشروع، كتابة على الجادة صحيحة، كما علمه الله في حدود الكتابة والأمانة والعدل، من غير أن يُغير، أو يُبدل أو يزيد على هذا، أو يُنقص من حق هذا، فهذانٍ معنيان، والقرآن يُعبر به بالألفاظ القليلة الدالة على المعاني الكثيرة، فهو مأمور بالكتابة تأدية لحق هذه النِعمة، وكذلك تكون هذه الكتابة على وجه مرضيٍ صحيح، وموافق لشرع الله -تبارك وتعالى.

وأيضًا فالذي يقوم بالإملاء على هذا الكاتب، فالكاتب لا يكتب من عند نفسه، وإنما وَلْيُمْلِلِ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ وَلا يَبْخَسْ مِنْهُ شَيْئًا يُملل الذي عليه الحق؛ لماذا يُملل الذي عليه الحق؟ يعني المدين؛ لأن هذا إقرار منه، فليس الذي يقوم بالإملاء هو الدائن؛ لأنه صاحب المال، فقد يزيد، ولكن الذي عليه الحق قد يُنكر ما أملاه الدائن، ويقول: زاد عليّ، غيّر وبدّل، لكن المطلوب هو إقرار الذي ستوجه إليه المُطالبة فيما بعد، ويُقال له: عليك الوفاء، فمن أجل ألا يحتج فيقول: إن ذلك كُتب عليّ وأنا لم أرضه، ولم أُسلم بهذا، فأنا لا أعترف بهذه الكتابة؛ لماذا لا تعترف بها؟! ولهذا قال: وَلْيُمْلِلِ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ ولم يقل: وليُملل صاحب الحق، وإنما قال: الذي عليه الحق، لماذا؟ لأنه إقرار.

وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ ذكّره بالتقوى من أجل ألا يبخس ولا يُنقص من هذا الحق، فيتجارى مع هواه وَلا يَبْخَسْ مِنْهُ شَيْئًا.

ففي قوله: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا خاطبهم باسم الإيمان -كما ذكرنا في مناسبات سابقة- لأن هذا الإيمان الذي أقروا به، وأذعنت قلوبهم بذلك، هو الذي يكون سببًا للقبول عن الله ، والرضا بشرعه وحكمه، فهذا هو السبيل إلى الإذعان، فإن من شأن المؤمن أن يُسلم لربه وخالقه -تبارك وتعالى، فهذا الإيمان الذي أقررتم به يقتضي أن تفعلوا ما أمركم الله به.

ويُؤخذ أيضًا من قوله: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أن هذا العمل المذكور الذي طُلبوا به من الإيمان، وهذا يدل على أن الإيمان قول وعمل، وأن هذه الشريعة تشمل العبادات، والمعاملات، يعني: هذه معاملة مالية بحتة، ومع ذلك خاطبهم باسم الإيمان يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا فهذه الشريعة جاءت لتحكم الناس في كل شأنٍ من شؤونهم، وليست قضايا تتعلق بصلة العبد بربه في المسجد، وإنما في المسجد، والسوق، وفي كل مكان.

ثم أيضًا قوله: إِذَا تَدَايَنتُمْ جاء بـ(إذا) ولم يقل: "إن تداينتم بدين" والفرق بين (إذا) الشرطية، و(إن) أن إن الشرطية تُستعمل فيما يندُر وقوعه، أو يبعُد وقوعه، بينما (إذا) تكون في كثير الوقوع، وهذا باعتبار أن المداينات تقع من الناس كثيرًا؛ وذلك أن مصالحهم قد تتوقف على ذلك، فقد يكون الإنسان من أهل الحذق والنشاط والجد والابتكار والصنعة والإدارة، لكن ليس بيده مال، ولو كان بيده مال لأقام المشروعات، وعمل المصانع والأعمال التي من شأنها أن تُدر الأرباح، وتنمو التجارات، فهذا يحتاج أن يستدين ويقترض، فهو رجل لا ينقصه شيء في فكره ونشاطه وعمله وجده، لكن ليس بيده مال.

وقد يكون من أهل الأموال، ولكن ماله قد لا يكون حاضرًا في ساعته، ففي هذه الحال ماذا يصنع؟ قد يحتاج إلى أن يستدين، فصاحب المال قد يقصر ماله عن بعض مطالبه في تجارته، ونحو ذلك، فيحتاج إلى أن يستدين، فهذه المُداينات كثيرة في أعمال الناس، لا سيما ما تقوم عليه مصالح هؤلاء الناس، يعني في باب السَلم مثلاً، فالمزارع عنده أرض، ولكن ليس عنده ماله يزرع، فهو يحتاج أن يشتري البذر، ويحتاج إلى عاملين في هذه الأرض في السقي، ونحو ذلك، فيستعطل لو لم يُحصل المال، فيأتيه آخر عنده مال، وليس عنده أرض، فيُعطيه، ويقول له: هذه مائة ألف ازرع هذه الأرض، وأستوفي منك وقت الحصاد بقدر كذا، ويُحدد له الكيل، أو الوزن الذي يتفقون عليه، أو يقول: أنا اشتري منك مثلاً الصاع بكذا بهذا المال، فآخذ فيه كذا وكذا من الأوسق مثلاً، والوسق: ستون صاعًا، فيُعطيه مالاً ويقول: هذا أتقاضاه منك عشرة أوسق من التمر، فهذا ينتفع بأخذ المال، ويعمل ويغرس ويزرع ويبذر، وذاك في النهاية تاجر يأخذ هذا الثمر بالقدر الذي اتفقوا عليه، ويبيعه ويربح فيه، ونحو ذلك.

وقوله: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى يدل على جواز هذه المعاملات والمداينات، ولكن ليس ذلك بإطلاق، فإن الدين شأنه عظيم، وقد جاء عن سلمة بن الأكوع قال: كنا جلوسًا عند النبي ﷺ، إذ أتي بجنازة، فقالوا: صل عليها، فقال: هل عليه دين؟ قالوا: لا، قال: فهل ترك شيئًا؟ قالوا: لا، فصلى عليه، ثم أتي بجنازة أخرى، فقالوا: يا رسول الله، صل عليها، قال: هل عليه دين؟ قيل: نعم، قال: فهل ترك شيئًا؟ قالوا: ثلاثة دنانير، فصلى عليها، ثم أتي بالثالثة، فقالوا: صل عليها، قال: هل ترك شيئًا؟ قالوا: لا، قال: فهل عليه دين؟ قالوا: ثلاثة دنانير، قال: صلوا على صاحبكم قال أبو قتادة: صل عليه يا رسول الله، وعلي دينه، فصلى عليه[1].

فكان النبي ﷺ يسأل أبا قتادة عن هذين الدينارين، ما فعل الديناران؟ فلم يُصل عليه بسبب دينارين، فكيف بالذي عليه ملايين؟! فكيف بالذي أخذ أموال الناس وضيعها؟! فالتساهل في الديون أمر غير محمود، لكن قد تتوقف حاجات الناس ومصالحهم على هذا، كزارع حياته وقوته مع عياله من هذه المزرعة، فيبيع بالسَلم بهذه الطريقة، فلا إشكال في هذا، لكن الكلام في صور أخرى وممارسات، كمن يريد أن يُحصل أرباحًا وثروة زائدة على قدر حاجته، يُريد أن يتكثر فيقترض من البنوك، والبنوك تعطيه تسهيلات، وتُغريه بهذه القروض، لا سيما بهذه البطاقات التي أصبح الإنسان يدفع المال، ويصرف، وأمواله هناك، ومعه هذه البطاقة البلاستيكية، هو لا يشعر حينما يسحب، وحينما يشتري ما لا حاجة له فيه.

وبعض هذه البطاقات -كما هو معلوم- تكون بديون تركب هذا الإنسان وتُغرقه، وربا يتضاعف عليه، ثم بعد ذلك يجد نفسه في بحر من الدَّين، لا قِبل له به، وإذا توقف هؤلاء عند سقف معين، ذهب إلى آخرين، وأخذ منهم، وإلى ثالث، فإذا استوفى هؤلاء ذهب إلى بائع السيارات، واشترى جملة من هذه السيارات بالديون، وهو يعلم أنه لا يملك الوفاء؛  لأنه في النهاية موظف أو مُعلم راتبه لا يستطيع أن يوزع؛ ولذلك تجد هذا الإنسان في النهاية يقول: لا يبقى عندي خمسمائة ريال، قد يكون راتب هذا الإنسان عشرة آلاف، أو خمسة عشر ألف، أو أكثر، لكنه لم يبق عنده منها خمسمائة ريال، وأحيانًا لا يستطيع أن يوفر الطعام لأهله -لزوجته وأولاده، ويبقى في حسرات، ما الذي أغراه بهذه الدين؟!

فالذي أغراه هي هذه الطريقة البائسة (الطُعم) فهو يأخذ ولا يشعر، ثم بعد ذلك إذا جاءت المُطالبة أفاق، أو يشتري بذلك أشياء لا حاجة إليها، ولا ضرورة، من الأثاث الفاخر، والمراكب غالية الثمن، ومن المُقتنيات من الأواني والتُحف، وغير هذا، مما يُريد أن يتزين به أمام الآخرين، ويريد أن يكون كالآخرين، والمرأة تريد أنه إذا دخل صواحباتها هذه الدار رأين ما يرينه في الدور الأخرى، فتجد كأنك في متحف أحيانًا من بريق الأثاث والتُحف، ونحو ذلك، وهذا كله بالديون، فأول هذا بهجة ولذة، وآخره حسرة.

فهذه الديون يجب أن تكون في حاجات الإنسان التي لا بد له منها، أما في أمور التوسع فهذا لا يحسُن بحال من الأحوال، وليس ذلك من العقل، وحُسن التدبير، وإنما يكتفي الإنسان بقدر ما أعطاه الله ، ولا يتوسع، ولا ينظر إلى ما عند الآخرين، وما حازوا، ثم يريد أن يُحاكيهم ويُضاهيهم.

وحينما تذهب أحيانًا لبعض النواحي التي يسكنها أناس فقراء، تجد مراكب وسيارات، لا يتفق أبدًا مع هذه الأحياء والمساكن، وحينما تسأل ما هذه المفارقة؟ تجد الجواب: أن كثيرًا من هؤلاء يُفكر بطريقة أخرى، فهو يعتقد أن داره، وما يُقابل الناس به، والوجه الذي يراهم فيه، ويرونه، هي هذه المركب، فهو يتزين ويترفع بها، فيشتريها بالديون.

وجمال الإنسان -أيها الأحبة- وجماله بما يُحسن، وليس بسيارة يركبها، أو ثوب يلبسه، أو دار يسكنها، فهذه قد تحصل لمن لا خلاق له، ولا عقل ولا دين ولا مروءة، ولكن كمال الإنسان الحقيقي بما يحمله من كمالات، وليس بالصور والأشكال، ولكن كما يقول الحافظ ابن القيم -رحمه الله:

والناس أكثرهم فأهل ظواهر تبدو لهم ليسوا بأهل معانِ
فهم القشور وبالقشور قوامهم واللُب حظ خُلاصة الإنسانِ[2].

فالصحيح: خذ بنصل السيف، واترك غمده، فالغمد لا عبرة به، فالعبرة بما تحت الثياب، وليست بالثياب والمظاهر والأشكال، ولكن كثيرًا من الناس لا يعلمون، فأغرقتهم الديون، وأحاطت بهم من كل جانب، وصاروا في حال يُهددون فيها بالحبس، ونحو ذلك، وربما يذهب هنا وهناك يطلب من الناس الزكاة والمساعدات، وكان في غنًى عن هذا كله.

وهذا الخطاب يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى في أطول آية في القرآن يدل على العناية بهذا الباب، فهذا الموضوع فينبغي أن يُعتنى به، وكثير من الناس يقع بينهم مثل هذه الأعمال والمعاملات وتكون الثقة هي الغالبة، ويكون ذلك مبناه على حُسن الظن، أو على الحياء والخجل، كأن يستحي أن يكتب مثل هذا، باعتبار أن هذا من أصحابه، وأنه أمين وثقة، ثم لا يُكتب، ويمضي الزمان، وبعد ذلك يجد الإنسان نفسه أمام حال من الخصومة، ربما يُنكر أصل الدين، أو يُنكر بعضه، ويختلفون، يقول هذا: أخذت منك كذا، وأعدت لك كذا... إلى آخره، ولو أنه كُتب ووثق وأشهد لكان استراح من هذا.

فأنا أقول هذا الكلام -أيها الأحبة- مما أرى وأُشاهد، ففي أحيان كثيرة يأتني أُناس، ولست بقاضٍ ولا مفتي، لكن يريدون أن يتحاكموا إلى شخص يرتضونه، فتجد منشأ هذه المشكلات إغفال هذا الأمر، وهو الكتابة والتوثيق، فلم يكتبوا فوقع التخالف والتنازع، وكانوا أحبة من قبل؛ لكنهم تخاصموا في النهاية، وبدأت الظنون، والتُهم تتوجه من كل طرف إلى الآخر، وأحيانًا تسمع بعض الكلمات التي تتمنى أن لا تسمعها، وعلى كل حال، فالله عليم حكيم، وهذا يدل على كمال هذه الشريعة، وعلى لطف الله بعباده، حيث دفع عنهم أسباب الخصومات والشر بتوثيق هذه الحقوق.

ويؤخذ من قوله: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى أن الدَّين ولو كان يسيرًا، فإنه يُكتب، إِذَا تَدَايَنتُمْ بِدَيْنٍ فدين نكرة في سياق الشرط، فتفيد العموم، يعني: ولو كان هذا الدَّين عشرة ريالات، ولو كان مائة ريال، أو أكثر، فَاكْتُبُوهُ فهذا أمر من الله -تبارك وتعالى- بالكتابة، وقال الله : وَلْيَكْتُبْ بَيْنَكُمْ كَاتِبٌ بِالْعَدْلِ فلا يكتب الدائن، صاحب المال، لئلا تتطرق التهمة، وقد لا يقبل بكتابة من عليه الحق، وَلْيَكْتُبْ بَيْنَكُمْ كَاتِبٌ بِالْعَدْلِ ففهم بعض أهل العلم من ذلك: أن الكاتب ينبغي أن يكون محايدًا، طرفًا ثالثًا، لا ناقة له ولا جمل.

وَلْيَكْتُبْ بَيْنَكُمْ كَاتِبٌ فكاتب هنا نكرة في سياق الإثبات، فهي بمعنى المُطلق، يعني: يصدق ذلك على أي كاتب، لكن بهذا القيد والوصف (بالعدل) لماذا؟ لأن المقصود هو أن يكون مرضيًا، وهذه العدالة تتحقق بجملة من الأمور: من الديانة، والصيانة، والضبط، والاستقامة والطاعة، واجتناب الكبائر وصغائر الخِسة، يعني الصغائر التي تُدنس الأعراض، مع حفظ المروءات، فهذا الكاتب العدل وَلْيَكْتُبْ بَيْنَكُمْ كَاتِبٌ بِالْعَدْلِ فإذا كان يكتب بالعدل، لا بد أن يكون عدلاً، مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ [سورة البقرة:282] وهذا في باب الشهادة، وهنا في الكتابة بالعدل، يقتضي أن يكون هو عدلاً.

وأيضًا إذا كان يكتب بالعدل، فهذا يقتضي تعلم الكتابة، وما يُطلب في كتابات الحقوق والتوثيقات، وما إلى ذلك، فهذا مما يُتعلم، فيكون ذلك من المطالب الشرعية؛ لأن ما لا يتم الواجب إلا به، فهو واجب، وما لا يتم المستحب إلا به فهو مُستحب، على خلاف بين أهل العلم في حكم الكتابة في الديون، مع أن هنا أمر فَاكْتُبُوهُ والأصل أن الأمر للوجوب؛ ولهذا ذهب طوائف من أهل العلم إلى أن كتابة الديون واجبة.

وبعضهم قال: هذا أمر للاستحباب والإرشاد، والصارف له من الوجوب عندهم إلى الاستحباب: هو أن النبي ﷺ وقع منه ذلك، ولم يُنقل أنه كتب، وتوفي النبي ﷺ ودرعه مرهونة عند يهودي من غير كتابة، وكذلك شرع الله الرهن -كما سيأتي في آخر الآية- حينما لا يوجد الكاتب، فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ [سورة البقرة:283] فقالوا: هذا بديل، فلا تجب الكتابة، إذا وجد الرهن فالمقصود التوثق؛ ولهذا قال: فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضًا فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمَانَتَهُ وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ فقالوا: في حال أنه يأمن ويثق ونحو ذلك فلا يجب عليه الكتابة، فقالوا: إن هذه الثلاثة الأدلة تدل على أن الكتابة ليست واجبة.

وقد ورد أن النبي ﷺ ابتاع فرسًا من أعرابي، فاستتبعه النبي ﷺ ليقضيه ثمن فرسه، فأسرع رسول الله ﷺ المشي، وأبطأ الأعرابي، فطفق رجال يعترضون الأعرابي، فيساومونه بالفرس، ولا يشعرون أن النبي ﷺ ابتاعه، فنادى الأعرابي رسول الله ﷺ، فقال: إن كنت مبتاعًا هذا الفرس وإلا بعته؟ فقام النبي ﷺ حين سمع نداء الأعرابي، فقال: أو ليس قد ابتعته منك؟ فقال الأعرابي: لا، والله ما بعتكه، فقال النبي ﷺ: بلى، قد ابتعته منك فطفق الأعرابي، يقول هلم شهيدًا، فقال خزيمة بن ثابت: أنا أشهد أنك قد بايعته، فأقبل النبي ﷺ على خزيمة، فقال: بم تشهد؟ فقال: بتصديقك يا رسول الله، فجعل رسول الله ﷺ، شهادة خزيمة بشهادة رجلين[3].

فشهد خُزيمة، فجعل النبي ﷺ شهادته بشهادة رجلين عدلين، ولم يكتب، مع أنها لم تكن ناجزة، فلم يأخذ الفرس ويعطيه الثمن، وإنما استمهله حتى يأتي بالثمن.

أتوقف عند هذا، ونترك الإضافات والتعليقات -إن شاء الله- حتى ننتهي من الآية كاملة. 

 

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ وَلْيَكْتُبْ بَيْنَكُمْ كَاتِبٌ بِالْعَدْلِ وَلا يَأْبَ كَاتِبٌ أَنْ يَكْتُبَ كَمَا عَلَّمَهُ اللَّهُ فَلْيَكْتُبْ [سورة البقرة:282] فهذا القدر من الآية تحدثنا عنه في الليلة الماضية.

ثم قال الله : وَلْيُمْلِلِ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ وَلا يَبْخَسْ مِنْهُ شَيْئًا فَإِنْ كَانَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ سَفِيهًا أَوْ ضَعِيفًا أَوْ لا يَسْتَطِيعُ أَنْ يُمِلَّ هُوَ فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ بِالْعَدْلِ [سورة البقرة:282] فلما ذكّر الكاتب بمراقبة الله -تبارك وتعالى، وعدم النقص والبخس من ذلك، بيّن الحكم في حال كون الذي عليه الحق لا يستطيع أن يُمل هو، إما لسفهه، فَإِنْ كَانَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ هذا هو المدين سَفِيهًا وهو الذي لا يُحسن التصرف أَوْ ضَعِيفًا كالصغير والمجنون، أَوْ لا يَسْتَطِيعُ أَنْ يُمِلَّ هُوَ فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ بِالْعَدْلِ لا يستطيع أن يُمل لخرس، ولعلة تقوم به، يمتنع معها الإملال، أي: لا يستطيع أن يُمل؛ لأنه لا يستطيع الكلام، أو لأنه لا يُبين، أو نحو ذلك، ففي هذه الحال فإن الذي يتولى الإملال عنه هو القائم بأمره، وهو وليه، سواء كان الوالد، أو غيره.

