الإثنين 26 / ربيع الأوّل / 1446 - 30 / سبتمبر 2024
أَلَمْ تَرَ إِلَى ٱلْمَلَإِ مِنۢ بَنِىٓ إِسْرَٰٓءِيلَ مِنۢ بَعْدِ مُوسَىٰٓ إِذْ قَالُوا۟ لِنَبِىٍّ لَّهُمُ ٱبْعَثْ لَنَا مَلِكًا نُّقَٰتِلْ فِى سَبِيلِ ٱللَّهِ ۖ قَالَ هَلْ عَسَيْتُمْ إِن كُتِبَ عَلَيْكُمُ ٱلْقِتَالُ أَلَّا تُقَٰتِلُوا۟ ۖ قَالُوا۟ وَمَا لَنَآ أَلَّا نُقَٰتِلَ فِى سَبِيلِ ٱللَّهِ وَقَدْ أُخْرِجْنَا مِن دِيَٰرِنَا وَأَبْنَآئِنَا ۖ فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ ٱلْقِتَالُ تَوَلَّوْا۟ إِلَّا قَلِيلًا مِّنْهُمْ ۗ وَٱللَّهُ عَلِيمٌۢ بِٱلظَّٰلِمِينَ

المصباح المنير التسهيل في علوم التنزيل لابن جزي مجالس في تدبر القرآن الكريم
مرات الإستماع: 0

أَلَمْ تَرَ إِلَى الْمَلإِ مِن بَنِي إِسْرَائِيلَ مِن بَعْدِ مُوسَى إِذْ قَالُواْ لِنَبِيٍّ لَّهُمُ ابْعَثْ لَنَا مَلِكًا نُّقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللّهِ قَالَ هَلْ عَسَيْتُمْ إِن كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ أَلاَّ تُقَاتِلُواْ قَالُواْ وَمَا لَنَا أَلاَّ نُقَاتِلَ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَقَدْ أُخْرِجْنَا مِن دِيَارِنَا وَأَبْنَآئِنَا فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ تَوَلَّوْاْ إِلاَّ قَلِيلاً مِّنْهُمْ وَاللّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ [سورة البقرة:246].
الاستفهام في أول الآية تقريري، والرؤية قلبية علمية كما تقدم.
وقوله سبحانه: إِلَى الْمَلإِ مِن بَنِي إِسْرَائِيلَ الملأ المراد بهم أشراف الناس، وعِلية القوم، قيل في سبب تسميتهم بذلك لأنهم يملئون صدور المجالس.
وقيل: لأنهم مَلِئون بما يطلب منهم، وينتظر؛ من قضاء حاجات الناس عندهم، وقيل: سموا بالملأ لأنهم يتمالئون على الأمر لكونهم أهل الحل والعقد، وقيل: لأنهم مُلئوا شرفاً أو غير ذلك.
وقوله سبحانه: هَلْ عَسَيْتُمْ عسى من أفعال المقاربة، ودخول أداة الاستفهام عليه إنما هو لتقرير ما هو متوقع عنده من عدم قتالهم، والإشعار بأنه كائن كما قال سبحانه: فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِن تَوَلَّيْتُمْ أَن تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ [سورة محمد:22].
وقوله سبحانه: إِن كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ أَلاَّ تُقَاتِلُواْ قَالُواْ وَمَا لَنَا أَلاَّ نُقَاتِلَ فِي سَبِيلِ اللّهِ قد يستشكل المعنى عند إعمال التركيب باعتبار أن أصل اللفظة وما لنا أن لا نقاتل، ولذا فإن كثيراً من أهل العلم يلغي عمل أن، ويجعلها زائدة لا اعتبار لها، فيصبح المعنى: وما منعنا أو يمنعنا أن نقاتل...، وقال بعضهم: بل يمكن استبقاء أن دون إشكال، ويكون المعنى: وأي شيء لنا في أن لا نقاتل، والله أعلم بالصواب.
"قال مجاهد: "هو شمويل ".
شمويل يعني شمعون.
"وقال وهب بن منبه وغيره: كان بنو إسرائيل بعد موسى على طريق الاستقامة مدة من الزمان، ثم أحدثوا الأحداث، وعبد بعضهم الأصنام".
هذه الرواية من الإسرائيليات، وهي من النوع الذي ليس في شرعنا، ولا في كتابنا، ولا عن رسولنا؛ ما يصدقه، ولا يكذبه، ولذا فقد نص أهل العلم على أن هذه الروايات لا نؤمن بها، ولا نكذبها، بل تمر كما جاءت دون التعرض لها تصديقاً، وتكذيباً، والعلم عند الله.
"ولم يزل بين أظهرهم من الأنبياء من يأمرهم بالمعروف، وينهاهم عن المنكر، ويقيمهم على منهج التوراة، إلى أن فعلوا ما فعلوا، فسلط الله عليهم أعداءهم؛ فقتلوا منهم مقتلة عظيمة، وأسروا خلقاً كثيراً، وأخذوا منهم بلاداً كثيرة، ولم يكن أحد يقاتلهم إلا غلبوه، وذلك أنهم كان عندهم التوراة، والتابوت الذي كان في قديم الزمان، وكان ذلك موروثاً لخلفهم عن سلفهم إلى موسى الكليم - عليه الصلاة والسلام -، فلم يزل بهم تماديهم على الضلال حتى استلبه منهم بعض الملوك في بعض الحروب، وأخذ التوراة من أيديهم، ولم يبق من يحفظها فيهم إلا القليل، وانقطعت النبوة من أسباطهم، ولم يبق من سبط لاوي الذي يكون فيه الأنبياء إلا امرأة حامل من بعلها وقد قتل، فأخذوها فحبسوها في بيت، واحتفظوا بها لعل الله يرزقها غلاماً يكون نبياًَ لهم، ولم تزل المرأة تدعو الله أن يرزقها غلاماً، فسمع الله لها، ووهبها غلاماً، فسمته شمويل - أي سمع الله دعائي -، ومنهم من يقول: شمعون وهو بمعناه.
فشب ذلك الغلام، ونشأ فيهم، أنبته الله نباتاً حسناً، فلما بلغ سن الأنبياء أوحى الله إليه، وأمره بالدعوة إليه، وتوحيده، فدعا بني إسرائيل؛ فطلبوا منه أن يقيم لهم ملكاً يقاتلون معه أعداءهم، وكان الملك أيضاًَ قد باد فيهم، فقال لهم النبي: فهل عسيتم إن أقام الله لكم ملكاً أن لا تفوا بما التزمتم من القتال معه؟ قَالُواْ وَمَا لَنَا أَلاَّ نُقَاتِلَ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَقَدْ أُخْرِجْنَا مِن دِيَارِنَا وَأَبْنَآئِنَا أي: وقد أخذت منا البلاد، وسبيت الأولاد قال الله تعالى: فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ تَوَلَّوْاْ إِلاَّ قَلِيلاً مِّنْهُمْ وَاللّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ أي: ما وفوا بما وعدوا، بل نكل عن الجهاد أكثرهم، والله عليم بهم".

