تفسير سورة البقرة الآية 21 ، 22
يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ* الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ فِرَاشاً وَالسَّمَاء بِنَاء وَأَنزَلَ مِنَ السَّمَاء مَاء فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقاً لَّكُمْ فَلاَ تَجْعَلُواْ لِلّهِ أَندَاداً وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ [(21-22) سورة البقرة].
توحيد الألوهية:
شرح تبارك وتعالى في بيان وحدانية ألوهيته بأنه تعالى هو المنعم على عبيده بإخراجهم من العدم إلى الوجود، وإسباغه عليهم النعم الظاهرة والباطنة بأن جعل لهم الأرض فراشاً أي مهداً كالفراش.
ثم قال: الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ فِرَاشاً وَالسَّمَاء بِنَاء وَأَنزَلَ مِنَ السَّمَاء مَاء فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقاً لَّكُمَْ [سورة البقرة:22]: وهذا يقال له: دليل الحكمة والتعليل، وهذا كثير في القرآن أيضاً، حيث يذكر الله لهم أنه الذي خلق، ويستدل لهم على ذلك، ومن ثم يتوصل بهذا إلى إلزامهم بتوحيد الإلهية، الذي خلق ينبغي أن تكون العبادة مختصة به، ومن هنا قيل: إن توحيد الربوبية مستلزم لتوحيد الإلهية، إذا أقررتم بأن الله هو المنفرد بالخلق، والإيجاد، والتصرف فينبغي أن يكون ذلك حاملاً لكم على توحيده، وإفراده بالعبادة.
ودليل الحكمة الآخر الذي يبين فيه علة هذا الخلق أنه خلق لكم ما في الأرض جميعاً لتنتفعوا به، وجعل لكم الأرض فراشاً ممهدة تستطيعون السير عليها، والضرب في جنباتها، وأخرج لكم منها النبات، وأنزل لكم من السماء المطر، وكل ذلك من أجل أن تنتفعوا بهذا الإنعام والإفضال، فيكون حاملاً لكم على مزيد من العبودية لله ، والشكر له.
ثم قال لهم: فَلاَ تَجْعَلُواْ لِلّهِ أَندَاداً وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ [سورة البقرة:22]: أي: من كان بهذه المثابة من الخلق، والإيجاد، والإنعام، والإفضال، فينبغي أن تكون العبادة له وحده لا شريك له، وهذا الأسلوب كثير في آيات القرآن.
"بأن جعل لهم الأرض فراشاً أي مهداً كالفراش مقررة، موطئة، مثبتة بالرواسي الشامخات"الآن في قوله: اعْبُدُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ* الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ فِرَاشاً [سورة البقرة:21-22] أي: اعبدوا ربكم العبادة المعروفة، وهذا أمر بتوحيد الإلهية، وما يندرج تحته، ويتضمنه، ويستلزمه.
اعْبُدُواْ رَبَّكُمُ: أفردوه بالعبادة، والتوجه، فلا تتوجهوا إلى أحد سواه، وذكر اسم الرب - تبارك وتعالى - هنا وهو في غاية المناسبة، فقوله: اعْبُدُواْ رَبَّكُمُ أي: أن المربي بالنعم الظاهرة، والسيد؛ هو الذي ينبغي أن يوحد، ويفرد، فليس لكم رب سواه، فكيف تعبدون غيره، وتتوجهون بالشكر والعبادة، وتضعون ذلك في غير من خلق؟ فهذا غاية الظلم كما قال تعالى: إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ [سورة لقمان:13]، فالرب هو الذي يستحق أن يعبد.
قال تعالى: الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ، قوله: لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ: تحتمل أن تكون بمعنى الترجي، وهنا يرد الإشكال المعروف، وهو: كيف يقع الترجي من الله وهو عالم ما كان، وما يكون من الخفيات، وإنما يترجى من كان لا يعلم عواقب الأمور.