وتأمل قوله -تبارك وتعالى: إِذَا تَدَايَنتُمْ بِدَيْنٍ ومعلوم أن التداين والمداينة إنما يكون بدين، فلماذا ذكر الدين؟ إِذَا تَدَايَنتُمْ بِدَيْنٍ فلم يكتف بقوله: إِذَا تَدَايَنتُمْ وإنما قال: بِدَيْنٍ فهذه الإضافة لها فوائد، منها: أن ذلك يصدُق على القليل والكثير إِذَا تَدَايَنتُمْ بِدَيْنٍ فهي نكرة في سياق الشرط فهي للعموم، وتُفيد التوكيد أيضًا، وأيضًا ذَكَرَ هذه اللفظة بِدَيْنٍ بسبب وجود الضمير في فَاكْتُبُوهُ اكتبوا ماذا؟ الدين، يعني لو قال: يا أيها الذين آمنوا إذا تداينتم إلى أجل مسمى فاكتبوه، فسيخلو الضمير من عائد يعود عليه، وإنما مفهوم من السياق الذي هو الدين، لكنه صرح به هنا؛ ليكون مرجع الضمير إليه، ولو لم يُذكر؛ لقال: فاكتبوا الدين.

وأيضًا في قوله: إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى مسمى يعني: مُحدد، تسمية الأجل، ومن هنا أخذ بعض أهل العلم، كالإمام مالك -رحمه الله- حكمًا، وهو أنه يجب تحديد الأمد لهذا الدين، وكذلك بالسَلم فيجب أن يُحدد، ويقول مثلاً بتاريخ كذا، في يوم كذا، في شهر كذا[4].

والجمهور فيما يتعلق بالسَلم أنه يصح: إلى وقت الجذاذ مثلاً، يعني: وقت الحصاد، كأن يقول له مثلاً: خُذ هذا المال، والوفاء يكون من الحب، أو من التمر، في وقت الجذاذ، أو في وقت الحصاد، ووقت الحصاد معلوم، ووقت الجذاذ أيضًا معلوم، وهذا هو الأقرب، وهو أنه لا يُشترط التحديد باليوم والتاريخ، وإنما يكفي إلى وقت الحصاد وإلى وقت الجذاذ، فذلك معلوم لدى الناس، وهذا الذي عليه تعامل الناس منذ عهد الصحابة -رضي الله عنهم وأرضاهم، لكن الإمام مالك -رحمه الله- فهم من هذا ضرورة التسمية، وأن ذلك يقطع النزاع.

وقوله: فَاكْتُبُوهُ فهم منه بعض أهل العلم وجوب الكتابة، ولكن ذكرت أن ذلك لا يجب؛ لأنه يوجد ما يصرف هذا الأمر الصريح من الوجوب إلى الاستحباب، في نفس هذه الآية، كقوله تعالى: فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضًا فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمَانَتَهُ وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ [سورة البقرة:283] يعني: يكفي عن الكتابة والإشهاد في البيع، وأيضًا عندما لا يوجد الكاتب، فيُستعاض عن ذلك بالرهن، وهذه قرينة على عدم وجوب الرهن، وغير هذا من القرائن.

وقوله: وَلْيَكْتُبْ بَيْنَكُمْ كَاتِبٌ بِالْعَدْلِ فهم منه بعض أهل العلم: أن حضور الطرفين وقت الكتابة مطلوب، من أجل ألا يقع تدافع، ولا اختلاف؛ لأنه قال: وَلْيَكْتُبْ بَيْنَكُمْ كَاتِبٌ بِالْعَدْلِ فهذا المُقترض المدين يُملي بحضور صاحب الحق، بحيث لا يقول أحد فيما بعد بأنه كتب شيئًا لم أطلع عليه، ولم أُقره عليه، فيقال له عندئذٍ: كيف لم تُقره عليه وأنت حاضر؟ فلاحظ دقة هذه النصوص، ودقة هذه الشريعة، مما يدفع الشر والخصومات، وانظر كثرة المرافعات في المحاكم، حتى صار القضاة لا يستطيعون أن يُدركوا الفصل بين هذه الخصومات، إلا بآجال بعيدة، ربما القاضي يجلس في اليوم الواحد يقضي بما يقرُب من إحدى عشرة قضية، مع أن المعروف أن متوسط القضايا في العَالم: سبع جلسات، وهؤلاء يجلسون قريب من الضعف، ومع ذلك لا يدركون القضاء، فيحتاجون إلى مواعيد لكثرة الناس، وكثرة المشكلات والدعاوى والخصومات، وللأسف قد تجد كثيرًا من هذه الخصومات بين القرابات، وأفراد الأسرة الواحدة، بل بين الأب وابنه، والأخ وأخيه.

يقول: وَلْيَكْتُبْ بَيْنَكُمْ كَاتِبٌ بِالْعَدْلِ يدل أن الكاتب من غيرهما، لم يقل: وليكتب أحدكما؛ دفعًا للتهمة؛ لئلا يقول: هو كتب وزاد، أو نقّص، أو نحو ذلك، فيكتب طرف ثالث، وقال: كَاتِبٌ ومعلوم أن الذي يكتب كاتب، ولكن هذه تُفيد التأكيد، لكن ذكر الكاتب لا سيما مع ذكر العدل يدل على ما يُطلب في هذا الكاتب من أن يكون عارفًا بالكتابة، عارفًا بضبط هذه الكتابة، بحيث لا يوجد فيها خلل لا من جهة القوالب اللفظية، ولا من جهة المعنى والمحتوى والمضمون، فتكون كتابته على حال من الضبط والإتقان، فلا حاجة للاختلاف فيما بعد، في تفسير بعض الألفاظ المُجملة أو وجود ثغرات في هذه الكتابة تفتح باب الاختلاف.

ويدل أيضًا تنكير الكاتب: أن ذلك يتأتى من أي كاتب يكون ضابطًا وعارفًا بالكتابة، فهي ليست متوجهة لمعين من الناس.

ويُؤخذ أيضًا من قوله: وَلْيَكْتُبْ بَيْنَكُمْ كَاتِبٌ بِالْعَدْلِ أن هذه الكتابة تكون على وِفق الشرع؛ لأن هذا هو غاية العدل، وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلاً [سورة الأنعام:115] صدقًا في الأخبار، وعدلاً في الأحكام، فتكون الكتابة موافقة لشرع الله -تبارك وتعالى.

وأيضًا في قوله -تبارك وتعالى: وَلَا يَأْبَ كَاتِبٌ أَنْ يَكْتُبَ كَمَا عَلَّمَهُ اللَّهُ كَاتِبٌ هنا نكرة، في سياق النهي، فهي للعموم، يعني: أي كاتب، كما أن ذلك يتحقق بأي كاتب يُحسن هذه الكتابة، ويضبطها، وموصوف بالعدالة، للمُلازمة بين المطلوب، ومن يتحقق ذلك به، إذا كانت الكتابة بالعدل، فهذا يقتضي أن يكون الكاتب عدلاً.

وأيضًا حينما أمر فقال: وَلْيَكْتُبْ بَيْنَكُمْ كَاتِبٌ بِالْعَدْلِ جاء بما يؤكد ذلك بالنهي وَلَا يَأْبَ كَاتِبٌ هو مأمور بالكتابة وَلَا يَأْبَ كَاتِبٌ أَنْ يَكْتُبَ كَمَا عَلَّمَهُ اللَّهُ فنهاه عن ذلك، والأصل أن النهي للتحريم، فإذا احتيج إليه في الكتابة، فلا يجوز له أن يأبى ويمتنع، لكن لا يُضار -كما قلنا في التعليق على المصباح المنير- في الكلام على قوله تعالى: لا تُضَارَّ وَالِدَةٌ بِوَلَدِهَا [سورة البقرة:233] فقلنا: إن المعنى من جهة التصريف لا تُضَارَّ يعني: لا يُصدر منها الضرر للزوج وأهل الزوج بسبب الولد، يعني لا تُضر هي؛ فلا تُلحق بهم الأذى والضرر بمطالبات لا تنتهي، وأيضًا لا تُضار هي؛ أي: لا يوقع عليها الضرر، بسبب الولد، كأن تُطلب منها مطالب مُجحفة، وتؤذى بسبب هذا الولد، ونحو ذلك.

وهنا نُهي الكاتب والشهيد عن المضارة وَلَا يُضَارَّ كَاتِبٌ وَلَا شَهِيدٌ [سورة البقرة:282] لا يُضار أي: لا يصدر الضرر منه هو، بسبب الكتابة، فيبتز هؤلاء الناس مثلاً لنُدرة الكاتب، أو يُماطل ويضيع الحقوق، وكذلك لا يوقع عليه الضرر، فيُطالب بالكتابة في وقت لا يتهيأ له ذلك فيه مثلاً، فينقطع عن مصالحه وأشغاله التي تفوت، أو يكون في حال من المرض، أو التعب، أو نحو هذا، لكن هو مأمور بالكتابة، منهي عن الامتناع عنها، وَلَا يَأْبَ كَاتِبٌ أَنْ يَكْتُبَ وقوله: كَمَا عَلَّمَهُ اللَّهُ كما أشرت في الليلة الماضية أنه يتضمن معنيين:

المعنى الأول: كما علمه الله أن الكتابة تكون على وفق الشرع، وأن هذه الكتابة تكون صحيحة، في حال من الضبط والإتقان، يعني يكتب كما علمه الله، ولا يكتب على خلاف الشرع.

المعنى الثاني: كَمَا عَلَّمَهُ اللَّهُ أي: مقابل هذه النعمة، شكرًا لها، فيُقابل هذه النعمة -التي هي تعليم الله له- بالإحسان إلى الناس، وبذل هذه المهارة -وهي الكتابة- لمن يحتاج إليه، فتُقضى حاجات الناس، فذّكره -على هذا المعنى- بنعمته عليه، من أجل أن يقوم بشكرها، فينفع الناس، وهكذا كل من أعطاه الله نعمة، فينبغي أن يشكر هذه النعمة، ومن شكر هذه النعمة أن يُحسن إلى الناس، فإن كان ذلك من المال، فكما قال الله تعالى: وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ [سورة القصص:77] هَلْ جَزَاءُ الإِحْسَانِ إِلَّا الإِحْسَانُ [سورة الرحمن:60] فيُعطى للناس؛ لأنه إنما حصل على هذا المال من هؤلاء الفقراء وغير الفقراء الذين يتعاملون معه، ويشترون منه، وإلا لصار كاسدًا في تجارته، فالناس هؤلاء لهم حق عليه.

والعجيب أني قرأتُ عن أحد الغربيين الذين لديهم ثروة، أنه يذهب بنفسه كل أسبوع إلى الأحياء الفقيرة، ويقوم بالتوزيع على الفقراء بنفسه، ويوصل ذلك إلى بيوتهم، والرجل كافر، ويُعلل هذا أنه ليس له أي فضل في هذا الأمر، فيقول: إنما حصّلت هذا المال وهذه الثروة لأن هؤلاء الناس هم الذين يشترون، وبذلك تقوم التجارة، ويتحقق الربح والكسب، فيرى أن لهؤلاء حقًا في هذا المال، فيذهب إليهم ويعطيهم بنفسه كل نهاية أسبوع، ولا يكل ذلك إلى عاملين عنده، بل يذهب بنفسه، ويرى أن هذا من واجبه، ويعطيهم كثيرًا، يعني: أكثر من نسبة 2.5% التي نُخرجها في السنة مرة، ويُجادل فيها بعض الناس ويقول: فيها زكاة أو ما فيها زكاة؟ ويجادل، فتشعر من بعض الناس أنه كالشريك الشحيح الذي يُخاصم ويُجادل، ويُنقر في كل هللة.

وكذلك من أعطاه الله عقلاً ورأيًا وخبرة في مجال من المجالات، فيبذل للناس استشارات يُقدمها لهم مجانًا.

وهذا الإنسان الذي علمه الله العلوم الشرعية، وفقهه في الدين، ينبغي أن يُعلم الناس، ويبذُل ذلك لهم، ولا يبقى كأحد هؤلاء العامة، لا يُنتفع به، ولا يبذل، ولا يُقدم، وجيرانه في الحي ما يستفيدون منه، هذا لا يجوز، ما فائدة هذا العلم والتعليم؟! فعليه أن يُعلم الناس، ويُقدم لهم.

وهذا الإنسان الذي تعلم الطب، فالناس بحاجة إليه، فمنهم من يريد أن يستشير، وهذا مريض يحتاج عناية، وهذا ما عنده ملف في المستشفى، وهذا ما عنده قدرة للوصول إلى الأطباء، ونحو ذلك، وهذا يتصل للاستشارة: هل هذا الدواء مناسب أو غير مناسب؟ وهل هذا الألم ينفع معه العلاج الفلاني، أو لا ينفع؟ وماذا أصنع؟ وبخاصة الأشياء الشائعة التي لا تحتاج إلى فحوصات، مثل الإنسان الذي يُعاني من صُداع، أو يُعاني من إنفلونزا، ماذا يأخذ؟ وماذا يترك؟ فهذه الأشياء سهلة بسيطة.

وهذا الإنسان في حيه ومسجده، ينفع الناس الذين حوله، فينبغي أن يُكبر قلبه، ويوسع صدره، ويجد أثر ذلك عليه، فيزكو علمه، ويدعو هؤلاء الناس له، وهذا أيضًا يعد من تفريج الكُرب؛ لأن هؤلاء الناس قد يكونون في كُربة ومعاناة ومرض، ونحو ذلك، فلا يبخل عليهم، وهكذا فكل صاحب نعمة عليه أن يتذكر نعمة الله عليه، وأن يُحسن إلى الناس، كما أحسن الله إليه.

وفي قوله -تبارك وتعالى: كَمَا عَلَّمَهُ اللَّهُ دلالة على أن التعليم نعمة من الله -تبارك وتعالى، فالله يقول لنبيه ﷺ: وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ [سورة النساء:113] ويقول: وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لا تَعْلَمُونَ شَيْئًا [سورة النحل:78] فيخرج الإنسان صفرًا، جاهلاً، فيتعلم، فالله -تبارك وتعالى- هو الذي يمتن على خلقه بذلك.

ثم إن هذا أيضًا يورث التواضع، فيستشعر الإنسان أن هذا العلم الذي عنده، وهذه الخبرات والمعارف والاطلاع الواسع... إلى آخره، كل هذا من الله، ولو شاء لسلبه منه، وقد حدثني أحد العلماء عن أبيه أنه كان ذكيًا، وكان يستظهر الكتب والموسوعات الكبيرة في الفقه، فيأتيك بالجواب، ويُحيل إلى الجزء والصفحة، ولما تقدمت به السن صار يقوم من مكانه، ثم ينسى لماذا قام؟ فصار إلى حال من الضعف بعد تلك القوة الذهنية والبدنية، فسُلب ذلك، فقد يُصاب الإنسان بداء وعلة، فتموت بعض خلايا المخ، أو يُصاب بجلطة مثلاً، فيُصاب بانفجار في المخيخ أو غير ذلك، وبعد ذلك يصير إلى حال من الضعف والعجز، والقضية ليست شيئًا كبيرًا، وإنما هي شيء يسير، فقد أحد هذه الأوردة والشُعيرات الدموية، أو دم يتجمد في عرق من عروقه في لحظة، ثم لا يستطيع القيام، وقد يغيب عن وعيه، نسأل الله العافية للجميع.

فالإنسان يحمد ربه على هذه النِعم التي أعطاه، فلا يصح أن يحمله ذلك على شيء من العجب والتعالي والتعاظم والغرور، ورؤية النفس، وربما يتعالى على قرابته، وأهل بيته، وزوجته فلا تستطيع أن تتكلم معه، وأولاده لا يستطيعون أن يتكلموا معه، فالبعض هكذا، يعني يعيش في حال لا يستطيع أن يتحدث معه أحد، أهل بيته لا يستطيعون الحديث معه، والبعض لا يجلس معهم على طعام.

هذا قد يقع من بعض الناس الذين عندهم مال كثير، أو الذي يعتبر نفسه شخصية في منصب وجاه، أو نحو ذلك، أنا أتحدث عن أشياء أعرفها، أولاده يقولون: لا نستطيع أن نتحدث معه، ولا يُفاتح في موضوع، ولا يُناقش في قضية، ولا يُقترح عليه اقتراح، فإذا حضر وجلس لا يتكلم أحد، لا الزوجة، ولا الأولاد، ولا البنات، ولا غيرهم، الكل صامت إلى أن يخرج، فهل هذه حياة؟!

أين حياة النبي ﷺ ومعاشرته، وتواضعه، جارية تأخذ بيده وتذهب به حيث شاءت، فهذا الكبر والتعاظم إنما هو من رعونات النفس، والواقع أنه لنقص العلم، وإلا فكل ما ازداد الإنسان علمًا ازداد إخباتًا، وتواضعًا لله وللخلق، لكن البعض لا يزيده العلم إلا غيًا وصلفًا وكبرًا وتيهًا، نسأل الله العافية.

وهكذا المال قد يفعل ببعض الناس هكذا، خاصة المال والغنى الطارئ، يعني الذي ورث الغنى من أبائه وأجداده قد يكونون في حال من التواضع في الغالب، ما كأنهم أغنياء أحيانًا، لكن المشكلة الذي يصير إلى غنى فجأة -نسأل الله العافية- وهذا في بعض الناس، وليس كل الناس يتحول إلى شيء آخر.

فالمقصود -أيها الأحبة- أن الإنسان أيًا كانت النعمة التي أسداها الله إليه، فينبغي أن يكون ذلك سببًا للشُكر والتواضع لربه وللخلق، والإحسان إليهم، ولا يستشعر بالمِنة والفضل على هؤلاء الناس.

وأيضًا قال: فَلْيَكْتُب فنهاه عن الإباء، ثم أمره بالكتابة، وَلْيَكْتُبْ بَيْنَكُمْ كَاتِبٌ بِالْعَدْلِ وَلا يَأْبَ كَاتِبٌ أَنْ يَكْتُبَ كَمَا عَلَّمَهُ اللَّهُ فَلْيَكْتُبْ فهذا كله تأكيد؛ لأن حفظ الحقوق يتوقف على مثل هذه القضايا، فلا يمتنع لا سيما مع قلة الكتابة، في الزمن السابق حينما تقرأون إبان البعثة الذين كانوا يعرفون في الحجاز الكتابة قد لا يتجاوزون أصابع اليد الواحدة، تقرأ عن تاريخ الكتابة من أين جاءت؟ بالتسلسل وبالأسماء: فلان في مكة، أخذ من فلان من الطائف، ومن فلان في العراق، أخذوها بهذه الطريقة، كأفراد؛ ولذلك كان فداء الأُسارى في غزة بدر أن من كان يُحسن الكتابة والقراءة، فإنه يُعلم عشرة من صبيان المسلمين، ثم يكون فكاكه، هذا الفداء، لقلة الكتابة.

وقد قال بعض أهل العلم في قوله تعالى: هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ قال هذا القرآن، وَيُزَكِّيهِمْ تطهير النفوس بالإيمان والطاعة، وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ [سورة الجمعة:2] قالوا: يُعلمهم الكتاب، يعني الرسم بالقلم، وهي الكتابة، (الكتاب والحكمة) فالكتاب هو القرآن، والحكمة هي السنة، هذا هو المشهور، لكن بعض العلماء قال: المراد هنا في سورة الجمعة وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ هي الكتابة، لماذا؟ قالوا: لسببين:

السبب الأول: أنها في مقام المنة على الأُميين، والأُمي هو الذي لا يعرف الكتابة؛ ولما جاء النبي ﷺ انتشرت الكتابة وشاعت.