قوله سبحانه: وَقَدْ أُخْرِجْنَا مِن دِيَارِنَا وَأَبْنَآئِنَا عبروا بذلك عن جميعهم، والمراد من سبي منهم، وأخرج من بلده وداره، وهذا من باب أن الواقع على بعضهم كالواقع على كلهم، فيكون الذين أخرجوا من ديارهم، وأبنائهم؛ هم السبايا الذين سباهم عدوهم، بدليل أنهم خاطبوا نبيهم وهم في أرضهم، وديارهم، وهذا المعنى هو الذي ذكره ابن كثير، لكن عبارة ابن جرير - رحمه الله - أصرح منها إذ يرى أن المقصود بذلك هو من سبي منهم.
وأما بالنسبة لكونه لم يؤخذ في السبايا إلا الأبناء دون البنات؛ فلعل ذلك باعتبار ما هو أشرف وأعز على نفوسهم، فإنّ أخذ الأولاد مؤذن بالضعف، وتلاشي القوة، وذهاب دولتهم، فلا يبقى عندهم رجال يحمون أرضهم، ونساءهم، مع أن أخذ النساء من وجه آخر أعظم وأشد لما فيه من ذهاب العرض، ولذلك قال الله عن فرعون ممتناً على بني إسرائيل: وَإِذْ نَجَّيْنَاكُم مِّنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوَءَ الْعَذَابِ [سورة البقرة:49] ثم فسر سوء العذاب بقوله: يُذَبِّحُونَ أَبْنَاءكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءكُمْ فعدّ استحياء النساء أي إبقاءهن حيات من جملة العذاب الذي يسومونهم به لما فيه من استذلالها، واسترقاقها، وتعرضها للمكروه، وتكليفها ما لا يطاق، فهذا الأمر لا يقل شناعة عن القتل، والذبح، والله أعلم.

مرات الإستماع: 0

"أَلَمْ تَرَ إِلَى الْمَلَأ [البقرة:246] رؤية قلب، وكانوا قومًا نالتهم الذلة من أعدائهم، فطلبوا الإذن في القتال، فلما أُمروا به كرهوه".

الرؤية هنا لا شك أنها رؤية قلبية، يعني بالعلم "ألم تعلم" لأن النبي ﷺ ما رآهم، وقوله: أَلَمْ تَرَ إِلَى الْمَلَأ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى [البقرة:246] الملأ؛ هم أشراف الناس، وجوههم، قيل لهم ذلك - كما يقول بعض أهل العلم - باعتبار أنهم يتمالئون على الأمر، يعني: أنهم أهل الحل، والعقد، أو أنهم يملئون صدور المجالس، أو أنهم ملئوا شرفًا، أو أنهم مليئون بما يُحتاج إليه منهم، كل ذلك لا إشكال فيه، فهم أشراف الناس، والمقدمون فيهم. وهذا الاستفهام أَلَمْ تَرَ إِلَى الْمَلَإِ [البقرة:246] للتقرير.

يقول: "وكانوا قوما نالهم الذلة من أعدائهم، فطلبوا الإذن في القتال فلما أُمروا به كرهوه".

"قوله تعالى: لِنَبِيٍّ لَهُمُ [البقرة:246]: قيل: اسمه شمويل، وقيل: شمعون".

لا يثبت مثل هذا، فهذا من الأخبار الإسرائيلية - والله أعلم -. 

"قوله تعالى: هَلْ عَسَيْتُمْ [البقرة:246] أي: قاربتم، وأراد النبي المذكور أن يتوثق منهم، ويجوز في السين من عَسَيْتُمْ الكسر، والفتح، وهو أفصح؛ ولذلك انفرد نافعٌ بالكسر[1] وأما إذا لم يتصل بعسى ضمير، فلا يجوز فيها إلّا الفتح".

لا يُقال في (عسى) عسِي، ولكن إذا اتصل بها الضمير عسَيت، فيصح فيها الكسر، فيقال: عسِيت، والمعنى واحد، هما لغتان، وإدخال حرف الاستفهام "هل" على فعل المقاربة، التي منها (عسى) لتقرير ما هو متوقع عندهم، والإشعار بما هو كائن هَلْ عَسَيْتُمْ كأنه كان يتوقع منهم النكول، والتراجع، فلم يطمئن، ويتوثق إليهم، وهذا ما كان. 

  1. معاني القراءات للأزهري (2/387)، والإقناع في القراءات السبع (ص:305).

مرات الإستماع: 0

لما ذكر الله -تبارك وتعالى- خبر الألوف الذين خرجوا من ديارهم حذر الموت، فقال لهم الله: موتوا، ثم أحياهم، وبيَّن أن الفرار من الموت والحذر لا يُنجي من القدر، أمر بعد ذلك بالقتال والإنفاق في سبيله، فالقتال في سبيل الله لا يُقرب الأجل، كما أن الإنفاق في سبيل الله لا يورث الفقر، فالله يقبض ويبسط.

ثم أخبر الله -تبارك وتعالى- نبيه ﷺ عن حال طائفة من بني إسرائيل، طلبوا من نبي لهم أن يبعث لهم ملكًا من أجل أن يُقاتلوا في سبيل الله، فقال لهم: هَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ أَلَّا تُقَاتِلُوا [سورة البقرة:246] فكان يتوقع منهم التراجع، فأجابوه بأنهم عازمون على القتال وَمَا لَنَا أَلَّا نُقَاتِلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَقَدْ أُخْرِجْنَا مِنْ دِيَارِنَا وَأَبْنَائِنَا فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ تَوَلَّوْا إِلَّا قَلِيلاً مِنْهُمْ [سورة البقرة:246] إلى آخر ما ذكر الله من خبرهم، فهذه الآيات فيها من العِبر والعظات الشيء الكثير، ولكن يُؤخذ من مُجملها -قبل أن نتحدث عن تفاصيل هذه الهدايات: أن الناس قد يطلبون شيئًا، ثم بعد ذلك يتراجعون، وهذا يقع في الأمم، ويقع أيضًا في الأفراد، سواء كان ذلك في القتال في سبيل الله -تبارك وتعالى، أو في غيره.

وقد عاتب الله أصحاب النبي ﷺ حيث كانوا يسألون عن أحب الأعمال إلى الله، ويتمنون لو أنهم عرفوا ذلك، فلما أُخبروا أنه الجهاد تثاقلوا يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لا تَفْعَلُونَ  كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لا تَفْعَلُونَ ۝  إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُمْ بُنيَانٌ مَرْصُوصٌ [سورة الصف:2-4] فالآيات نزلت في هذا.

وكذلك قوله: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ [سورة النساء:77] هذا قبل فرض القتال في هذه الأمة، فكانوا يُطالبون بذلك، فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ كانت النتيجة هي التثاقل أيضًا، رَبَّنَا لِمَ كَتَبْتَ عَلَيْنَا الْقِتَالَ وطلبوا التأخير والإمهال، فهذا من طبائع النفوس في كثير من أحوالها، قد يطلب الناس قتالاً لعدوهم، ويتذمرون من تأخير ذلك، وحينما يقع هذا المطلوب، ويرون تبعات هذا القتال من نقص في الأموال، وما إلى ذلك، يبدأ هؤلاء الناس يستثقلون هذا الأمر، ويرون أنه من البلاء الذي نزل بهم، ويتمنوا لو أنه لم يقع، كنتم قبل ذلك تُطالبون به وتُلحون، قائلين: لماذا يُترك هؤلاء الأعداء يعيثون في الأرض فسادًا؟ ثم بعد ذلك لما يتحقق هذا المراد، ويفرحون به، ويطربون لأول وهلة، فإذا رأوا تبعات ذلك استثقلوه، وهذا تجده شاخصًا في زماننا هذا، ماثلاً أمام الجميع، وتجده في كل زمان.

