السبت 27 / شوّال / 1446 - 26 / أبريل 2025
ٱلَّذِى جَعَلَ لَكُمُ ٱلْأَرْضَ فِرَٰشًا وَٱلسَّمَآءَ بِنَآءً وَأَنزَلَ مِنَ ٱلسَّمَآءِ مَآءً فَأَخْرَجَ بِهِۦ مِنَ ٱلثَّمَرَٰتِ رِزْقًا لَّكُمْ ۖ فَلَا تَجْعَلُوا۟ لِلَّهِ أَندَادًا وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ

المصباح المنير التسهيل في علوم التنزيل لابن جزي مجالس في تدبر القرآن الكريم
مرات الإستماع: 0

تفسير سورة البقرة الآية 21 ،  22

يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ* الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ فِرَاشاً وَالسَّمَاء بِنَاء وَأَنزَلَ مِنَ السَّمَاء مَاء فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقاً لَّكُمْ فَلاَ تَجْعَلُواْ لِلّهِ أَندَاداً وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ [(21-22) سورة البقرة].
توحيد الألوهية:
شرح تبارك وتعالى في بيان وحدانية ألوهيته بأنه تعالى هو المنعم على عبيده بإخراجهم من العدم إلى الوجود، وإسباغه عليهم النعم الظاهرة والباطنة بأن جعل لهم الأرض فراشاً أي مهداً كالفراش.

اعْبُدُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ: هذا يسمونه دليل الإيجاد، والخلق، والاختراع، وهو كثير في القرآن.
ثم قال: الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ فِرَاشاً وَالسَّمَاء بِنَاء وَأَنزَلَ مِنَ السَّمَاء مَاء فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقاً لَّكُمَْ [سورة البقرة:22]: وهذا يقال له: دليل الحكمة والتعليل، وهذا كثير في القرآن أيضاً، حيث يذكر الله لهم أنه الذي خلق، ويستدل لهم على ذلك، ومن ثم يتوصل بهذا إلى إلزامهم بتوحيد الإلهية، الذي خلق ينبغي أن تكون العبادة مختصة به، ومن هنا قيل: إن توحيد الربوبية مستلزم لتوحيد الإلهية، إذا أقررتم بأن الله هو المنفرد بالخلق، والإيجاد، والتصرف فينبغي أن يكون ذلك حاملاً لكم على توحيده، وإفراده بالعبادة.
ودليل الحكمة الآخر الذي يبين فيه علة هذا الخلق أنه خلق لكم ما في الأرض جميعاً لتنتفعوا به، وجعل لكم الأرض فراشاً ممهدة تستطيعون السير عليها، والضرب في جنباتها، وأخرج لكم منها النبات، وأنزل لكم من السماء المطر، وكل ذلك من أجل أن تنتفعوا بهذا الإنعام والإفضال، فيكون حاملاً لكم على مزيد من العبودية لله ، والشكر له.
ثم قال لهم: فَلاَ تَجْعَلُواْ لِلّهِ أَندَاداً وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ [سورة البقرة:22]: أي: من كان بهذه المثابة من الخلق، والإيجاد، والإنعام، والإفضال، فينبغي أن تكون العبادة له وحده لا شريك له، وهذا الأسلوب كثير في آيات القرآن.
"بأن جعل لهم الأرض فراشاً أي مهداً كالفراش مقررة، موطئة، مثبتة بالرواسي الشامخات"الآن في قوله: اعْبُدُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ* الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ فِرَاشاً [سورة البقرة:21-22] أي: اعبدوا ربكم العبادة المعروفة، وهذا أمر بتوحيد الإلهية، وما يندرج تحته، ويتضمنه، ويستلزمه.
اعْبُدُواْ رَبَّكُمُ: أفردوه بالعبادة، والتوجه، فلا تتوجهوا إلى أحد سواه، وذكر اسم الرب - تبارك وتعالى - هنا وهو في غاية المناسبة، فقوله: اعْبُدُواْ رَبَّكُمُ أي: أن المربي بالنعم الظاهرة، والسيد؛ هو الذي ينبغي أن يوحد، ويفرد، فليس لكم رب سواه، فكيف تعبدون غيره، وتتوجهون بالشكر والعبادة، وتضعون ذلك في غير من خلق؟ فهذا غاية الظلم كما قال تعالى: إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ [سورة لقمان:13]، فالرب هو الذي يستحق أن يعبد.
قال تعالى: الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ، قوله: لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ: تحتمل أن تكون بمعنى الترجي، وهنا يرد الإشكال المعروف، وهو: كيف يقع الترجي من الله وهو عالم ما كان، وما يكون من الخفيات، وإنما يترجى من كان لا يعلم عواقب الأمور.
فنحن نترجى نزول المطر، ونترجى قدوم زيد، نرجو حصول كذا، ولا ندري هل يحصل أم لا، فإذا كان قريب المنال فهذا هو الرجاء، وإذا كان من المحال أو البعيد جداً فهذا هو التمني، نتمنى نزول المطر.
وعلى كل حال فإن الله لا يترجى، فمن قال: لَعَلَّكُمْ للترجي، قال: ذلك بحسب حال المخاطب، المخاطب يخاطب بحسب نظره كما سمى معبودات المشركين آلهة وهي ليست آلهة، وسمى الترَّهات والشبهات التي يحتجون بها سماها حجة، قال تعالى: حُجَّتُهُمْ دَاحِضَةٌ عِندَ رَبِّهِمْ [سورة الشورى:16] وهي ليست بحجة، لكن هم يعتقدون أنها حجة فسماها حجة، وهذا إذا قلنا: إن لعلَّ للترجي، وإذا قلنا: إنها للتعليل في جميع المواطن في القرآن - إلا في قوله: وَتَتَّخِذُونَ مَصَانِعَ لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ [سورة الشعراء:129] أي: كأنكم تخلدون، وباقي المواضع كلها تكون للتعليل - فهنا في قوله تعالى: اعْبُدُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ لا إشكال؛ إذ يكون المعنى اعبدوا ربكم الذي خلقكم، والذين من قبلكم؛ من أجل أن تحصل لكم التقوى.
فقوله: لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ هنا هل يكون عائداً إلى ما ذكر من الأمر بالعبادة، اعبدوا ربكم لعلكم تتقون، أو يكون عائداً إلى ما ذكر من الخلق الذي خلقكم لعلكم تتقون، أي من أجل أن تتقوه.
بعض أهل العلم يقولون: إنه يعود إلى الأمر بالعبادة، اعبدوا ربكم من أجل أن تحصل لكم التقوى، فالله يأمرنا بالعبادة لتربية التقوى في نفوسنا.
وعلى المعنى الآخر يكون ذلك عائداً إلى الخلق فهو خلقنا من أجل أن نحقق التقوى، من أجل أن نتقيه .
فإذا قلنا: إنه عائد إلى العبادة فقد يشكل عليه أن العبادة هي التقوى، أليست التقوى هي فعل ما أمر، واجتناب ما نهى؟ وفعل ما أمر واجتناب ما نهى هو العبادة، فهذا قد يلزم منه ما يسمى بالدور.
فعلى هذا يمكن أن يقال: إن الله أمر بعبادته لتحصل التقوى، وهي أن يجعل العبد بينه وبين عقاب الله وقاية، بفعل ما أمر، واجتناب ما نهى، فيكون متقياً إذا امتثل، إذا كان عابداً يكون متقياً، ويحتمل أن يكون المعنى الآخر أن الله خلقنا من أجل أن نتقيه بتحقيق العبودية، فيكون ذلك كقوله - تبارك وتعالى -: وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ [سورة الذاريات:56].
فإذا أردنا أن نرجح بين المعنيين فالمعنى الثاني هو أقرب، ويشهد له هذه الآية وهي قوله - تبارك وتعالى -: وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ [سورة الذاريات:56] فعبادته هي تقواه، بفعل ما أمر واجتناب ما نهى.
ويمكن أن نقول: إن الآية تحمل على المعنيين، فيقال بأن الله يأمرنا بعبادته لتربية التقوى في النفوس، وقد خلقنا أيضاً من أجل تحقيق التقوى، والقرآن يعبر به بالألفاظ القليلة الدالة على المعاني الكثيرة، فيكون خاتمة الآية: لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ تعليلاً للأمر بالعبادة، وتعليلا للخلق والإيجاد، والله تعالى أعلم.
يقول المصنف - رحمه الله -: شرع - تبارك وتعالى - في بيان وحدانية ألوهيته بأنه تعالى هو المنعم على عبيده بإخراجهم من العدم إلى الوجود، وإسباغه عليهم النعم الظاهرة والباطنة؛ بأن جعل لهم الأرض فراشاً، أي: مهداً كالفراش، مقررة موطأة، مثبتة بالرواسي الشامخات، والسماء بناء وهو السقف كما قال في الآية الأخرى: وَجَعَلْنَا السَّمَاء سَقْفًا مَّحْفُوظًا وَهُمْ عَنْ آيَاتِهَا مُعْرِضُونَ [سورة الأنبياء:32]، أو أَنزَلَ لَكُم مِّنَ السَّمَاء مَاء [سورة النمل:60]: والمراد به السحاب ها هنا في وقته عند احتياجهم إليه، فأخرج لهم به من أنواع الزروع، والثمار؛ ما هو مشاهد رزقاً لهم، ولأنعامهم؛ كما قرر هذا في غير موضع من القرآن.
ومن أشبه آية بهذه الآية قوله تعالى: الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ قَرَارًا وَالسَّمَاء بِنَاء وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ وَرَزَقَكُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ فَتَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ [سورة غافر:64] ومضمونه أنه الخالق الرازق، مالك الدار، وساكنيها، ورازقهم، فبهذا يستحق أن يعبده وحده ولا يشرك به غيره، ولهذا قال: فَلاَ تَجْعَلُواْ لِلّهِ أَندَاداً وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ [سورة البقرة:22].
وفي الصحيحين عن ابن مسعود قال: قلت: يا رسول الله أي الذنب أعظم عند الله؟ قال: أن تجعل لله نداً وهو خلقك...[1] الحديث، وكذا حديث معاذ : أتدري ما حق الله على عباده؟ أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئاً...[2] الحديث، وفي الحديث الآخر: لا يقولن أحدكم: ما شاء الله وشاء فلان، ولكن ليقل: ما شاء الله ثم شاء فلان[3].
قوله - تبارك وتعالى -: الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ فِرَاشاً وَالسَّمَاء بِنَاء [سورة البقرة:22]، مع قوله: وَجَعَلْنَا السَّمَاء سَقْفًا مَّحْفُوظًا [سورة الأنبياء:32] دليل على أن السماء سقف محفوظ، ومحسوس، خلافاً لما يزعمه بعض أهل الفلك من المعاصرين حيث يقولون: إن السماء ليست جسماً محسوساً وسقفاً كما هو مقرر في القرآن، وإنما يقولون: إن هذه السماء هي عبارة عن غازات... وما أشبه ذلك مما يقولونه في هذا المقام، بحيث إنه ليس هناك سقف محيط بالعالم، وعلى كل حال هذا تكذيب بما جاء في القرآن.
وقوله - تبارك وتعالى -: وَأَنزَلَ مِنَ السَّمَاء مَاء... [سورة البقرة:22]: المقصود به العلو، فيصدق على السحاب، فكل ما علا فهو سماء، وبالتالي فهذا المطر النازل من السحاب هو نازل من السماء.
فكلام أهل العلم في مصدر هذا المطر - أي: من أين يأتي - كثير، وذلك لا يمنع أن يكون متركباً من أبخرة تتصاعد من مياه البحار وغيرها أي: تصعد إلى أعلى ثم تتكثف ... إلى آخره، ثم تنزل، فالله يجعل هذه السنة في خلقه، فينزل لهم بها المطر، وقد يكون له مصدر آخر مع هذا، والله على كل شيء قدير، لكن هذا أمر مشاهد، والعلم عند الله .
وقد استدل به كثير من المفسرين كالرازي وغيره على وجود الصانع تعالى.هذه قضية لا تحتاج إلى تقرير، يعني وجود الصانع أظهر من كل شيء
وليس يصح في الأذهان شيء إذا احتاج النهار إلى دليل
ولذلك لما مر الرازي مع كوكبة من تلامذته بامرأة عجوز فهالها ما رأت من هذا التجمهر على هذا الرجل، والحفاوة به، فسألت: من هذا؟ فقالوا: هذا الذي يعرف على وجود الله ألف دليل، فقالت: "لو لم يكن في قلبه ألف شك لما عرف ألف دليل"، يعني أن هذه القضية لا تحتاج إلى استدلال لظهوره فهو أمر معلوم بالفطر، أمر بيِّن ظاهر أظهر من كل شيء، فلا حاجة إلى العناء في تقريره، والاستدلال عليه، فقد كان المشركون وهم على شركهم يقرون بوجوده، وصنعه سبحانه قال تعالى: وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ [سورة العنكبوت:61].
وبالتالي فإن المتكلمين من أمثال الرازي يبذلون جهداً كبيراً، وعناء طويلاً؛ في تقرير هذه القضية - وجود الصانع -، فإن انتقلوا منها انتقلوا إلى تقرير توحيد الربوبية، وهذه من آفات علم الكلام، حيث إنهم يجادلون ويطيلون في تقرير القضايا البدهية التي لا ينازع فيها أحد.
وهذا الكلام قد تحتاج إليه مع ملحد، وذلك نادر؛ لأن طوائف أهل الإشراك يقرون بوجود الله لكنهم يجعلون معه شريكاً، فتحتاج إلى مناقشتهم في توحيد العبادة.
لكن هؤلاء يناقشون في البدهيات، ولذلك فمقدماتهم سقيمة، فالقرآن الكريم لا يتحدث عن قضية وجود الله مثلاً، ولا يتحدث عن تقرير توحيد الربوبية إلا ليدلل به على توحيد الألوهية، أما أهل الكلام فإن المقدمات عندهم لا تتأتى بأن الله هو الخالق، إذن يجب أن يكون هو المعبود وحده لا شريك له، والصواب ليس كذلك؛ بل أثبت المقدمة الأولى أن الله هو الخالق، ثم أثبت بعد ذلك أنه المستحق وحده للعبادة.
فانظر كم يحصل بسبب هذا من التطويل من غير فائدة، وهذا هو أحد الفروق بين الأدلة الكلامية المنطقية الفلسفية وطرائق أهل الكلام في الاستدلال، وطريقة القرآن في تقرير قضايا الاعتقاد، هذا واحد من هذه الفروق، وبهذا نعرف ما جرَّه علم الكلام على العقيدة الإسلامية، وعلى الأمة من مفاسد، وجدل عقيم لا طائل تحته، فاشتغلوا بالقيل والقال، والجدل في المسلمات، وتقرير الثوابت بأطول الأدلة، والتطويل في المقامات التي لا تحتاج إلى تقرير أصلاً، فكثر كلامهم، وشغبهم، والتمسوا الاعتراضات، والقوادح، وحاولوا الجواب عنها فشككوا في المسلمات.
هذا هو الذي حصل، ولذلك تجدون مثل: الجهم بن صفوان لما قابل طائفة من السمنية وقالوا له: تقر بأن لك رباً؟ قال: نعم، قالوا: هل وجدت له حساً؟ قال: لا، قالوا: هل سمعت له صوتاً؟ قال: لا، قالوا: هل شممت له رائحة؟ قال: لا، إلى أن قالوا له: كيف إذن تدعي أن لك رباً ولم تدركه بحواسك؟ فبقي شاكاً لا يصلي أربعين يوماً، ثم خرج عليهم بكلام أشبه ما يكون بكلام النصارى - كما قال الإمام أحمد رحمه الله وغيره - في الرد على الزنادقة والجهمية، حيث جاءهم فقال لهم: تقول بأن لك روحاً، قال: نعم، قال: هل وجدت لها صوتاً، قال: لا، وجدت ريحاً؟ قال: لا، قال: إذن: كيف تقول بأن لك روحاً؟ وظن أنه حاجَّهم في هذا، وهو يقول: بأن الله مثل الروح، فصار أعظم من قول النصارى بأن المسيح هو روح الله، وأنه حل في المسيح، فهو يقول بأن الله مثل الروح يحل ويتجلى في هذه المخلوقات.
وقد استدل به كثير من المفسرين كالرازي وغيره على وجود الصانع تعالى، وهي دالة على ذلك بطريق الأولى.مع أن القرآن ساقها لا لتقرير وجود الصانع قال تعالى: الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ [سورة البقرة:21] جاء بها من أجل العبادة، اعْبُدُواْ رَبَّكُمُ [سورة البقرة:21]، وهم ما استدلوا بها حتى على توحيد الربوبية الذي هو مسلَّم، وما سيقت بتقريره، لكنه أشار إلى هذا، وهو أمر يقرون به أنه هو الرب وحده، فإذن ينبغي أن يكون المعبود وحده، فذهب الرازي إلى ما قبل قبل ذلك وهو وجود الصانع، ثم بعد ذلك تأتي مرتبة أخرى وهي أنه الرب، فهو يريد أن يثبت أنه موجود، والآية ما جاءت لهذا.
فإن من تأمل هذه الموجودات السفلية، والعلوية، واختلاف أشكالها، وألوانها، وطباعها، ومنافعها، ووضعها في مواضع النفع بها محكمة؛ علم قدرة خالقها، وحكمته، وعلمه، وإتقانه، وعظيم سلطانه كما قال بعض الأعراب وقد سئل: ما الدليل على وجود الرب تعالى؟ فقال:...شوف الآن الفرق بين هذا وبين الجهم بن صفوان على كثرة من تبع الجهم بن صفوان من أهل خراسان، وفي البصرة من أتباع عمرو بن عبيد، وغير هؤلاء من المعتزلة الذين يزعمون أنهم أصحاب عقول، حيث انكفأ كثير منهم خلف هذا الرجل المبطل، وتتعجب في ذلك الزمان - في زمان التابعين - مع وجود علماء مثل الجبال، وقرب العهد من شمس النبوة، كيف توجد عقول تفكر بهذه الطريقة، وتتبع مثل هذا الرجل على جهله، وغباوته، وظهور فساد عقله، فكيف بزمانك هذا الذي لا ننتظر فيه إلا الدجال؟
فهذا أمر في غاية العجب، فلو أن الإنسان تأمل في التاريخ، وظهور الفرق؛ كيف وجدت هذه الألوف المؤلفة، الذين تبعوها، وصاروا يموتون دونها، ويتحمسون لها، ثم تقوم الخلافة على فراخ هؤلاء الجهمية وهم المعتزلة، ويمتحنون الناس؟
نعجب كيف وجدت مثل هذه الأشياء في ذلك الزمان؟ فكيف بزماننا هذا؟ نستغرب إذا انحرف الناس، وحادوا عن الجادة.
كما قال بعض الأعراب وقد سئل: ما الدليل على وجود الرب تعالى؟ فقال: "يا سبحان الله، إن البعرة ليدل على البعير، وإن أثر الأقدام لتدل على المسير، فسماء ذات أبراج، وأرض ذات فجاج، وبحار ذات أمواج، ألا يدل ذلك على وجود اللطيف الخبير؟!
فمن تأمل هذه السموات بارتفاعها، واتساعها، وما فيها من الكواكب الكبار، والصغار النيرة من السيارة، ومن الثوابت، ونظر إلى البحار المكتنفة للأرض من كل جانب، والجبال الموضوعة في الأرض لتقَرَّ، ويسكن ساكنوها، مع اختلاف أشكالها، وألوانها كما قال الله تعالى: وَمِنَ الْجِبَالِ جُدَدٌ بِيضٌ وَحُمْرٌ مُّخْتَلِفٌ أَلْوَانُهَا وَغَرَابِيبُ سُودٌ ۝ وَمِنَ النَّاسِ وَالدَّوَابِّ وَالْأَنْعَامِ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ كَذَلِكَ إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاء [سورة فاطر:27-28].
وكذلك هذه الأنهار السارحة من قطر إلى قطر للمنافع، وما ذرأ في الأرض من الحيوانات المتنوعة، والنباتات المختلف الطعوم، والأراييج، والأشكال، والألوان؛ مع اتحاد طبيعة التربية، والماء؛ استدل على وجود الصانع وقدرته العظيمة، وحكمته، ورحمته بخلقه، ولطفه بهم، وإحسانه إليهم، وبره بهم، لا إله غيره، ولا رب سواه، عليه توكلت، وإليه أنيب، والآيات في القرآن الدالة على هذا المقام كثيرة جداً.
على كل حال هذه الطريقة هي الشائعة في القرآن، وذلك أن يستدل بهذه المخلوقات، والكائنات، والأجرام العلوية والسفلية على وحدانية الله وصفاته، يستدل بهذه المشاهدات، وما يقع في هذا الكون على المعبود ، فيُتعرف عليه - تبارك وتعالى - بآثاره، وخلقه.
والطريقة الثانية وهي طريقة الخاصة وهي: الاستدلال، أي التعرف على ما يجري في الكون بناء على المعرفة بالله ، يعني أن يجعل معرفته بالله، وأسمائه، وصفاته طريقاً إلى معرفة ما يقع ويجري في هذا العالم.
وشتان بين الطريقتين، فالطريقة الأولى هي الشائعة الكثيرة، وهي التي تناسب عامة الخلق، تقول: الأثر يدل على المسير، وهذه الأكوان والأفلاك العظيمة في جريها، ودقة خلقها، وعظمتها؛ تدل على عظمة الخالق، وعلى علمه، وعظيم سلطانه، وتدل على قدرة تامة، وغنى مطلق، وملك لا يقادر قدره، وما إلى ذلك من المعاني، وتستدل بما ترى من هذه الخلائق التي تأتيها أرزاقها في قعر البحار على أن الله رحيم، وأنه رزاق، وأنه بصير، وأنه خبير يعلم دقائق الأشياء، والخفيات، وأنه لطيف بعباده وما أشبه هذا.
الطريقة الثانية: هي طريقة خديجة - ا - لما جاءها النبي ﷺ مذعوراً فقالت بناء على ما عرفت من أوصاف الله الكاملة قالت: "كلا، والله لا يخزيك الله، إنك لتصل الرحم، وتحمل الكل، وتقري الضيف" إلى آخر ما ذكرت.
فهي بناء على ما عرفت من أوصاف الله، وكماله؛ استنبطت وعرفت أن ما وقع للنبي ﷺ ليس أمراً مخوفاً يتبعه ويلحقه من جرائه الضرر، فقالت: لا، فمثلك لا يخاف، ولا يلحقه المكروه؛ لأنك بهذه المثابة، والله لا يضيع أولياءه.
هذه طريقة موجودة، ولكنه لا يتوصل إليها إلا من كملت معرفته، وبلغ مرتبة اليقين، فهو ليس عنده شك، ولا تردد ولا ريبة، بل إيمانه جازم ثابت، فهذا يستطيع أن يتعرف على كثير من الأمور الواقعة، ويحكم عليها بناء على معرفته بالله ، فيعرف أن صنع هؤلاء إلى بوار، وأن كيد هؤلاء لا يفلح، وأن العاقبة ستكون لهؤلاء، وأن إدالة هؤلاء على هؤلاء مؤقتة، ولن تدوم، وإنما هي كما قال الله : وَلَوْ يَشَاء اللَّهُ لَانتَصَرَ مِنْهُمْ وَلَكِن لِّيَبْلُوَ بَعْضَكُم بِبَعْضٍ [سورة محمد:4] فهو يعرف هذه الأشياء، ويعرف من أين أُتِي، ومن أين وقع في هذه الورطة، وكيف يكون المخرج منها، وكل ذلك بناء على معرفته بالمعبود ، فمن وصل إلى هذه المرتبة فإنه قد وصل إلى مرتبة من مراتب الإيمان العالية وهي أهل اليقين، أهل البصر، أهل المعرفة الصحيحة بالله .
فهذه مراتب خواص أهل العبودية، ولذلك لا تجد هذه الطريقة الثانية مطروقة كثيراً في القرآن أو في الكتب؛ لأن المناسب لعامة الخلق هي الطريقة الأولى.
  1. أخرجه البخاري في كتاب: الأدب - باب: قتل الولد خشية أن يأكل معه (5655) (ج 5 / ص 2236)، ومسلم في كتاب: الإيمان - باب: كون الشرك أقبح الذنوب وبيان أعظمها بعده (86) (ج 1 / ص 86).
  2. أخرجه البخاري في كتاب: التوحيد - باب: ما جاء في دعاء النبي ﷺ أمته إلى توحيد الله -تبارك وتعالى- (6938) (ج 6 / ص 2685).
  3. أخرجه أبو داود في كتاب: الأدب - باب: لا يقال: خبثت نفسي (4980) (ج 2 / ص 713)، وأحمد (23395) (ج 5 / ص 394)، وصححه الألباني في المشكاة برقم (4778).