الأمر الثاني: قالوا: إنه ذكر الكتاب يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ قالوا: من أجل ألا يكون تكرارًا، والتأسيس مقدم على التوكيد، وأنا لا أقصد أن هذا هو القول الراجح، لكنه قول له حظ من النظر، وإن كان الغالب في الاستعمال في ذكْر الكتاب لا سيما مع الحكمة أنه القرآن، لكن ليس المقصود هنا بيان تحقيق ذلك، وإنما المقصود تفتيق الأذهان، وبيان هذه الهدايات، وما تتضمنه هذه الجُمل والألفاظ من المعاني.

فَلْيَكْتُب فهذا يُفيد التأكيد، حيث أكده بعدة مؤكدات، بالأمر مرتين، ونهى عن الامتناع من الكتابة. 

 

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ وَلْيَكْتُبْ بَيْنَكُمْ كَاتِبٌ بِالْعَدْلِ وَلا يَأْبَ كَاتِبٌ أَنْ يَكْتُبَ كَمَا عَلَّمَهُ اللَّهُ فَلْيَكْتُبْ وَلْيُمْلِلِ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ وَلا يَبْخَسْ مِنْهُ شَيْئًا فَإِنْ كَانَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ سَفِيهًا أَوْ ضَعِيفًا أَوْ لا يَسْتَطِيعُ أَنْ يُمِلَّ هُوَ فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ بِالْعَدْلِ وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ أَنْ تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الأُخْرَى [سورة البقرة:282] إلى آخر ما ذكر الله -تبارك وتعالى.

وقد تحدثنا عن صدرها، وهنا يقول الله -تبارك وتعالى: وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ أي: اطلبوا شهادة رجلين عدلين، من المسلمين، تتحقق فيهما شروط الشهادة، كالبلوغ، والعقل، والعدالة، فإن لم يوجد رجل فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ أي: ترضون شهادتهم؛ وذلك من أجل أن تُذكر إحدى المرأتين الأخرى، حال نسيانها.

فمن قوله -تبارك وتعالى: وَلْيُمْلِلِ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ أخذ منه بعض أهل العلم: أن القول قول المدين، فيما لو حصل تخالف بين الدائن والمدين؛ لأن الله أرجع ذلك إليه وَلْيُمْلِلِ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ فالذي عليه الحق هو المدين، الذي ستتوجه إليه المطالبة، فكان الإملاء والإملال -وهما بمعنى واحد- صادرًا منه، من أجل أن لا يُنكر، ويقول: كُتب عليّ وأُلزمت بأشياء، وفُرضت عليّ أموال، لم أُقر به، ولم اقترضها مثلاً، كذلك لو أملى صاحب الحق فقد يزيد، لكن هنا وَلْيُمْلِلِ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ وهذا يدل على أن إقرار الإنسان على نفسه مقبول وصحيح، إن كان من غير إكراه، فهنا إذا أقر وأملى فمعنى ذلك أنه يُسجل ذلك على نفسه، ويُقر بهذا الحق للطرف الآخر.

كذلك قد يصدر عن هذا الذي عليه الحق (المدين) في إملائه بعض المخالفة، فقد يبخس من حق الدائن شيئًا، فذكّره بقوله: وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ وَلا يَبْخَسْ مِنْهُ شَيْئًا ففي هذا المقام يُحذره، وذكر هذين الاسمين الكريمين (الله) وهو المألوه المعبود وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ فهو معبوده، وذكر (الرب) وأضافه إليه، ففي هذه معنى التخويف، باعتبار أن من معاني الرب: التدبير وإنزال العقوبة، فهذا كله راجع إلى ربوبيته -تبارك وتعالى، وكذلك الإحسان وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ فجمع له بين هذا وهذا، يتقي الله ربه، فإن اتقى الله ربه فإن الله يُحسن إليه، فهذا من معاني الرب، فلو حصل بخس وتجاوز وشطط فهنا يمكن أن يُعاجله بالعقوبة، أو يؤخر ذلك إلى يوم القيامة، هذا من معاني الربوبية، فالرب هو الذي يُدبر أمر الخليقة، ويتصرف فيهم، ومنه النفع والضُر، ويُثيب أقوامًا، ويُعذب آخرين، فجمع بين هذين الاسمين لتربية المهابة، والمبالغة في التحذير والتخويف، فهذا يُربي التقوى في نفسه من جهة ذكر لفظ الجلالة (الله) فهو المألوه، وذكر الرب يخوفه من انتقامه؛ لأن مقام الربوبية قد يقتضي ذلك إذا كان العبد مسيئًا.

وأيضًا وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ هذا أمر، والأمر للوجوب، وتقوى الله واجبة، والله خاطب النبي ﷺ بذلك يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللَّهَ [سورة الأحزاب:1] فلا ينبغي لأحد أن يأنف حينما يوجه إليه مثل هذا، والله قد ذم من كان بهذه الصفة، وهي الأنفة، وَإِذَا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللَّهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالإِثْمِ [سورة البقرة:206] فالمؤمن الكيّس العاقل إذا قيل له: اتقِ الله، تذكر وأذعن وخاف وارعوى، وتوقف عن الإساءة والظلم والعدوان على الناس، وأخذ الأموال، ففي مثل هذه المقامات يُقال للإنسان حينما يغلب عليه الطمع، وتتحرك نفسه لأخذ أموال الناس: اتقِ الله، وقد يُخاصم ويُجادل ويكتم ويدعي أشياء ليست له، وهذه الخصومات التي تقع في المحاكم تمتلأ به أروقة هذه الجهات، فلو أن هؤلاء اتقوا الله لاستراح القضاة، وأراح هؤلاء أيضًا أنفسهم.

فهذا الخطاب وَلْيَتَّقِ اللَّهَ موجه للذي عليه الحق، لما كان هو الذي يُملي، وليس الدائن صاحب الحق، فقد يقول قائل: قد يحصل أيضًا بخس من قِبل من كان عليه الحق، فهنا خاطبه وذكره: وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ سيده وخالقه، والمتصرف فيه، وهو مالكه ، وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ فهذا فيه من الزجر والتخويف ما فيه، وكذلك أيضًا ذكْر الربوبية -كما سبق- فيه معنى الإحسان.

فالله -تبارك وتعالى- هو الذي شرع هذه الشرائع، من أجل إثبات هذه الحقوق، ومن أجل أن لا تضيع، فلا يليق بالعبد أن يقع منه ما يكون به أخذ أموال الناس بالباطل، وليتقِ الله فمن قضيت له بحق مسلم، فإنما هي قطعة من النار، فليأخذها أو فليتركها، [5] بهذا المفهوم ينبغي أن ننظر إلى الحقوق، الذي لا يُدفع الآن سيُدفع غدًا، حيث لا دينار، ولا درهم، فخير للإنسان أن يخرج من هذه الدنيا، وهو خفيف الحِمل، لا تبعة عليه، ولا يُطالبه أحد بشيء من الحقوق، والأصل في حقوق الناس المشاحة، بخلاف حقوق الله ، فالأصل فيه المسامحة.

وأيضًا في قوله: وَلا يَبْخَسْ مِنْهُ شَيْئًا تذكير له أيضًا، ومبالغة في التذكير؛ وليتقِ الله فلا يأخذ ما ليس له، ولا يُنقص من حق أخيه الدائن، ولا يُنقص منه شيئًا، وعبّر بهذه اللفظة وَلا يَبْخَسْ التي لو قلبت المعاجم في لغة العرب لن تجد لفظة تفي بمؤداها، وأصل هذه المادة تُقال للعين العوراء، فشّبه هذا، أو عبّر عنه بمثل هذه العبارة التي تدل على عيب ونقص في الحق، وفي هذه المزاولة والتصرف يُقال: بخست عينه يعني عورت، وأصابها العور، فهذا توضيح وتصريح وبيان وافي بحقيقة هذا التصرف، حيث يُنقص هذا الحق، فهو بخس له، فهذا كالعور الذي يكون في العين، فهو نقص فيها.

وَلا يَبْخَسْ مِنْهُ شَيْئًا أي: من الحق، وهذا الحق هو لكل طرف من هؤلاء الدائن والمدين، فهنا حذره من البخس منه؛ لأن ذلك يعود ضرره على الطرفين، وَلْيُمْلِلِ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ وَلا يَبْخَسْ مِنْهُ شَيْئًا فَإِنْ كَانَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ سَفِيهًا أَوْ ضَعِيفًا أَوْ لا يَسْتَطِيعُ أَنْ يُمِلَّ هُوَ فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ بِالْعَدْلِ لاحظ هنا كلمة الحق وَلْيُمْلِلِ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ وأعاد الحق مرة أخرى فقال: فَإِنْ كَانَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ لاحظ فالحق أحق أن يُتبع، فهذا أُعيد مرة بعد مرة من أجل لزومه، وما بعد الحق إلا الباطل، فكيف يتبع الإنسان الباطل، ويتمسك به، ويُجادل عنه، والباطل أصله من الذهاب، فهو شيء ذاهب باطل؛ ولهذا يُقال للشجاع الذي يُقدم في المعركة: بطل، باعتبار أنه لشدة إقدامه كأنه قد أبطل دمه، فأصل هذه المادة ترجع إلى معنى الذهاب والاضمحلال والزوال، فهذا هو الباطل، والله -تبارك وتعالى- يقول: وَقُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ [سورة الإسراء:81] فحينما ذكر الباطل قال: وَزَهَقَ الْبَاطِلُ يعني: ذهب واضمحل وتلاشى.

وكذلك أيضًا في قوله: فَإِنْ كَانَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ قال: عَلَيْهِ فهذه اللفظة هنا في هذا الموضع لها دلالتان:

الأول: أن ذلك يدل على اللزوم، تقول: عليك حق، بمعنى أن ذلك يلزمك، وعليك صيام ثلاثة أيام، وعليك فدية، بمعنى أن ذلك يجب عليك، فالعبارات الدالة على اللزوم والوجوب شرعًا كثيرة، منها: هذه، إذا قال: عليك كذا، يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ [سورة البقرة:183] يعني: فُرض، فالكتْب يدل على الوجوب، وكذلك أيضًا لفظة (على) عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ فهو لازم عليكم.

وأيضًا هذه اللفظة عَلَيْهِ الْحَقُّ أخذ منها بعض أهل العلم أن كلمة (على) تدل على استعلاء عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ [سورة الأنعام:39] يدل على علو على هذا الصراط، فهنا عَلَيْهِ الْحَقُّ فهم منها بعض أهل العلم أن لصاحب الحق كلمة، وله مقال، مع أن هذا الاستنباط لا يخلو من إشكال؛ لأن ذلك لو وجِه إلى الدائن لكان أقرب، والله أعلم، لكنه جاء في حق المدين، فالحق متوجه إليه.

وقوله: فَإِنْ كَانَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ سَفِيهًا أَوْ ضَعِيفًا أَوْ لا يَسْتَطِيعُ أَنْ يُمِلَّ هُوَ فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ بِالْعَدْلِ فهذا من رحمه الله بالعباد، من أجل أن لا تضيع الحقوق، فهذا الإنسان الذي عليه الحق إذا كان لا يُحسن التدبير بالمال، ونحو ذلك، فمثل هذا كيف يضيع حقه بإقراره، ثم يأتي هذا الإنسان الآخر -الطرف الآخر الذي ضيع حقه وأكل ماله- ويقول: هو أقر بهذا، ما شأنكم أنتم؟ يُقال: لا، إقرار السفيه لا يعتبر، والسفه هو خلاف الرُشد، فالذي لا يُحسن التصرف بالمال، فمثل هذا السفيه إقراره لا يُعتبر، لو أن هذا السفيه قال: عليّ مائة ألف أقر بها، وجاء الطرف الآخر فرحًا مستبشرًا مسرورًا، يقول: هو قال، وهو أقر بهذا، وهو كتب هذه الورقة، وهؤلاء الشهود شهدوا على إقراره، نقول: إقراره غير مُعتبر.

فَإِنْ كَانَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ سَفِيهًا أَوْ ضَعِيفًا لا يوجد شيء اسمه "القانون لا يحمي المغفلين" القانون أول من يحمي المغفلين، والرجل الذي جاء إلى النبي ﷺ أنه يُغبن ويُخدع في البيع، فقال النبي ﷺ: إذا بايعت فقل: لا خلابة [6] انتهى، ويوجد في الشريعة ما يُعرف بالغبن، فمن الأحوال التي تُرد بها السلعة الغبن، وإن اختلف العلماء في مقدار هذا الغبن، فإذا ذهبتُ واشتريتُ هذه الساعة، وهذه الساعة قيمتها في السوق مائة وعشرين ريال، واشتريتها بثلاثمائة، وأنا لا أعرف قيمة الساعات، فما الحكم؟ من حقي شرعًا الغبن، فيُخير بين أمرين، إما أن يرد فرق السعر، تُباع بقيمة المثل مائة وعشرين، والباقي يرجع، أو أقول له: خذ السلعة، أنا لا أُريدها، ولا أتعامل مع غشاش، فيردها وجوبًا، فما يضيع الحق شرعًا، فهذا معنى الغبن.

لكن اختلف العلماء في مقدار الغبن المعتبر شرعًا، هل هو زيادة الرُبع على القيمة في السوق، أو الثلث؛ لأن النبي ﷺ قال في الوصية: الثلث، والثلث كثير [7] فقال: كثير فمعنى ذلك أن إذا كان الثلث كثير، وأن الرُبع مُعتبر، فبعض العلماء قال: الرُبع، وبعضهم قال: الثلث، المهم أنه لا يضيع أحد في هذه الشريعة، لا تضيع حقوق الناس، فأول من تحميه هؤلاء الضعفاء، فكونه يأخذ مال الإنسان، ويقول: القانون لا يحمي المغفلين، من سيحمي إذًا؟ إذا لم يحم هؤلاء المساكين؟!

فقوله: فَإِنْ كَانَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ سَفِيهًا أي: لا يُحسن التصرف والتدبير أَوْ ضَعِيفًا لصغره مثلاً، أو مجنونًا، فهذا الطفل بيعه وشراؤه غير معتبر، فضلاً عن إقراره، لكن العلماء رخصوا في الأشياء اليسيرة، يعني لو ذهب واشترى حلوى، أو شيئًا يسيرًا، فهذه جرت العادة بالتسامح فيها، لكن الطفل إذا ذهب واشترى جهازًا كهذا مثلاً، ثم أتى به إلى أهله، فمن حق الأهل أن يُرجعوه، ويقولون: هذا ضعيف، لا يمضي بيعه وشراؤه، أو ذهب هذا الطفل وباع الجهاز الذي معه، اشتراه له أبوه، فهذا البيع لا يُمْضَى؛ لماذا؟ لأن بيعه غير معتبر، وهبته غير معتبرة، وهديته غير معتبرة، إلا في الأشياء التافهة والأشياء اليسيرة، كأن يهدي حلوى، أو يهدي شيء من هذا القبيل، أما الأشياء التي لها قيمة والأشياء المعتبرة، فالشريعة تحفظ هذه الحقوق لهؤلاء الضعفاء؛ لأنه غير راشد، ومن ثَم فإنه قد يبيع ببخس، وقد يُستغل ويُستغفل، وتؤخذ أمواله، وتُشترى منه هذه السلعة بشيء لا يُكافأ قيمتها الحقيقية.

سَفِيهًا أَوْ ضَعِيفًا أَوْ لا يَسْتَطِيعُ أَنْ يُمِلَّ هُوَ لكونه معتل اللسان، ولا يستطيع أن يُبين، أو لا يستطيع أن يتكلم، ولا يستطيع أن يُمل، فمثل هذا فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ بِالْعَدْلِ فدل هذا على أن إقرار الطفل الصغير والسفيه غير معتبر، لكن لو أتلفوا أشياء للآخرين، فإنهم يضمنونها فإن كان لديهم مال فمن مالهم، فلو أتلفوا شيئًا للناس فإنهم يتحملون ذلك من مالهم.

وقوله: فَإِنْ كَانَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ سَفِيهًا أَوْ ضَعِيفًا أَوْ لا يَسْتَطِيعُ أَنْ يُمِلَّ هُوَ فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ بِالْعَدْلِ هذا يدل على أن الحق يتوجه إلى الصغير، عَلَيْهِ الْحَقُّ فالحق صار متوجهًا إليه، لكن من الذي ينوب عنه؟ الولي الراشد، فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ بِالْعَدْلِ كذلك المجنون قد يتوجه إليه الحق والمطالبة، لكن الذي يقوم مقامه هو الولي فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ بِالْعَدْلِ.

ففي قوله: فَإِنْ كَانَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ سَفِيهًا أَوْ ضَعِيفًا أَوْ لا يَسْتَطِيعُ ذكر الأصناف الثلاثة في الضعف والعجز والسفه والصِغر، ونحو ذلك، فهذه أسباب القصور التي لا يكون معها الإنسان مؤهلاً للإملال؛ وذلك لعدم حُسن التصرف بالنسبة للسفيه والصغير والمجنون، والذي لا يستطيع الإملاء ولو كان راشدًا؛ لأنه أخرس، أو به عيب في لسانه، فإن ذلك يكون لوليه أَنْ يُمِلَّ هُوَ فجاء بهذا الضمير المنفصل، المتعلق به، فهذا فيه تأكيد، وإلا الأصل أن يُمل، بالضمير المستتر، يعني هو، لكن أبرزه هنا وقال: هُوَ فهذا يدل على تأكيد؛ لأن هذا غير مستطيع بنفسه، يعني: قد يكون مستطيعًا بغيره، فقد يُلقنه وليه، لكن هنا لا حاجة لهذا التلقين، وإنما يقوم الولي مُباشرة عنه.

وأيضًا هذا الضمير هُوَ يوطأ ويُمهد لقوله: وَلْيُمْلِلِ لئلا يتوهم متوهم أن عجزه يُسقط عنه واجب الإشهاد عليه بما يستدينه، وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ فإذا كان هذا المستدين سفيهًا، أو ضعيفًا، أو لا يستطيع أن يُمل هو، فليُملل وليه بالعدل، فهنا يبقى الكتابة، ولو كان هذا من القاصرين.

وأيضًا يدل على قبول قول الولي فيما يُقر به على من كانت له عليه ولاية، فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ فما أقر به هذا الولي فهو بمنزلة ذاك الذي ضعُف عن هذا المقام، وقوله: فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ فيه ثبوت الولاية بالأموال؛ لأن الولاية أنواع: هناك ولاية نكاح، يعني: يتولى التزويج ولاية نكاح، وهناك ولاية على المال فقط، يبيع ويشتري، ونحو ذلك، وهناك ولاية على النفس، الولاية على النفس كأن يوقع عن عملية تُجرى له في المستشفى، فلا يوقع هذا طفل، توقيعه لا قيمة له، أو مجنون يُقال له: وقع! وإنما الذي يوقع هو الولي هنا، فهذه ولاية على النفس، يتولاها الولي بالنسبة لهؤلاء الضعفاء، أو كأن يكون هذا الصغير قد يُعطى له علاج له آثار عليه، فيحتاج توقيع، فمن الذي يقوم بهذا؟ الولي وليس الطفل، وهكذا.  

 

وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ أَنْ تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الأُخْرَى وَلا يَأْبَ الشُّهَدَاءُ إِذَا مَا دُعُوا وَلا تَسْأَمُوا أَنْ تَكْتُبُوهُ صَغِيرًا أَوْ كَبِيرًا إِلَى أَجَلِهِ ذَلِكُمْ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ وَأَقْوَمُ لِلشَّهَادَةِ وَأَدْنَى أَلَّا تَرْتَابُوا إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً حَاضِرَةً تُدِيرُونَهَا بَيْنَكُمْ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَلَّا تَكْتُبُوهَا وَأَشْهِدُوا إِذَا تَبَايَعْتُمْ وَلا يُضَارَّ كَاتِبٌ وَلا شَهِيدٌ وَإِنْ تَفْعَلُوا فَإِنَّهُ فُسُوقٌ بِكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ [سورة البقرة:282].