فنحن نترجى نزول المطر، ونترجى قدوم زيد، نرجو حصول كذا، ولا ندري هل يحصل أم لا، فإذا كان قريب المنال فهذا هو الرجاء، وإذا كان من المحال أو البعيد جداً فهذا هو التمني، نتمنى نزول المطر.
وعلى كل حال فإن الله لا يترجى، فمن قال: لَعَلَّكُمْ للترجي، قال: ذلك بحسب حال المخاطب، المخاطب يخاطب بحسب نظره كما سمى معبودات المشركين آلهة وهي ليست آلهة، وسمى الترَّهات والشبهات التي يحتجون بها سماها حجة، قال تعالى: حُجَّتُهُمْ دَاحِضَةٌ عِندَ رَبِّهِمْ [سورة الشورى:16] وهي ليست بحجة، لكن هم يعتقدون أنها حجة فسماها حجة، وهذا إذا قلنا: إن لعلَّ للترجي، وإذا قلنا: إنها للتعليل في جميع المواطن في القرآن - إلا في قوله: وَتَتَّخِذُونَ مَصَانِعَ لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ [سورة الشعراء:129] أي: كأنكم تخلدون، وباقي المواضع كلها تكون للتعليل - فهنا في قوله تعالى: اعْبُدُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ لا إشكال؛ إذ يكون المعنى اعبدوا ربكم الذي خلقكم، والذين من قبلكم؛ من أجل أن تحصل لكم التقوى.
فقوله: لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ هنا هل يكون عائداً إلى ما ذكر من الأمر بالعبادة، اعبدوا ربكم لعلكم تتقون، أو يكون عائداً إلى ما ذكر من الخلق الذي خلقكم لعلكم تتقون، أي من أجل أن تتقوه.
بعض أهل العلم يقولون: إنه يعود إلى الأمر بالعبادة، اعبدوا ربكم من أجل أن تحصل لكم التقوى، فالله يأمرنا بالعبادة لتربية التقوى في نفوسنا.
وعلى المعنى الآخر يكون ذلك عائداً إلى الخلق فهو خلقنا من أجل أن نحقق التقوى، من أجل أن نتقيه .
فإذا قلنا: إنه عائد إلى العبادة فقد يشكل عليه أن العبادة هي التقوى، أليست التقوى هي فعل ما أمر، واجتناب ما نهى؟ وفعل ما أمر واجتناب ما نهى هو العبادة، فهذا قد يلزم منه ما يسمى بالدور.
فعلى هذا يمكن أن يقال: إن الله أمر بعبادته لتحصل التقوى، وهي أن يجعل العبد بينه وبين عقاب الله وقاية، بفعل ما أمر، واجتناب ما نهى، فيكون متقياً إذا امتثل، إذا كان عابداً يكون متقياً، ويحتمل أن يكون المعنى الآخر أن الله خلقنا من أجل أن نتقيه بتحقيق العبودية، فيكون ذلك كقوله - تبارك وتعالى -: وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ [سورة الذاريات:56].
فإذا أردنا أن نرجح بين المعنيين فالمعنى الثاني هو أقرب، ويشهد له هذه الآية وهي قوله - تبارك وتعالى -: وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ [سورة الذاريات:56] فعبادته هي تقواه، بفعل ما أمر واجتناب ما نهى.
ويمكن أن نقول: إن الآية تحمل على المعنيين، فيقال بأن الله يأمرنا بعبادته لتربية التقوى في النفوس، وقد خلقنا أيضاً من أجل تحقيق التقوى، والقرآن يعبر به بالألفاظ القليلة الدالة على المعاني الكثيرة، فيكون خاتمة الآية: لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ تعليلاً للأمر بالعبادة، وتعليلا للخلق والإيجاد، والله تعالى أعلم.