وهكذا قد يُطالب الناس بأشياء من مجالس العلم والدروس العلمية، ونحو ذلك، فإذا وجدت تجد هذا الذي يُلح ويُطالب ويُكرر ويُعيد هو أول من يتأخر عنها ويتراجع.

ولاحظ هذا التساقط الذي حصل لبني إسرائيل منذ البداية، أكثروا على نبيهم في أن يبعث لهم ملكًا، فلما أُخبروا أنه طالوت اعترضوا أَنَّى يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنَا وَنَحْنُ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ مِنْهُ وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِنَ الْمَالِ [سورة البقرة:247] فبدأوا يطبقون عليه المعايير التي يقيسون بها الناس، ونسوا عما هو أهم من ذلك، فهذا أول التراجع والاضطراب والوهن، ثم بعد ذلك ابتلوا بالنهر، فشرب منه أكثرهم، ولم يبق إلا القلة فَمَنْ شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي وَمَنْ لَمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي إِلَّا مَنِ اغْتَرَفَ غُرْفَةً بِيَدِهِ [سورة البقرة:249] فكانت النتيجة أن الأكثرين شربوا، ثم بعد ذلك لما حصلت المواجهة قال كثير من هؤلاء: لا طَاقَةَ لَنَا الْيَوْمَ بِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ فمن الذي بقي في النهاية؟ هم الفئة القلة القليلة من هذا العدد الكبير، بقي مجموعة، ورد أنهم على عدد أهل بدر، ثلاثمائة وأربعة عشر رجلاً، وهؤلاء هم الذين حصل على أيديهم النصر.

فيُؤخذ من هذا -أيها الأحبة- أن المرء ينبغي ألا يدخل ولا يلج في أمر، ولا يطلب شيئًا، إلا وقد تهيأ له، وعرف قدرته عليه، وأنه جاد في مطلبه، وأنه قادر على النهوض بذلك، وتحمل الأعباء والتبعات، لا بد من هذا، أما أن يكون ممن يتساقط في أول عقبة، أو يصطنع العقبات لأجل أن يتراجع، فهذا أمر لا يليق، ويوجد من الأمثلة والشواهد في التاريخ القديم والحديث أشياء لا يخلو بعضها من ظَرَف، وهي تُعد من هذا الاتجاه، وهو التساقط.

من ذلك ما يُذكر في تاريخ الشريف في مكة إبان حكمه لها، ذُكر أن بقرة للشريف تجوب السوق، وكانت تأكل مما شاءت من الخضروات والفواكه والبقول وغيرها، وتُفسد على الناس سوقهم، فكثُر التذمر بين أهل السوق، وتطاولت عليهم الأيام، فبدأ هذا الصوت يرتفع، وبدأت النجوى بينهم، وبدأوا يتحدثون، وأن الشريف لا يعلم بذلك، ولو علم لم يرضَ به، فقوي عزمهم على أن يذهبوا إليه، وأن يُكلموه في شأن هذه البقرة، وأن يكفها عن أهل السوق، فجعلوا أجرأهم مقدَمهم -قدموه- وأخذ عليهم العهد والميثاق أن لا يتراجعوا فأكدوا له أنهم ماضون في هذا السبيل، فاجتمع أهل السوق، وجعل هذا يمشي متوجهًا إلى الشريف، وهؤلاء يمشون خلفه، وهو لا يلتفت، فاستأذن عليه، فأذن له، فدخل، وهؤلاء كان كل واحد يُحدث نفسه فيقول: هذا الفعل لا فائدة فيه، ثم يرجع الواحد بعد الواحد، بعد أن كانوا يُحلون ويُطالبون به، فصار هؤلاء يتراجعون، ويتتابعون على هذا التراجع، حتى لم يبق معه أحد، وهو لا يشعر؛ لأنه لم يلتفت، فدخل فلما وقف بين يديه، قال له: ما حاجتك؟ فقال: هؤلاء أهل السوق فلم يجد أحدًا، فعرف أن هؤلاء تكسرت إراداتهم قبل الوصول إليه، وأنهم تراجعوا، فلما شعر أنهم قد خذلوه، وأنهم نكثوا ما عاهدوه عليه، قال: هؤلاء أهل السوق يقولون: إن هذه البقرة -بقرة الشريف- التي في السوق بحاجة إلى ثور، يُسليها، فهي وحدها تتجول، أراد أن يفعل ذلك نكاية بهم، فتعجب الشريف، وأن هذا المطلب غير معقول، فسأله عن ذلك، فأخبره الخبر.

فهذا مثال لا يخلو من ظَرَف، لكنه يدل على حال كثير من الناس، فهم يُطالبون بشيء، ثم بعد ذلك يتراجعون، الواحد بعد الواحد، فهذا على كل حال فيه عبرة.

أرى أن نتوقف عند هذا؛ لأن الحديث عن الآية الأولى يتطلب بعض الوقت، ولم يبق من الوقت إلا اليسير، فلعل هذا يكفي، كمقدمة للحديث عن هذه الآيات. 

أَلَمْ تَرَ إِلَى الْمَلَإِ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى [سورة البقرة:246] والرؤية هنا المقصود بها العلمية؛ لأن النبي ﷺ لم يرهم بعينه، مثل هذا يُقصد به العلم، ألم تعلم أيها النبي عن خبر هؤلاء الملأ، والملأ: هم الأشراف من الناس، وبعضهم قال: قيل لهم ملأ باعتبار أنهم يملأون صدور المجالس، وبعضهم يقول: قيل لهم ملأ؛ لأنهم يتمالأون على الأمر، يعني: هم أهل الحل والعقد، وبعضهم يقول غير ذلك.

والمقصود: أن الملأ هم أشراف القوم، فهؤلاء الملأ من الوجهاء والكُبراء، ووجوه الناس من بني إسرائيل من ذرية يعقوب ؛ وذلك بعد زمن موسى ، ومعلوم أن بني إسرائيل كانت تسوسهم الأنبياء، والأنبياء فيهم كثير، وهذه الأمة لا نبي بعد النبي ﷺ، وإنما يسوسهم العلماء، ويبعث الله -تبارك وتعالى- على رأس كل مائة سنة من يُجدد لهذه الأمة دينها، فهؤلاء طلبوا من نبيهم أن يولي عليهم ملكًا، يجتمعون تحت إمرته، ويُقاتلون عدوهم، فكأن هذا النبي عرف من حالهم أنهم قد لا يتحققون بذلك، ولا يثبتون عليه، ولا يؤدون مقتضاه، فكان الأمر كما توقع هَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ أَلَّا تُقَاتِلُوا يعني: هل تكون الحال أو الأمر كما أتوقعه أنكم إذا فُرض عليكم القتال في سبيل الله أنكم لا تقاتلون، فقالوا مستنكرين ومتعجبين من ذلك: وَمَا لَنَا أَلَّا نُقَاتِلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَقَدْ أُخْرِجْنَا مِنْ دِيَارِنَا وَأَبْنَائِنَا.