والمعنى: اطلبوا شهادة العدول من رجالكم، ممن ترضون من الشهداء، فإن لم يكن رجلان فشهادة رجل مع امرأتين، تكفي وتُجزئ، ويحصل بها المقصود؛ وذلك من أجل إذا نسيت إحداهما ذكرتها الأخرى، وعلى الشهود هؤلاء أن يُبادروا في إجابة من دعاهم إلى الشهادة، من غير تلكُأ، ولا مُماطلة، ولا تمنُع، وعليهم أن يؤدوا هذه الشهادة بمجرد طلبهم إليها.

وَلا تَسْأَمُوا أي: لا تملوا، ولا تستثقلوا من كتابة الدين، سواء كان ذلك قليلاً، أو كثيرًا، فيُكتب إلى وقته المحدد، فذلك أعدل عند الله -تبارك وتعالى، وفي شرعه، وهو أعظم عونًا على إقامة الشهادة، وعلى أدائها، وعلى إثبات الحق، وأقوم للشهادة، وأقرب أيضًا، وَأَدْنَى أَلَّا تَرْتَابُوا فتنتفي الشكوك والاحتمالات، وما إلى ذلك، سواء كان ذلك في قدر الدَّين، أو في جنسه، أو في أجله، وإلى متى كان الاتفاق؟ إلا إذا كانت المسألة مسألة بيع وشراء، ومعاطاة مُباشرة، فليس فيها دين، ولا تأجيل، فلا حاجة إلى الكتابة، لكن يُستحب الإشهاد، وَأَشْهِدُوا إِذَا تَبَايَعْتُمْ.

وفي قوله: وَلا يُضَارَّ كَاتِبٌ وَلا شَهِيدٌ فهؤلاء الشهود يجب عليهم الإجابة، لكن من غير ضرر يُلحق بهم، ولا يُلحقون الضرر أيضًا بمن احتاج إلى شهادتهم، وإن تفعلوا ما نهاكم الله -تبارك وتعالى- عنه، فإن ذلك فُسُوقٌ يعني: خروج عن طاعته -تبارك وتعالى، والله تبارك يُذكرهم ويخوفهم، ويأمرهم بتقواه، كما سيأتي الكلام على آخر الآية -إن شاء الله تعالى.

فيُؤخذ من قوله: وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ أن الأصل في الشهادة الرجال، وأن شهادة النساء استثناء؛ لأن المقصود هو إثبات الحق، والمرأة تُقبل شهادتها فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ وهذا في قضية مالية، فالنساء شقائق الرجال، ولكن لما كان الغالب في المرأة أنها قد تنسى، وقد يعرض لها النسيان، كانت شهادة الرجال مقدمة، وكانت شهادة الرجل بشهادة امرأتين.

وهذا باعتبار الغالب، وإلا لا شك أن بعض الرجال شهادته، لا تُكافأ شهادة المرأة، وأن شهادة المرأة أوثق وأكمل وأحسن وأثبت، وكم من النساء من هن أعقل من كثير من الرجال كما هو المعلوم، لكن الكلام باعتبار الغالب، أن المرأة يغلب عليها النسيان، المرأة ركبها الله تركيبًا خاصًا لمهمة أصيلة شريفة، وهي تخريج ورعاية الجيل، فكانت جُل إمكاناتها، وقُدراتها موجهة في هذا الاتجاه، فلديها من الصبر والاحتمال على رعاية الصغار، مع ما يسبق ذلك من الحمل والولادة، ونحو ذلك ما لا يوجد عند الرجال، فأقوى الرجال حينما يتململ الصغير، ويصيح، أو يمرض، أو نحو ذلك، فإنه قد لا يحتمل رعايته، لا أقول: ساعة واحدة، بل لربما لبضع دقائق، ثم يخرج الرجل عن طوره، وهذا مُشاهد، لكن المرأة تعيش السنوات معهم، وهذا بعد هذا، فقد تلد في كل عام، وتجد أنها في غاية الصبر، ويمرضون وتسهر معهم، وربما يتعاقبون عليها، هؤلاء في الليل، وهؤلاء في النهار، ومع ذلك هي صابرة، وتقوم بتنظيفهم مما يترفع عنه الرجل، ولو قيل للرجل: تقوم بتنظيف هذا الولد، لكان ذلك بالنسبة إليه أمرًا في غاية العُسر، بينما المرأة تقوم بهذا كله، وتُصلح شؤون الزوج والبيت، وما إلى ذلك، بكل اقتدار.

فهذه قُدرات الله -تبارك وتعالى- وزعها بين هؤلاء الخلق، كل بما يصلح له؛ ولذلك ركب الله المرأة في جسمها تركيبًا يختلف عن تركيب الرجل؛ ولذلك تجد المرأة مهيأة للإرضاع؛ ولذلك ليس للرجل، وتجد المرأة مهيأة للحمل، وليس ذلك للرجل، وحوض المرأة أكبر من حوض الرجل؛ لماذا؟ لأن ذلك مُهيأ للحمل، إلى غير ذلك من الخصائص الكثيرة.

ونجد -كما يقول الأطباء- تلافيف المخ عند الرجل أكثر، ورباطة الجأش عند الرجل أكبر؛ ولذلك نُهي النساء عن اتباع الجنائز، وزيارة المقابر؛ لأنها مجبولة على الرقة، وهذه الرقة تحتاج إليها من أجل العطف على الصغار، فلو كانت قاسية، ولو كانت تحمل قلب رجل لشقي معها هذا الصغير، يكون فيها من الغِلظة والفظاظة والشدة، والصغير يحتاج إلى حنان وعطف، وما إلى ذلك، فهذه مواهب وقدرات، وقد نهى الله أن يتمنى الرجال أو النساء شيئًا مما فضل الله بعضهم على بعض.

فيؤخذ من هذه الآية: تقديم شهادة الرجال، وشهادة النساء هنا -كما ذكرت في قضية مالية- فتُقبل شهادة النساء في القضايا المالية، ونحو ذلك، ولكن هناك أبواب لا تُقبل فيها شهادة المرأة، إلا في حالات استثنائية، مثل: قضايا الجنايات والدماء، وقضايا القتل والجراح، وما أشبه ذلك، فهذه الأصل لا تُقبل شهادة المرأة فيها؛ لضعف قلبها، ولكن من أهل العلم من استثنى بعض الحالات فيما يقع في أوساط النساء، يعني لا يوجد إلا نساء، مثل شهادة الصغار، قالوا: لا تُقبل شهادة الصغار في أي باب من الأبواب.

لكن من أهل العلم من استثنى فيما إذا كان ذلك وقع بين الصغار، يعني: جريمة وقعت بين أطفال، ولا يوجد غيرهم، فيُفرقون، كما جاء عن المالكية[8] ثم يُسأل كل واحد قبل أن يرجعوا إلى آبائهم وأهلهم، ويوجه إليهم السؤال مفرقين، ولا يجتمعون، ثم بعد ذلك يُسمع منهم، هذه في قضية تتعلق بالدماء، وكذا يقبل شهادة المرأة في قضايا تتعلق بالبكارة، وما أشبه ذلك، وصفة الجنين الذي سقط، ونحو هذه القضايا التي لا يطلع عليها الرجال، فهذه تؤخذ فيها شهادة المرأة، بل قد تُقبل شهادة امرأة واحدة في بعض القضايا، واختلف العلماء في شهادة أربع نسوة، بدلاً من رجل وامرأتين، على كل حال ليس هذا مقام الكلام على الأحكام الفقهية، ولكن نُشير إشارات إلى بعض المعاني والهدايات.

وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ هذا يدل على أنهم من الرجال، ومن المسلمين؛ لأنه أضافهم إليهم مِنْ رِجَالِكُمْ ولم يقل: من الرجال، وجاء الاستثناء في شهادة غير المسلمين، في آية المائدة تَحْبِسُونَهُمَا مِنْ بَعْدِ الصَّلاةِ فَيُقْسِمَانِ بِاللَّهِ [سورة المائدة:106] فهذا في حال معينة، وهي حال الوصية في سفر، لا يوجد أحد من المسلمين، فمن أجل إثبات هذه الوصية والحق، ونحو ذلك، فتُقبل شهادتهم في هذه الحال، إِنْ أَنْتُمْ ضَرَبْتُمْ فِي الأَرْضِ فَأَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةُ الْمَوْتِ تَحْبِسُونَهُمَا مِنْ بَعْدِ الصَّلاةِ [سورة المائدة:106] فهذه شهادة الكفار.

وأيضًا وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ هذا يدل على صحة شهادة المملوك، وقد تكلم الحافظ ابن القيم -رحمه الله- على هذا تفصيلاً، وانتصر له بقوة في كتابه (إعلام الموقعين)[9] وهذا لا إشكال فيه؛ لأنه رجل، فلا يُطلب للشهادة الحرية بأن يكون الشاهد حرًّا.

ولاحظ الصيغة في وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ فلم يقل: استشهدوا شاهدين، وإنما قال: شَهِيدَيْنِ شهيد على وزن فعيل، وصيغة فعيل صيغة مُبالغة، فالتعبير بصيغة المبالغة هنا يدل على استكمال الأوصاف والشروط المطلوبة بالشاهد، ويدل أيضًا على تمكن هؤلاء من الشهادة، وعلى كثرة وقوعها منهم؛ لأنهم مقبولون لدى الحكام، يعني القضاة، فيقبلون شهادتهم؛ لأنهم قد اعتادوا بالإدلاء بالشهادة، وفي السابق القضاة لم يكونوا يقبلون من أي أحد يأتي ويشهد، وإنما يأتي معه بمزكين، ونحو ذلك، فكان الذين تُقبل شهادتهم هم ممن عُرفوا بالعدالة وتحققها لدى القاضي.

والتاريخ فيه أخبار وأشياء تدل على فراسة القضاة، ونحو ذلك، أذكر واحدة منها، وهي أن أحد هؤلاء الذين توجه نظر القاضي إلى قبول شهادتهم، فكان يُكثر حضور مجلس القاضي، فقيل له: القاضي يُريد أن يعتبر شهادتك، فجاء ذلك اليوم إلى مجلس القاضي، وجلس وطال جلوسه ومكثه، ولم يُكلمه القاضي عن شيء حتى انصرف، فلما سُئل القاضي: أردتَ أن تعتبر شهادة فلان، فلما جاء وجلس لم تُكلمه، ولم تُفاتحه في شيء، فقال: بأن خطواته حينما كان يأتي في المرات السابقة، أي: عدد الخطوات ومقدارها وتقاربها، تختلف عن هذه المرة، فهذه المرة كانت خطواته وئيدة بطيئة، يعني يُظهر مزيد من الوقار والسكينة، ويمشي مشيًا وئيدًا، فعرف القاضي أنه يتصنع، وأنه يتطلع إلى الشهادة وإثباتها، وإثبات عدالته، ونحو ذلك، فصرف النظر عنه، فكان للقضاة في السابق قوة ودقة في الملاحظة.

وكان لهم أخبار وعجائب تدل على فراستهم، ولا بأس أذكر شاهدًا أو شاهدين في فراسة القضاة سابقًا، ويوجد في الأمة خير كثير إلى يومنا هذا، فقد اختصم رجلان عند القاضي، فذكر أحدهما: أنه أقرض -ونحن نتحدث عن آية الدين- رجلاً مالاً، فجحد ذاك، فقال: ما أعطاني شيء، ولا أخذت منه شيئًا، قال: لعلك نسيت، قال: لا، فقال للدائن (صاحب المال): أين أعطيته؟ قال: عند الشجرة الفلانية، في المكان الفلاني، قال: اذهب هناك لعلك تتذكر غيره، فذهب، وانشغل القاضي عن الطرف الآخر (المُستدين المُنكر الجاحد) وتشاغل عنه مدة، ثم فاجأه بسؤال قائلاً: هل تظنه بلغ المكان الذي أقرضك فيه، يعني: الشجرة الفلانية؟ قال: لا، لم يبلغ بعد، يعني: لم يصل بعد، باقي له وقت، المكان بعيد، فعرف أنه كاذب، فألزمه بأداء ما عليه.

ومثال آخر: وهي قضية شبيهة بهذه، وهي أن رجلاً جاء يدعي على آخر مالاً، قد أنكره، فأوعز القاضي إلى رجل أن يذهب إلى ذاك المنكر، ويقول له: القاضي يسأل عن دارك هل هي حصينة، يريد أن يضع فيها أموالاً وودائع؟ قال: نعم، داري حصينة، ثم قال لصاحب الحق: ارفع دعوى على هذا الرجل، فاستدعاه القاضي، فقال: هذا يدعي عليك أنك أخذت منه كذا وكذا، قال: نعم، أوفيه الساعة، فاعترف، لماذا؟ لأنه يريد أن يُرسل القاضي إلى داره ودائع وأموال، فيُحصل له أكثر مما أخذ من هذا الرجل، فقال: نعم، أوفيه الساعة.

ففي قول الله -تبارك وتعالى: وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ هؤلاء الشهود لم يشهدوا بعد، ومع هذا سماهم ووصفهم بـشَهِيدَيْنِ باعتبار ما سيكون، يعني مثل قد قامت الصلاة، يعني قرُب قيامها، والشيء قد يُسمى بما يصير إليه حاله، وقد يُسمى باعتبار ما سبق، يعني: مُطلقة الرجل التي بانت منه قد يُقال لها: زوجة، باعتبار الماضي.

وهذا أيضًا فيه إشارة إلى أن هؤلاء الذين يدعون إلى الشهادة بمجرد دعوتهم ينبغي أن يُبادروا إلى الشهادة، وتتعين في حقهم وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ وهذا بمفهوم المخالفة يدل على أن شهادة الأطفال غير معتبرة؛ لأنهم ليسوا رجالاً، وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ يعني: المرأة تكون في حال من الرضا والعدالة، كما يقال في الرجل، وبيّن العلة في ذلك فقال: أَنْ تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الأُخْرَى ولفظة (إحداهما) تكررت مرتين، وكان يمكن أن يُقال: إن تضل إحداهما فتُذكرها الأخرى، فيستغني بالضمير، والضمائر تفيد اختصار الكلام، فإذا أظهر في موضع الإضمار فذلك يدل على معنى مقصود، والله تعالى أعلم.

فقوله: أَنْ تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا كأن جملة مستقلة، فإذا أعاد إليها، فإنه يُعيد إلى مذكور ظاهر في الكلام الذي يكون بعده.

وفي قوله: أَنْ تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الأُخْرَى تصريح بالعلة في طلب امرأتين في الشهادة، وهو تذكيرها إذا نسيت، لكنه ذكر الضلال أَنْ تَضِلَّ بمعنى تنسى، فتُذكرها الأخرى، فالضلال -الذي هو النسيان- هو سبب للتذكير، فنُزّل منزلته، فقال: أن تضل إحداهما، فتُذكرها الأخرى، يعني: كراهية أن تضل، أو لئلا تضل إحداهما، وجاءت لفظة إِحْدَاهُمَا مُبهمًا؛ لأن هذا يكون من هذه أو هذه، فليس النسيان بمتعين في أحداهما، وكذلك التذكير، فقال: أَنْ تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا أيًا كانت، فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الأُخْرَى فهذا هو المقصود.

ودل قوله: فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الأُخْرَى على أن الإنسان إذا نسي شيئًا في الشهادة، وذكره غيره، أن شهادته صحيحة، فقد ينسى الإنسان فيُذّكر، يقال: تذْكر حينما كنا في المكان الفلاني، وحينما بعت لفلان كذا، أو اشتريت من فلان كذا، أو نحو ذلك، فيتذكر؛ لأنه يكون ناسيًا، فتذكيره لا يؤثر بصحة شهادته.

فالمقصود: أنه حينما يشهد يجب أن يشهد على أمر يعلمه ويستحضره، ولا يشهد على شيء خفي عليه، أو لا علم له به، أو موافقة لفلان، أو عطفًا على فلان، فإن هذا لا يصح، بل لا بد أن يكون على أمر معلوم، وقد جاء في حديث يروى: على مثلها فاشهد،[10] يعني: الشمس، لكن الحديث لا يصح، فالشهادة ينبغي أن يتحقق الإنسان منها، ولا يتساهل فيها، ولا يُجامل، فإن الخلل الذي يقع في ذلك غالبًا يكون من جهتين:

الأمر الأول: إما أن يشهد زورًا، يعني على خلاف الحق الذي يعلمه، مُحاباة لأحد، أو غير ذلك.

الأمر الثاني: أن يشهد على أمر لا علم له به، من باب المساعدة، أو العطف، أو نحو ذلك، فلان يريد أحد يشهد له، وما عنده أحد، وصل إلى المحكمة، وقيل له: هات شهود، فيقول لأصحابه مثلاً: اشهدوا معي، فيأتون معه، ويشهدون، ويعتبرون ذلك من باب الإحسان، وهو في الواقع ليس من الإحسان في شيء.

ثم وجه الخطاب إلى هؤلاء الشهود: وَلا يَأْبَ الشُّهَدَاءُ إِذَا مَا دُعُوا أَنْ تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الأُخْرَى وهؤلاء الشهود لا يجوز لهم الامتناع عن هذه الشهادة، والأصل أن النهي للتحريم، ومن توجهت إليه الشهادة وجبت عليه، لا سيما إذا كان ذلك فيه ضياع الحق، يعني لا يوجد غيره ممن يعرف ذلك، ويشهد فيه، ففي هذه الحال يكون واجبًا، فإن كانوا كُثر، فيكون ذلك من قبيل فرض الكفاية. 

 

وَلا تَسْأَمُوا أَنْ تَكْتُبُوهُ صَغِيرًا أَوْ كَبِيرًا إِلَى أَجَلِهِ ذَلِكُمْ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ وَأَقْوَمُ لِلشَّهَادَةِ وَأَدْنَى أَلَّا تَرْتَابُوا إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً حَاضِرَةً تُدِيرُونَهَا بَيْنَكُمْ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَلَّا تَكْتُبُوهَا وَأَشْهِدُوا إِذَا تَبَايَعْتُمْ وَلا يُضَارَّ كَاتِبٌ وَلا شَهِيدٌ وَإِنْ تَفْعَلُوا فَإِنَّهُ فُسُوقٌ بِكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ [سورة البقرة:282].

فبعد كل هذه التوجيهات التي سمعنا في هذه الآية الكريمة، يقول -تبارك وتعالى: وَلا تَسْأَمُوا أَنْ تَكْتُبُوهُ صَغِيرًا أَوْ كَبِيرًا إِلَى أَجَلِهِ فينهى ربنا -تبارك وتعالى- عن ترك الكتابة، سواء كان ذلك الحق صغيرًا، أو كبيرًا، وهذا كله يدل -كما أشرت في أول الكلام على هذه الآية- على العناية التامة بمصالح المسلم، فالله -تبارك وتعالى- وجه هذه التوجيهات لحفظ ماله، والاحتراز له، فيؤخذ من هذا: أن الله -تبارك وتعالى- لا يُضيع عبده المؤمن يوم القيامة عند اشتداد الهول، كما أنه لا يُضيع عبده المؤمن في هذه الحياة الدنيا، فالمؤمن أعظم حرمة عند الله -تبارك وتعالى- من ماله، كما ذكر هذا المعنى الشيخ محمد الأمين الشنقيطي -رحمه الله[11].

