روى السدي في تفسيره عن ابن عباس وابن مسعود وعن ناسٍ من الصحابة - أجمعين -: لما ضرب الله هذين المثلين للمنافقين يعني قوله تعالى: مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَاراً [سورة البقرة:17]، وقوله: أَوْ كَصَيِّبٍ مِّنَ السَّمَاء... [سورة البقرة:19] الآيات الثلاث، قال المنافقون: الله أعلى وأجل من أن يضرب هذه الأمثال، فأنزل الله هذه الآية إلى قوله تعالى: أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ [سورة البقرة:27].
وقال سعيد عن قتادة: أي إن الله لا يستحيي من الحق أن يذكر شيئاً مما قل أو أكثر، وإن الله حين ذكر في كتابه الذباب والعنكبوت قال أهل الضلالة: ما أراد الله من ذكر هذا فأنزل الله: إِنَّ اللَّهَ لاَ يَسْتَحْيِي أَن يَضْرِبَ مَثَلاً مَّا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا [سورة البقرة:26].
وقال أبو جعفر الرازي: عن الربيع بن أنس في هذه الآية قال: هذا مثل ضربه الله للدنيا أن البعوضة تحيا ما جاعت، فإذا سمنت ماتت، وكذلك مثل هؤلاء الذين ضرب لهم هذا المثل في القرآن إذا امتلؤوا من الدنيا ريَّاً أخذهم الله عند ذلك، ثم تلا: فَلَمَّا نَسُواْ مَا ذُكِّرُواْ بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ [سورة الأنعام:44].
ومعنى الآية أنه تعالى أخبر أنه لا يستحي أي: لا يستنكف، وقيل: لا يخشى أن يضرب مثلاً ما، أي أيِّ مثَلٍ كان بأي شيءٍ كان صغيراً كان أو كبيراً.فهذه الآية هي جواب عن قيل من قال من أولئك: إن الله أجلّ شأناً من أن يضرب مثلاً في الذباب وما إلى ذلك، فليس هذا المثل مثلاً للدنيا والله تعالى أعلم، وأما الدنيا فقد قال فيها النبي ﷺ: لو كانت الدنيا تعدل عند الله جناح بعوضة ما سقى كافراً منها شربة ماء[1].
وقوله: إِنَّ اللَّهَ لاَ يَسْتَحْيِي أَن يَضْرِبَ مَثَلاً مَّا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا [سورة البقرة:26] فكونه لا يستحيي هذا نفي للحياء في مثل هذا المقام الذي يكون فيه بيان الحق بأجلى صوره بضرب الأمثال، وإلا فإن صفة الحياء ثابتة لله : إن الله حيي ستير[2].
وليس معنى لا يستحيي يعني لا يخشى، وإنما هو نفي للحياء الذي هو من أوصاف الكمال ثبوتاً، وكونه يوجد في بعض المقامات التي تمنع مما ينبغي أن يكون ليس ذلك من الكمال، ولهذا نفى الله ذلك في مثل هذا المقام.
قوله: إِنَّ اللَّهَ لاَ يَسْتَحْيِي أَن يَضْرِبَ مَثَلاً مَّا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا البعوضة هي تفسير هنا منصوبة إما على التمييز، أو على أنها صفة نعت لما قبلها.
قوله: أَن يَضْرِبَ مَثَلاً مَّا: فقد تكون تفسيراً لـ(ما) الدالة على الاستفهام، وقد تكون عائدةً إلى المثل على خلافٍ بين أهل العلم.
وقوله تعالى: فَمَا فَوْقَهَا أي ما هو أكبر منها؛ لأنه ليس شيء أحقر، ولا أصغر؛ من البعوضة.