والمقصود أُخرج بعضهم، فغلّبوا الأمر، ومثل هذا في كلام العرب لا إشكال فيه، أن يقول بعض القوم عبارة تُعبر عن حال القوم ممن وقع له المكروه، كأنه نالهم جميعًا وَقَدْ أُخْرِجْنَا مِنْ دِيَارِنَا وَأَبْنَائِنَا وذلك بالأسر، والإخراج من الأوطان، فلما فُرض عليهم القتال، واُختير لهم طالوت ملكًا، حصل منهم التراجع والمُعارضات، وضعُفوا عن النهوض بأعباء هذا المطلوب، إلا القليل منهم، فهؤلاء هم الذين ثبتوا في النهاية، وانتصروا، وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ من الناكثين من هؤلاء المتراجعين، وهو عليم بغيرهم من أنواع الظالمين.

فيُؤخذ من هذه الآية الكريمة: أَلَمْ تَرَ إِلَى الْمَلَإِ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى أن النبي ﷺ لا يعلم الغيب، فالله هو الذي يُطلعه على ما شاء من غيبه، فمثل هذا الخبر هو من جُملة الغيوب الماضية، وهذا من الغيب النسبي، يعني: الذي يطلع عليه بعض الخلق، ويخفى على غيرهم، والعرب لم يكن لهم عهد بالكتب والرسالات، والله قد أعلم نبيه ﷺ عن مثل هذا.

ويدل قوله: أَلَمْ تَرَ إِلَى الْمَلَإِ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ أن هذا الفعل قبيح، وأنه يستحق أن يُتعجب منه، وقد ذكرت في المرة الماضية أن ذلك من المعايب مما يقع فيه كثير من الناس، يطلبون أشياء فإذا بُذلت ووجدت تراجعوا، سواء كان من المذكور في هذه الآية وهو القتال في سبيل الله، أو كان في غيره من الأبواب، وأعمال البر وغيرها، فربما طالب الناس بمجالس في العلم ودروس في الفقه، ودورات علمية، وذهبوا هنا وهناك يطلبون ويُلحون وربما يشتكون أيضًا عند بعض أهل العلم قلة ذلك في ناحيتهم، فإذا حصلوا ووجد ذلك ربما كان أول من يتخلف عنها هو هذا الذي يُلح ويُطالب، وقد شوهد من هذا أشياء كثيرة، فهذا لا يليق أن يُطالب الإنسان بشيء ثم بعد ذلك يكون أول المُتراجعين عنه.

ويدل أيضًا قوله: أَلَمْ تَرَ إِلَى الْمَلَإِ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ أن هذا التصرف حصل من أشرافهم وكبرائهم، وهذا لا شك أنه أسوء وأقبح، فالعيب والذم والتقصير حينما يصدر عن الكبراء والأشراف، فهو أعظم مما يصدر عن الأراذل، ومن لا شأن له، كما قيل:

العيب في الجاهل المغمور مغمور وعيب ذي الشرف المذكور مذكورُ
كفوفةِ الظفر تخفي من حقارتها ومثلها في سواد العين مشهورُ[1]

ولذلك تجد الناس يُعظمون خطأ أهل الصلاح والخير، وإذا رأوا من أهل العلم شيئًا يعيبونه أو ينتقدونه عظُم ذلك في أعينهم، مع أنهم قد يغرقون في أوحال من المخالفات والانحرافات، ولكن كما قيل: يرى القذاة في عين أخيه، ولا يرى الجذع في عينه، وقد جرت عادة الناس على تضخيم وتهويل وتكبير أخطاء الكبراء والأشراف وأهل العلم، ونحو ذلك، فهم ينظرون إليهم بنظر آخر، لكن حينما يرون نفس الخطأ من آحاد الناس قد لا يلتفتون إلى ذلك، ولا يقفون عنده، والله المستعان.

فالشاهد أن هذا الفعل منهم كان في غاية القُبح؛ لأن هؤلاء هم أشراف الناس، والمُقدمون فيهم، وكان اللائق أن يكونوا قدوة لهم في التقدم والمُضي بهذا السبيل، لا أن يُطالبوا بذلك، ثم بعد ذلك يحصل منهم مثل هذا التراجع، ولا سيما أنهم في حال من البصر والعلم؛ وذلك بعد أكبر أنبيائهم  وهو موسى، فموسى  هو كبير أنبياء بني إسرائيل، وكتابهم الذي هو التوراة هو من أعظم الكتب المُنزلة، ومن أوسعها وأشملها، وليس ثمة أوسع وأشمل منه سوى هذا القرآن، إلا ما شاء الله، لكن لا شك أن القرآن وهذه الشريعة أوسع من شريعة بني إسرائيل، وأن القرآن أعظم من الكتاب الذي أُنزل على موسى .

فالشاهد أن هؤلاء كانوا من بعد موسى ، يعني عندهم الكتاب الأعظم، وكبير الأنبياء قد مضى، فهم على بينة من الأمر، ولم يكن ذلك عن غبش، أو جهالة، أو عدم وضوح رؤية، وإنما كان ذلك بعد تمام وكمال شريعة بني إسرائيل، ومع ذلك وقع منهم مثل هذا الإخلال، فهذا أيضًا أشد وأعظم.

ومثل هذه الآفات، ومثل هذه المطالبة من هؤلاء الذين طلبوا ملكًا يُقاتلون، ومثل هذا الذي أرادوه، ثم بعد ذلك حصل منهم هذا التلكؤ والتراجع يقع للأمم المُستضعفة الذليلة، التي فسدت أخلاقها، الأمة إذا وطئت وأعمل فيها العدو ما استطاع من القهر والعسف والظلم، وتطاول ذلك عليها، فإن ذلك مظنة لفساد الأخلاق، فيحصل الالتواء، ويحصل في أخلاق الناس من النفاق والتملق والتلون الشيء الكثير، ويكثر منهم النكث والنقض والاحتيال بأنواع الحيل، وهذا تجده في بلاد المسلمين التي بقي فيها الاستعمار مدة طويلة، تجد التلون الكثير، والنفاق الكثير، ونكث العهود، قلّ من يفي بعهد أو وعد أو ذمة.