وقوله -تبارك وتعالى: وَلا تَسْأَمُوا أَنْ تَكْتُبُوهُ صَغِيرًا أَوْ كَبِيرًا إِلَى أَجَلِهِ نهى عن السآمة، بأن يحصل استثقال أو ملل من كتابة شيء من ذلك، ولو كان صغيرًا، فنهى عن السآمة، والسآمة أمر يقع في نفس الإنسان من غير قصد، ولا يستطيع أن يدفع السآمة عن نفسه إذا وقعت؛ لأن مثل هذه الأمور لا يقصدها الإنسان، ولا يجلبها، وإنما تتسلل إلى نفسه بغير طلب، فكيف نهى عنها، والله لا يكلف نفسًا إلا وسعها، وهذا خارج عن مقدوره، فكيف قال: لا تسأم؟

فمثل هذا يُجاب عنه بالقاعدة المعروفة عند أهل العلم، وقد ذكرتها في بعض المناسبات، وهو أن خطاب الشارع إذا توجه إلى المُكلف في أمر لا يدخل تحت قدرته، فإنه ينصرف إما إلى سببه، وإما إلى أثره، فهنا وَلا تَسْأَمُوا السآمة ليست بيد الإنسان، فيتوجه إلى الأثر، أثر السآمة ما هو؟ ترك الكتابة، فيكون النهي عن أثرها، وهو ترك الكتابة، وهذا كقوله -تبارك وتعالى- في سورة النور في آية الجلد للزُناة فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ وَلا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ إِنْ كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ [سورة النور:2] فقال: وَلا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ الرأفة أرق الرحمة، فهي رحمة رقيقة، فالرأفة ليست بيد الإنسان، والرحمة ليست بيده، فحينما يرى هذا يُجلد، وقد يكون ضعيفًا، أو امرأة، فقد يعطف عليه، ويُشفق عليه، ويلين قلبه له، لما يراه يبكي ويتألم، فهل يؤاخذ على هذه الرحمة؟

الجواب: لا؛ لأنها ليست بمقدوره، إذًا: ما محمل قوله تعالى: وَلا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ؟ فهنا يتوجه إلى الأثر، وما أثر هذه الرأفة؟ إسقاط الحد، أو تقليل العدد، فبدلاً من مائة، يجلد عشر مثلاً، أو النصف، أو تخفيف ذلك من جهة الصفة، بأن يُضرب ضربًا خفيفًا، تحلة القسم، فهذه ثلاث صور، إسقاط، أو تقليل، أو تخفيف، ففي قوله: وَلا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ نهي عن الأثر، وأحيانًا يكون النهي عن السبب، وأحيانًا النهي عن السبب والأثر.

يعني: في قول النبي ﷺ: ولا تحاسدوا،[12] فالحسد يقع في نفس الإنسان من غير إرادة، كما قال شيخ الإسلام -رحمه الله: "ما خلا جسد من حسد، ولكن الكريم يُخفيه -يكبته- واللئيم يُبديه"[13] فهنا: لا تحاسدوا فالحسد ليس بيد الإنسان، فقد يرى شيئًا فيقع في قلبه، أو كالحسد بين الأقران والمتنافسين، ونحو ذلك، فهنا يمكن أن يُحمل على الجهتين السبب، وهو أن ينظر إلى موجب الحسد، فيعمل بمقتضى ذلك، وبما يدفع عنه الحسد، وهو أن يعلم أن هذا قدر الله، ورزقه وعطاؤه لحكمةٍ وعلمٍ بالغين، فيندفع عنه الحسد، والنبي ﷺ: لا يؤمن أحدكم حتى يُحب لأخيه ما يُحب لنفسه،[14] ومن جهة الأثر أن لا يصدر عنه شيء تجاه هذا الإنسان المحسود، فلا يتكلم فيه، ويُسيء إليه، ويوصل إليه الأذى بأي طريق كان.

ومن شروط التوبة المعروفة الندم، بأن يندم على الذنب، فهذا الندم قد يقول قائل: الإنسان لا يملكه، وقد يقع في قلبه الندم على خسارة، أو غير ذلك، والناس يواسونه، ولا يستطيع دفعه، وقد يريد الندم، ولا يحصل، فهذا الإنسان الذي عصى الله وواقع شهوة، تميل إليها نفسه، يريد أن يندم، فلا يتحقق له هذا الندم، فهنا يُقال: هذا يتوجه إلى السبب، فما الذي يوجب له هذا الندم؟ أن يتذكر أنه عصى الله، وعصى العظيم الأعظم، وأن الله يراه، وأن الملك قد كتب ذلك، فإذا استشعر هذا حصل له الندم، كما لو قيل له حينما عمل هذه المعصية: بأن هذا قد صّور، ووضع الكاميرا فوق، وأنت لا تشعر، أو أنه قد سُجل، فما الذي يحصل عند هذا الإنسان؟ تتحول اللذة إلى تنغيص وألم.

فلو قيل له: بأن هذا الطعام المحرم الذي أكلته قد وضع لغيرك، حيث جُعل فيه السُم الفتاك، فإنه مُباشرة سيشعر بألم في جميع جسمه، وتنتهي هذه اللذة، أو أن هذه المرأة التي واقعها بالحرام أنها مُصابة بمرض نقص المناعة، فمُباشرة الجسم من أوله إلى آخره يتألم، ويشعر بحرارة تحرقه، لماذا هذا؟ لأنه نظر إلى أمر يوجب الندم والحسرة، وهكذا.

فهنا وَلا تَسْأَمُوا أَنْ تَكْتُبُوهُ صَغِيرًا أَوْ كَبِيرًا إِلَى أَجَلِهِ فقدم الصغير قبل الكبير؛ لأن الناس لا يعتنون بالصغير، ولا يعبئون به، فقدمه هنا تأكيدًا على كتابته، فهذا حق لا يضيع، وكذلك أيضًا للتدليل على العموم، صَغِيرًا أَوْ كَبِيرًا إِلَى أَجَلِهِ فيمكن أن يُقال: بأن ذكر الصغير يُغني عن ذكر الكبير؛ لأنه من باب أولى، لكن قال: أَوْ كَبِيرًا فكل واحد منهما يُطلب كتابته، فذلك لعموم الحقوق، فإن هذا الشيء الصغير، أو الذي لا قيمة له، قد يكون عند بعض الناس له قيمة.

ومعلوم أن الناس يتفاوتون في مثل هذه الأمور، لا سيما من كان قوته، أو ماله، أو ما في يده هو شيء قليل، فالغالب أن مثل هؤلاء يُحاسبون على الشعرة والشعيرة؛ ولذلك تجد التعامل مع كثير من الناس يحصل به من الإزعاج والتعب والعناء ما لا يحصل مع غيرهم، فحينما تكون مثلاً حملة حج زهيدة، قريب من سعر التكلفة، ويأتي أُناس ممن لا يستطيع إلا هذا، فهؤلاء قد يُحاسِب كثير منهم على أتفه الأشياء حسابًا عسيرًا، وقل مثل ذلك في شراء أشياء يسيرة، وأشياء حقيرة لا قيمة لها، فقد تجد المفاصلة والمخاصمة على الشعرة والشعيرة.

فعلى كل حال ما لا شأن له عند قوم قد يكون له شأن عند آخرين، فالكتابة هي الحل، فلو سألتم في المحاكم عن القضايا التي ترد، أحيانًا قضايا تافهة، يُخيل إليك أن بعض الناس إنما يريد الخصومة، فعلى كل حال هذا بالنسبة للقضايا التي فيها خصومات، بخلاف اللُقطة التي لا تُعرف، فإذا كانت همة أوساط الناس لا تتعلق بها، والمقصود الوسط من الناس، وليس الناس الذين في حال من الرخاء، أو الناس الذين في حال من الشدة والفقر، الذي يبحث عن الهللة، فلو قُدر مثلاً هذا الكأس بعشرة ريالات، وجد في الطريق أو في مكان ما، لك أن تأخذه؛ لماذا؟ لأن همة أوساط الناس لا تتبعه، خمسون ريال مُلقاة في حديقة أو في طريق فلك أن تأخذها، ولا تحتاج أن تُعرف؛ لماذا؟ لأن همة أوساط الناس لا تتبعه.

ما معنى همة أوساط الناس؟ بمعنى أنه لو ذهب إلى بيته، ثم اكتشف أنه ضاعت منه هذه الخمسون، هل يرجع يبحث عنها من هو من أوساط الناس؟ الجواب: لا، ولا المائة، وهذه قضية تختلف من مكان لآخر، ومن زمن لآخر، فالمقصود إذا كانت همة أوساط الناس لا تتبعها، فلا تحتاج أن تُعرف.

بينما هذا هو حق لمعروف ومُعين، فيمكن أن يُخاصم على أتفه الأشياء، بينما اللُقطة لو أراد أن يُعرفها ربما حصل له من التكاليف في التعريف سنة كاملة، ما لا يستحقه، فهل نقول: أعلن في الجريدة على خمسين ريال! أو مائة ريال؟! أو اذهب إلى هذه المحلات، أو المنطقة، أو الحديقة، كل يوم، أو كل أسبوع، أو نهاية أسبوع؟ فهل المائة تسوى هذا؟! فهذا الفرق، هناك لا يوجد طرف آخر في اللُقطة يُخاصم مُحدد معلوم، فهنا الحال تختلف في آية الدين.

وقوله -تبارك وتعالى: أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ يدل على أن العدل يتفاوت، في عدل واجب، وفي كمال العدل، فالكمالات تتفاوت، فأقسط أفعل تفضيل، يعني: أكثر قسطًا، والقسط هو العدل، وَأَقْوَمُ لِلشَّهَادَةِ يدل على أن الشهادات أيضًا تتفاوت، فهناك شهادة مجروحة، وهناك شهادة قيمة، وهناك شهادة أقوم، وَأَقْوَمُ لِلشَّهَادَةِ فإذا كان ذلك مكتوبًا، سواء كان صغيرًا أم كبيرًا، فإن ذلك أدعى لضبطه، فلا يحصل شطط، ولا يحصل تعدي من أي طرف على حق الآخر، وهكذا.

وَأَدْنَى أَلَّا تَرْتَابُوا يعني: أقرب إلى الضبط، والبعد عن أسباب الريب والشك، سواء كان ذلك في مقدار الدين، أو كان ذلك في أجله، أو في غير ذلك، مما قد يقع فيه الاختلاف، قد يقول: أنت أعطيتني إياه هبة، أو أنت قلت لي: إنك مُحلل، أو أنت قلت لي: من عُسرك إلى يُسرك، أو أنا ذكرت لك حينما أخذته منك: أني قد لا أستطيع الوفاء به، فقلت لي: في حِل، اكتب هذا الدين، من أجل ألا يقع تجاذب وإشكالات، فيُكتب هذا، ويُضبط، ولا داعي إلى: أنا أذكر كذا، أو لا أتذكر كذا، فمجرد التذكر لا يثبُت به حق.

ويؤخذ من قوله: وَأَدْنَى أَلَّا تَرْتَابُوا البُعد عن كل سبب يوقع في الريب، نأخذ من الإجراءات ما يقطع أسباب الشكوك، فذكر هذه الأمور، في أمر الدين: أقسط عند الله، وأعدل عند الله، وأقوم للشهادة، وأقرب لدفع الريب، فكل واحدة تكفي للتحضيض على كتابة الدين وتوثيقه، فكيف إذا اجتمعت هذه الأمور جميعًا؟!

ثم استثنى فقال: إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً حَاضِرَةً تُدِيرُونَهَا بَيْنَكُمْ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ في هذه الحال بعد الكتابة لا يجب عليكم، ولا يلزمكم الكتابة؛ لأن ذلك مما لا يحصل به الالتباس في هذه الحال، فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَلَّا تَكْتُبُوهَا فهي مُعاطاة مُباشرة، بخلاف الذي يمضي عليه زمان، ويحصل معه النسيان، ونحو ذلك.

وقوله: إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً حَاضِرَةً تُدِيرُونَهَا بَيْنَكُمْ يدل على أن الأصل في التجارة الإدارة؛ ولهذا يُسميه بعض الفقهاء، كما جاء عند مالك -رحمه الله- وغيره: التاجر المُدير[15] يعني: الذي عنده نقود يشتري بعد أسبوع هذه السلعة، ثم يبيعها، ثم يشتري هذه السلعة، ثم يبيعها، ثم يشتري هذه السلعة، ثم يبيعها، فهذا المال الذي يُدار كيف يُزكى؟ ومتى الحول؟ وكيف يُحسب؟ يُحسب منذ أن ملك الأصل (المال)، فحيث تحول: مرة في سيارة، ومرة في مواد غذائية، ومرة في أدوية، ومرة في عقار، فهذا تاجر مُدير، فبداية الحول حينما ملك المال، وهو أصل المال، فحينما تكرر هذا المال بسلع متنوعة، لا يؤثر هذا، ولا ينقطع به الحول.

تُدِيرُونَهَا بَيْنَكُمْ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَلَّا تَكْتُبُوهَا هنا رفع الحرج، فليس عليكم جناح، ومفهوم المخالفة: أنه إن لم تكن حاضرة، فعليكم جناح، والجناح هو الإثم، فهذا يمكن أن يستدل به من يقول بأن كتابة الدين واجبة، وكما ذكرنا أنه قول لطائفة من أهل العلم، لكن ذكرنا القرائن والأدلة التي تدل على عدم الوجوب.

وَأَشْهِدُوا إِذَا تَبَايَعْتُمْ فعلقه بهذا الشرط، فيدل على أن الإشهاد يكون حال التبايع، فلا يكون قبله، ولا بعده، وإنما يكون عند العقد؛ لأن قبله العقد لم يتم، وإذا كان بعده قد يتغير المبيع، يشهدون على ماذا؟ على شيء قد تغير، وأيضًا قد يختلفون بعده، وهذا التغير أيضًا قد يكون في صفته، أو يكون في قيمته، يعني: اشترى هذه الأرض، ثم أراد أن يُشهد بعد شهر، وإذا هي بنصف القيمة، أو تكون الصفة تغيرت، فصارت الأرض مزرعة، أو بناها، فصارت بناية، وأراد أن يُشهد، ونحو ذلك، فيكون ذلك حال التبايع.

وَلا يُضَارَّ كَاتِبٌ وَلا شَهِيدٌ وَإِنْ تَفْعَلُوا فَإِنَّهُ فُسُوقٌ بِكُمْ فلفظة (يُضار) من جهة التصريف يحتمل أن يكون الضرر صادر من الكاتب، أو الشهيد، فالذي يحتاج إلى الشهادة، أو الكتابة، قد يُستغل ويُبتز بهذه الشهادة، أو الكتابة، وكذلك قد يكون الضرر واقعًا على الكاتب، أو الشهيد من قِبل هؤلاء الذين يطلبون الكتابة، أو الشهادة، فنهى عن الضرر، والقاعدة المعروفة المُقررة في الشريعة، وهي من القواعد الخمس الكبرى: أنه لا ضرر ولا ضرار، وما يتفرع عنها من قواعد، كالضرر يُزال، وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ [سورة الحج:78].

فهنا نهي عن المُضارة سواء صدرت عن الشاهد أو الشهيد، أو كانت صادرة عن من يطلب الكتابة، أو الشهادة، والقرآن يُعبر به بالألفاظ القليلة الدالة على المعاني الكثيرة، كما ذكرنا، فتدل هذه اللفظة على المعنيين معًا، كما ذكرنا في قوله تعالى: لا تُضَارَّ وَالِدَةٌ بِوَلَدِهَا وَلا مَوْلُودٌ لَهُ بِوَلَدِهِ [سورة البقرة:233] لا يقع الضرر على هذا ولا هذا.

وفي قوله: وَلا يُضَارَّ كَاتِبٌ وَلا شَهِيدٌ هذا نهي، والأصل أن النهي للتحريم، فيحرُم إلحاق الضرر بالشاهد، أو الكاتب، أو أن يُلحقوا هم الضرر بغيرهم، بسبب هذه الكتابة والشهادة.

وَإِنْ تَفْعَلُوا فَإِنَّهُ فُسُوقٌ بِكُمْ فهذا يدل على أنه مُحرم أيضًا، يعني: النهي للتحريم، ووصف ذلك بأنه فسق، والفسق هو الخروج عن طاعة الله -تبارك وتعالى، والفسق حرام، والفسق هو المعصية، سواء كانت كبيرة، أم صغيرة، وله آثار تترتب عليه، وَإِنْ تَفْعَلُوا فَإِنَّهُ فُسُوقٌ بِكُمْ أي: واقع بكم. 

 

وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ [سورة البقرة:282].

وَاتَّقُوا اللَّهَ أي: اعملوا بطاعته، واجتنبوا معصيته، واجعلوا بينكم وبين عذاب الله وقاية، بفعل ما أمر، واجتناب ما نهى، وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ يعلمكم ما يرفعكم وينفعكم، وما فيه صلاحكم، ويُبين لكم شرائع الإسلام، وما يحصل به حفظ الحقوق، وما يحصل به سعادة الدنيا والآخرة.

وهذا الموضع -كما سيأتي إن شاء الله- يُفسر بمثل هذا، وليس ذلك من باب الشرط والجواب، على الأرجح من أقوال المفسرين؛ وذلك أن الله -تبارك وتعالى- قال في الجملة الأولى: وَاتَّقُوا اللَّهَ فهذا أمر بالتقوى، ثم جاءت جملة خبرية، معطوفة على الجملة الأولى، والجملة الأولى جملة إنشائية، والكلام إنشاء وخبر، الإنشاء مثل الأمر والنهي، والخبر يصح أن يُعطف في كلام العرب على الإنشاء، وَاتَّقُوا اللَّه هذا أمر عُطف عليه خبر وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ فهذه جملة أخرى مستقلة، وهو إخبار منه -تبارك وتعالى- أنه يُعلم خلقه ما فيه صلاحهم ونفعهم، وما يرفعهم، وما تحصل لهم به السعادة.

هكذا فسره الجمهور من العلماء، بدليل لو أنه كان من باب الشرط والجواب وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ لكان الثاني مجزومًا؛ ولقال: واتقوا الله ويُعلِمْكم الله؛ لأن جواب الشرط مجزوم -كما هو معلوم، لكن جاءت هنا بالرفع وَيُعَلِّمُكُمُ فدل على أنها جملة خبرية محضة، وليست بجواب للشرط، مع أن الجملة الأولى ليس فيها شيء من أدوات الشرط، وليست بصيغة شرط وَاتَّقُوا اللَّهَ فهذا أمر.

 لكن الواقع أن الأمر قد يكون مُضمنًا معنى الشرط، لكن لو كان جواب الشرط لجاء الثاني مجزومًا، هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ ۝ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ [سورة الصف:10، 11]... إلى آخر ما قال، تُؤْمِنُونَ فهنا خبر، وليست صيغة شرطية، وهو مُضمن معنى الشرط، بدليل أنه قال في الجواب: يَغْفِرْ [سورة الصف:12] مجزومًا، ولو كان ذلك من باب الإخبار لقال: (يغفرُ) بالرفع، لكنه قال: يَغْفِرْ فيكون الأول مُضمن معنى الشرط، يعني: تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ مضمن معنى الشرط، يعني: إن آمنتم يغفرْ، فبهذا النحو من الإعراب يتضح المراد، وبين الإعراب والمعنى ملازمة، وكثير من الناس لا يُحب الإعراب والنحو، ولكنه في بعض المواضع ضروري من أجل أن يتبين المراد، فلا بد من بيان الموقع الإعرابي، في بعض القضايا يظهر من علامة الإعراب أن هذه جملة شرطية، أو أنها جملة خبرية محضة مثلاً، وسيأتي مزيد من الإيضاح على هذا.

وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ فجاء بأقوى صيغة من صيغ العموم عند اللغويين، والأصوليين، بِكُلِّ شَيْءٍ وجاءت (شيء) هنا في سياق إثبات، فصيغة العموم هنا (بكل) تدل على العموم بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ من أمور الدنيا، ومن أمور الآخرة، فيما يتعلق بالعبادات، والمعاملات، والحقوق، والأخلاق، ما يتعلق بالغيوب الماضية، والحاضرة، والمستقبلة، كل ذلك يعلمه، وجاء بهذه الصيغة من صيغ المُبالغة (عليم) على وزن (فعيل) يعني: أنه بالغ العلم، عظيم العلم، فعلمه واسع.