مرات الإستماع: 0

"الْأَرْضَ فِراشًا تمثيل لما كانوا يقعدون، وينامون عليها كالفراش فهو مجاز، وكذلك السماء بناء."

وهذا جاء ما هو أبلغ منه، وهو أنه سماها مهادًا، والمهاد هو ما يمهد، ويوضع للصبي الصغير، ممهدة، فهذا من أجل أن تقوم مصالحهم، وتستقر معايشهم، فهي كالفراش لهم، وهذا كما قال الله أيضًا سماها بساطًا، وكل ذلك لا يتنافى مع كونها كروية، والعلماء منذ القدم، بل قبل الإسلام كانوا يقررون هذا، وهو معروف عند الفلاسفة قبل الإسلام، والمسلمون أيضًا كما قال شيخ الإسلام لم ينكروا هذا[1] فهو من الأمور المعلومة: كروية الأرض، لا إشكال فيه، القضية مقررة عند المسلمين بلا نكير، لكن الجرم الكبير الضخم لا يتبين فيه التدريج في الكروية بنظر الناظر، فتكون في نظره: كالبساط، كالفراش، هذا باعتبار ما نشاهده - والله أعلم -.

"مِنَ الثَّمَراتِ من للتبعيض أو لبيان الجنس، لأن الثمرات هو المأكول من الفواكه، وغيرها، والباء في به للسببية"  

لاحظ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِرَاشًا وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ فـ (من) هذه يمكن أن تكون تبعيضية، أي: أخرج به من أنواع الثمرات، ويحتمل أن تكون لبيان الجنس، يعني أخرج به ماذا؟ هذا المطر الذي ينزل يخرج به الزرع، ويخرج به الشجر، ويقولون: إنه أيضًا ينعقد به اللؤلؤ في بعض الأوقات إذا نزل في البحر.

وكذلك يخرج به الثمر، فتكون لبيان الجنس فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ ليست للتبعيض، وكأن هذا هو الأقرب - والله أعلم - يعني ليس المقصود أنه أخرج به بعض أنواع الثمرات، وإنما أخرج به الثمرات، كما قال الله   فَأَخْرَجْنَا بِهِ ثَمَرَاتٍ مُخْتَلِفًا أَلْوَانُهَا [فاطر: 27] فهذه الثمرات إنما تخرج بهذا - والله أعلم - وفيه إضافة الشيء إلى سببه، يعني بعض الناس يتحرج أن يُقال: أنبت المطر الربيع. يقولون: الله هو الذي أنبته، وهو الذي أخرجه. نعم لكن لا بأس أن يضاف الشيء إلى سببه مع اعتقاد أن المدبر، والمتصرف هو الله وحده دونما سواه، لاحظ فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ أخرج به: والباء للسببية يعني أخرج بسببه، فالمطر سبب، وإذا شاء الله - تبارك، وتعالى - تخلف المسبَب، كما نشاهد ينزل المطر، ولا يخرج شيء، كأن الأرض لم تُمطر بهذه السنين الأخيرة.

"أو كقولك: كتبت بالقلم؛ لأن الماء سبب في خروج الثمرات بقدرة الله تعالى"

أي: كأن المطر أداة يخرج بواسطتها النبات. 

لاحظ أن المؤلف - وهذا كثير - يترك ألفاظًا بأي اعتبار؟ في الغالب أنها مضت في الغريب؛ ولذلك قلت لكم اهتموا بموضوع الغريب، وراجعوه حين بعد حين، واسمعوه؛ لأنه يترك ذلك، وأحيانًا يورد بعض الألفاظ التي مضت في الغريب، وأحيانًا يشير إلى أن ذلك قد مضى في الغريب فلا يتكلم عليه، وأحيانًا يشير إلى معنى مقتضب له اتكالًا على أنه ذكر معناه بصورة أكثر تفصيلًا في الغريب.

لاحظ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ ما تكلم على هذا، وهذا كثير مما أغفله المؤلف.

"فَلا تَجْعَلُوا لا ناهية، أو نافية، وانتصب الفعل بإضمار أن بعد الفاء في جواب اعبدوا، والأول أظهر."

هنا فَلا تَجْعَلُوا إذا كانت ناهية هنا فتكون عاملة، أما إذا كانت نافية فليس كذلك، فاحتاج إلى الإضمار، والأصل عدم الإضمار، انتصب الفعل بإضمار أن بعد الفاء في جواب اعبدوا، والأول أظهر.

"أَنْدادًا يراد به هنا الشركاء المعبودون مع الله -جلّ، وعلا -".

النّد يقال للنظير، ويقيده بعضهم بالنظير المناوئ، يعني تقول: هذا ند لهذا. غير لما تقول: هذا نظير لهذا. يعني الآن حينما نقول مثلًا: بأن هذه القارورة نظيرة لهذه القارورة، هذا الكتاب نظير لهذا الكتاب، هذه الساعة نظير لهذه الساعة. لكن هل نقول: ند لهذه الساعة؟ الجواب: لا؛ لأن كلمة ند فيها معنى النظير، وزيادة، نظير مناوئ، فهذا الند.