فهؤلاء من بني إسرائيل كأنه قد وقع لهم شيء من ذلك، قد يُفكرون في أوقات في الدفاع عن أنفسهم، ولكن ربما تراجعوا إذا تحقق لهم شيء من مطالبهم التي طالبوها، وتلك الاشتراطات التي اشترطوها، وربما أعادوا ذلك إلى تلك الاشتراطات أنها لم تتحقق على الوجه المطلوب، فهؤلاء لما قال لهم: إِنَّ اللَّهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طَالُوتَ مَلِكًا قَالُوا أَنَّى يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنَا هم قالوا: ابعث لنا ملكًا، فلما عُين لهم الملك اعترضوا، فقالوا: أَنَّى يَكُونُ كيف يكون لهم الملك علينا وَنَحْنُ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ مِنْهُ وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِنَ الْمَالِ فصاروا يبحثون عن أعذار من أجل القعود والترك والتخلي عن هذا الأمر الذي طلبوه من نبيهم، فحصل منهم هذا الضعف والجُبن، وكأنهم أرادوا أن يلتمسوا المعاذير لأنفسهم، فهذه حالة تستحق التعجب منها أَلَمْ تَرَ إِلَى الْمَلَإِ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى إِذْ قَالُوا لِنَبِيٍّ لَهُمُ.

ويُؤخذ منه أيضًا: أن الناس إنما يرجعون لأهل الحل والعقد، فهؤلاء رجعوا إلى نبيهم، وهذا يدل أيضًا على أن مرتبة النبوة فوق مرتبة الملك، فهم طلبوا من نبي لهم أن يُعين لهم ملكًا يأتمرون بأمره، ويُقاتلون عدوهم معه.

ويُبيِّن أيضًا حاجة الناس إلى السلطة، وأنه لا بد لهم من اجتماع، وهذا الاجتماع لا يصح أن تكون حالهم فوضى، فلا بد لهم من سلطان يضبط أمرهم، ويجمع شتاتهم، ويحفظ بيضتهم، وتتحقق مصالحهم العامة والخاصة، ويكون ذلك سبيلاً لقوتهم، واجتماع كلمتهم، ووحدة صفهم، فيهابهم عدوهم، ولا يطمع فيهم طامع، أما إذا بقوا مُتشرذمين ومُتفرقين، وليس لهم سلطان، وليس لهم جامع يجمعهم، فإن ذلك يُغري عدوهم بهم، وتبقى مصالحهم مضيعة، وتبقى حالهم حال من يكون في غاب يأكل القوي فيها الضعيف، ويكون المنطق السائد هو منطق القوة، والقوي هو الذي يُحقق ما يُريد، والضعفاء يضيعون، وتضيع مصالحهم، وربما ضاعت ضروراتهم الخمس، ويضيع الدين فلا يستطيع الناس أن يُقيموا الُجمع والجماعات، ولا يأمنون، ولا يستطيعون الذهاب إلى الحج، واقرأوا في التاريخ، في السنين التي يُقال: لم يحج من العراق أحد، ولم يحج من ناحية كذا أحد؛ لأن تلك النواحي كانت في تلك الأيام فوضى، أو لأن قُطاع الطُرق قد كثروا، وكما يُقال: كثُر العيارون، فيسلبون الناس حتى الثياب، فيتركونهم بلا ثياب، هذا إذا سلمت نفوسهم من القتل.

ويُؤخذ من هذه الآية أيضًا: أن الناس ربما قد لا تتوافق آراءهم على شيء واحد من أمورهم ومصالحهم، ونحو ذلك، فأنظارهم تتفاوت، فهؤلاء حينما طلبوا من نبيهم أن يبعث لهم ملكًا يُقاتلون معه في سبيل الله كان اللائق أنهم يقبلون بهذا الاختيار، ويُسلمون له، لكن لم يحصل هذا الاتفاق، وحصلت مثل هذه المعارضات، واللائق أن يُرجع في ذلك إلى من له الشأن، وأما أن يُريد كل أحد أن يفرض رأيه ونظره، فلا يمكن أن يجتمع الناس على ذلك، فما يُرضي هذا لا يُرضي الآخر، ثم بعد ذلك تفوت المصالح.

ومما يُؤخذ من هذه الآية: أن المُرجح في اختيار الإمام هم أهل الحل والعقد، وليس الغوغاء، وعامة الناس، ولو تُرك الأمر لعامة الناس لرأيت الفوضى بأسوأ أحوالها وصورها.

ويؤخذ أيضًا من قوله: ابْعَثْ لَنَا مَلِكًا نُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أن الغاية شريفة، وهي هنا القتال في سبيل الله، فهذا أدعى إلى تحقيق مأمولهم ومطلوبهم، فإذا أراد الإنسان شيئًا، فالجدير به أن يذكر الباعث على تحقيق هذا المطلوب والمقصود الشريف، فموسى لما دعا قَالَ رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي ۝ وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي ۝ وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسَانِي ۝ يَفْقَهُوا قَوْلِي ۝ وَاجْعَلْ لِي وَزِيرًا مِنْ أَهْلِي ۝ هَارُونَ أَخِي ۝ اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي ۝ وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي ۝ كَيْ نُسَبِّحَكَ كَثِيرًا ۝ وَنَذْكُرَكَ كَثِيرًا [سورة طه:25-34] فكل هذه المطالب لهذه الغاية الشريفة، فالعبد إذا سأل ربه الذرية الطيبة الصالحة، قال: يا رب من أجل أن يوحدوك ويعبدوك، ونحو ذلك، وإذا سأل مالاً أو نحو ذلك قال: أتقوى به على طاعتك، وإذا سأل صحة، أو عافية، قال: أتقوى بها على طاعتك وعبادتك وذكرك وشُكرك، تكون عونًا على الطاعة، ولا يكون مطلوبه هذه الأمور من أجل أن يستمتع، ونحو ذلك.

ويؤخذ من قوله: وَمَا لَنَا أَلَّا نُقَاتِلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَقَدْ أُخْرِجْنَا مِنْ دِيَارِنَا وَأَبْنَائِنَا أن الإنسان قد يظن أنه يتمكن من الصبر، ولكنه إذا حل الأمر، وحقت الحقائق، انكشفت الحال عن صبر ضعيف، سرعان ما يتلاشى؛ ولهذا بعض الناس قد يقول: لو أُصبتُ بالمرض الذي أُصيب به فلان لكنت صابرًا محتبسًا، ولو أصابه أدنى من ذلك لانهار وانكسر، وربما يقول: لو اُبتليت بما اُبتلي به فلان لم أجزع، ثم بعد ذلك يُبتلى بما هو دون ذلك، فيحصل له من الجزع ما الله به عليم؛ ولهذا يقول الله -تبارك وتعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ [سورة آل عمران:200].

وقد يظن الإنسان أنه صابر، ثم بعد ذلك تنكشف الحال أنه ليس كذلك؛ ولهذا لا يدعو الإنسان بالابتلاء، ولا يتمنى لقاء العدو أيها الناس، لا تتمنوا لقاء العدو، وسلوا الله العافية، فإذا لقيتموهم فاصبروا [2] فلا يتمنى الإنسان المكروه، وإنما يسأل ربه العافية؛ لأنه قد ينقطع صبره، فلا يصبر، فدائمًا يسأل ربه العافية، وإذا اُبتلي صبر.