روى مسلم عن عائشة - ا وأرضاها - أن رسول الله ﷺ قال: ما من مسلمٍ يشاك شوكةً فما فوقها إلا كتب له بها درجة، ومحيت عنه بها خطيئة[3].ابن كثير - رحمه الله - فسّر هذه الجملة بالمشهور من أحد المعنيين في تفسيرها، لأن قوله: فَمَا فَوْقَهَا يحتمل معنيين، المعنى الأول: يعني فما هو أعظم وأكبر من البعوضة، والمعنى الثاني الذي تحتمله هو أن ما فوقها أي ما هو أدق وأصغر منها، فتقول مثلاً: هذه الإبرة فوق هذه الإبرة، يعني أدق منها، أو تقول: هذا السنّ فوق هذا السن يعني أنه دونه وأصغر منه.
فتطلق هذه اللفظة بالاشتراك على معنيين اثنين متقابلين تمام المقابلة، الأول ما هو أكبر، والثاني ما هو أصغر.
ولكلٍ قائل في هذه الآية، فبعض أهل العلم يقولون: فَمَا فَوْقَهَا: يعني فما دونها، وأحقر منها، والمعنى الثاني: فَمَا فَوْقَهَا: يعني ما هو أكبر من البعوضة، وهذا هو المعنى المتبادر، وهو المشهور، وهو الذي اقتصر عليه الحافظ ابن كثير، وهو الذي عليه أكثر أهل العلم من السلف فمن بعدهم.
واستدل عليه أو فسره هنا بقول النبي ﷺ: يشاك شوكةً فما فوقها وهذا من قبيل تفسير الشيء بنظيره، فكما يفسر القرآن بالقرآن، ويفسر بالسنة، كذلك قد يفسر الشيء بنظيره مما هو ظاهر في مقامٍ آخر، وتفسر لفظة بلفظة، وتفسر جملة بجملة، وإن كانت كل جملة من هذه الجمل قد وردت بتقرير معنىً آخر لا تعلق له بالمعنى الأول.
والمقصود بقوله في الحديث: شوكةً فما فوقها أي ما هو أكبر منها لأن الشوكة في العادة تقال لأدنى الأشياء التي تصيب الإنسان، كما قال خبيب : "والله ما أحب أن أكون في أهلي آمن ورسول الله ﷺ يشاك بشوكة"[4].
والمعنى أنه ذكر أدنى ما يقال، وإن كان العقل يتخيل ما هو أدنى من الشوكة؛ لكن عقول المخاطبين تفهم المراد من مثل هذا الخطاب.
فلا يأتي متعنت فيقول: لا مانع أن يكون المراد يشاك بشوكة فما فوقها أي أدنى من الشوكة مما يصيب الإنسان من الآفات والعوارض التي تعرض له؛ لأن هذه ليست طريقة العرب في الخطاب والفهم، وإنما هذا من العجمة في الفهم.
الحاصل أن هذا مثال على تفسير الشيء بنظيره مما يقرب معناه من جهة اتحاد السياق، والتركيب، وإن كان المعنى مغايراً كل المغايرة بين المفسَّر، والمفسَّر به.
فهو أتى بهذا الحديث ليوضح هذه القضية، فالشيء قد يكون خفياً؛ لأن اللفظ يحتمل معنيين في بعض المواضع بسبب التركيب، ويكون في موضع آخر وإن كان لا يمتُّ له بصلة بالمعنى لكنه واضح.