فَلَا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا فهؤلاء الذين جعلوهم آلهة مع الله - تبارك، وتعالى- صرفوا لهم عبادة، وأعطوهم بعض خصائص الإلهية، والله يقول: لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا [الأنبياء: 22] وقال: مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِنْ وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ إِذًا لَذَهَبَ كُلُّ إِلَهٍ بِمَا خَلَقَ [المؤمنون: 91].

"وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ حذف مفعوله مبالغة، وبلاغة أي: وأنتم تعلمون وحدانيته بما ذكر لكم من البراهين، وفي ذلك بيان لقبح كفرهم بعد معرفتهم بالحق، ويتعلق قوله بلا تجعلوا بما تقدّم من البراهين، ويحتمل أن يتعلق بقوله: (اعبدوا) والأول أظهر."

فَلَا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ فيكون وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ متعلق بـلا تجعلوا، لا تجعلوا له أندادًا معبودات تُعبد من دونه - تبارك، وتعالى - وأنتم تعلمون قُبح ذلك، أو وأنتم تعلمون بطلان ذلك، وأنتم تعلمون أنه ليس لها شيء من العبادة، أو ليس لها شيء من الخلق، والرزق، والنفع، والضر، وما إلى ذلك، فحُذف هنا المتعَلق، والأصل أن حذف المتعَلق يُحمل على العموم النسبي، العموم المناسب في كل مقام، وفي كل موضع، فهنا: وأنتم تعلمون قُبح ذلك، وأنتم تعلمون أنه ليس لها شيء من الإلهية، وأنتم تعلمون أنها لا تستحق شيئًا من العبادة، وأنتم تعلمون أنه هو الخالق الرازق الذي بيده النفع، والضر وحده دونما سواه، إلى غير ذلك من المعاني الصحيحة التي يمكن أن تُقدر هنا، حذف المتعَلق يدل على إرادة العموم، أو يُحمل على العموم النسبي، يعني العموم المناسب لكل موضع.

حينما يقول الله مثلًا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ [المائدة: 90] هنا حُذف المتعَلق، فلم يقل: فاجتنبوا شربه، أو اجتنبوا بيعه، أو اجتنبوا اهداءه، أو اجتنبوا تخليله، فيحمل على العموم النسبي، لكن هل يدخل فيه فاجتنبوه: اجتنبوا النظر إليه؟ هل هذا مراد؟ الجواب: لا، العموم النسبي، العموم المناسب هنا ما هو؟ هي قضية الإسكار، التعاطي، أو البيع، أو العصر، أو الاهداء، أو نحو ذلك، كقوله ﷺ: من قرأ بالآيتين من آخر سورة البقرة في ليلة كفتاه[2] ما قال: كفتاه من الشياطين.

ولا قال: كفتاه من المخاوف من شرار الناس، ولا قال: كفتاه من الهوام، أو من السباع، وما قال: كفتاه عن غيرها من الأذكار.

فيمكن أن يُحمل على العموم فيقال: كفتاه من كل المخاوف، ويمكن أن يدخل فيه أيضًا: كفتاه من سائر الأذكار مثلًا. لكن هل يقال مثلًا: كفتاه هنا يحمل على العموم، كفتاه من الصلاة المفروضة مثلًا؟ قرأها في ليلة كفتاه؟ الجواب: لا، كفتاه من التوبة؟ الجواب: لا، وإنما يُحمل على العموم النسبي، يعني المناسب له في هذا المقام.

فوائد ثلاث:

الأولى: هذه الآية ضمنت دعوة الخلق إلى عبادة الله بطريقين؛ أحدهما: إقامة البراهين بخلقتهم، وخلقة السموات، والأرض، والمطر، والثمرات. والآخر: ملاطفة جميلة بذكر ما لله عليهم من الحقوق، ومن الإنعام، فذكر أولًا ربوبيته لهم، ثم ذكر خلقته لهم، وآبائهم؛ لأن الخالق يستحق أن يعبد، ثم ذكر ما أنعم الله به عليهم من جعل الأرض فراشًا، والسماء بناء، ومن إنزال المطر، وإخراج الثمرات؛ لأن المنعم يستحق أن يعبد، ويشكر، وانظر قوله جَعَلَ لَكُمُ  ورِزْقًا لَكُمْ : يدلك على ذلك لتخصيصه ذلك بهم في ملاطفة، وخطاب بديع.

الثانية: المقصود الأعظم من هذه الآية: الأمر بتوحيد الله، وترك ما عبد من دونه لقوله في آخرها: فَلَا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا وذلك هو الذين يترجم عنه بقولنا: لا إله إلا الله، فيقتضي ذلك الأمر بالدخول في دين الإسلام الذي قاعدته التوحيد، وقول لا إله إلا الله.

الثالثة: تكرر في القرآن ذكر المخلوقات، والتنبيه على الاعتبار في الأرض، والسموات، والحيوان، والنبات، والرياح، والأمطار، والشمس، والقمر، والليل، والنهار، وذلك أنها تدل بالعقل على عشرة أمور، وهي: أن الله موجود؛ لأن الصنعة دليل على الصانع لا محالة، وأنه واحد لا شريك له؛ لأنه لا خالق إلّا هو أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لا يَخْلُقُ [النحل: 17]."

قوله: وأنه واحد لا شريك له؛ لأنه لا خالق إلّا هو أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لا يَخْلُقُ [النحل: 17]: يعني باعتبار كما ذكرنا أن توحيد الربوبية، أن الخالق يلزم أن يكون هو المعبود وحده.

"وأنه حيّ قدير عليم مريد؛ لأن هذه الصفات الأربع من شروط الصانع. إذ لا تصدر صنعة عمن عدم صفة منها".

ليس هذا فقط يعني قدير، عليم، مريد، إثبات الصفات: كالحياة مثلًا: حي، قدير، عليم، مريد، هذا بالإضافة إلى سائر أوصافه: مثل المشيئة، وكذلك أيضًا الغنى، القوة، هذه لوازم تلزم من كونه - تبارك، وتعالى - هو الخالق.

"وأنه قديم؛ لأنه صانع للمحدثات، فيستحيل أن يكون مثلها في الحدوث"

العلماء يُعبرون بذلك على سبيل الإخبار يقولون: قديم. لكن حينما نأتي للكلام على الأوصاف -الله تبارك، وتعالى - كما قال النبي ﷺ: (هو الأول، والآخر)، فالأول الذي ليس قبله شيء، لكن القديم يمكن أن يكون مسبوقًا؛ ولذلك التعبير  الذي جاء في القرآن هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ [الحديد: 3] وقول النبي ﷺ: اللهم أنت الأول فليس قبلك شيء، وأنت الآخر فليس بعدك شيء[3] هذا أدق، لكن على سبيل الإخبار، العلماء - حتى من أهل السنة - قد يذكرون مثل هذه اللفظة على سبيل الإخبار، لكن إذا جئنا في الكلام في أسمائه، وصفاته فهنا لا يقال: إن من أسمائه القديم، ولا من أوصافه القديم، وإنما يُقال: الأول. 

"وأنه باق؛ لأن ما ثبت قدمه استحال عدمه"

قوله: وأنه باق: كذلك أيضًا يقال: الآخر. اللهم أنت الأول فليس قبلك شيء، وأنت الآخر فليس بعدك شيء هو الأول، والآخر.

"وأنه حكيم؛ لأن آثار حكمته ظاهرة في إتقانه للمخلوقات، وتدبيره للملكوت، وأنه رحيم؛ لأن في كل ما خلق منافع لبني آدم سخر لهم ما في السموات، وما في الأرض."

لاحظ الآن مثل هذه الأشياء التي استخرجها يقال بأن العقل يدل على ثبوت هذه الأوصاف في الجملة، يعني من صفات الله ما دل عليه النقل، والعقل، ومنها ما دل عليه أيضًا الفطرة، فالعقل، والفطرة من أدلة الشرع، لكنها من الأدلة التابعة، الأصل هو الوحي: الكتاب، والسنة، النقل، ويتبع ذلك العقل، والفطرة، فهنا يذكر دلائل عقلية على ثبوت هذه الأوصاف، ونحن نقول مثلًا: صفة العلو مثلًا، دل عليها النقل، والعقل، والفطرة، وليس كل الصفات كذلك، يعني مثلًا: الاستواء، وهو علو خاص، هذا دل عليه النقل، لكن هل هو مدرك في العقل؟ الجواب: لا، هل هو مدرك بالفطرة؟ الجواب: لا، هذا متوقف على النقل فقط.

وأكثر ما يأتي ذكر المخلوقات في القرآن في معرض الاستدلال على وجوده تعالى، أو على، وحدانيته، فإن قيل لم قصر الخطاب بقوله لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ على المخاطبين دون الذين من قبلهم، مع أنه أمر الجميع بالتقوى؟ فالجواب: أنه لم يقصره عليهم في المعنى، ولكنه غلّب المخاطبين على الغائبين في اللفظ، والمراد الجميع.

يعني اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ خلق الأولين، والآخرين لعلنا نحن نتقيه معاشر المخاطبين؟ أم خلق الأولين، والآخرين من أجل أن يتقوه جميعًا؟ هو كذلك، لكن هنا لما كان الخطاب موجه إلى هؤلاء الذين أدركوا التنزيل صحّ توجيه الخطاب إليهم، وإلا فهو في المعنى عام للجميع، وهذا لا إشكال فيه، وإلا فمعلوم أنه لم يخلق الأولين، والآخرين من أجل أن يتقيه الذين خوطبوا بهذا وقت نزول القرآن، هذا لا يخفى. 

فإن قيل: هلا قال لعلكم تعبدون مناسبة لقوله اعْبُدُوا ؟ فالجواب أن التقوى غاية العبادة، وكمالها، فكان قوله: لعلكم تتقون أبلغ، وأوقع في النفوس.