يقول المصنف - رحمه الله -: شرع - تبارك وتعالى - في بيان وحدانية ألوهيته بأنه تعالى هو المنعم على عبيده بإخراجهم من العدم إلى الوجود، وإسباغه عليهم النعم الظاهرة والباطنة؛ بأن جعل لهم الأرض فراشاً، أي: مهداً كالفراش، مقررة موطأة، مثبتة بالرواسي الشامخات، والسماء بناء وهو السقف كما قال في الآية الأخرى: وَجَعَلْنَا السَّمَاء سَقْفًا مَّحْفُوظًا وَهُمْ عَنْ آيَاتِهَا مُعْرِضُونَ [سورة الأنبياء:32]، أو أَنزَلَ لَكُم مِّنَ السَّمَاء مَاء [سورة النمل:60]: والمراد به السحاب ها هنا في وقته عند احتياجهم إليه، فأخرج لهم به من أنواع الزروع، والثمار؛ ما هو مشاهد رزقاً لهم، ولأنعامهم؛ كما قرر هذا في غير موضع من القرآن.
ومن أشبه آية بهذه الآية قوله تعالى: الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ قَرَارًا وَالسَّمَاء بِنَاء وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ وَرَزَقَكُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ فَتَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ [سورة غافر:64] ومضمونه أنه الخالق الرازق، مالك الدار، وساكنيها، ورازقهم، فبهذا يستحق أن يعبده وحده ولا يشرك به غيره، ولهذا قال: فَلاَ تَجْعَلُواْ لِلّهِ أَندَاداً وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ [سورة البقرة:22].
وفي الصحيحين عن ابن مسعود قال: قلت: يا رسول الله أي الذنب أعظم عند الله؟ قال: أن تجعل لله نداً وهو خلقك...[1] الحديث، وكذا حديث معاذ : أتدري ما حق الله على عباده؟ أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئاً...[2] الحديث، وفي الحديث الآخر: لا يقولن أحدكم: ما شاء الله وشاء فلان، ولكن ليقل: ما شاء الله ثم شاء فلان[3].قوله - تبارك وتعالى -: الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ فِرَاشاً وَالسَّمَاء بِنَاء [سورة البقرة:22]، مع قوله: وَجَعَلْنَا السَّمَاء سَقْفًا مَّحْفُوظًا [سورة الأنبياء:32] دليل على أن السماء سقف محفوظ، ومحسوس، خلافاً لما يزعمه بعض أهل الفلك من المعاصرين حيث يقولون: إن السماء ليست جسماً محسوساً وسقفاً كما هو مقرر في القرآن، وإنما يقولون: إن هذه السماء هي عبارة عن غازات... وما أشبه ذلك مما يقولونه في هذا المقام، بحيث إنه ليس هناك سقف محيط بالعالم، وعلى كل حال هذا تكذيب بما جاء في القرآن.
وقوله - تبارك وتعالى -: وَأَنزَلَ مِنَ السَّمَاء مَاء... [سورة البقرة:22]: المقصود به العلو، فيصدق على السحاب، فكل ما علا فهو سماء، وبالتالي فهذا المطر النازل من السحاب هو نازل من السماء.
فكلام أهل العلم في مصدر هذا المطر - أي: من أين يأتي - كثير، وذلك لا يمنع أن يكون متركباً من أبخرة تتصاعد من مياه البحار وغيرها أي: تصعد إلى أعلى ثم تتكثف ... إلى آخره، ثم تنزل، فالله يجعل هذه السنة في خلقه، فينزل لهم بها المطر، وقد يكون له مصدر آخر مع هذا، والله على كل شيء قدير، لكن هذا أمر مشاهد، والعلم عند الله .
وقد استدل به كثير من المفسرين كالرازي وغيره على وجود الصانع تعالى.هذه قضية لا تحتاج إلى تقرير، يعني وجود الصانع أظهر من كل شيء
وليس يصح في الأذهان شيء | إذا احتاج النهار إلى دليل |
وبالتالي فإن المتكلمين من أمثال الرازي يبذلون جهداً كبيراً، وعناء طويلاً؛ في تقرير هذه القضية - وجود الصانع -، فإن انتقلوا منها انتقلوا إلى تقرير توحيد الربوبية، وهذه من آفات علم الكلام، حيث إنهم يجادلون ويطيلون في تقرير القضايا البدهية التي لا ينازع فيها أحد.