فيُؤخذ من قوله: وَاتَّقُوا اللَّهَ أن التقوى واجبة، فهذا أمر، والأمر للوجوب، وقد أمر الله نبيه ﷺ بالتقوى، يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللَّهَ [سورة الأحزاب:1] وكما ذكرنا في بعض المناسبات، أنه ليس لأحد أن يستنكف إذا أُمر، أو ذُكّر بالتقوى وقيل له: "اتقِ الله"، والنبي ﷺ في وصيته يقول: اتقِ الله حيث ما كنت، وأتبع السيئة الحسنة تمحها، وخالق الناس بخُلق حسن،[16] فهذه التقوى لا يستغني عنها أحد، والكل بحاجة إليها، والعبد بحاجة إلى تقوى الله -تبارك وتعالى- في كل حركاته، وسكناته، وفي كل أعماله من الطاعات، وفي كل خطواته، وخطراته، وبكل معاملاته ومزاولاته، فهو يحتاج إلى التقوى؛ لأن هذه التقوى لو لم تتحقق، فإن هذه العبادات تختل، فإنه قد لا يأتي بها على الوجه المشروع، فيُخل بها إما من جهة الصفة، وإما من جهة القصد والنية.

وكذلك أيضًا في المعاملات مع الناس، فإنه لا يستطيع أن يؤدي الحقوق، وأن يحترز من المظالم إلا بتقوى من الله -تبارك وتعالى، وأخذ الحرام، أكل الحرام، ونحو ذلك، كل هذا لا يمكن التخلص منه إلا بالتقوى؛ لأن الطمع غالب وَأُحْضِرَتِ الأَنفُسُ الشُّحَّ [سورة النساء:128] والله يقول: وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ [سورة الحشر:9]، فأضاف الشُح إلى النفس لشدة تمكنه منها، فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ [سورة الحشر:9] وعلق عليه الفلاح.

وقال: وَتُحِبُّونَ الْمَالَ حُبًّا جَمًّا [سورة الفجر:20] يعني: حبًا عظيمًا، وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ [سورة العاديات:8] والمقصود بالخير المال، باتفاق المفسرين، يعني: الإنسان يُحب المال، وهذا الحب شديد، وكما قال الله -تبارك وتعالى: زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ [سورة آل عمران:14] فهذه حُببت للنفوس، وزُينت، وزُينت أشياء أخرى غير هذه المذكورات، لكن هذه من أبرزها، فإذا كان كذلك، فيحتاج إلى تقوى من أجل أن يُحاسب نفسه، فلا يدخل عليه شيء لا يحل له، ولا يقتطع حق امرئ مسلم بيمينه، ولا يظلم الناس، ولا يُسيء إلى أحد، ويأتي بالعبادات على الوجه المشروع، ويُحب لأخيه ما يُحب لنفسه، فهذا كله لا يكون إلا بالتقوى.

فقوله: وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ كما ذكرنا أن هذا ليس من باب الشرط والجزاء، بمعنى أن ما يفهمه بعضهم من أن المقصود بالآية وَاتَّقُوا اللَّهَ فيكون ذلك سببًا لتعليمكم، فيكون هذا من باب الشرط والجواب، يعني: اتق الله ويُعلمك، فليس هذا هو المعنى في هذه الآية -والله تعالى أعلم- على قول أكثر أهل العلم، وإن كان هذا المعنى يمكن أن يُفهم منها، لكن ليس بدلالة المطابقة، ولا التضمن، وقد لا يُفهم من دلالة الالتزام، لكنه يُفهم من وجه آخر يسمونه دلالة الاقتران، وله نوع تعلق بدلالة الالتزام.

والواقع أنه ليس منها، فدلالة الاقتران من القضايا الغامضة، ونحن نذكرها لأن معنا من طلاب العلم من يحتاجون إلى مثل هذا، ويفهمونه، لكن يُذكر منه ما يكون المعنى فيه قريبًا سهلاً، فدلالة الاقتران كثير من الأصوليين يقولون: ضعيفة، والواقع أنها أنواع: منها ما هو غير معتبر، ومنها ما هو ضعيف، ومنها ما هو معتبر، فما يُعرف عند العلماء والمفسرين بالمناسبات، يعني الاقتران بالآية والآية، والجملة والجملة، وصدر السورة مع خاتمتها، والمقطع والمقطع... إلى آخره، هذه المناسبة فيها معنى ودلالة، لكن هذه الدلائل ليست قطعية، فهي ليست من الدلالات الداخلة تحت دلالة المنطوق عند الأصوليين، وهي دلالة المطابقة والتضمن والالتزام والإيماء والتنبيه، ودلالة الإشارة، وإنما هي نوع له نوع تعلق بدلالة الالتزام.

فهنا في هذا الشاهد حينما أمر الله بتقواه، ذكر بعده مباشرة قضية التعليم، وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ ما وجه الارتباط بين هاتين الجملتين المتجاورتين؟

يُفهم من هذا أن هناك نوع ارتباط بين التقوى، وتحصيل العلم؛ لأنه ذكره بعده، وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ فهذه المجاورة تدل على هذا المعنى، ودلالة المناسبة أحيانًا تكون متكلفة، وهذه الوجوه في الارتباطات بين الآية والآية، والجملة والجملة، ومضمون الآية مع خاتمتها، لماذا ختم مثلاً بالعزيز الحكيم، أو العليم الحكيم، أو على كل شيء قدير، أو نحو ذلك، منه ما يظهر وجهه، ومنه ما يكون مُتكلفًا فيُترك، ومن أكثر العلماء الذين اعتنوا بهذه المناسبات: البقاعي في كتابه (نظم الدُرر) وهو كتاب حافل كبير أكثر من عشرين مجلدًا، لا يكاد يترك شاردة ولا ورادة مما ذكره العلماء في المناسبات إلا ويأتي به.

فمثلاً: في قوله تعالى -كما ذكرنا في الفاتحة والبقرة- الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ۝ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ [سورة الفاتحة:2، 3] لماذا ذكر الرحمن الرحيم بعد رب العالمين؟ قالوا: ليدل على أن ربوبيته مبنية على الرحمة، هذا معنى لطيف، يؤخذ من أين؟ من المناسبة، وهكذا: الم ۝ ذَلِكَ الْكِتَابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ ۝ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاة وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ [سورة البقرة:1-3] لماذا قرن بين الصلاة والزكاة؟ ولماذا ذكر في قوله: وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَبِالآخرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ [سورة البقرة:4] الإيمان بما أُنزل إلى النبي ﷺ، وما أُنزل من قبله؟ ولماذا ذكر الإيمان باليوم الآخر معًا؟ ولماذا قرن بينهما؟

هذا يسمونه المناسبة، وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ [سورة البقرة:43]، أَرَأَيْتَ الَّذِي يُكَذِّبُ بِالدِّينِ ۝ فَذَلِكَ الَّذِي يَدُعُّ الْيَتِيمَ ۝ وَلا يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ ۝ فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ ۝ الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلاتِهِمْ سَاهُونَ ۝ الَّذِينَ هُمْ يُرَاءُونَ ۝ وَيَمْنَعُونَ الْمَاعُونَ [سورة الماعون:1-7] ما وجه الاقتران بين هذه القضايا والجُمل؟

الَّذِي يُكَذِّبُ بِالدِّينِ ۝ فَذَلِكَ الَّذِي يَدُعُّ الْيَتِيمَ دل على أن دع اليتيم ودفعه عن حقه من أخلاق وأوصاف من لا يؤمن بالآخرة، ثم أيضًا فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ [سورة الماعون:4] ما علاقة توعّد المصلين بذلك؟ فهذا الذي يُكذب بالدين، ويدُع اليتيم، ولا يحض على طعام المسكين، هذه حال المنافق؛ ولهذا قال في وصف من أبرز أوصافهم، والصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر، ولكن هؤلاء صلاتهم لا تنهاهم عن الفحشاء والمنكر: فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ ۝ الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلاتِهِمْ سَاهُونَ [سورة الماعون:4، 5] أي: يؤخرونها عن الوقت، ويضيعونها، ويضيعون حدودها، فهذا كله يُسمى مناسبات، ووجه الارتباط.

فهنا: وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ ذكر التعليم بعد الأمر بالتقوى، مما يدل على أن ثمة ارتباط بين التعليم والتقوى، وهذا المعنى صحيح، تدل عليه أدلة أخرى أصرح من هذا وأوضح، ولا شك أن العلم وتحصيله رزق من الله، وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ [سورة الأعراف:96] وأعظم هذه البركات التي تُفتح (العلم) فهو أعظم الرزق بعد الإيمان، وأعظم من العطاء الدنيوي والمال، فهذا له ارتباط بالتقوى، والأبيات التي تنُسب للشافعي -رحمه الله- وقد لا تثبت عنه.

شكوت إلى وكيع سوء حفظي فأرشدني إلى ترك المعاصي
وأخبرني بأن العلم نور ونور الله لا يُهدى لعاصي[17]

والنبي ﷺ قال: وإن الرجل ليحرم الرزق بالذنب يصيبه [18] فالرزق يشمل هذا وهذا، والمعصية تكون سببًا للحرمان، ومن أعظم الرزق العلم، فيُحرم العلم بسبب الذنب، وقد ينسى العلم الذي حصله بسبب الذنب، لكن قد يُستفاد هذا المعنى من هذه الآية من جهة المناسبة فقط، لا أنه من باب الشرط والجزاء، وهذا من أعدل الأقوال، والله تعالى أعلم، يعني: خلافًا لمن قال بأن هذا من قبيل الشرط والجواب، وأن هذا مُرتب على هذا، أو من أنكر ذلك بالكلية، وقال: إن الآية ليس فيها دلالة أصلاً على هذا، فيُستخرج ذلك من جهة المناسبة، والله أعلم.

وشيخ الإسلام -رحمه الله- أشار إلى شيء من هذا، في أثر التزكية والتقوى في تحصيل العلم، وذكر أن لتزكية النفس والعمل بالعلم، وتقوى الله تأثير عظيم في حصول العلم، وذكر أيضًا في موضع آخر عند ذكر هذه الآية، احتج بها، وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ يقول: قد يكون من هذا الباب فكل من تعليم الرب، وتقوى العبد يُقارب الآخر ويُلازمه ويقتضيه، فمتى علمه الله العلم النافع اقترن به التقوى بحسب ذلك، ومتى اتقاه زاده من العلم وهُلّم جرًا[19].

والقول بأن هذه الآية ليست من باب الشرط والجواب هو قول الجمهور، لكنه ليس محل اتفاق، فبعض العلماء يُفسرها هكذا: أنك إن اتقيت الله علمك، هذا هو المعنى، مع أن الظاهر قد لا يدل على ذلك بصورة صريحة، أو مُباشرة، كما ذكرت، لكن تجد علماء وأئمة مثل القُرطبي -رحمه الله- يقول: بأن ذلك وعد من الله تعالى بأن من اتقاه علمه، أن يجعل في قلبه نورًا يفهم به ما يُلقى إليه، وقد يجعل الله في قلبه ابتداء فرقانًا، أي فيصلاً يفصل به بين الحق والباطل[20] فالقرطبي جعل القضية من باب الشرط والجزاء، إن اتقيت الله علمك، هذا المعنى صحيح، صحيح من حيث هو، لكن هل الآية تدل عليه دلالة مُباشرة؟ الذي يظهر أنه ليس كذلك في هذه الآية خاصة، وإلا فالمعنى من حيث هو معنى ثابت وصحيح.

ويُؤخذ أيضًا من قوله: وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ أن الأصل في الإنسان الجهل، والله يقول لنبيه ﷺ: وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ [سورة النساء:113] أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيمًا فَآوَى ۝ وَوَجَدَكَ ضَالاً فَهَدَى [سورة الضحى:6، 7] يعني: أنه لا عهد له بالوحي والنبوة، والكتاب، وتفاصيل الشريعة، التي أوحاها الله إليه، وليس معنى الضلال: أنه كان على دين المشركين، وإنما المعنى: ما كان له عهد بالكتاب والوحي، وتفاصيل هذه الشرائع، التي أوحاها الله إليه، وهذا كما قال الله : وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لا تَعْلَمُونَ شَيْئًا وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالأَبْصَارَ وَالأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ [سورة النحل:78]. 

فالله يمتن على عباده بالتعليم، فهذه نِعمة؛ وذلك يقتضي أن يُشكر على ذلك، وأن تُرعى حق رعايتها، إن كان ذلك في أشرف العلوم وهو العلم بالله وبكتابه، والطريق الموصل إليه، فإن ذلك يقتضي العمل بهذا العلم، فلا يستوي حال من علّمه الله -تبارك وتعالى، وحال من لا علم له، ويكونون في العمل سواء، وأحيانًا يكون العامي أفضل من هذا الذي قد تعلّم وحصل كثيرًا من علوم الشريعة، ما فائدة العلم إذًا؟ ونعوذ بالله من علم لا ينفع، وقد استعاذ النبي ﷺ من ذلك.

وكذلك أيضًا إن كان هذا العلم في علوم مادية دنيوية، من العلوم النافعة، فإنه لا بد أن يوجه فيما ينفع الناس، يعني: لا توجه هذه العلوم إلى ما يُفسد ويضر، فالعلم سلاح، كما هو معلوم، فهذا العلم قد يوجه إلى ما يُبيد البشرية، ويفتك بها، ويُهلك الحرث والنسل، وقد تُستعمل العلوم الدقيقة العميقة بما يكون فيه الدمار، فتتحول هذه الحضارة إذا لم تكن مذمومة بتقوى الله وشرعه، إلى حالة بهيمية سبعية، لها مخالب وأنياب، تُدمر وتفتك، وتُثير الرعب والخوف، بينما العلم ينبغي أن يوجه في نفع الناس، وبناء نهضتهم وحضارتهم، وتقليل معاناتهم، وتخفيف آلامهم، وتسهيل وتذليل صعوبات الحياة، وما أشبه ذلك.

وأيضًا ختم هذه الآيات الواردة في المعاملات المالية والنفقات، والربا، ثم الدين والإشهاد على البيع، وما إلى ذلك بالأمر بتقوى الله -تبارك وتعالى، وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ تنبيه إلى أنه يجب أن يُراعى ذلك في معاملات الناس، ويتمثلوا ما أمرهم الله -تبارك وتعالى- به، فالله بكل شيء عليم، فلا يخفى عليه شيء من أحوالهم، ومعاملاتهم، ونفقاتهم، وتجاوزاتهم، ومظالمهم، وأخذهم أموال الناس بالباطل، وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ فهو يُذكرهم بتقواه، ويخوفهم في الوقت نفسه بأنه بكل شيء عليم.

فهذه الآية الكريمة -كما ترون- فيها هذه التفاصيل الكثيرة، إِذَا تَدَايَنتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ أمر، وَلْيَكْتُبْ بَيْنَكُمْ كَاتِبٌ بِالْعَدْلِ وَلا يَأْبَ كَاتِبٌ أَنْ يَكْتُبَ كَمَا عَلَّمَهُ اللَّهُ، ثم فَلْيَكْتُبْ فلما قال الله تعالى: وَلا يَأْبَ كَاتِبٌ قبله قال: وَلْيَكْتُبْ بَيْنَكُمْ كَاتِبٌ بِالْعَدْلِ يكتب كما علمه الله على وفق العدل، فَلْيَكْتُبْ ثم قال: وَلْيُمْلِلِ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ وكذلك أيضًا: وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ وَلا يَبْخَسْ مِنْهُ شَيْئًا.

ثم جاءت التفاصيل: فَإِنْ كَانَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ سَفِيهًا أَوْ ضَعِيفًا أَوْ لا يَسْتَطِيعُ أَنْ يُمِلَّ هُوَ فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ بِالْعَدْلِ وهكذا وَلا تَسْأَمُوا أَنْ تَكْتُبُوهُ صَغِيرًا أَوْ كَبِيرًا إِلَى أَجَلِهِ ذَلِكُمْ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ وَأَقْوَمُ لِلشَّهَادَةِ وَأَدْنَى أَلَّا تَرْتَابُوا كل هذا تحفيز لهم على التزام هذه القضايا، وكل ذلك يدل على سعة رحمة الله، وعلى دقة هذه الشريعة وسعتها، وأنها تحفظ مصالح الخلق، حتى في القضايا اليسيرة، وأنهم متى ما التزموا شرع الله، وعملوا بمقتضاه كان ذلك سببًا لسعادتهم، ورفاهيتهم، وحفظ حقوقهم، وأموالهم، وما إلى ذلك، هذا كله نجده في مثل هذه التوجيهات الربانية.

فهذه الآية مع أنها أطول آية في القرآن، ومع ذلك فيها من الاختصار الشيء الكثير، وهذا من بلاغة القرآن، والإيجاز والإطناب عند علماء البلاغة يكون بكل مقام بحسبه، فتارة تكون البلاغة بالإطناب، وتارة تكون بالإيجاز، فهنا لاحظ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا [سورة البقرة:282] ما ذكر مُتعلق الإيمان، آمنوا بماذا؟! وكذلك أيضًا: كَمَا عَلَّمَهُ اللَّهُ علمه ماذا؟ علمه الكتابة، وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ وليتق في ماذا؟ في إملائه هذا الذي عليه الحق، فَإِنْ كَانَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ سَفِيهًا سفيهًا في ماذا؟ في رأيه، أَوْ ضَعِيفًا في بيانه، مِنْ رِجَالِكُمْ يعني: المرضيين، وهكذا: فَرَجُلٌ يعني: مرضي، وَامْرَأَتَانِ مرضيتان، مِنَ الشُّهَدَاءِ المرضيين، فكل هذا مُقدر، فمعنى هذا الطول إلا أنه -كما ترون- كل هذه المواضع فيها إيجاز واختصار، استغناء بفهم المخاطب، أو السامع.

وفيها من ضروب البلاغة ما يُسمى بالالتفات، وقلنا: إن الالتفات يُنشط السامع، ويكون في كل مقام بحسبه، فلاحظ الانتقال من الحضور إلى الغيبة، إِذَا تَدَايَنتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ، وَلْيَكْتُبْ بَيْنَكُمْ كَاتِبٌ بِالْعَدْلِ ومن الغيبة إلى الحضور وَلَا يَأْبَ كَاتِبٌ ثم قال: وَاسْتَشْهِدُوا خاطبهم، وكذلك انتقل إلى الغيبة مرة أخرى وَلَا يُضَارَّ كَاتِبٌ ثم انتقل إلى الحضور وَلَا تَكْتُمُوا الشَّهَادَةَ [سورة البقرة:283] ثم إلى الغيبة وَمَنْ يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ [سورة البقرة:283] إلى الحضور وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ . 

 

لما وجه الله -تبارك وتعالى- عباده إلى ما به حفظ الأموال والحقوق والديون في هذه الآية الطويلة في كتاب الله -تبارك وتعالى- في أواخر هذه السورة الكريمة سورة البقرة بيّن بعد ذلك الحكم، وما يحصل به الاستيثاق حال عدم الكاتب؛ فقال الله -تبارك وتعالى: وَإِنْ كُنتُمْ عَلَى سَفَرٍ وَلَمْ تجِدُوا كَاتِبًا فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضًا فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمَانَتَهُ وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ وَلا تَكْتُمُوا الشَّهَادَةَ وَمَنْ يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ [سورة البقرة:283].