لاحظ الآن كما ذكرت لكم حينما قال: بأنه يتعلق بمقدر محذوف. هو باعتبار أنه يجعل التقوى، والعبادة بمعنى متقارب، فكأنه يكون من قبيل التكرار، ولهذا افترض هذا السؤال: هلا قال: لعلكم تعبدون؟ اعبدوا ربكم الذي خلقكم، والذين من قبلكم لعلكم تعبدون، أمركم بذلك لعلكم يعني تحققون أمره بالعبادة، لعلكم تعبدون بناء على التقدير الذي ذكره، فالجواب: أن التقوى غاية العبادة، فإذا كانت غاية العبادة، وكمال العبادة فيصح أن يكون ذلك تعليلًا للأمر بالعبادة من غير حاجة للتقدير، اعبدوه من أجل أن تتحقق هذه الغاية، وهي: التقوى. 

  1. مجموع الفتاوى (5/150).
  2. أخرجه البخاري، كتاب فضائل القرآن، باب فضل سورة البقرة، رقم: (5009)، ومسلم، باب فضل الفاتحة، وخواتيم سورة البقرة، والحث على قراءة الآيتين من آخر البقرة، رقم: (808).
  3. أخرجه مسلم، كتاب الذكر، والدعاء، والتوبة، والاستغفار، باب ما يقول عند النوم، وأخذ المضجع، رقم: (2713).

مرات الإستماع: 0

بعد أن ذكر الله -تبارك وتعالى- الطوائف الثلاث أهل الإيمان والكفار وأهل النفاق، وجه الخطاب بعد ذلك إلى عموم الخلق فقال: يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ۝ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ فِرَاشًا وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَندَادًا وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ [سورة البقرة:21، 22].

يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ [سورة البقرة:21] هذا نداء من الله -تبارك وتعالى- لجميع الخلق لجميع البشر يأمرهم بعبادة الله وحده دون ما سواه، يعبدونه؛ لأنه هو الرب الذي يستحق العبادة فهو الذي رباهم بالنِعم الظاهرة والباطنة خلقهم وخلق الذين من قبلهم وأوجدهم من العدم الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ [سورة البقرة:21] أي: من أجل أن تكونوا من المتقين من الأتقياء.

فيؤخذ من هذه الآية في هذا الخطاب الذي هو أول أمر في المصحف، أول أمرٍ أمر الله -تبارك وتعالى- به عباده في المصحف هو هذا: اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ [سورة البقرة:21] فهو الأمر بعبادة الله -تبارك وتعالى- وحده.

وهذا أول نداء في المصحف يوجه إلى الناس جميعًا كل ذلك بشأن هذا الموضوع الكبير، والأمر العظيم الذي من أجله خُلقت الخليقة، الذي من أجله خلق الله الإنس والجن وهو عبادة الله وحده لا شريك له: وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ ۝ مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ ۝ إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ [سورة الذاريات:56، 58] فخلقهم من أجل عبادته وحده، فهذا أول نداء يوجه إليهم أن يعبدوه، وعلل هذا بكونه -تبارك وتعالى- هو الخالق الذي أوجدهم من العدم، ولهذا فإن ذلك يكون كالتعليل للأمر بعبادته، فإن العبادة إنما تكون لمن خلق.

ولهذا يقول الله -تبارك وتعالى: وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً لا يَخْلُقُونَ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ [سورة الفرقان:3] كيف اتخذوهم آلهة وهم لا يخلقون شيئًا بل هم يُخلقون، وهكذا في قوله: أَيُشْرِكُونَ مَا لاَ يَخْلُقُ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ [سورة الأعراف:191] كيف يقع منهم ذلك؟!

فهذا كله كالتعليل للأمر بعبادته، أن الذي خلق هو الذي يستحق أن يُعبد وحده، فتوجيه العبادة إلى غيره يكون من أعظم الظلم وحقيقة الظلم هو وضع الشيء في غير موضعه، فمن وضع العبادة في غير من خلق فهو ظالم، ولهذا قال الله -تبارك وتعالى: إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ [سورة لقمان:13].

ومن هنا أيضًا يؤخذ من ذلك أن توحيد الربوبية مُستلزم لتوحيد العبادة لتوحيد الإلهية، فذكر الرب هنا يدل على الربوبية الَّذِي خَلَقَكُمْ فالذي خلقكم ينبغي أن يكون هو المعبود دون من سواه، فتوحيد الربوبية إذا كنت تُقر أنه هو الخالق وحده، وهو الرازق واحده، والنافع والضار وما إلى ذلك إذن فلماذا تتوجه إلى غيره، لماذا تعبد غيره؟ لماذا تسأل غيره؟!

فينبغي أن يكون التوجه إليه وحده دون ما سواه اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ [سورة البقرة:21].

وبعد أن ذكر الطوائف الثلاث ذكر ذلك على سبيل الغيبة هُدًى لِلْمُتَّقِينَ [سورة البقرة:2] من هم؟ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاة وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ ۝ وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَبِالآخرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ [سورة البقرة:3، 4] أُوْلَئِكَ أي: هم عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ [سورة البقرة:5] ثم قال الله -تبارك وتعالى- أيضًا على سبيل الغيبة إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ [سورة البقرة:6] خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ [سورة البقرة:7] إلى آخر ما ذكر في أوصافهم، ثم ذكر أهل النفاق وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا [سورة البقرة:8] يعني: يقول هو آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الآخِرِ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ [سورة البقرة:8] كل ذلك على سبيل الغيبة، ثم بعد ذلك جاء الالتفات هذا يسمونه الالتفات يعني حول الخطاب من الغيبة إلى المُخاطب.

كما ذكرنا في الفاتحة: الْحَمْدُ لِلَّهِ [سورة الفاتحة:2] هذا للغيبة رَبِّ يعني: هو رب العالمين، هو الرحمن الرحيم، هو مالك يوم الدين، فلما أثنى عليه حمده وأثنى عليه ومجده كأنه قد صار في حال من القُرب فوجه الخطاب إليه إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ [سورة الفاتحة:5] لم يقل: إياه نعبد وإياه نستعين، هذا يسمونه الالتفات في علم البلاغة، يحول الخطاب من غائب إلى مُخاطب والعكس أو من جمع إلى مُفرد والعكس، إلى غير ذلك من صنوف وصور الالتفات، فهو لا يختص بهذه الأمثلة التي ذكرتها.

فهذا التفات فيه تنويع الخطاب وتنشيط السامع حينما يُصرف الخطاب بهذا التصريف فتتأهل نفس المُخاطب للقبول، وفي الانتقال هنا من الغيبة إلى الخطاب أيضًا فيه ما فيه من حصول الشرف بالمُخاطبة الذي يُخاطبه هو ربه -تبارك وتعالى: يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ [سورة البقرة:21] ويذكر لهم الدلائل الموجبة لهذا المطلوب وهو عبادته وحده لا شريك له، كل ذلك يدل على أن العبد إذا كان مُشتغلاً بهذه العبودية فإنه يكون في حال من الترقي أخذًا من توجيه الخطاب إليه، وكذلك أيضًا في هذا ما فيه من الاهتمام بشأن العبادة وتفخيم شأن هذه، فهذا يؤخذ من هذا الموضع.

وهكذا في قوله -تبارك وتعالى: يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ [سورة البقرة:21] فأضاف الرب هنا إلى المُخاطبين اعْبُدُوا رَبَّكُمُ فهذا يدل على التفخيم والتعظيم لتأكيد موجب الأمر بالإشعار كما سبق بأن ذلك يكون عِلة للأمر بعبادته وحده، فمن يتصف بهذه الصفات صفات الربوبية هو الذي يستحق وحده العبادة يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ [سورة البقرة:21] وقوله: اعْبُدُوا رَبَّكُمُ هذا أمر والأمر للوجوب، فعبادة الله -تبارك وتعالى- واجبة، ويدخل في قوله: اعْبُدُوا رَبَّكُمُ يدخل فيه الإيمان بالله فهو أجل عبادة، وأصله يكون في القلب، كما أن هذا الإيمان إذا استقر في القلب وثبت فإنه ينطق اللسان بالشهادتين، وهكذا تعمل الجوارح بطاعة الله -تبارك وتعالى- وكل ذلك إيمان فالإيمان اعتقاد بالجنان وتصديق باللسان وعمل بالأركان، فيدخل في قوله: اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الإيمان به يدخل به التوحيد فهو أعظم الواجبات وأهم المُهمات، وأجل المطالب كما هو معلوم.

ويدخل في ذلك أيضًا سائر الطاعات، فالإيمان كما قال النبي ﷺ: بضع وستون [1] وفي رواية: بضع وسبعون شعبة أعلاها شهادة أن لا إله إلا الله، وأدناها إماطة الأذى عن الطريق [2] فهنا ما بين شهادة أن لا إله إلا الله إلى إماطة الأذى كل ذلك من شُعب الإيمان فهو داخل في قوله: اعْبُدُوا رَبَّكُمُ أعبدوه بقلوبكم فيدخل في ذلك جميع أعمال القلوب، أعمال القلوب من الخوف، والرجاء، والتوكل، والمحبة، والإنابة، والمُراقبة لله وما إلى ذلك.

ويدخل فيه أعمال الجوارح أيضًا من صلاة وأمر بمعروف ونهي عن منكر إلى غير هذا.

ويدخل فيه أيضًا أقوال اللسان، فالتلاوة والذكر وما أشبه ذلك كله من أعمال اللسان، فهذا كله داخل في هذا والعبادة مُنقسمة على هذه الثلاث القلب واللسان والجوارح، لا يخرج عن ذلك شيء، ثم أيضًا تأملوا هذا الخطاب وما ذُكر فيه مما سمعتم آنفًا: يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ [سورة البقرة:21] إذا كان هذا أول أمر وهذه هي دعوة الرُسل -عليهم الصلاة والسلام- هذا هو مسلك الأنبياء والمرسلين منذ أن بعث الله -تبارك وتعالى- وأرسل نوحًا فهو أول رسول إلى أهل الأرض إلى خاتمهم محمد ﷺ كانوا على هذا المهيع على هذا الطريق في دعوتهم، يدعون إلى عبادة الله -تبارك وتعالى- كل نبي كان يُخاطب قومه: اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ [سورة الأعراف:59].