فأخبر أنه لا يستصغر شيئاً يضرب به مثلاً ولو كان في الحقارة والصغر كالبعوضة، كما لا يستنكف عن خلقها، كذلك لا يستنكف من ضرب المثل بها، كما ضرب المثل بالذباب، والعنكبوت في قوله: يَا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ لَن يَخْلُقُوا ذُبَابًا وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ وَإِن يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئًا لَّا يَسْتَنقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ [سورة الحج:73]، وقال: مَثَلُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِن دُونِ اللَّهِ أَوْلِيَاء كَمَثَلِ الْعَنكَبُوتِ اتَّخَذَتْ بَيْتًا وَإِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنكَبُوتِ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ [سورة العنكبوت:41]، وقال تعالى: أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللّهُ مَثَلاً كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاء تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا وَيَضْرِبُ اللّهُ الأَمْثَالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ وَمَثلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ اجْتُثَّتْ مِن فَوْقِ الأَرْضِ مَا لَهَا مِن قَرَارٍ يُثَبِّتُ اللّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللّهُ مَا يَشَاء [سورة إبراهيم:24-27]، وقال تعالى: ضَرَبَ اللّهُ مَثَلاً عَبْدًا مَّمْلُوكًا لاَّ يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ.. [سورة النحل:75] الآية، ثم قال: وَضَرَبَ اللّهُ مَثَلاً رَّجُلَيْنِ أَحَدُهُمَا أَبْكَمُ لاَ يَقْدِرُ عَلَىَ شَيْءٍ وَهُوَ كَلٌّ عَلَى مَوْلاهُ أَيْنَمَا يُوَجِّههُّ لاَ يَأْتِ بِخَيْرٍ هَلْ يَسْتَوِي هُوَ وَمَن يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ [سورة النحل:76] الآية، كما قال: ضَرَبَ لَكُم مَّثَلًا مِنْ أَنفُسِكُمْ هَل لَّكُم مِّن مَّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُم مِّن شُرَكَاء فِي مَا رَزَقْنَاكُمْ.. [سورة الروم:28] الآية.
وقال مجاهد في قوله تعالى: إِنَّ اللَّهَ لاَ يَسْتَحْيِي أَن يَضْرِبَ مَثَلاً مَّا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا [سورة البقرة:26]: الأمثال صغيرها وكبيرها يؤمن بها المؤمنون، ويعلمون أنها الحق من ربهم، ويهديهم الله بها.الأمثال لا شك أنها عظيمة، وبالنسبة للبعوضة لم يرد ضرب المثل بها في القرآن في موضع من المواضع، وأما قوله تبارك وتعالى هنا: إِنَّ اللَّهَ لاَ يَسْتَحْيِي أَن يَضْرِبَ مَثَلاً مَّا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا [سورة البقرة:26] فهو لم يضرب بها المثل، وإنما يخبر - تبارك وتعالى - رداً على هؤلاء أنه لا يستنكف ولا يمنعه الحياء أن يضرب المثل بها، وبما هو أعظم منها أو أكبر منها في الخلقة.
وقوله هنا: أَن يَضْرِبَ مَثَلاً هو الذي حمل الربيع - رحمه الله - أن يقول: إن الله ضربها مثلاً للدنيا؛ لأنها إذا زادت نقصت، وإذا اكتملت كان ذلك إيذاناً بزوالها، واضمحلالها؛ كالبعوضة، ولكن ليس المراد هنا ضرب المثل به، والعلم عند الله .
روى السدي في تفسيره عن ابن عباس وابن مسعود وعن ناسٍ من الصحابة : يُضِلُّ بِهِ كَثِيراً يعني به المنافقين، ويهدي به المؤمنين، فيزيد هؤلاء ضلالةً إلى ضلالتهم؛ لتكذيبهم بما قد علموه حقاً يقيناً من المثل الذي ضربه الله بما ضرب لهم، وأنه لما ضرب له موافق، فذلك إضلال الله إياهم به.
وَيَهْدِي بِهِ يعني المثل كثيراً من أهل الإيمان، والتصديق، فيزيدهم هدىً إلى هداهم، وإيماناً إلى إيمانهم لتصديقهم بما قد علموه حقاً يقيناً أنه موافق لما ضربه الله له مثلاً، وإقرارهم به، وذلك هداية من الله لهم به وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلاَّ الْفَاسِقِينَ [سورة البقرة:26].يُضِلُّ بِهِ كَثِيراً أي: يضل به المنافقين، ويضل به الكافرين أيضاً، فكل من في قلبه رجس فإن هذا القرآن كما قال الله : وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ فَزَادَتْهُمْ رِجْسًا إِلَى رِجْسِهِمْ [سورة التوبة:125]، كما أخبر عن المنافقين كيف يكون حالهم إذا سمعوا آيةً أنزلت على النبي ﷺ فقال تعالى: فَمِنْهُم مَّن يَقُولُ أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَذِهِ إِيمَانًا [سورة التوبة:124].