إن كنتم في حال سفر -والسفر له ظروفه وله أعذاره- ففي هذه الحال إن لم يوجد الكاتب فعند ذلك يمكن الاستيثاق بأخذ الرهن لضمان الحق، أن يأخذ الدائن من المدين ما يستوثق به في استيفاء حقه من مال أو عين من الأعيان سواء كانت مساوية لهذا الدين أو تزيد عليه، وقد تنقص عنه، من أجل أنه لو لم يحصل الوفاء فإنه يمكن أن يبيع هذه العين ويستوفي ويُعيد ما زاد إلى المدين، فهنا يقول: فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ، ثم قال: فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضًا فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمَانَتَهُ، إذا وجدت الثقة والأمانة والاطمئنان بين الطرفين -اطمأن الدائن إلى المدين- فلا حرج في ترك الكتابة والإشهاد وأخذ الرهن.

وهذا الموضع كما أشرت سابقًا يستدل به من يقول بأن الإشهاد والكتابة غير واجبين، وأن ذلك مما أرشد الله إليه عباده لحفظ حقوقهم، لكنه لا يجب فيكون ذلك صارفًا الأمر فَاكْتُبُوهُ [سورة البقرة:282]، وَأَشْهِدُوا إِذَا تَبَايَعْتُمْ [سورة البقرة:282]، فالأمر للوجوب فيكون ذلك صارفًا له من الوجوب إلى الاستحباب، فهنا جاء بها بعبارة فيها تذكير فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمَانَتَهُ وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ وَلا تَكْتُمُوا الشَّهَادَةَ وَمَنْ يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ، فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمَانَتَهُ فجعله مؤتمنًا بهذا الاعتبار، فالدين أمانة في ذمته عليه أن يؤديه.

وذكره بمراقبة الله -تبارك وتعالى- وتقواه: وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ فلا يخون ولا يجحد ولا يبخس ولا يُماطل فإذا أنكر الدين ووجد من تحمل الشهادة حينها فيجب أن يؤديها؛ لئلا يضيع الحق: وَلا تَكْتُمُوا الشَّهَادَةَ وَمَنْ يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ، كتم الشهادة وقد تعينت عليه وتسبب ذلك عن ضياع الحق فإنه آثام، وسيأتي الإشارة إلى تعليل إضافة الإثم إلى القلب.

ثم ختم الآية أيضًا بما فيه التذكير وما يحمل على المراقبة: وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ يعلم ما كان من مداينات وحقوق، وما يحصل من جحد ووفاء إلى غير ذلك، لا يخفى عليه من ذلك خافية.

وهذه الآية كما في آية الدين تدل على شدة عناية الشارع بحقوق الخلق وحفظ أموالهم، وعلى حُسن رعاية هذه الشريعة للمكلفين، وأنها رحمة، وأنها جاءت لترفعهم، وتنفعهم، وتُكملهم وتدفع عنهم أسباب الشقاق والنزاع، ولم تأتي هذه الشريعة لتُضيق عليهم، لم تأت هذه الشريعة من أجل أن تُحرم عليهم الطيبات، وإنما جاءت موسعة لهم، تُبيح لهم كل طيب، وتُحرم عليهم كل خبيث، وتحجزهم عن أسباب الشر في الدنيا والآخرة، هذه حقيقة هذه الشريعة فمن التزم بأحكامها فإنه يسعد في الدنيا وفي الآخرة، يستريح ويستريح الناس من شره وأذاه وظلمه، لا يصدر منه ظلم للآخرين لا بقلبه كسوء الظن، ولا بلسانه كالشتم والغيبة والنميمة وما إلى ذلك، ولا بجوارحه بأخذ أموالهم، أو بأذيتهم والإساءة إليهم بأي لون من ألوان الإساءة، فكل تلك الاحتياطات في آية الدين ثم في هذه الآية يُشير إلى البديل عن الكتابة وهو الرهن، ويؤكد على من عنده شهادة أن يؤديها كل ذلك احتياطًا للحقوق، فهل يوجد هذا في قانون أو نظام على وجه الأرض؟

أبدًا، هذا تشريع رب الأرض والسماء أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ [سورة الملك:14]، اللطيف تحمل معنيين كبيرين:

الأول: يعلم دقائق الأشياء، تقول هذه مادة لطيفة.

والثاني: اللطيف من اللُطف وهو قريب من الرفق، رفق وزيادة.

الخبير الذي يعلم الخفايا، فالذي شرع هذا التشريع يعلم الظواهر والبواطن، وهو لطيف بعباده ويعلم الدقائق، فإذا كان الأمر كذلك فلا يسع الإنسان إلا الإذعان الكامل والاستسلام لله رب العالمين، وهذه حقيقة الإسلام يستسلم الإنسان ظاهرًا وباطنًا بقلبه ولسانه وجوارحه.

ثم أيضًا يؤخذ من قوله -تبارك وتعالى: فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ أن الرهن إنما يتحقق الغرض منه من جهة الاستيثاق بالقبض، وهذا ليس محل اتفاق بين أهل العلم وقد تكلمت على هذه المسألة بشيء من التفصيل في التعليق على التسهيل لابن جُزي -رحمه الله، مع أن بعض أهل العلم يقول بأن ذلك لا يلزم يكفي أن يقول: سيارتي رهن، أو داري رهن، أو مزرعتي رهن، دون أن يُمكنه منها، دون أن يُسلم ذلك إليه، دون أن يُخلي بينه وبينها، يقولون: يكفي أن يقول هذا.

لكن هذا فيه نظر؛ لأنه قد يقول هذا ثم بعد ذلك لا يُمكنه من شيء، وقد يُنكر: فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ، لكن لما قال: فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ هذا دل على القبض، لكن لم يقل ذلك بتخصيص بالدائن ما قال: فرهان يقبضها صاحب الحق، وإنما قال: مَقْبُوضَةٌ فدل على ما ذهب إليه طائفة من أهل العلم من أنه يصح أن يكون الرهن مقبوضًا عند طرف ثالث يرتضيانه، يعني طرف مُحايد، يقول: الرهن تعطيه لفلان أنا قابل، فإذا ما وفيت استوفي من هذا الرهن كالقاضي مثلاً يمكن أن يكون الرهن عند القاضي، ويمكن أن يكون عند طرف آخر يرتضيانه مَقْبُوضَةٌ.

ثم أيضًا قال: فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضًا فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمَانَتَهُ وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ، هذا أخذ منه بعض أهل العلم بأن ما يحصل من التلف بيد الأمين أنه لا ضمان عليه، حصل من التلف بيد الأمين، لو أن أحدًا مثلاً أعطى آخر وديعة وقال: احفظها عندك حتى أطلبها، فوضعها في مكان يليق بمثلها لم يُفرط فسُرقت الدار، وسُرقت هذه الوديعة من جُملة ما سُرق، أو احترقت الدار فاحترقت هذه الوديعة من غير تفريط منه، التفريط مثل ماذا؟

مثل لو أنه أعطاه مثلاً مائة ألف وقال: هذه وديعة فتركها في البيت أو تركها في درج السيارة فسُرقت السيارة، المائة ألف لا توضع في السيارة، فهذا تفريط، لكن لو أنه أعطاه السيارة وقال: هذه وديعة فوضعها بجوار بيته مثلاً في مكان لا تضيق الطريق مثلاً، ولا تكون عُرضة، ولم يترك المفتاح عليها، ولم يتركها مفتوحة كما يفعل مع سيارته وجاء إنسان وسرقها، فهذا لا يُطالب بأن يعوض صاحب هذه السيارة، أو صاحب المال، أو صاحب الحُلي، أو نحو ذلك؛ لأنه لم يُفرط وهو أمين فلا ضمان عليه إن لم يحصل منه تعدي أو تفريط، لكن لو أنه أعطاه مثلاً إبلاً أو غنمًا أو طيرًا أو نحو ذلك فتركه لم يُطعمه، ولم يسقه فمات فإنه يضمن؛ لأنه فرط بل هو مُتسبب بهذا؛ لأن الترك من جملة الأفعال، يعني: لو قال: أنا ما فعلت له شيئًا لم أقربه ولم أمس هذا.

نقول: نعم، تركته ما أطعمته ولا سقيته فمات، ماتت هذه الدواب، ماتت هذه الغنم الوديعة، أو كانت رهنًا حصل لها التلف بتفريطه لم يُطعمها ولم يسقها ففي هذه الحال يجب عليه الضمان.

فهذه من الحالات التي يُعتبر فيها الترك فعل، وقد عد له بعض أهل العلم صورًا وأنواعًا منها: الرهن، لو أنه ضيعه بهذه الطريقة لم يُطعمه ولم يسقه، وذكروا أشياء أخرى لو وجد جريحًا وعنده خيط وهو طبيب يستطيع أن يخيط فتركه قال: أنا ما لي فمات فإنه يضمن، لكن إن لم يكن منه تفريط فليس عليه شيء، بخلاف غير الأمين ففيه فرق، يعني: الآن لو أن أحدًا غصب أو سرق من أحد شيئًا فحصل له التلف بغير تفريط فإنه يضمن؛ لأن هذه اليد ليست يد أمين فيُعيده، طيب لو اقترض منه قرضًا فعدى عليه اللصوص وأخذوا هذا المال فإنه يُعيده؛ لأن هذا من قبيل القرض.

وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ، فهنا هذا أمر بالتقوى، بهذه الصيغة الثانية من صيغ الأمر الصريح، الأمر الصريح له صيغتان: افعل، اتقِ الله، والصيغة الثاني: لتفعل، لتتقِ الله، وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ، له صيغتان صريحتان.

أما الصيغة غير الصريحة فهو كما يقال في الخبر المُضمن معنى الأمر مثل: وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ [سورة البقرة:233]، فهذا خبر لكنه مُضمن معنى الأمر، وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ، يعني: عليهن الإرضاع، يلزمهن الإرضاع.

فهنا: وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ فجمع بين هذين الاسمين الكريمين "الله" المألوه المعبود المُتضمن لصفة الإلهية، وكثير من أهل العلم يقولون: بأنه الاسم الأعظم، والأدلة على أنه الاسم الأعظم أظهر، وقد تحدثت عن هذا في الكلام على الأسماء الحسنى، وذهب جمع من المحققين إلى أن الاسم الأعظم الذي إذا دُعي الله به أجاب، وإذا سُأل به أعطى أنه هو لفظ الجلالة "يا الله"، ويليه بالقوة الحي القيوم "يا حي يا قيوم"، ويلي ذلك "الواحد والأحد"، ويلي ذلك "الحنان والمنان"، لو جمعها الإنسان في مثل هذه الأيام وهو يدعو يقول: "يا الله يا واحد ويا أحد ويا حنان ويا منان ويا حي ويا قيوم يا ذا الجلال والإكرام اغفر لي".

فهنا جمع بين هذين الاسمين الكريمين "الله" فهو أعظم الأسماء كما قلنا في الكلام أيضًا على الهدايات في آية الكرسي: اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ [سورة البقرة:255]، فهذا الاسم من جهة النظر في جملة دلائل من يقول: بأنه الاسم الأعظم من جهة النظر، يعني غير الأدلة النقلية، الأدلة النقلية ذكرناها هنا لكن يقولون: بأن جميع الأسماء الحسنى تعود إليه لفظًا ومعنى، معنى تعود إليه لفظًا أنها تأتي معطوفة عليه ولا يُعطف على شيء منها، هو الله الخالق البارئ المصور، لا يُقال: الخالق البارئ المصور الله، فتعود إليه لفظًا تُعطف دائمًا عليه، ومعنى أن جميع معاني الأسماء الحسنى ترجع إلى صفة الألوهية؛ لأن الإله يجب أن يكون هو الرب الخالق الرازق المحيي المميت النافع الضار الغني القوي العزيز، إلى آخر.

الإله لابد أن يكون مستجمعًا لجميع صفات الكمال، ولذلك كانت صفة الإلهية أوسع الصفات، هذا معنى كون الصفات ترجع إليها من جهة المعنى، والرب والإله "الله" هذا يختص بالإله لفظًا ومعنى: وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ، يختص بالله -تبارك وتعالى- هذا الاسم لفظًا بمعنى أنه لا يمكن أن يُسمى مخلوق الله، لا أحد يُسمى بهذا الاسم، ولا يُعرف أن أحدًا تسمى به لا في جاهلية ولا في إسلام، ومن يجرُأ على هذا، الله.

ومن جهة المعنى فإنه يتضمن معنى الإلهية صفة الإلهية فصفة الإلهية لا تصلح للمخلوق، ولا يصلح شيء منها للمخلوق إطلاقًا، فهذا مُختص من جهة اللفظ والمعنى، والرب رب العالمين، بعض العلماء يقول: هذا اسم "رب العالمين" هكذا ويعدونه في جملة الأسماء الحسنى "رب العالمين" بهذا التركيب والإضافة، فلو كان كذلك فهو مُختص لفظًا، لا أحد يُسمى رب العالمين غير الله، ومن جهة المعنى "رب العالمين" أيضًا كذلك، لكن أكثر أهل العلم يقولون: بأن الاسم هو الرب.

وبعضهم يقول: هو بالتعريف بأل الرب لا يُسمى به غير الله يعني مُختص من جهة اللفظ، ومن جهة المعنى هل هو مختص أو لا من جهة المعنى الربوبية من معانيها السيد، المُربي، المالك، إلى آخره بهو بهذا الاعتبار غير مختص من جهة المعنى، فلفظ الجلالة الله مختص لفظًا ومعنى، الرب مختص لفظًا لا معنى، لكن لو أنه قيل بقيد، قيل: رب الدار ورب الإبل ورب المال فهذا يصح أن يُقال كما قال يوسف على أحد المعنيين في التفسير: فَأَنسَاهُ الشَّيْطَانُ ذِكْرَ رَبِّهِ [سورة يوسف:42]، على أن ذلك يرجع إلى من؟ كما قال الله في قصة يوسف مع السجين: فَأَنسَاهُ الشَّيْطَانُ ذِكْرَ رَبِّهِ [سورة يوسف:42]، أن هذ الرجل الذي أوصاه يوسف وأخبره بناء على الرؤيا أنه سيخرج: اذْكُرْنِي عِنْدَ رَبِّكَ [سورة يوسف:42]، فهذه صريحة: اذْكُرْنِي عِنْدَ رَبِّكَ، عند الملك، عند سيدك، هذا معناها اذْكُرْنِي عِنْدَ رَبِّكَ، هذا بالإضافة لما أضافه "ربك" صح أن يُطلق على المخلوق، فهنا ذكر هذين الاسمين: وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ، فجمع بين الألوهية والربوبية فهذا كله للتوكيد وتربية المهابة ولزوم الانقياد، ما بعد هذا شيء، ويُحذره من المخالفة.

كذلك أيضًا يؤخذ من هذه الآية الكريمة: وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ، التذكير هنا بالتقوى؛ لأنها هي الطريق للامتثال وأداء الحقوق فإذا انعدمت التقوى ففي هذه الحال صار الناس لا يُبالون؛ فالحلال ما حل باليد -والله المستعان.

قال: وَلا تَكْتُمُوا الشَّهَادَةَ وَمَنْ يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ، فهذا من جملة التوكيد على أداء الشهادات، والنهي عن الامتناع من الإدلاء بها، فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ أضاف الإثم إلى القلب باعتبار أن الكتمان من أعمال القلوب فأضافه إلى القلب فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ فهذا يدل على المؤاخذة على أعمال القلوب، وذلك بأن اعتقاد إلهًا مع الله -تبارك وتعالى- من عمل القلب وهو من أسوء جنياته الشرك، والنفاق الاعتقادي أعمال القلوب، والحسد من أعمال القلوب السيئة، والبغضاء، وسوء الظن، كل هذه من أعمال القلب السيئة، القلوب بها أعمال وجنس أعمال القلوب أعظم من جنس أعمال الجوارح.

وقد تكلمت على هذا تفصيلاً في الكلام على الأعمال القلبية، وهذا بيّن لا يخفى، كذلك أيضًا هذا القلب هو الملك للجوارح، فإذا حصل الصلاح له فإن الجوارح تكون صالحة.

فقوله: فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمَانَتَهُ وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ وَلا تَكْتُمُوا الشَّهَادَةَ وَمَنْ يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ [سورة البقرة:283]، مثل ما قال هناك: وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ [سورة البقرة:282]، فهذه مواضع يصح فيها الإضمار، يعني: لو قال هناك في آخر آية الدين: "واتقوا الله ويعلمكم وهو بكل شيء عليم" لأن الضمائر للاختصار، فلماذا جاء بالاسم ظاهر في كل موضع؟

العلماء يقولون: بأن ذلك وقع -يعني لفظ الجلالة- مُظهرًا في جُملٍ مستقلة ثلاث، يعني لم يكن في جملة واحدة، فإذا كان المقام يقتضيه كتربية المهابة مثلاً: وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ [سورة البقرة:282]، فهذا أفخم فيكون الإظهار أبلغ من الإضمار، وهنا: وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ، ثم قال: وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ فهذا أيضًا بذكر هذا الاسم الكريم المُتضمن لصفة الإلهية كل هذا للتحذير مع ذكر العلم وَاللَّهُ بِمَا وما تفيد العموم، بِمَا تَعْمَلُونَ، كل المزاولات، وكل ما يصدر عنكم، وكل ما يقع في قلوبكم والكتمان والجحود والبخس والنقص والمماطلة كل هذا يعلمه الله -تبارك وتعالى.

وَاللَّهُ بِمَا، فإذا علم الإنسان أن كل ما يعمله يعلمه الله لا يحتاج أنه يزيد هذه، وهنا خمسة وثلاثين ريالاً، وهنا زيادة كذا، ومن هنا زيادة كذا، فإذا كان الحق عليه جعل يُنقصه، لا لا، الله يعلم كل شيء، فالعبد مأمور بالتقوى وأداء ما عليه؛ لأن الله لا يخفى عليه من ذلك شيء، قد يستطيع إقناع الآخرين وقد يستطيع الجدل ويُكابر؛ ولكنه لا يخفى على الله، قد يأتي بوثائق مزورة، قد يأتي بفواتير مزورة، ولكن ذلك لا يخفى على الله -تبارك وتعالى.

وكذلك أيضًا فيه رد على الغُلاة من القدرية الذين يقولون: بأن الله -تبارك وتعالى- لا يعلم بأفعال العباد قبل وقوعها ولم يُقدرها أصلاً يُنكرون العلم والتقدير.

وكذلك أيضًا: وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ سواء كان ذلك في ما عملناه أو ما نستقبل مما سنعمل، كذلك أيضًا موضوع الحيل في المعاملات وما إلى ذلك مما يُغلف على أنها معاملة شرعية وهي غير شرعية مما يتوصلون به إلى أخذ الزيادة على القروض أو الديون أو نحو ذلك هذا كله لا يخفى على الله ، تحتال على من؟!

هذا الذي يحتال في الواقع أنه يحتال على نفسه، ولهذا قال الله عن المنافقين: يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنفُسَهُمْ [سورة البقرة:9]، الذي يُخادع ربه -تبارك وتعالى- الواقع أنه يخدع نفسه، الذي يحتال على الأحكام الشرعية الواقع أنه يحتال على نفسه -والله أعلم. 

يقول الله -تبارك وتعالى: لِلَّهِ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ فَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ [سورة البقرة:284].

لِلَّهِ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ، لله ملكًا كل من في السماوات ومن في الأرض، وهو الذي يُدبرها، وقد أحاط بها علما، لا يخفى عليه من شأنهم خافية، ولهذا قال بعده: وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ، وذلك أن ما يُظهره الإنسان مما في نفسه، أو ما يكتمه ويُخفيه فإن الله -تبارك وتعالى- يعلمه ويُحيط به، وسيحاسبه على ذلك، فيعفو عن من يشاء، ويعُاقب من يشاء، وهو القادر على كل شيء.