فهذا أول دعوة الرسل التوحيد، وهذا الذي حصل به الفرقان بين أولياء الله وأولياء الشيطان، هذا الذي حصل به الفرق بين الرسل وأعدائهم: أَجَعَلَ الآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ [سورة ص:5] فأنكروا ذلك غاية الإنكار، ونفروا منه غاية النفور، ولو أنه جاءهم ودعاهم واقتصر على مكارم الأخلاق ومحاسن العادات وما يكون به كمال المروءات لقبلوا ذلك، ومثل هذه الدعوة يمكن أن تُعرض على جميع الأُمم فلا يردها أحد، في أقل الأحوال من الناحية النظرية يقبلها الجميع، تعرض ذلك على اليهود وعلى الوثنيين وعلى النصارى وعلى المجوس تقول: نحن ندعوكم إلى الصدق والأمانة، وندعوكم إلى حُسن الخُلق والوفاء بالعهد والبِر والصِلة فكلهم سيقبل ذلك ويُرحب به، ولن تجد لك أعداء في هذا السبيل.

ولذلك أقول: بأن هذا المسلك في الدعوة إلى الله في هذه الآن، الطرح الجديد ما يسمى بالدعوة إلى القِيم، القِيم هذه القيم لا وجود لهذا الاستعمال لهذا اللفظ أو هذا المُصطلح لا في القرآن ولا في السُنة، ولا في أقوال السلف، ولا في أقوال أهل العلم، ولا في القواميس العربية، لا يوجد كلمة القيم بهذا المعنى، إنما هو لفظ مولد مُحدث فلا يصح أن يُجعل ذلك هو محور الدعوة ومُنطلق الدعوة، فهذه لربما تكون أشياء جميلة، ويُذكر فيها تقسيمات وأشياء وخِطط وبرامج، وتطوير، ومهارات، ودورات، ولن تجد من يُعارض ذلك فالكل يُرحب به، سيأتيك صنوف الناس من أهل الديانات والمِلل والمذاهب، كلهم يقول نُريد أن تُقيم هذه الدورة عندنا، هذا الكلام الجميل، وهذا الكلام سيقبلونه جميعًا، ولكن الرسول -عليهم الصلاة والسلام- جاءوا بالتوحيد: اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ [سورة الأعراف:59] ولذلك أول أمر بالقرآن هو هذا فقال: يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ [سورة البقرة:21] ثم تفرعوا عن ذلك الأشياء الأخرى كما في قوله -تبارك وتعالى- مثلاً في سورة الإسراء: وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا [سورة الإسراء:23] فذكر البر، ثم ذكر الصلة بالقرابات، ثم ذكر بعد ذلك الإحسان في وجوهه المختلفة ونهى عن ضروب الفساد وصنوفه، كل هذا وحفظ مال اليتيم، وإيفاء المكاييل والموازيين، والتواضع في المشية كل هذا ذكره بعد أن ذكر هذا الأصل فهي مُتفرعة عنه.

وهكذا الوصايا التي في سورة الأنعام المُحكمات فإن الله -تبارك وتعالى- قال فيها: قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا [سورة الأنعام:151] فهنا في هذه السورة سورة الأنعام هي سورة مكية: قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا [سورة الأنعام:151] فبدأهم بهذه القضية فهذا هو الأصل، وهذا هو المُنطلق فيجب أن تكون الدعوة كما دلت عليه هذه النصوص، وكما هو طريق الرُسل -عليهم الصلاة والسلام- أن تبدأ بالأمر بتوحيد الله وعبادته، أن يُبدأ بالتوحيد فهو الأصل، فإذا وجد الصدق والأمانة والوفاء بالعهد ونحو ذلك فإنه أولاً يكون مُنطلقًا من إيمان يُراقب العبد فيه ربه، فلا يفي بالعهد إذا كان عليه الرقيب من البشر، ثم إنه يحتسب ذلك عند الله فإذا لم يرى من الناس شُكرًا يؤدونه إليه أو نحو ذلك مما يتقاضاه منهم فإنه لربما يتحول إلى خلاف ذلك.

ثم أيضًا حينما ينطلق ذلك من إيمان واعتقاد فإنه أدعى للثبوت والاستمرار، وهو أدعى أيضًا لئن يحتسب ذلك عند الله -تبارك وتعالى- فلا يكون رياء ولا سمعة، ولذلك انظروا إلى الذين يُعلنون ويُشيعون ويزعمون أنهم أصحاب قيم ومبادئ ومُثل يُصدرونها للعالم من الغربيين ونحو ذلك، انظروا إذا تمكنوا كيف يفعلوا؟

وانظروا أيضًا إلى آحادهم وأفرادهم في الأعم الأغلب حينما تحصل لهم الفرصة ينطفأ الكهرباء في ليلة لمدة نصف ساعة ما الذي يحصل؟ تصدر إحصاءات بعدد الجرائم السرقة، والاغتصاب، والقتل وما إلى ذلك فقط حينما تنطفأ الكهرباء يتحول المجتمع إلى لصوص وإلى مُجرمين؛ لأن عين الرقيب قد غابت، لكن حينما تكون هذه المُثل هذه التي يسمونها بالقيم نابعة من توحيد وعقيدة وإيمان وعبادة لله -تبارك وتعالى- فإن ذلك يبقى بأي حال يكون عليها العبد.

ومن هنا أقول: إن المُنطلق الدعوة الصحيحة أن تكون دعوتنا إلى التوحيد وإلى عبادة الله وحده، وهذا يتفرع عنه كل ألوان البر والتقوى والمعروف والخير كما قال النبي ﷺ: الإيمان بضع وسبعون شعبة ، فحينما نفهم الإيمان بهذا الفهم نُدرك أن جميع هذه الأشياء هي متفرعة من شجرة الإيمان، فهي الشجرة الطيبة التي ينتج عنها الثمار اليانعة الطيبة المُستلذة هذه الشجرة التي أصلها ثابت وفرعها في السماء تؤتي أُكلها كل حين بإذن ربها، أما أولئك الذين ليس لهم هذا الثبات ولا هذا الأصل فمثل هذه الأشياء تتفرع من شجرة خبيثة في نفوسهم، وهي شجرة الشرك بالله فما ظنكم بأخلاقهم ومبادئهم، إن من يزرع هذه الأخلاق والمُثل التي يسمونها القيم بعيدًا عن الإيمان، هو كمن يضع هذه الثُريات التي ترونها في هذه المسجد يعلقها هنا وهناك يُجمل بها سقف المسجد ولكن من غير وجود تيار كهربائي تتصل به فتُضيء المكان، إنما رأى شيئًا جميلاً فحاكاه لكن من غير روح، هذه الروح هي الإيمان.

فينبغي أن تكون دعوتنا على جادة صحيحة نسير عليها، طريق الرسل -عليهم الصلاة والسلام- وأن يكون العلماء -رحمهم الله- هم الذين يُقررون مثل هذه الأمور ويُبينونها، ولا نندفع هنا وهناك تارة في موضة يُقال لها: البرمجة العصبية والدورات هذه التي لم تُجني على الناس خيرًا، ثم بعد ذلك إذا أفلت جاءنا وجه جديد، وإن لم يكن كتلك، نحن نقول: الدعوة إلى المعروف والأخلاق والبِر والصلاة والأمانة هذا خير، لكن هل هذا هو المُنطلق الصحيح في دعوة الرسل -عليهم الصلاة والسلام؟

الجواب: لا، حينما نجعل هذه قضية محورية ننطلق منها ونشتغل بها ونُدندن حولها لا نكون منُطلقين من المُنطلق الذي كان عليه الرسل -عليهم الصلاة والسلام- كانوا منهم ينطلقون، هذا هو المقصود وإلا فإن الدعوة على ذلك يؤجر عليها الإنسان، الدعوة إلى الأمانة والصدق والوفاء بالعهد هذا من الدين، ويؤجر عليه الإنسان، لكن أن تُجعل قوالب الدعوة بهذه الطريقة، وتربية الكِبار والصغار على هذا بهذه الطريقة لا.

فنحن نقول: الإيمان هو المُنطلق، نُربيهم على الإيمان فعند ذلك تستقيم الألسن، وتستقيم الجوارح، وتستقيم الأبصار، وتستقيم الأسماع على طاعة الله -تبارك وتعالى.

يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ [سورة البقرة:21] وهذا الأمر الذي هو أول أمر في القرآن يدل على أن هذه القضية الأساسية المحورية التي من أجلها وجد الخلق هي التي ينبغي أن تكون العناية رقم واحد متوجه إليها، لا كما يزعمه بعضهم يقولون: ينبغي أن نُعنى بعمارة الأرض، العناية بعمارة الأرض، العناية بالأمور الدنيوية المادية، فإن الله أوجدنا من أجل عمارة الأرض، الله أوجدنا لعمارة الأرض العمارة المادية الدنيوية بعيدًا عن الإيمان، وعن عبادة الله هذا حال من لا يعرفون الله، حال الذين ذمهم الله -تبارك وتعالى: يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا [سورة الروم:7].

الله -تبارك وتعالى- استعمرنا في الأرض من أجل أن نعمرها بطاعته بالإيمان، بأن يُعبد الله وحده لا شريك له، وخلقنا وأوجدنا من أجل أن نُحقق هذا المعنى وهذا الأصل الكبير: العبادة، خلقنا من أجل هذا، لا أن ننغمس في الدنيا؛ ولذلك من الخطأ أن يتحول الدعاة إلى الله أن يتحولوا إلى موجهين للناس في أمور دُنياهم، الدنيا لابد منها، ولا يمكن أن تُهمل، لابد من الأخذ بأسباب القوة وأسباب الحضارة من العلوم المادية النافعة، هذه من فروض الكفايات، لكن أن يتحول الاهتمام ويُقال: نحن ينبغي أن نُعنى ونهتم وأوجدنا الله من أجل العمارة الحسية المادية للأرض هذا الكلام غير صحيح، وهو خلاف ما دل عليه القرآن.