فأهل الإيمان تزيدهم هذه الأمثال والآيات المنزلة على النبي - عليه الصلاة والسلام - إيماناً، بخلاف غيرهم من الكفار والمنافقين كما قال سبحانه: فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُواْ فَزَادَتْهُمْ إِيمَانًا [سورة التوبة:124]، ولهذا قال بعد ذلك: وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلاَّ الْفَاسِقِينَ [سورة البقرة:26]، ثم وصفهم بقوله: الَّذِينَ يَنقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِن بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَن يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الأَرْضِ [سورة البقرة:27] فالمقصود أن ذلك لا يختص بالمنافقين.
وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلاَّ الْفَاسِقِينَ [سورة البقرة:26] قال: هم المنافقون، وتقول العرب: فسقت الرطبة.الفاسقون تطلق على كل من خرج عن طاعة الله خروجاً أصغر أو خروجاً أكبر، فالخروج الأكبر يشمل أهل النفاق، ويشمل الكفار، وأهل الخروج الأصغر هم أهل المعاصي، وهذا إطلاق معروف في اللغة وفي الشرع، فهو يطلق على هذه المعاني جميعاً، ولذلك تجد المثال الشهير في أصول الفقه الذي يذكرونه عند الكلام على مفهوم الموافقة الأولوي القطعي - يعني من باب أولى -: قوله تعالى: فَلاَ تَقُل لَّهُمَآ أُفٍّ [سورة الإسراء:23] يعني امتنع عن الضرب من باب أولى قطعاً، ومثال الظني قوله تعالى: إِن جَاءكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا [سورة الحجرات:6]، ففي هذه الآية يقولون: إن جاء كافر من باب أولى ظناً وليس ذلك قطعياً؛ لأن الكافر قد يكون عدلاً في دينه أي أنه متدين، ودينه يحرم عليه الكذب، فلذلك لا يقطع بأنه إن جاءنا كافر بنبأ أننا نتثبت.
لكن هذا المثال مع أنه مشهور جداً إلا أن فيه نظر؛ لأن قوله تعالى: إِن جَاءكُمْ فَاسِقٌ عام يشمل الكافر، ويشمل العاصي، فنحن مأمورون بالتبيّن إلا إذا جاء العدل، والكافر لا يكون عدلاً.
وتقول العرب: فسقت الرطبة إذا خرجت من قشرتها، ولهذا يقال: للفأرة فويسقة لخروجها عن جحرها للفساد.قوله: يقال: للفأرة فويسقة: في هذا إشارة إلى الحديث الذي في الصحيحين: خمس فواسق يقتلن في الحل والحرم[5].
والمقصود أن كل ما خرج عن الجادة يقال له: فاسق وفسق كما قال تعالى: فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ [سورة الكهف:50] يعني خرج عن أمر ربه في السجود لآدم ﷺ، وهذا كثير ومعروف حتى في كلام العرب وأشعارهم.
يهوين في نجد وغوراً غائراً | فواسقاً عن قصدها جوائراً |
وثبت في الصحيحين عن عائشة - ا - أن رسول الله ﷺ قال: خمس فواسق يقتلن في الحل والحرم: الغراب، والحدأة، والعقرب، والفأرة، والكلب العقور[6].
فالفاسق يشمل الكافر والعاصي، ولكن فسق الكافر أشد وأفحش، والمراد به في الآية الفاسق الكافر والله أعلم؛ بدليل أنه وصفهم بقوله تعالى: الَّذِينَ يَنقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِن بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَن يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الأَرْضِ أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ [سورة البقرة:27].قوله تعالى: وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلاَّ الْفَاسِقِينَ [سورة البقرة:26] عامَّة يدخل فيها الكافر والمنافق، ويدخل فيها أيضاً العاصي من المؤمنين، فقوله: وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلاَّ الْفَاسِقِينَ، هل المقصود به أن من خرج من طاعة الله من أهل الإيمان فالله يضلهم بهذه الأمثال؟
الجواب: لا، ليس هذا هو المراد، فالقاعدة أن الآية قد تحتمل معنيين فأكثر، ويوجد في الآية قرينة ترجح أحد هذه المعاني، وهذا له أمثلة كثيرة جداً، هذا واحد من هذه الأمثلة، فالآية تحتمل معنيين، ويوجد في نفس الآية قرينة ترجح أحد هذه المعاني.