ويؤخذ أيضًا من هذه الآية: قَالَ هَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ أَلَّا تُقَاتِلُوا [سورة البقرة:246] فجاء بهذا التركيب: هَلْ عَسَيْتُمْ وعسى هذه للترجي، ودخل عليها الاستفهام، فهذا واضح أنه كان يظن فيهم عدم الثبات، فجاءت هذه الصيغة في الاستفهام، هل قاربتم أن لا تُقاتلوا؟ فأدخل الاستفهام على عسى، فأنكروا ذلك وَمَا لَنَا أَلَّا نُقَاتِلَ والمقصود من ذلك هو التحذير مما وقعوا فيه، فحينما ذكر الله هذه القصة ليس المقصود بها التسلية، وإنما ليُحذرنا، كي لا يُطالب الإنسان بشيء ثم بعد ذلك يتراجع عنه، وعليه أن يثبت ويصبر.

وفيه تربية للأمة ألا تُطالب بالحرب والشدة والقتال والابتلاء ونحو ذلك، لكن إذا ابتلوا عليهم أن يصبروا، ويصدقوا والله -تبارك وتعالى- يقول: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لا تَفْعَلُونَ ۝ كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لا تَفْعَلُونَ [سورة الصف:2، 3] وذلك أنهم -كما سبق- طلبوا أن يعرفوا أحب الأعمال إلى الله -تبارك وتعالى، فلما ذُكر لهم القتال تراجعوا وضعفوا وتثاقلوا، فمثل هذا لا يليق.

ومثل هذا التولي والتراجع واضطراب النيات، وفتور العزائم يقع للأمم المُنعمة، كما يقول ابن عطية -رحمه الله[3] فالأمم المُنعمة يميلون إلى الدعة واللذات والراحة، وربما استحوذ عدوهم على ما في أيديهم، وقهرهم، وأذلهم، أو تربص بهم الدوائر، ويُعد العدة، وهم في حال من الغفلة الكبيرة المُطبقة عليهم، والله المستعان. 

 

يقول الله -تبارك وتعالى- في ذكر خبر الملأ من بني إسرائيل الذين طلبوا من نبي لهم أن يبعث لهم ملكًا، يقاتلون معه في سبيل الله، وأنه كان يظن فيهم أن يتراجعوا؛ لما سألهم عن ذلك، أبدوا له الإصرار والثبات، وما يوجب هذا الانبعاث منهم، ثم قال لهم نبيهم كما قال الله -تبارك وتعالى: وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ اللَّهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طَالُوتَ مَلِكًا قَالُوا أَنَّى يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنَا وَنَحْنُ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ مِنْهُ وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِنَ الْمَالِ قَالَ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاهُ عَلَيْكُمْ وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ وَاللَّهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ [سورة البقرة:247].

وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ اللَّهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طَالُوتَ مَلِكًا أي: أرسل لكم طالوت ملكًا، بناء على طلبكم أن نبعث لكم ملكًا تقاتلون معه في سبيل الله، فتحقق ذلك كما طلبتم، فقال هؤلاء الملأ معترضين على هذا الاختيار: كيف يكون ملكًا علينا، وهو ليس بأهل لذلك؟ باعتبار المعايير والمقاييس التي يقيسون الناس بها وَنَحْنُ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ مِنْهُ وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِنَ الْمَالِ.

وكما ذكرنا سابقًا أن من المُفسرين قال -ومبنى ذلك على أخبار بني إسرائيل، ولا يعول عليها: إنه لم يكن من سِبط الملوك، وكان الملك في بني إسرائيل في سبط قبيلة من قبائلهم، وكانت قبائل بني إسرائيل -كما هو معلوم- ترجع إلى أولاد يعقوب ، فهذا لم يكن من أبناء الملوك، فتعجبوا من ذلك، واستنكروا، واستنكفوا، فقال لهم نبيهم: إن الله اختاره عليكم، وهو أعلم بأمور عباده، وزاده سعة في العلم، وقوة في الجسم، والله له الملك كله، يؤتيه من يشاء، وهو واسع الفضل والعطاء، عليم بأحوال الخلق، وما يصلحهم، ولا يخفى عليه شيء فما عليكم إلا التسليم.

فقال لهم بعد أن طلبوا منه أن يبعث لهم ملكًا: قَالَ هَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ أَلَّا تُقَاتِلُوا فلما ذكروا له ما يدل على ثباتهم، قال لهم بعد ذلك بتفصيل بعد الإجمال، ففي قوله: وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ تفصيل لما سبق من الطلب والسؤال الذي وجه إليهم من قِبل نبيهم، بيّن ما كانوا عليه من التلكؤ والتراجع، فكرر الفعل وَقَالَ فهذا ليس من جملة كلامه الأول، وإنما هذا حديث آخر جاء بعد ذلك، ففي البداية قال لهم: هَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ أَلَّا تُقَاتِلُوا فكان الحديث عن هذه القضية: هل تثبتون على هذا المبدأ؟

وهنا في إخبارهم عما تحقق لهم من مطلوبهم، من بعث الملك فكُرر الفعل ثانية، وجاء التأكيد للخبر: إِنَّ اللَّهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طَالُوتَ مَلِكًا ودخلت (قد) على الفعل الماضي، فذلك يدل على التحقيق، ومن شأن الأخبار التي يحصل فيها التردد، أو الشك عند السامع: أن تؤكد بالمؤكدات، فجاء التأكيد هنا بـ(إن) الذي هو بمنزلة إعادة الجملة مرتين إِنَّ اللهَ لأنهم كانوا متشككين ومترددين، ولم يُجد ذلك معهم أيضًا، فأبدوا المعارضة أَنَّى يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنَا وكيف يكون له الملك علينا؟

فقال لهم: إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاهُ عَلَيْكُمْ وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ وَاللَّهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ فالأمر لما يكون محل معارضة من قِبل السامعين، فإنه يحتاج إلى تأكيد، ويحتاج إلى ما يحصل به الإقناع، فذكر اصطفاء الله -تبارك وتعالى- له، إِنَّ اللَّهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طَالُوتَ مَلِكًا فهذا اختيار من الله واصطفاء، كما قال لهم بعد ذلك: إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاهُ عَلَيْكُمْ فذكر ما يؤهله لذلك من المقومات وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ.

فذكر لهم اختيار الله أولاً، وهذا ينبغي أن يُقابل بالتسليم؛ لأن هذا ليس باجتهاد، وإنما اختاره صاحب الملك، وهو أيضًا العليم بخلقه، ومن يصلح لهذا المطلوب، ثم أيضًا لم يُضف ذلك إلى نفسه، فلم يقل: قد اخترت لكم طالوت، مع أنهم قالوا: ابعث لنا ملكًا نقاتل في سبيل الله، وإنما قال: إن الله، فأسند ذلك إلى ربه -تبارك وتعالى، فدلّ على أنه وحي من الله، ولم يكن باجتهاد من هذا النبي.

ثم في هذه الجُمل التي خاطبهم بها، والتي ذكر فيها: الاصطفاء الإلهي، ثم بقية المؤهلات، وهي البسطة في العلم والجسم، والبسطة في الجسم تعني: طول القامة، والقوة؛ وبيّن أيضًا أن الله -تبارك وتعالى- يؤتي ملكه من يشاء، فلا يحق لأحد أن يعترض عليه، وهذا أيضًا يرجع إلى حكمته -جل جلاله وتقدست أسماؤه، وهو واسع عليم، فضله واسع، يتفضل به على من يشاء، وهو عليم بأحوال هؤلاء الخلق، وما يصلح لهم.