فالقرآن دل على أن الله أوجدنا من أجل أن نعبده، لكن لابد لنا من هذه الحياة من أجل أن يكون لنا قِوام من العيش فيها، فعند ذلك تحصل مصالح الناس وتقوم معايشهم وتحصل أسباب القوة المادية لهم، لابد لهم من هذا ولا يقول أحد بأنها تُهمل، لكن الخطأ أن تُجعل هي القضية الأساس التي توجه الاهتمامات إليها كما يقوله بعضهم، هناك من يدعوا إلى هذا، ويُنظر له، وليس عندهم شيء يستدلون به على هذا، ولو نظرت إلى سائر النصوص وأحوال الرسل - عليهم الصلاة والسلام: وَاذْكُرْ عِبَادَنَا إبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ أُوْلِي الأَيْدِي وَالأَبْصَارِ [سورة ص:45] الأبصار بماذا؟ بالدنيا؟

إِنَّا أَخْلَصْنَاهُمْ بِخَالِصَةٍ ذِكْرَى الدَّارِ [سورة ص:46] الآخرة بين أعينهم وليس الدنيا بين أعينهم، والكلام في هذا يطول ويتفرع لكن نتأمل في التقوى لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ [سورة البقرة:21] أي: من أجل أن تتقوا اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ [سورة البقرة:21] هذا يدل على أن هذه التقوى مرتبة عالية لا يحصل عليها العبد إلا إذا حقق العبودية لله -تبارك وتعالى- فبقدر تحقيقه للعبودية يكون له من تحقيق التقوى، وهكذا. 

الله -تبارك وتعالى- لما أمر بعبادته: يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ [سورة البقرة:21] ذكر ربوبيته كما سبق وذلك أن الرب الذي قد خلق اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ [سورة البقرة:21] هو الذي يستحق أن يُعبد وحده دون ما سواه لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ [سورة البقرة:21] أي: من أجل أن تتحقق التقوى وذكرنا أن هذه العبودية بقدر ما يتحقق منها يحصل للعبد من وصف التقوى لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ [سورة البقرة:21].

ثم ذكر ما يوجب عبادته وحده لا شريك له وأنه المعبود وحده الذي ينبغي أن يُتوجه إليه بالرغبة والرهبة والعبادة والقربة والطاعة: الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ فِرَاشًا وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَندَادًا وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ [سورة البقرة:22] فهناك أمر بعبادته، ثم ذكر موجبات هذه العبادة والتوحيد الخالص لله رب العالمين فقال: هو ربكم الذي خلقكم والذين من قبلكم، وهو الذي جعل لكم الأرض فراشا، جعلها بِساطًا مُمهدة تسهل عليها معايشكم وانتقالكم وحياتكم وما إلى ذلك، وجعل هذه السماء سقفًا، جعلها بناء مُحكمًا، وأنزل لكم الماء من السحاب: وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ [سورة البقرة:22] أخرج فيه من أنواع الثِمار، والنبات رزقًا لعباده، فمن كان هذا شأنه فلا يجوز أن يتوجه بالعبادة إلى غيره: فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَندَادًا وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ [سورة البقرة:22] لا تجعلوا لله -تبارك وتعالى- نُظراء تعبدونهم وتتقربون إليهم وأنتم تعلمون تفرده بالخلق والرزق، وأنه هو المُستحق أن يُعبد وحده.

هذه الآية يؤخذ منها أن الله -تبارك وتعالى- قد أنعم على عباده جميعًا مؤمنهم وكافرهم، فالله -تبارك وتعالى- يقول: يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ [سورة البقرة:21] ويقول هنا: الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ فِرَاشًا [سورة البقرة:22] فهذا خطاب لجميع الخلق، فهذا من إفضاله وإنعامه على جميع العباد فهي فراش للمؤمن وللكافر تتحقق بها مصالحهم، وتقوم بها معايشهم وجعل لهم السماء بناء وسقفًا محفوظا، وكذلك أنزل لهم هذا المطر من السحاب، وأخرج به من أنواع النبات والثمار ينتفع به الإنسان، وينتفع به الحيوان فالكل يتقلب بنعمه، المؤمن والكافر، ولكن المؤمن يعرف نعمة الله -تبارك وتعالى- فيشكرها، وأما الكافر فإنه يعرف نعمة الله فيكفرها يَعْرِفُونَ نِعْمَةَ اللَّهِ ثُمَّ يُنكِرُونَهَا [سورة النحل:83] فليس من أحد إلا وهو يعلم أن الذي خلقه هو الذي أنزل من السماء ماء وأنزل من البركات والخيرات وأخرج أنواع النبات الكل يعلم أن ذلك من الله -تبارك وتعالى- ولكن الشاكر قليل.

ويؤخذ من هذه الآية أيضًا أن مُخاطبة الناس بما تقوم عليهم الحجة ينبغي أن يُراعى فيه مثل هذا، يعني: حينما يُخاطبون بعبادة الله بطاعته بالاستقامة على دينه وشرعه ونحو ذلك فيحتاجون مع ذلك إلى تذكير بمثل هذه الأمور التي توجب لهم الانقياد والإذعان، فهذا الذي فعل بكم ذلك من الإنعام حقيق بأن يُعبد اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ [سورة البقرة:21] وأنتم لا تُنكرون هذا، والذين من قبلكم الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِرَاشًا وَالسَّمَاءَ بِنَاءً [سورة البقرة:22] فكل ذلك من دواعي القبول والانقياد، فمثل هذا يُذكر به المخاطب بطاعة الله ومُراعاة حدوده.

ويؤخذ منها أيضًا من قوله -تبارك وتعالى: وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ [سورة البقرة:22] فهنا لم يذكر المُتعلق يعني المفعول وإنما حُذف، وحذفه كما هو معلوم حذف المُتعلق يفيد العموم النسبي، يعني: في كل مقام بحسبه، يعني: وأنتم من أهل العلم والمعرفة، تعلمون أنه خلقكم وأنه هو الذي رزقكم، وأنه هو الذي أنعم عليكم، وأنه هو الذي أعطاكم وهو الذي أولاكم، إلى غير ذلك، وأنتم تعلمون ذلك جميعًا، وهذا آكد في التوبيخ، وهذا أمر يُدركه المُخاطب حينما يطرق ذلك سمعه.

ثم قال الله -تبارك وتعالى: وَإِنْ كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ [سورة البقرة:23] لما أمرهم بهذا الأمر الأول وهو الخطاب الأول الموجه إلى الناس في القرآن الأمر بعبادته وحده، بعد ذلك ذكر لهم هذا الكتاب الذي هو المِنهاج الذي يُعرفهم بهذا الرب الواحد ، وتقدست أسماءه، وهو الذي جاء به هذا الرسول من ربه -تبارك وتعالى- وهو الذي يُعرفهم بالطريق الموصل إلى الله الذي أومروا بعبادته، فقال: هذا البُرهان بين أيديهم - وهذه المحجة البيضاء فإن كان عندكم تردد في شيء من ذلك أنه حق من عند الله -تبارك وتعالى فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ [سورة البقرة:23] إن كنتم أيها الناس أيها الكفار في شك من القرآن الذي أنزلناه على نبينا وعبدنا محمد ﷺ وتزعمون أنه ليس من عند الله فهاتوا سورة واحدة من مثله تُماثل هذا القرآن تُماثل سوره، واستعينوا بمن تستطيعون من أعوانكم إن كنتم صادقين في هذه الدعوى التي تدعونها أنه ليس من عند الله.

وَإِنْ كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا [سورة البقرة:23] وعرفنا عند الكلام على قوله -تبارك وتعالى: ذَلِكَ الْكِتَابُ لا رَيْبَ فِيهِ [سورة البقرة:2] وموضع الوقف والوصل في الآية: لا رَيْبَ فِيهِ قلنا: إن الوقف هنا أحسن من الوقف على قوله: ذَلِكَ الْكِتَابُ لا رَيْبَ [سورة البقرة:2] وعرفنا أن الريب هو شك خاص، شك مع قلق، الشك المُقلق يُقال له: ريب: وَإِنْ كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ [سورة البقرة:23] فهنا العبد هو محمد ﷺ فأضافه الله -تبارك وتعالى- إلى نفسه، وذكره بوصف العبودية ولم يذكره بوصف آخر، ولم يذكره أيضًا باسمه، وإن كنتم في ريب مما نزلنا على محمد ﷺ وإنما قال: عَلَى عَبْدِنَا وذلك أن العبودية هي أشرف مقامات العبد، لما أمر بعبوديته يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ [سورة البقرة:21] وَإِنْ كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا [سورة البقرة:23] فهذه ذكرها هنا في مقام الإنزال، إنزال الوحي على النبي ﷺ وهو من أجل المقامات بل ذكر ذلك في مقام التحدي بالقرآن فذكره بهذا الوصف: فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ [سورة البقرة:23].

كما ذكره بوصف العبودية في المقامات العالية الرفيعة الشريفة كمقام الإسراء كما في قوله -تبارك وتعالى: سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الأَقْصَى [سورة الإسراء:1] وذكر الليل باعتبار أن ذلك يُشير إلى مزيد من الإعجاز، مسافة شهر إلى بيت المقدس ثم يُعرج به إلى السماء ثم ينزل في ليلة واحدة، فيستيقظ الناس وإذا به قد ذهب وجاء -عليه الصلاة والسلام- فهناك قال: سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ [سورة الإسراء:1] وفي مقام الدعوة: وَأَنَّهُ لَمَّا قَامَ عَبْدُ اللَّهِ يَدْعُوهُ كَادُوا يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَدًا [سورة الجن:19] فهذه العبودية هي أجل الأوصاف التي يصل إليها العبد، هي أشرف المقامات، ولو أن العبد يشرُف بغير هذا مما يكون أعظم من تحقيق العبودية لذكره الله -تبارك وتعالى- في حق نبيه ﷺ هنا - والله أعلم.