وهذا الكلام قد تحتاج إليه مع ملحد، وذلك نادر؛ لأن طوائف أهل الإشراك يقرون بوجود الله لكنهم يجعلون معه شريكاً، فتحتاج إلى مناقشتهم في توحيد العبادة.
لكن هؤلاء يناقشون في البدهيات، ولذلك فمقدماتهم سقيمة، فالقرآن الكريم لا يتحدث عن قضية وجود الله مثلاً، ولا يتحدث عن تقرير توحيد الربوبية إلا ليدلل به على توحيد الألوهية، أما أهل الكلام فإن المقدمات عندهم لا تتأتى بأن الله هو الخالق، إذن يجب أن يكون هو المعبود وحده لا شريك له، والصواب ليس كذلك؛ بل أثبت المقدمة الأولى أن الله هو الخالق، ثم أثبت بعد ذلك أنه المستحق وحده للعبادة.
فانظر كم يحصل بسبب هذا من التطويل من غير فائدة، وهذا هو أحد الفروق بين الأدلة الكلامية المنطقية الفلسفية وطرائق أهل الكلام في الاستدلال، وطريقة القرآن في تقرير قضايا الاعتقاد، هذا واحد من هذه الفروق، وبهذا نعرف ما جرَّه علم الكلام على العقيدة الإسلامية، وعلى الأمة من مفاسد، وجدل عقيم لا طائل تحته، فاشتغلوا بالقيل والقال، والجدل في المسلمات، وتقرير الثوابت بأطول الأدلة، والتطويل في المقامات التي لا تحتاج إلى تقرير أصلاً، فكثر كلامهم، وشغبهم، والتمسوا الاعتراضات، والقوادح، وحاولوا الجواب عنها فشككوا في المسلمات.
هذا هو الذي حصل، ولذلك تجدون مثل: الجهم بن صفوان لما قابل طائفة من السمنية وقالوا له: تقر بأن لك رباً؟ قال: نعم، قالوا: هل وجدت له حساً؟ قال: لا، قالوا: هل سمعت له صوتاً؟ قال: لا، قالوا: هل شممت له رائحة؟ قال: لا، إلى أن قالوا له: كيف إذن تدعي أن لك رباً ولم تدركه بحواسك؟ فبقي شاكاً لا يصلي أربعين يوماً، ثم خرج عليهم بكلام أشبه ما يكون بكلام النصارى - كما قال الإمام أحمد رحمه الله وغيره - في الرد على الزنادقة والجهمية، حيث جاءهم فقال لهم: تقول بأن لك روحاً، قال: نعم، قال: هل وجدت لها صوتاً، قال: لا، وجدت ريحاً؟ قال: لا، قال: إذن: كيف تقول بأن لك روحاً؟ وظن أنه حاجَّهم في هذا، وهو يقول: بأن الله مثل الروح، فصار أعظم من قول النصارى بأن المسيح هو روح الله، وأنه حل في المسيح، فهو يقول بأن الله مثل الروح يحل ويتجلى في هذه المخلوقات.
وقد استدل به كثير من المفسرين كالرازي وغيره على وجود الصانع تعالى، وهي دالة على ذلك بطريق الأولى.مع أن القرآن ساقها لا لتقرير وجود الصانع قال تعالى: الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ [سورة البقرة:21] جاء بها من أجل العبادة، اعْبُدُواْ رَبَّكُمُ [سورة البقرة:21]، وهم ما استدلوا بها حتى على توحيد الربوبية الذي هو مسلَّم، وما سيقت بتقريره، لكنه أشار إلى هذا، وهو أمر يقرون به أنه هو الرب وحده، فإذن ينبغي أن يكون المعبود وحده، فذهب الرازي إلى ما قبل قبل ذلك وهو وجود الصانع، ثم بعد ذلك تأتي مرتبة أخرى وهي أنه الرب، فهو يريد أن يثبت أنه موجود، والآية ما جاءت لهذا.