فهم اعترضوا فقالوا: أَنَّى يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنَا وَنَحْنُ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ مِنْهُ بناء على ماذا؟ وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِنَ الْمَالِ فجاء الرد: بأن ذلك من قبيل الاصطفاء من الله -تبارك وتعالى، الاصطفاء المبني على الحكمة، وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ مَا كَانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ [سورة القصص:68] فهذا اختيار بعد الخلق، فهو يخلق ثم يختار مما خلق، فيختار للنبوة، ويختار للملك، ويختار لطاعته وعبادته، ويختار لولايته، والقُرب منه، إلى غير ذلك من أنواع الاختيار.

ثم إن هذه المعارضات أَنَّى يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنَا وَنَحْنُ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ مِنْهُ وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِنَ الْمَالِ إلى آخره، قد قادت إلى مزيد من البيان والإيضاح، فالحق حينما يُعارض يزيده ذلك وضوحًا، فمُعارضات هؤلاء زادت الأمر وضوحًا، فذكر ما له من المزايا والخصائص، وذكر ما يتصل باختيار الله  وفضله وعطاءه وجوده واصطفائه، فلما اعترضوا جاءت هذه الأجوبة.

ثم تأمّل في هذا الجواب الذي أجابهم به نبيهم: أَنَّى يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنَا وَنَحْنُ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ مِنْهُ فقال لهم: إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاهُ عَلَيْكُمْ وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ فهذه خصائص من شأنها أن يُسلم الناس قيادهم لمن اتصف بها: القوة العلمية، والقوة البدنية العملية، كما قال الله -تبارك وتعالى: وَاذْكُرْ عِبَادَنَا إبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ أُوْلِي الأَيْدِي وَالأَبْصَارِ [سورة ص:45] فجمع لهم بين القوتين أُوْلِي الأَيْدِي يعني: القوة في طاعة الله وعبادته وجهاد أعدائه، وتبليغ الدعوة، فهم أصحاب جلد وقوة في النهوض بأمر الله -تبارك وتعالى، وهم أيضًا أصحاب بصائر، فعندهم من العلم ما يجتمع مع هذه القوة، فتحصل القوتان، القوة العلمية، والقوة العملية، وهذا هو الكمال، فقد يوجد عند الإنسان القوة في البدن، ونحو ذلك، لكن ليس عنده بقية الصفات.

والله -تبارك وتعالى- ذم المنافقين، فقال: وَإِذَا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسَامُهُمْ وَإِنْ يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُسَنَّدَةٌ [سورة المنافقون:4] فهم يتميزون بأجسام وقامات، ولكن للأسف أشباح بلا أرواح، كأنهم خُشب، والخُشب والألواح يُضرب بها المثل في البلادة، والغباء، ونحو ذلك، وأيضًا مُسندة، يعني: لا يقوم عليها سقف، أو نحو ذلك، وإنما هي عالة وعِبء على غيرها، فما فائدة هذه الأجسام؟ لكن إذا وجد هذا وهذا، فهو الكمال، فالعلم والرأي مع القوة البدنية والعملية، فهذا الذي يحصل به كمال الولايات، وإذا فُقد شيء من ذلك، كان نقصًا في كماله؛ ولهذا قالت تلك المرأة التي سقى لها ولأختها موسى : يَا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الأَمِينُ [سورة القصص:26] القوي في البدن، والقوي في الأمانة، شمل الجانب المادي، والجانب المعنوي، فهو الأمين الذي يحفظ المصالح، ويحوطها ويرعاها، وما أشبه ذلك، فهذا من الكمالات، فهو بهذه المثابة: أكمل علمًا وقوة، وهذا يدل على ما يُطلب في الولايات من العلم، وهو في كل شيء بحسبه، يعني بحسب الولاية والقوة، فيكون ذلك كاملاً، فلا يُنظر إلى الصلاح فقط والتقوى؛ ولهذا قال شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله: بأنه إذا وجد من يكون فيه قوة للمسلمين، وجلد، وحُسن تدبير، سواء كان ذلك في إمارة الجيوش، أو في الولايات، وآخر فيه صلاح وتقوى، لكنه ضعيف، والقوي فيه فسق، فسقه عليه، وبلاؤه وقوته للمسلمين[4] لكن هذا الإنسان الصالح التقي العابد إن لم يكن فيه قوة، فذلك الضعف يعود إلى الأمة، فصلاحه له، لكنه ضعيف سيفشل؛ ولهذا الناس إذا أرادوا أن يُرشحوا مثلاً فيمن يُطلب منهم الترشيح فيه، لا يبحثون عن التقي، أو الصالح من غير نظر إلى الكمالات الأخرى، هل يُحسن هذا الجانب أو لا؟ ينظر إلى مؤهلاته وخبراته، فكون الإنسان من أهل الخير والصلاح لا يكفي، بل لا بد أن يكون له بصر في هذا الباب، ومعرفة وعلم وقوة علمية وعملية، فبذلك تتحقق المصالح المرجوة.

وهذا السؤال الذي طلبوا: ابْعَثْ لَنَا مَلِكًا نُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ صار بالنسبة لهم من الأمور المُستثقلة؛ ولهذا قال الله : يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ وَإِنْ تَسْأَلُوا عَنْهَا حِينَ يُنَزَّلُ الْقُرْآنُ تُبْدَ لَكُمْ [سورة المائدة:101] وهذا في وقت التنزيل، فيحرم السؤال عن أشياء لم تُحرم فتُحرم بسببه، أو نحو ذلك، وبنو إسرائيل لما أمروا بذبح بقرة: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً [سورة البقرة:67] شددوا، فسألوا عن سنها، ثم سألوا عن لونها، ثم سألوا عن عملها، هل هي عاملة مُذللة أو لا؟ فجاء الجواب بما ضيق عليهم، فذكر أوصاف لهذه البقرة، حتى تعبوا في البحث عنها، فبعض الأسئلة ربما تورث عواقب لا يحمدها السائل، أو توقعه في حرج، ونحو ذلك، فليس معنى ذلك: ألا يتفقه في الدين، لكن المقصود الأسئلة المُتكلفة، أو بعض الأسئلة في وقت التنزيل.

وفي قوله: وَاللَّهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَنْ يَشَاءُ فالملك لله  وحده، وما بأيدي الناس من الملك إنما هو ملك لله قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ [سورة آل عمران:26] وهكذا الأملاك التي بأيدي الناس فما يملكه الإنسان فالواقع أنه مُلك لله ، فينبغي أن يستعمله في مرضاة الله، وأن يقوم عليه بما يُرضي ربه -تبارك وتعالى.

وهكذا أيضًا يُؤخذ من هذه الآية: أن الملك قد يأتي لمن لا يترقبه، وهكذا سائر الولايات فقد يصير الملك إلى إنسان لم يتوقعه، فهذا إنما يكون باختيار الله ، فهو الذي يهب الملك لمن يشاء، وهكذا قد تصير إليه ولاية من الولايات لم يترقبها، بينما آخر قد يتهالك، ويبذل دينه، وكل ما استطاع من أجل أن يُحصل شيئًا من الولايات، ويؤتى بآخر لم يسع لذلك، ولم يطلبه، ويوضع في هذا المكان؛ وذلك الذي ما ترك شيئًا يتوصل به إلى هذا المطلوب إلا فعله، ومع ذلك لم يحصل له مُراده.