إذن إذا أراد العبد العزة والرفعة والكمال الذي يمكن أن يصل إليه البشر بألوان المُجاهدات بعد توفيق الله فعليه أن يجد ويجتهد في أن يكون عبدًا لله حقًا، كلما كان أكثر تكميلاً للعبودية كان ذلك أدعى إلى كماله ورفعة درجته، وبهذا يتفاوت الناس في الدنيا والآخرة، ولذلك كان الكِبر لا يصلح للعبد بحال من الأحوال، فهو يُنافي هذا المقام مقام العبودية، وقد ذكر شيخ الإسلام -رحمه الله[3] أن لفظ العبد في القرآن يتناول من عبد الله، فأما عبد لا يعبده فلا يُطلق عليه لفظ عبده، هذا بالإضافة وإلا فكل من في السماوات والأرض كما في قوله -تبارك وتعالى: إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا [سورة مريم:93] فكلهم عباده، ولكن بالإضافة: وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الأَرْضِ هَوْنًا [سورة الفرقان:63] فأضافهم إليه هؤلاء أصحاب العبودية الخاصة التي يُقال لها: عبودية الاختيار، أما عبودية الاضطرار فهذه التي تكون لجميع الخلق.

وهذه الآية أيضًا تدل على أن القرآن مُعجز من أوله إلى آخره، وبالإجماع أن أقل ما يصدق عليه الإعجاز أن ذلك يتحقق بسورة واحدة ولو بأقصر سورة منه، والسور أقصر السور هي السور ذوات الآيات الثلاث، هذه والعصر، وكذلك أيضًا الكوثر، وكذلك أيضًا إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ [سورة النصر:1] إلا أن أقلها في أقل الكلمات والحروف هي سورة الكوثر، ولذلك يُمثل العلماء عادة بسورة الكوثر يقولون: بأقصر سورة وهي الكوثر، لهذا السبب أنها الأقل في عدد الحروف والكلمات وإلا فهذه السور الثلاث كل واحد ثلاث آيات.

فهذا التحدي واقع بأقصر سورة على خلاف بين أهل العلم فيما يُعادلها من آيات أو آية، يعني ثلاث آيات من سورة البقرة هل تكون مُعجزة أو لا؟ آية طويلة مثل آية الدين تزيد على هذه السور الثلاث من ذوات الآيات الثلاث فهل تكون مُعجزة أو لا؟ هذا فيه خلاف معروف بين أهل العلم، لكن الذي جاء التحدي به صريحًا والتحدي بسورة، بأقل ما يكون: فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ [سورة البقرة:23] بسورة، وهنا أن هذه صيغة أمر فَأْتُوا وهذا الأمر معناه التعجيز، أنتم لا تستطيعون هذا أمر خارج عن قدرتكم، وتنكير السورة هنا فَأْتُوا بِسُورَةٍ يُفيد العموم، أي سورة.

ولاحظوا فيما يذكره أهل العلم في نزول القرآن على سبعة أحرف مما يذكرون من الحِكم في ذلك الإعجاز، باعتبار أن هذه السور يُصرفها الله -تبارك وتعالى- بهذه الأحرف فتأتي بوجوه مُتعددة وهم يعجزون أن يأتوا بوجه واحد، أتوا بشيء بقدر سورة منه، بأي وجه من هذه الوجوه النازلة، وهم يُعلنون إفلاسهم وعجزهم مع شدة حنقهم وعداوتهم المعروفة مع ما لهم من شدة الأنفة فإذا وجهوا بالتحدي مع شدة العداوة فإن ذلك يستفزهم ومع ذلك لم يجرؤ أحد، كِبار هؤلاء من الفُصحاء والبُلاغاء والشعراء لم يستطع أحد، كانوا يتبارون في الأسواق التي كانوا يُقيمونها ويتبادلون فيها ويتسامعون ويتبارون بالأشعار وغير الأشعار من الخُطب ونحوها، ويتفاخرون في ذلك ويأتي فُصحائهم ومع ذلك هم في غاية العجز، لم ينبري واحد منهم بمثل هذا ولم يتفوه.

كل المحاولات كانت من أخرق كذاب، إذا ذُكر ذُكر الكذب معه وهو مُسيلمة الكذاب، فجاء بكلام فج، "الفيل ما الفيل وما أدراك ما الفيل له خرطوم طويل وذيل قصير"[4] هذه سورة الفيل، ما هذه القوالب اللفظية، وما الذي في مضامينها من المعاني والهدايات؟ لا شيء، إنما هي ركاكة تدل على ركاكة في التفكير وركاكة أيضًا في اللسان وخطل في الرأي وعمى في القلب.

هكذا كانت سوره حتى إنه لما جاء لعمرو بن العاص قبل إسلامه مع شدة عداوة عمرو بن العاص وهو الذي ذهب وسافر إلى الحبشة؛ ليُكلم النجاشي في أولئك المساكين الذين هاجروا من أجل أن يردهم النجاشي إلى مكة، لقيه فقال له: ماذا أُنزل عليك يا مُسيلمة؟ فذكر له سورة ذكر له سورة الفيل أو ذكر له سورة الضِفدع: "نقي كما تنقين نصفك في الماء ونصفك في الطين"، فنظر إليه عمرو بن العاص، وقال: "والله يا مُسيلمة إنك تعلم أني أعلم أنك كذاب"[5] لكن كان الجامع المُشترك بينهما هو العداوة للنبي ﷺ.

ولما جاء وفد مُسيلمة إلى أبي بكر الصديق في حروب الردة فسألهم أبو بكر فقال: أسمعوني شيئًا مما يقول؟ يعني مما يوحى إليه فيما يزعم، فذكروا له بعض هذه التُراهات، فقال أبو بكر : "أشهد أن هذا لم يخرج من إل"[6] يعني: من رب، من إله، قال: وَإِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ لا يَرْقُبُوا فِيكُمْ إِلاً وَلا ذِمَّةً [سورة التوبة: 8] الإل فُسر بمعاني قيل الرحم وقيل العهد وقيل القرابة وقيل الله، وكل هذه المعاني داخلة تحت معنى الآية والله تعالى أعلم، وقد مضى الكلام على هذا في التعليق على "المصباح المنير".

لا يَرْقُبُوا فِيكُمْ إِلاً [سورة التوبة: 8] فقال: "أشهد أن هذا لم يخرج من إل"، واضح لذووا الفِطر.

والفيلسوف الكندي المعروف حينما قال له تلامذته: هات مثل هذا القرآن؟ فاحتبس أيامًا ثم خرج إليهم، وقال: نظرت في سورة المائدة فوجدته في آية واحدة قد خاطب، وأمر، وأحل، واستثنى، ثم استثنى بعد استثنى، ثم يقول: هذا لا يتأتى لأحد"[7] في آية واحدة في سطرين، لا يتأتى لأحد، فلم يستطع أن يأتي بكلمة واحدة، هذا فيلسوف عند قومه عند أصحابه عند تلامذته أنه كبير عظيم ومع ذلك كان في غاية العجز.

ونحن نقول: كل من كان لديه شك أو يطعن في الإسلام، أو يُشكك في الوحي والنبوة، هؤلاء الذين يُشككون الناس في ثوابتهم وما إلى ذلك، نقول: بيننا وبينكم شيء واحد، يا معاشر الكفار في مشارق الأرض ومغاربها بيننا وبينكم شيء واحد: فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ [سورة البقرة:23] سورة واحدة فقط إذا استطعتم، فإنكم بهذا تستطيعون الاحتجاج على القرآن، وهم منذ بُعث النبي ﷺ باقرأ إلى يومنا هذا إلى قيام الساعة لم يستطع أحد، فالنتيجة ما هي؟ فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ [سورة البقرة:24] إن لم تفعلوا فابحثوا عن المخرج الذي تسلم به نفوسكم وأجسامكم من عذاب الله -تبارك وتعالى- وهو النار، ولن يحصل ذلك إلا بالإذعان والإيمان واتباع النبي ﷺ والقرآن، هو هذا، هي قضية واحدة لا تحتاج إلى تطويل في المناظرة والنقاش ووجوه في الردود والإقناع، هات سورة واحدة، أقصر سورة، تستطيع أو لا تستطيع؟

لا تستطيع، إذًا هذا وحي من الله، هذا الآن تحدي مُعجزة ثابتة أمامك، فإن عجز فهو مُنقطع بهذا العجز، فهذه السورة هنا مُنكرة لإرادة العموم والشمول والإفراد أو النوعية، يعني: بسورة واحدة من نوع السور، وذلك بأقل ما يصدق عليه أنه سورة تُرجمت باسم يخصها، السورة معروفة.

أختم بُملحة من المُلح وليست بما يُبنى عليه حكم أو معنى لكن المُلح على اسمها؛ فالعلم منه ما هو من صُلب العلم كما يقول الشاطبي -رحمه الله[8] فهذا الذي عليه المعول، ومنه ما يكون من مُلح العلم، ومنه ما يكون من فضول العلم، فهنا في سورة البقرة: فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ [سورة البقرة:23] في ترتيب المصحف سورة البقرة قبلها سورة واحدة فقط سورة الفاتحة، وفي سورة هود: فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ [سورة هود:13] وقبل سورة هود من بعد هود إلى الفاتحة عشر سور، يعني: هود هي الحادية عشرة، هذه من المُلح لا يُبنى عليها حكم -والله تعالى أعلم.

وإلا فإن سورة هود كما هو معلوم هي من السور المكية، وقبلها سور مدنية مثل: البقرة وآل عمران والنساء والمائدة، وكذلك أيضًا: الأنفال والتوبة، كل هذه السورة مدنية، لكن هي مُلح، والعلم عند الله .

  1.  أخرجه البخاري، كتاب الإيمان، باب أمور الإيمان، برقم (9)، ومسلم، كتاب الإيمان، باب شعب الإيمان، برقم (35). 
  2.  أخرجه مسلم، كتاب الإيمان، باب شعب الإيمان، برقم (35). 
  3.  انظر: بيان تلبيس الجهمية في تأسيس بدعهم الكلامية (6/ 536). 
  4.  غاية المرام في علم الكلام، للثعلبي (ص: 344). 
  5.  تاريخ دمشق، لابن عساكر (46/ 154). 
  6.  انظر: منهاج السنة النبوية (4/ 491)، و(8/ 322). 
  7.  انظر: معارج القبول بشرح سلم الوصول (3/ 1100 - 1101). 
  8.  انظر: الموافقات (1/ 110)، و(1/ 117).