فمثلاً قوله تعالى: وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ ثَلاَثَةَ قُرُوَءٍ [سورة البقرة:228] فإن القرء مشترك بين معنيين هما: الطهر، والحيض، وهما متناقضان، إذ لا توجد امرأة لا طاهر ولا حائض، والمقصود هنا أن ثلاثة قروء منهم من رجّح أن المراد به الأطهار وقال: إن العدد هنا لحقته تاء التأنيث ثَلاَثَةَ فلو كان المقصود الحيض فإن العدد ثلاثة لا تلحقه تاء التأنيث إذا كان المعدود مؤنثاً، فأنت تقول: ثلاث نسوة، أما إذا كان مذكراً فإنك تقول: ثلاثة رجال، فهنا هل نقول: ثلاث حيض أو نقول: ثلاثة أطهار؟
الذين فسروا القرء بالطهر قالوا: في الآية قرينة ترجح هذا المعنى، وإن كانت لفظة القرء تصدق على الطهر، والحيض؛ لأنه من قبيل المشترك، يقال: ثلاثة، هذا مؤنث ولا يكون إلا مع المعدود المذكر، وعلى كل حال فالقول بأن لفظ القرء مذكر ليس بقاطع.
فقوله تعالى: وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلاَّ الْفَاسِقِينَ ليس المقصود به من خرج عن طاعة الله من أهل الإيمان، وإنما هم الكفار وأهل النفاق، والقرينة في الآية أنه قال: الَّذِينَ يَنقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِن بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَن يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الأَرْضِ أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ [سورة البقرة:27]، وهذه الصفات ليست صفات الفسقة من أهل الإيمان، وإنما هي صفات الكفار كما جاء ذلك في آياتٍ أخرى.
وهذه الصفات صفات الكفار المباينة لصفات المؤمنين كما قال تعالى في سورة الرعد: أَفَمَن يَعْلَمُ أَنَّمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَبِّكَ الْحَقُّ كَمَنْ هُوَ أَعْمَى إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُواْ الأَلْبَابِ الَّذِينَ يُوفُونَ بِعَهْدِ اللّهِ وَلاَ يِنقُضُونَ الْمِيثَاقَ وَالَّذِينَ يَصِلُونَ مَا أَمَرَ اللّهُ بِهِ أَن يُوصَلَ وَيَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ وَيَخَافُونَ سُوءَ الحِسَابِ [سورة الرعد:19-21] الآيات، إلى أن قال: وَالَّذِينَ يَنقُضُونَ عَهْدَ اللّهِ مِن بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَآ أَمَرَ اللّهُ بِهِ أَن يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الأَرْضِ أُوْلَئِكَ لَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ [سورة الرعد:25].هذه نفس الأوصاف، والمراد بهذه الآيات هم الكفار هنا؛ وذلك لأمرين:
الأمر الأول: أنه قابلها بصفة أهل الإيمان، والمقابلة عادةً تكون بين المؤمنين والكفار.
الأمر الثاني: ما عقّب به وهو أن لهم اللعنة، ولهم سوء الدار، وهذا إنما يكون للكافرين.