هذه الآية جاءت بعد الآيات السابقة التي يذكر الله فيها هذه الأحكام في هذه السورة الطويلة، وهي أكثر السور اشتمالاً على الأحكام، كذلك ما ذكر في أواخرها من الكلام على النفقات، والربا، والدَّين، وما يتعلق بالشهادة، وأداء الأمانة، وكتابة الديون، وجاء في هذا الختم ما له اتصال وثيق بما سبق، فإذا نظرت إلى ما قبله: وَلا تَكْتُمُوا الشَّهَادَةَ وَمَنْ يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ [سورة البقرة:283]، على سبيل المثال، فهنا هذا فيه تحذير وإيقاظ للنفوس، فإن الله يُحاسب العبد على ذلك، ويُجازيه على هذا الكتمان.

وإذا نظرنا إلى السورة بكاملها وما فيها من الشرائع المتعددة وما فيها من قضايا تتعلق بالتوحيد والنبوة والتشريعات والتكاليف كالصلاة والزكاة والصوم والحج والقصاص، وما إلى ذلك خُتمت بهذا الختم الذي يجعل المُكلف في حال من مراقبة الله -تبارك وتعالى، وأداء ما عليه، والحذر عن مواقعة مساخطه وتعدي حدوده، فإن الله -تبارك وتعالى- لا يخفى عليه من أحوال الخلق خافية، وقد ذكر شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- بأن الله قد ختم هذه السورة بهذه الآيات الجوامع مثل هذه الآية والآيتين بعدها فهي هذه الآيات مُقررة لمضمون السورة، ما تضمنته السورة جاء مُقررًا في هذه الآيات الثلاث في آخرها.

وقوله -تبارك وتعالى: لِلَّهِ اللام هذه للملك يعني أن الله هو المالك لما في السموات وما في الأرض، "لله" فهو مالكها، لِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ [سورة المائدة:120] فهو له الملك وله المِلك أيضًا يملك هذه جميعًا، وفي سورة الفاتحة ملك يوم الدين، على هذه القراءة المتواترة، ومَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ [سورة الفاتحة:4]، فالملك هو الذي يُدبر ويتصرف التصرف المُطلق في خلقه ويُدبر شؤون العالم العلوي والسُفلي، والمالك هو الذي يملك ما في العالم العلوي والسُفلي فكل ذلك له مُلكًا دون ما سواه.

وهنا أنه قال: لِلَّهِ مَا فِي السَّمَوَاتِ فـ"ما" هذه تُستعمل في غير العالم غير من يوصف بالعلم تقول: رأيت ما في يدك، رأيت ما معك، وإذا كان المقصود ما يوصف بالعلم الذي يُسميه أكثر النُحاة: العاقل رأيت من عندك من الضيوف، لكن تقول: رأيت ما معك من المتاع، لاحظ التعبير إذا كان غير عاقل يُقال رأيت ما معك، إذا كان عاقل تقول: رأيت من معك، من معك يعني من الأشخاص مثلاً، إذا وجهت إليه السؤال، تقول: ما معك، إذا كنت تستفسر عن شيء غير عاقل، وإذا كنت تستفسر عن عاقل تقول من معك، وهكذا.

فهنا: لِلَّهِ مَا فِي السَّمَوَاتِ، الذين في السماوات والأرض منهم من يوصف بالعقل أو العلم بعض العلماء يُعبر بالعلم؛ لأن الملائكة يوصفون بالعلم، ولم يرد في الكتاب ولا في السنة وصفهم بالعقل، فنحن نتقيد بما جاء في الكتاب والسنة، فلهذا بعضهم يقول: "ما" يُعبر بها عن غير العالم من يوصف بالعلم، ومن يُعبر بها عن من يوصف بالعلم، فالذين في السماوات والأرض منهم من يوصف بالعلم كالملائكة والأنبياء -عليهم السلام، وكذلك أيضًا الناس الإنس والجن، وكذلك يوجد في السماوات والأرض ما لا يوصف بالعلم من أنواع الجمادات، والنباتات والدواب، ونحو ذلك ما الله به عليم، فعُبر بما، وإذا عُبر بما في مقام فيه هذا وهذا فيكون ذلك لعلة، ما هذه العلة؟

هنا يمكن أن يُقال: من باب التغليب؛ لأن ما لا يعقل أكثر مما يعقل، فالحصى وحبات الرمل والأشجار والنباتات والدواب في قاع البحر وتحت الأرض وفوق الأرض مما لا يُحصيه إلا الله -تبارك وتعالى، فهنا قال: لِلَّهِ مَا فِي السَّمَوَاتِ فيدخل فيه العقلاء وغير العقلاء، كل هؤلاء لله، وَمَا فِي الأَرْضِ، ويدخل بقوله: فِي الأَرْضِ ما عليها ما على ظهرها وما في باطنها، كل ذلك لله -تبارك وتعالى.

هذا المُلك وهذا الكون الشاسع الواسع هو ملك لله، وهو الذي ينفرد بتدبيره، يُديره ويُدبره بانتظام دقيق: لا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَهَا أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ [سورة يس:40]، بانتظام الليالي والأيام الليل والنهار، طولاً وقِصرًا، وكذلك أيضًا الفصول تتعاقب، كل ذلك بتدبيره وعلى تطاول الأزمان ذلك في غاية الدقة والإتقان لا يحتاج إلى ترميم وتجديد، ليس فيه فطور في هذه السماوات نراها نشاهدها بلا عمد، بناء الإنسان مهما كان فإنه يتغير ويتحول، ثم بعد ذلك يتلاشى ويضمحل.

لِلَّهِ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ هذا الكون الشاسع الواسع إذا كان لله فهو يملكه ويُدبره ويُصرفه فهذا لابد له من أوصاف الكمال: القوة، الغنى، العلم، السمع، البصر، الإرادة، المشيئة، وما إلى ذلك من صفات الكمال، فهو كامل الصفات، الشركات الكبرى يُطلب في إدارتها من يملكون مهارات عالية، وخبرات ومع ذلك يُطورون دائمًا بدورات ومع ذلك يفوتهم أشياء وتقع كوارث في بعض الأحيان؛ لأن هذه طبيعة البشر، وكم عدد الموظفين في هذه الشركة وما مداها، عشرة آلاف، مائة ألف، لكن هذا العالم العلوي والسفلي، تظنون العالم هو ما نُشاهده فقط! ما يخفى أعظم وأشد.

النبي ﷺ يقول: أطت السماء وحُق لها أن تئط -وذكر- أنه ليس فيها موضع قدم إلا وفيه ملك قائم يُصلي لله -تبارك وتعالى،[21] والأطيط هو صوت الرحل الجديد إذا كان عليه ثِقل تسمع صوتًا بسبب الضغط، أطت السماء، "البيت المعمور أخبر النبي ﷺ أنه يأتيه في اليوم الواحد سبعون ألف ملك لا يرجعون إليه ثانية"[22] لا يرجعون، لك أن تُقدر ما شئت من الأيام ما شئت واضرب في سبعين، كم عدد هؤلاء الملائكة وكم بقي من الزمان، يأتيه كل يوم سبعون ألف ملك، النار فقط -أعاذنا الله وإياكم ووالدينا وإخواننا المسلمين منها- يقول النبي ﷺ: يؤتى بالنار يوم القيامة لها سبعون ألف زمام تُسحب به لكل زمام سبعون ألف ملك [23] فكم عدد هؤلاء الملائكة فقط الذين يسحبون النار؟!

هذه أمثلة بسيطة تدل على كثرة خلق الله وسعة ملكه، فهو الذي يُدبر ذلك جميعًا: لِلَّهِ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ [سورة الشورى:49]، والنبي ﷺ قال: أُذن لي أن أُحدث عن أحد حملة العرش ما بين شحمة أُذنه إلى عاتقه سبعمائة عام، تخفق الطير،[24] سبعمائة عام بأي قياس؟ قياس الضوء أو قياس الراكب على الفرس أو البعير؟ لا، تخفق الطير، يعني: طيران الطائر هذه المسافة فقط سبعمائة عام تخفق الطير، هذا واحد ملك من الملائكة، طبعًا هذا لا يُقاس بالأرض وما نُشاهد في هذه القياسات كلها، لا يمكن هذا مخلوق: يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لا يَفْتُرُونَ [سورة الأنبياء:20]، لا يتوقفون ولا ينقطعون، فإذا كان هذا مخلوق وبهذه المثابة مخلوق واحد، ويُديرهم ويُدبرهم ويُطيعونه ويخافونه، إذًا ما عظمة الخالق؟!

هذا أجل وأعظم من أن تُحيط به الأذهان أو الأفهام -جل جلاله وتقدست أسماءه، وإذا كان الأمر كذلك فإن هذا المعبود ينبغي أن يُخاف، وأن لا يُستكثر العمل في طاعته ، وأن يُراقب وأن يُتقى وأن يُعظم وأن يجتهد العبد في تحصيل مرضاته، وأن يكون مستسلمًا لحكمه الشرعي وحكمه القدري، ويكون في حال من الرضا والانقياد والاستسلام والتسليم لا اعتراض على أحكام الله -تبارك وتعالى، ومن نحن حتى نعترض، كذلك يثق الإنسان بتشريعه وحكمه وتدبيره، الذي يُدبر أمر هذا العالم وبهذه المثابة تدبيرًا دقيقًا؛ إذًا اطمئن لا تقلق، التدبير بيد من أحاط بكل شيء علما، وهذا القلق يدل على ضعف الثقة، ثم إن الإنسان إن وجد عنده هذا القلق أو لم يوجد لم يُغير هذا من تدبير الله وتقديره قليلاً ولا كثيرًا، فنْم قرير العين لكن عليك أن تجتهد بالعبادة والطاعة وتحصيل أسباب مرضاته -جل جلاله وتقدست أسماءه.

لِلَّهِ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ، هذه الآية تدل على أن الله يُحاسب بما في النفوس كما قال شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله،[25] "يُحاسبكم به الله" وهذه المحاسبة غير المعاقبة، يعني: دلت على أنه يُحاسب لا على أنه يُعاقب على ما في النفوس.

وهذا الموضع ذهب طوائف من أهل العلم إلى أنه منسوخ، باعتبار أنهم فهموا من المحاسبة المؤاخذة والمعاقبة، وأن ما يقع في نفس الإنسان قد يكون من غير إرادته ولا اختياره فكيف يُحاسب عليه؟! الواردات والخواطر تقع في نفس الإنسان وهو لا يقصدها فكيف يُحاسب عليها؟! ولهذا ذهب جمع من أهل العلم إلى أن الآية نُسخت، الصحابة لما شكوا إلى رسول الله ﷺ أنهم كُلفوا بم يُطيقون ثم بعد ذلك خوطبوا بمثل هذا فأرشدهم النبي ﷺ إلى الإذعان والتسليم فنزلت الآية: آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ * لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا [سورة البقرة:285، 286][26].

فبعض العلماء يقولون: هذه رفعت الحكم السابق، كانت المحاسبة على ما في النفوس ثم بعد ذلك قُيدت بهذا القيد: لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا [سورة البقرة:286]، فهموا أن المحاسبة على ما يقع في النفس مطلقًا أنه تكليف ما لا يُطاق، والواقع أن الأمر قد لا يكون كذلك، وأن الآية ليست منسوخة على الأرجح، والعبارات المنقولة عن بعض السلف من أنها نُسخت فالسلف -الصحابة رضي الله عنهم والتابعين- يُعبرون بالنسخ ويقصدون به ما يعرض للنص العام أو المُطلق أو المُجمل من تخصيص أو تقييد للمُطلق، أو بيان للإجمال، كما يُطلقون على النوع الرابع الذي هو الرفع وهو النسخ باصطلاح المتأخرين، فنجد في عبارات المتقدمين أن هذه الآية نُسخت بالآية التي بعدها أو نحو ذلك كثيرًا ما يقصدون به أنها بينتها، أو قيدتها، أو خصصتها.

ويدل على أن هذا ليس من النسخ الذي هو بمعنى الرفع أن هذا خبر: وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ والأخبار لا تُنسخ إنما الذي يُنسخ الإنشاء الأمر والنهي، افعل ولا تفعل، فدل على أن ذلك ليس من النسخ وإنما هو بيان، فهنا لما أشكل عليهم وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ، بيّن أن ذلك مما يكون في حدود الإمكان والقُدرة والطاقة، لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ رَبَّنَا لا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا رَبَّنَا وَلا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا رَبَّنَا وَلا تُحَمِّلْنَا مَا لا طَاقَةَ لَنَا بِهِ وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا أَنْتَ مَوْلانَا فَانصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ [سورة البقرة:286]، وفي الحديث: أن الله قال: قد فعلت،[27] فلا يؤاخذنا بما وقع فيه الخطأ والنسيان، وكذلك لا يُكلفنا بما لا نُطيق، فهنا دلت الآية على المُحاسبة وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ، المقصود بذلك ما يتعلق به التكليف، ليس مجرد الخواطر فإن الخواطر إذا دفعها الإنسان ما ضرت، بعض الناس يُعاني من وسوسة يأتيه الشيطان ويقول له من خلق كذا من خلق كذا من خلق كذا حتى بعد ذلك يصل إلى التساؤل على أمور لا ينبغي التساؤل عنها كما أخبر النبي -صلى الله عليه وآله وسلم.

إذًا هذه فيما يتعلق به التكليف، تُبْدُوا مَا فِي أَنفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ، من ماذا؟ من الإيمان والكفر، النفاق والشك، كذلك أيضًا سوء الظن بالله ، المحبة الخوف والرجاء، البُغض ونحو ذلك، كل هذه الأمور هي من أعمال القلوب التي يُحاسب الإنسان عليها ويؤاخذ عليها، وليس المقصود مجرد الخواطر التي تقع في قلب الإنسان ولا يملكها، ثم لا يلبث أن يدفعها، فهذه لا يؤاخذ عليها الإنسان، لكن هذا فيما يتعلق به التكليف، ولا شك أن كثيرًا من أعمال القلوب، وما تنطوي عليه النفوس يتعلق به التكليف، فهذا يُحاسب عليه الإنسان، ولهذا يحتاج العبد إلى أن يُصحح نيته وقصده، وأن يُحسن ظنه بربه -تبارك وتعالى، وأن يخاف منه، وأن يتقيه، وأن يرجوه وما إلى ذلك.

وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ، فهذا تحذير من أن يُخفي الإنسان في قلبه ما لا يرضاه الله -تبارك وتعالى، فإن ربه يعلمه وسيحاسبه عليه، فالله ربنا الذي نتعامل معه يعلم خفايا النفوس والخطرات، فالتعامل معه ينبغي أن يكون على هذا الأساس، يستطيع الإنسان أن يُخفي على الآخرين كثيرًا، قد يبدوا أنه صائم وهو غير صائم، قد يبدوا أنه تقي وهو ليس كذلك، قد يبدوا أنه خاشع وهو ليس كذلك، ولكن الله -تبارك وتعالى- لا يخفى عليه شيء، فالتعامل ينبغي أن يكون على هذا الأساس.

كذلك أيضًا: وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ فَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ، هذا يدل على كمال ملكه، وأنه الذي ينفرد بالتدبير، وهنا قال: فَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ، فقدم الغفر من باب تقديم الرجاء، كما قال الله في الحديث القُدسي: وأن رحمتي سبقت غضبي [28].

وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ، ومن جملة قدرته القدرة على محاسبة الخلق على ما وقع في نفوسهم مما يتعلق به الحساب، وكذلك التعذيب والمؤاخذة والغفر؛ فالله على كل شيء قدير.

وقبلها: وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ [سورة البقرة:283]، فإذا كان يعلم كل شيء، وهنا: وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ، يؤاخذ ويُحاسب ويأخذ العبد بسبب جرائره وجرائمه وما يصدر عنه، فهذا فيه ما فيه من الوعيد.

كذلك أيضًا فيها ترغيب ووعد، وفيه من إثبات صفات الكمال وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ إثبات صفة القدرة، وهذه دلت عليه نصوص كثيرة في الكتاب والسنة. 

  1. خرجه البخاري في كتاب الحوالات، باب إن أحال دين الميت على رجل جاز برقم: (2289).
  2. توضيح المقاصد شرح الكافية الشافية نونية ابن القيم (1/ 119).
  3. أخرجه أبو داود في كتاب الأقضية، باب إذا علم الحاكم صدق الشاهد الواحد يجوز له أن يحكم به برقم (3607) وصححه الألباني.
  4. الجامع لمسائل المدونة (11/ 146).
  5. أخرجه البخاري في كتاب المظالم والغصب، باب إثم من خاصم في باطل، وهو يعلمه برقم: (2458) ومسلم في الأقضية، باب الحكم بالظاهر واللحن بالحجة برقم: (1713).
  6. أخرجه البخاري في كتاب البيوع، باب ما يكره من الخداع في البيع برقم: (2117) ومسلم في البيوع، باب من يخدع في البيع برقم: (1533).
  7. أخرجه البخاري في كتاب الوصايا، باب أن يترك ورثته أغنياء خير من أن يتكففوا الناس برقم: (2742) ومسلم في كتاب الوصية، باب الوصية بالثلث برقم: (1628).
  8. المدونة (4/ 27) والكافي في فقه أهل المدينة (2/ 908).
  9. إعلام الموقعين (2/ 49).
  10. أخرجه البيهقي في شعب الإيمان برقم: (10469) وانظر كلام الألباني عنه في إرواء الغليل (8/ 282)، (2667).
  11. أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن (5/ 489).
  12. أخرجه البخاري في كتاب الأدب، باب ما ينهى عن التحاسد والتدابر برقم: (6065) ومسلم في البر والصلة والآداب، باب تحريم التحاسد والتباغض والتدابر برقم: (2559).
  13. أمراض القلوب وشفاؤها (ص:21).
  14. أخرجه البخاري كتاب الإيمان، باب من الإيمان أن يحب لأخيه ما يحب لنفسه برقم: (13) ومسلم في الإيمان، باب الدليل على أن من خصال الإيمان أن يحب لأخيه... برقم: (45).
  15. الكافي في فقه أهل المدينة (1/ 293) والمقدمات الممهدات (1/ 294).
  16. أخرجه الترمذي ت شاكر في أبواب البر والصلة، باب ما جاء في معاشرة الناس برقم: (1987) وحسنه الألباني.
  17. ديوان الإمام الشافعي، ص (69).
  18. أخرجه سنن ابن ماجه في كتاب الفتن، باب العقوبات برقم (4022) وضعفه الألباني في ضعيف الجامع برقم (3006).
  19. الفتاوى الكبرى لابن تيمية (1/ 106).
  20. تفسير القرطبي (3/ 406).
  21. أخرجه الترمذي، أبواب الزهد عن رسول الله ﷺ، باب في قول النبي ﷺلو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلا، برقم (2312)، وابن ماجه، أبواب الزهد، باب الحزن والبكاء، برقم (4190)، وأحمد في المسند، برقم (21516)، وحسنه الألباني في صحيح الجامع، برقم (2449).
  22. أخرجه البخاري، كتاب بدء الخلق، باب ذكر الملائكة، برقم (3207)، ومسلم، كتاب الإيمان، باب الإسراء برسول الله ﷺ إلى السماوات، وفرض الصلوات، برقم (164).
  23. أخرجه مسلم، كتاب الجنة وصفة نعيمها وأهلها، باب في شدة حر نار جهنم وبعد قعرها وما تأخذ من المعذبين، برقم (2842).
  24. أخرجه أبو داود، كتاب السنة، باب في الجهمية، برقم (4727)، بدون ذكر خفقان الطير، وصححه الألباني في صحيح الجامع، برقم (854).
  25. انظر: مجموع الفتاوى (10/ 762، 763).
  26. أخرجه مسلم، كتاب الإيمان، باب بيان قوله تعالىوَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ [سورة البقرة:284]، برقم (126).
  27. هو الحديث المخرج في الحاشية السابقة.
  28. أخرجه البخاري، كتاب التوحيد، باب وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى المَاءِ [سورة هود:7]، وَهُوَ رَبُّ العَرْشِ العَظِيمِ [سورة التوبة:129]، برقم (7422).