فإن من تأمل هذه الموجودات السفلية، والعلوية، واختلاف أشكالها، وألوانها، وطباعها، ومنافعها، ووضعها في مواضع النفع بها محكمة؛ علم قدرة خالقها، وحكمته، وعلمه، وإتقانه، وعظيم سلطانه كما قال بعض الأعراب وقد سئل: ما الدليل على وجود الرب تعالى؟ فقال:...شوف الآن الفرق بين هذا وبين الجهم بن صفوان على كثرة من تبع الجهم بن صفوان من أهل خراسان، وفي البصرة من أتباع عمرو بن عبيد، وغير هؤلاء من المعتزلة الذين يزعمون أنهم أصحاب عقول، حيث انكفأ كثير منهم خلف هذا الرجل المبطل، وتتعجب في ذلك الزمان - في زمان التابعين - مع وجود علماء مثل الجبال، وقرب العهد من شمس النبوة، كيف توجد عقول تفكر بهذه الطريقة، وتتبع مثل هذا الرجل على جهله، وغباوته، وظهور فساد عقله، فكيف بزمانك هذا الذي لا ننتظر فيه إلا الدجال؟
فهذا أمر في غاية العجب، فلو أن الإنسان تأمل في التاريخ، وظهور الفرق؛ كيف وجدت هذه الألوف المؤلفة، الذين تبعوها، وصاروا يموتون دونها، ويتحمسون لها، ثم تقوم الخلافة على فراخ هؤلاء الجهمية وهم المعتزلة، ويمتحنون الناس؟
نعجب كيف وجدت مثل هذه الأشياء في ذلك الزمان؟ فكيف بزماننا هذا؟ نستغرب إذا انحرف الناس، وحادوا عن الجادة.
كما قال بعض الأعراب وقد سئل: ما الدليل على وجود الرب تعالى؟ فقال: "يا سبحان الله، إن البعرة ليدل على البعير، وإن أثر الأقدام لتدل على المسير، فسماء ذات أبراج، وأرض ذات فجاج، وبحار ذات أمواج، ألا يدل ذلك على وجود اللطيف الخبير؟!
فمن تأمل هذه السموات بارتفاعها، واتساعها، وما فيها من الكواكب الكبار، والصغار النيرة من السيارة، ومن الثوابت، ونظر إلى البحار المكتنفة للأرض من كل جانب، والجبال الموضوعة في الأرض لتقَرَّ، ويسكن ساكنوها، مع اختلاف أشكالها، وألوانها كما قال الله تعالى: وَمِنَ الْجِبَالِ جُدَدٌ بِيضٌ وَحُمْرٌ مُّخْتَلِفٌ أَلْوَانُهَا وَغَرَابِيبُ سُودٌ وَمِنَ النَّاسِ وَالدَّوَابِّ وَالْأَنْعَامِ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ كَذَلِكَ إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاء [سورة فاطر:27-28].
وكذلك هذه الأنهار السارحة من قطر إلى قطر للمنافع، وما ذرأ في الأرض من الحيوانات المتنوعة، والنباتات المختلف الطعوم، والأراييج، والأشكال، والألوان؛ مع اتحاد طبيعة التربية، والماء؛ استدل على وجود الصانع وقدرته العظيمة، وحكمته، ورحمته بخلقه، ولطفه بهم، وإحسانه إليهم، وبره بهم، لا إله غيره، ولا رب سواه، عليه توكلت، وإليه أنيب، والآيات في القرآن الدالة على هذا المقام كثيرة جداً.على كل حال هذه الطريقة هي الشائعة في القرآن، وذلك أن يستدل بهذه المخلوقات، والكائنات، والأجرام العلوية والسفلية على وحدانية الله وصفاته، يستدل بهذه المشاهدات، وما يقع في هذا الكون على المعبود ، فيُتعرف عليه - تبارك وتعالى - بآثاره، وخلقه.