والعهد الذي وصف هؤلاء الفاسقين بنقضه هو وصية الله إلى خلقه، وأمره إياهم بما أمرهم به من طاعته، ونهيه إياهم عما نهاهم عنه من معصيته في كتبه، وعلى لسان رسله، ونقضهم ذلك هو تركهم العمل به.بعض أهل العلم يقول: هو العهد والميثاق الذي أخذه الله على بني آدم حينما استخرجهم من ظهر آدم ﷺ على هيئة الذر كما قال تعالى: وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِن بَنِي آدَمَ مِن ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنفُسِهِمْ أَلَسْتَ بِرَبِّكُمْ قَالُواْ بَلَى شَهِدْنَا أَن تَقُولُواْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ أَوْ تَقُولُواْ إِنَّمَا أَشْرَكَ آبَاؤُنَا مِن قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِّن بَعْدِهِمْ [سورة الأعراف:172-173]، فبعض أهل العلم يقولون: العهد هو ما أخذه عليهم وهم في ظهر آدم ﷺ، وبعضهم يقول: ليس هذا هو المراد، وإنما المقصود به هو ما أمرهم به، ووصاهم به على ألسن رسله - عليهم الصلاة والسلام -، فقد جاءهم الأنبياء - عليهم الصلاة والسلام - يأمرونهم بالتوحيد، وبكل عمل، وأمرٍ طيبٍ صالح، وينهونهم عن الشرك وعما تفرع به من كل أمرٍ سيء.
قوله - تبارك وتعالى -: وَالَّذِينَ يَنقُضُونَ عَهْدَ اللّهِ مِن بَعْدِ مِيثَاقِهِ: العهد مفرد مضاف، والمفرد إذا أضيف فإنه من صيغ العموم.
وَالَّذِينَ يَنقُضُونَ عَهْدَ اللّهِ أي: عهود الله، فكل عهدٍ لله يصدق عليه ذلك، فالتوبة عهد بين الله وبين العبد، والنذر عهد، والوعد عهد، والإسلام عهد، وما أخذه الله على بني آدم حينما استخرجهم من ظهر آدم ﷺ عهد، وهكذا ما جاءت به الرسل - عليهم الصلاة والسلام - هو عهد من الله لخلقه، فهذا كله يدخل في معنى الآية، والعلم عند الله .
مِن بَعْدِ مِيثَاقِهِ: ميثاق من وثّق الشيء، يعني قوّاه، وأكده.
وقيل: بل هي في كفار أهل الكتاب، والمنافقين منهم، والعهد الذي نقضه أهل الكتاب، وما أخذه الله عليهم من التوراة من العمل بما فيها، واتباع محمد ﷺ إذا بعث، والتصديق به، وبما جاء به من عند ربهم.قلنا: إن الميثاق هنا مفرد مضاف وهو للعموم، فيدخل فيه ما أخذه الله على أهل الكتاب، حيث عهد إليهم إذا جاءهم رسول مصدق لما معهم ليؤمنن به، ولينصرنه كما قال تعالى: وَإِذْ أَخَذَ اللّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّيْنَ لَمَا آتَيْتُكُم مِّن كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءكُمْ رَسُولٌ مُّصَدِّقٌ لِّمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنصُرُنَّهُ قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي قَالُواْ أَقْرَرْنَا قَالَ فَاشْهَدُواْ وَأَنَاْ مَعَكُم مِّنَ الشَّاهِدِينَ فَمَن تَوَلَّى بَعْدَ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ [سورة آل عمران:81-82]، فهذا كله من العهد وهو داخل فيه، فلا تختص هذه الآية بأهل الكتاب بخصوص هذا العهد الذي أخذ عليهم، والله تعالى أعلم.
ونقضهم ذلك هو جحودهم به بعد معرفتهم بحقيقته، وإنكارهم ذلك، وكتمانهم علم ذلك عن الناس بعد إعطائهم الله من أنفسهم الميثاق ليُبَيننه للناس، ولا يكتمونه، فأخبر تعالى أنهم نبذوه وراء ظهورهم، واشتروا به ثمناً قليلاً، وقيل: بل عنى بهذه الآية جميع أهل الكفر، والشرك، والنفاق، وعهده إلى جميعهم في توحيده ما وضع لهم من الأدلة الدالة على ربوبيته، وعهده إليهم في أمره ونهيه ما احتج به لرسله من المعجزات التي لا يقدر أحد من الناس غيرهم أن يأتي بمثله، والشاهدة لهم على صدقهم.