وقدم البسطة في العلم على البسطة في الجسم، وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ [سورة البقرة: 247] باعتبار أن هذه الكمالات والفضائل متفاوتة، فلا شك أن البسطة في العلم أهم من البسطة في الجسم، وكما سبق أنه إذا كانت البسطة في الجسم بلا علم ولا حُسن تدبير، فيكون مثل هذا في غاية الضعف؛ ولذلك انظر إلى البهائم من ذوات القامات المُمتدة لما لم تكن متصفة لا بالعلم ولا بالعقل، كان ذلك غير مُغنٍ عنها، فالبسطة في العلم هي الأساس، فإذا حصل معها البسطة في الجسم فهذا كمال، وهذا كله من فضل الله -تبارك وتعالى- على عباده.

ويُؤخذ من زيادة البسطة في العلم والجسم: أن مثل هذه الأمور لها أثر، حتى البسطة في الجسم، فهو يقدر بذلك على تدبير أمور مملكته، وكذلك أيضًا الحرب، وقيادة الجيوش، ونحو ذلك، هذا لأنهم يريدون القتال في سبيل الله، وكذلك أيضًا ذلك أعظم هيبة في نفوس الأعداء، فالهيئة والصورة هذا أمر يُراعى ويُلاحظ ولا يُغفل عنه، يعني: أبو بكر وعمر -رضي الله عنهما- ما كانوا يُعنون بشيء من المظاهر، ينام في المسجد وتحت شجرة، الجيل الذي كان فيه يقيس الأمور بمقاييس شرعية، فهم لا يغترون بالمظاهر، ولا يعبأون بها، وعلى طريقة العرب الأولين، كانوا ينظرون إلى الحقائق، وليس إلى الأشكال والصور، وهذا هو الصحيح. 

خذ بنصل السيف واترك غمده واعتبر فضل الفتى دون الحلل[5] 

فليست العبرة بالغِمد، وليست بالثياب، وإنما ما تحت الثياب، لكن عامة الخلق ليسوا كذلك، فقد تغيرت أحوال الناس؛ ولهذا فإن من المهابة، وإنفاذ أمر السلطان، وعدم جراءة الناس عليه: أن يكون من المظاهر ما يورث الهيبة في نفوس الناس، في هيئته هو، وكذلك ما يحتف به، بحيث إذا جاء هؤلاء إلى هذا السلطان أو إلى القاضي، أو نحو ذلك، في موضعه ومحله ومكتبه، أو نحو هذا، يكون له هيبة، لينفذ حكمه، لكن لو كان القاضي يجلس تحت شجرة مثلاً، أو عند عتبة بابه، أو نحو ذلك لاجترأ الناس عليه، أو كان في مكتب متواضع جدًا، فقد يستطيلون عليه، ولا يعبأون به، ويردون عليه، ونحو ذلك، كما قال الحافظ ابن القيم -رحمه الله:

والناس أكثرهم فأهل مظاهر تبدو لهم ليسوا بأهل معانِ
فهم القشور وبالقشور قوامهم واللُب حظ خُلاصة الإنسانِ[6]

فكثير من الخلق لا ينظر إلا إلى ساعتك التي تلبسها، وثيابك، ومركبتك، والمكتب الذي أنت فيه، ونحو ذلك، فهذه الولايات التي يُراد لها النفاد، ربما تكون المصلحة أن يكون ذلك في حال بحيث إذا دخل الداخل يبدأ النبض عنده يرتفع، على أساس يكون لهذه القرارات والأحكام نفاذ، وإذا كان الناس في مثل زمن أبي بكر وعمر -رضي الله عنهما- فيحكم بينهم في المسجد، فهذه أمور تُراعى؛ ولذلك عمر بن عبد العزيز -رحمه الله- لما ولي الخلافة أراد أن ينزع ما في جامع دمشق الذي بناه الأمويون، من الفُسيفساء والأحجار الكريمة، كونها من المُخالفات والبدع، وإضاعة المال، وفيه نهي عن زخرفة المساجد، فقيل لعمر بن عبد العزيز -رحمه الله: إن المسلمين بذلوا فيها أموال طائلة، وقِدم بها تجارهم من بلاد الروم، يعني من مكان بعيد، وهذه الزينات والأحجار الكريمة، فنزعها يعني إضاعة وإتلاف، ونحو ذلك، فأمر عمر بسترها بالسُتور على أساس يُغطي هذه الزخارف والأحجار الكريمة، فبينما هم كذلك جاء عظيم من أهل ملتهم، يعني: رجل من أهل الديانة النصرانية، فدخل الجامع، فلما نظر بهره ذلك، فقال: إن هذا ينبغي أن يكون لأمة عظيمة، فلما أخبروا عمر بما سمعوا منه، قال: ألا أرى مسجد دمشق غيظًا على الكفار، فترك ما كان هم به من أمره[7].

ولهذا يذكر أهل العلم فيما يتعلق بالمركب، واللباس، ونحو ذلك: أنها إن كان لإغاظة أعداء الله، فهذا أمر لا إشكال فيه، أما إن كان للفخر والخُيلاء والإسراف والتبذير، فهذا لا يجوز، فقد تكون بعض الأفعال والتصرفات ونحو ذلك من قبيل السياسة الشرعية، والله تعالى أعلم.

وَاللَّهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ واسع في عطائه وجوده وملكه وغِناه، وعليم يعلم أحوال الخلق، فمن لا يصل إليه شيء من ذلك: إما من ولاية، أو مال، أو نحو ذلك، لا يظن أنه نُسي، أو أن الخزائن قلت، لا، فالله واسع، ويعلم أحوال الخلق بالتفصيل، ولا يفوته أحد، ولا ينسى أحدًا، لكن لعلم وحكمة أعطى هذا، ولم يُعط هذا، فينبغي على العبد أن يرضى بما أعطاه الله

  1. البيتان لطاهر بن الحسين المخزومي في الدر الفريد وبيت القصيد (4/ 136) وزهر الأكم في الأمثال والحكم (3/ 104).
  2. أخرجه البخاري في كتاب الجهاد والسير، باب كان النبي ﷺ إذا لم يقاتل أول النهار أخر القتال حتى تزول الشمس برقم: (2966) ومسلم كتاب الجهاد والسير، باب كراهة تمني لقاء العدو، والأمر بالصبر عند اللقاء برقم: (1742).
  3. تفسير ابن عطية = المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز (1/ 331).
  4. الحسبة في الإسلام، أو وظيفة الحكومة الإسلامية (ص:12) والفتاوى الكبرى لابن تيمية (5/ 556).
  5. البيت لابن الوردي من لاميته التي مطلعها:
    اعتزل ذكر الأغاني والغزل *** وقل الفصل وجانب من هزل
    انظر: نفح الأزهار في منتخبات الأشعار (ص:54).
  6. القصيدة النونية - ابن القيم (ص: 15).
  7. تاريخ دمشق لابن عساكر (2/ 276).