والطريقة الثانية وهي طريقة الخاصة وهي: الاستدلال، أي التعرف على ما يجري في الكون بناء على المعرفة بالله ، يعني أن يجعل معرفته بالله، وأسمائه، وصفاته طريقاً إلى معرفة ما يقع ويجري في هذا العالم.
وشتان بين الطريقتين، فالطريقة الأولى هي الشائعة الكثيرة، وهي التي تناسب عامة الخلق، تقول: الأثر يدل على المسير، وهذه الأكوان والأفلاك العظيمة في جريها، ودقة خلقها، وعظمتها؛ تدل على عظمة الخالق، وعلى علمه، وعظيم سلطانه، وتدل على قدرة تامة، وغنى مطلق، وملك لا يقادر قدره، وما إلى ذلك من المعاني، وتستدل بما ترى من هذه الخلائق التي تأتيها أرزاقها في قعر البحار على أن الله رحيم، وأنه رزاق، وأنه بصير، وأنه خبير يعلم دقائق الأشياء، والخفيات، وأنه لطيف بعباده وما أشبه هذا.
الطريقة الثانية: هي طريقة خديجة - ا - لما جاءها النبي ﷺ مذعوراً فقالت بناء على ما عرفت من أوصاف الله الكاملة قالت: "كلا، والله لا يخزيك الله، إنك لتصل الرحم، وتحمل الكل، وتقري الضيف" إلى آخر ما ذكرت.
فهي بناء على ما عرفت من أوصاف الله، وكماله؛ استنبطت وعرفت أن ما وقع للنبي ﷺ ليس أمراً مخوفاً يتبعه ويلحقه من جرائه الضرر، فقالت: لا، فمثلك لا يخاف، ولا يلحقه المكروه؛ لأنك بهذه المثابة، والله لا يضيع أولياءه.
هذه طريقة موجودة، ولكنه لا يتوصل إليها إلا من كملت معرفته، وبلغ مرتبة اليقين، فهو ليس عنده شك، ولا تردد ولا ريبة، بل إيمانه جازم ثابت، فهذا يستطيع أن يتعرف على كثير من الأمور الواقعة، ويحكم عليها بناء على معرفته بالله ، فيعرف أن صنع هؤلاء إلى بوار، وأن كيد هؤلاء لا يفلح، وأن العاقبة ستكون لهؤلاء، وأن إدالة هؤلاء على هؤلاء مؤقتة، ولن تدوم، وإنما هي كما قال الله : وَلَوْ يَشَاء اللَّهُ لَانتَصَرَ مِنْهُمْ وَلَكِن لِّيَبْلُوَ بَعْضَكُم بِبَعْضٍ [سورة محمد:4] فهو يعرف هذه الأشياء، ويعرف من أين أُتِي، ومن أين وقع في هذه الورطة، وكيف يكون المخرج منها، وكل ذلك بناء على معرفته بالمعبود ، فمن وصل إلى هذه المرتبة فإنه قد وصل إلى مرتبة من مراتب الإيمان العالية وهي أهل اليقين، أهل البصر، أهل المعرفة الصحيحة بالله .
فهذه مراتب خواص أهل العبودية، ولذلك لا تجد هذه الطريقة الثانية مطروقة كثيراً في القرآن أو في الكتب؛ لأن المناسب لعامة الخلق هي الطريقة الأولى.
- أخرجه البخاري في كتاب: الأدب - باب: قتل الولد خشية أن يأكل معه (5655) (ج 5 / ص 2236)، ومسلم في كتاب: الإيمان - باب: كون الشرك أقبح الذنوب وبيان أعظمها بعده (86) (ج 1 / ص 86).
- أخرجه البخاري في كتاب: التوحيد - باب: ما جاء في دعاء النبي ﷺ أمته إلى توحيد الله -تبارك وتعالى- (6938) (ج 6 / ص 2685).
- أخرجه أبو داود في كتاب: الأدب - باب: لا يقال: خبثت نفسي (4980) (ج 2 / ص 713)، وأحمد (23395) (ج 5 / ص 394)، وصححه الألباني في المشكاة برقم (4778).