قالوا: ونقضهم ذلك تركهم الإقرار بما قد تبيّنت له صحته بالأدلة، وتكذيبهم الرسل، والكتب، مع علمهم أن ما أتوا به حق، وروي عن مقاتل بن حيان أيضاً نحو هذا وهو حسن، وإليهما للزمخشري.الذين ينقضون عهد الله من بعد ميثاقه لا شك أنه يشمل الكفار، والمنافقين كما سبق، ولا يختص بأهل الكتاب، لكن ذلك لا يكون بمجرد ما وضعه من الدلائل الدالة على ربوبيته، ووحدانيته، بل لا بد أن ينضم مع ذلك ما ذكر من التصديق برسله - عليهم الصلاة والسلام -، واتباعهم، والإقرار بما جاؤوا به، والقبول عن الله بأمره ونهيه.
وقوله: وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَن يُوصَلَ [سورة البقرة:27] قيل: المراد به صلة الأرحام والقرابات كما فسره قتادة كقوله تعالى: فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِن تَوَلَّيْتُمْ أَن تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ [سورة محمد:22]، ورجحه ابن جرير، وقيل: المراد أعم من ذلك، فكل ما أمر الله بوصله، وفعله؛ فقطعوه وتركوه.عادة إذا ذكرت الصلة، وصلة ما أمر الله به أن يوصل؛ فالمراد بها صلة الأرحام، هذا هو المراد بها، وإن كان بعض أهل العلم قال: إنه يدخل فيها من المعاني غير هذا، كصلة القول بالعمل، وكذلك صلة الإيمان والتصديق بالأنبياء - عليهم الصلاة والسلام - فيؤمن بهم جميعاً لا يؤمن بنبي ويكفر بالآخرين، كل هذا فسّر به قوله: يَصِلُونَ مَا أَمَرَ اللّهُ بِهِ أَن يُوصَلَ [سورة الرعد:21]، ولكن ليس هذا هو المتبادر من معنى الآية، والآية يجب أن تحمل على المعنى المتبادر دون المعنى الخفي المغمور إلا بدليلٍ يجب الرجوع إليه، فإذا أطلق مثل هذا يَصِلُونَ مَا أَمَرَ اللّهُ بِهِ أَن يُوصَلَ فمباشرةً يتبادر إلى الأذهان أنه صلة الأرحام، وأما وعيد أهل القطيعة، أو الفسق، أو الانحراف بما جاء وصفه في هذه الآيات فهو شيء آخر، لكن الكلام هنا وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلاَّ الْفَاسِقِينَ الَّذِينَ يَنقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ [سورة البقرة:26-27] هؤلاء هم الكفار، وإلا فإن هؤلاء الفسقة من أهل الإيمان لا يقفون عند هذه الأمثال وينكرونها، ويقولون: الله أعظم من أن يضرب مثلاً بهذه المحقرات، فالآية من سياقها يعلم أنهم غير داخلين في هذا المعنى وإن كانوا من جملة الفاسقين، ولكن اللفظ قد يخص ببعض ما يدخل تحته لدليلٍ في الآية، أو قرينة، فالفاسقين هنا ما تحمل على أعمّ معانيها لما ذكرنا.
وقال مقاتل بن حيّان في قوله تعالى: أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ [سورة البقرة:27].الحافظ ابن كثير - رحمه الله - ينقل عن مقاتل، فهو إذا قال مقاتل سواء نسبه أو لم ينسبه فهو مقاتل بن حيّان المتوفى سنة 150 للهجرة، وهناك مقاتل آخر وهو مقاتل بن سليمان المتوفى سنة 150 للهجرة أيضاً، فمقاتل بن حيّان لم يتكلم فيه، ولم يتهم، لا في النقل، ولا في الرواية، ولم يتهم أيضاً في الدين، والاعتقاد، أما مقاتل بن سليمان فهو متهم في الأمرين أي: اتهم بالكذب، واتهم أيضاً بالقول بالتجسيم، والعلماء - رحمهم الله - يتناقلون كثيراً القول المنسوب لأبي حنيفة بأنه قال: "قد جاءنا من المشرق رأيان خبيثان: مقاتل مجسم، وجهم معطل"، فطارت هذه المقولة، وتناقلها الكبار كالشافعي - رحمه الله -، والذهبي وأئمة كثير، مع أن هذا بالنسبة للتهمة بالكذب، أو الضعف الشديد في الرواية، أو عدم التوثيق في أقل الدرجات؛ لا شك أن العلماء تتابعوا عليه، وكلامهم كثير فيه، لكن تبقى القضية الثانية التي هي رمي مقاتل بالتجسيم، فهو له كتاب من أربع مجلدات في التفسير مطبوع لكنه قليل التداول، ورأيته قبل سنتين حيث ظهرت له طبعة سقيمة وليس فيه شيء من التجسيم أبداً، وله تفسير خمسمائة آية عندي نسخة منه مطبوعة على الآلة الكاتبة لا يوجد شيء فيه من التجسيم، وعلى كل حال لا يوجد في كتبه التي وصلت إلينا شيء من التجسيم، لذلك شيخ الإسلام من دقته - رحمه الله - لما ذكره في بعض كتبه كمنهاج السنة قال: "ولعله لا يثبت عنه".
ولذلك لما استقرئت هذه الكتب - وهي بين أيدينا - لم يوجد فيها شيء، فما تدري هل هذا مما كان يقال عن أهل السنة بأن من أثبت الصفات فهو مجسم؛ فقيلت عنه، إذ مثل هذا كثير، فتجد الكرامية مثلاً يُرمَون شيخ الإسلام - رحمه الله - بأشياء ومع ذلك هو من دقته تجده يقول في بعض الأحيان: "وهذا قد لا يثبت عنهم"، مع أن هناك أمور تكلم عنهم فيها مما هي ثابتة عنهم ككلامهم في الإيمان ونحو ذلك، مثلاً، لكن في بعض الأشياء تجده يقول: "وهذا قد لا يثبت عنهم"، والكرامية هي أصلاً فرقة من الفرق المنحرفة، لكن أكثر من نشر عنهم السمعة السيئة هو ابن فورك من الأشاعرة؛ لأنه ناظر ابن كرّام أمام الأمير أو الوزير وأفحمه، وبعد ذلك أبعد هذا الأمير أو الوزير ابن فورك والأشعرية وصار يقرب أهل الحديث، وكيف يقرب أهل الحديث بعد مناظرة ابن كرّام؟
أنا لا أقول أبداً: إن ابن كرّام من أهل الحديث، ولكن ما يرمونه به في بعض الأمور إنما نقل إلينا عن طريق خصومهم، ولذلك تجد كثير مما ينقل عن الفرق في كتب الفرق إنما ينقل عن خصومهم، ولذلك تجدهم ينقلون أشياء غريبة، وغير دقيقة، لكن أشياء غريبة جداً، فلما تنظر إلى الشهرستاني عندما يصنف بعض أئمة السنة كالشعبي، وجماعة من الكبار؛ يصنفهم من الرافضة الإمامية، وهذه طوام فلو قال: فيه تشيّع كان يمكن هضمها، أما أن يصنفهم من الإمامية مرة واحدة فهذا غير صحيح.
ابن كثير ينقل عن الزمخشري كثيراً في هذا الكتاب، وينقل عن غيره أيضاً كالرازي، وهذا أمر معروف عند أهل العلم، والبخاري - رحمه الله - تراجم الأبواب التي ألفها فيها ألفاظ لغوية عامتها مأخوذة عن أبي عبيدة معمر بن المثنى الخارجي المعتزلي، فالنقل من كتب أناس عندهم انحرافات أمر معروف عند العلماء، ولا زالوا قديماً وحديثاً من عهد السلف ينقلون أشياء، ويستفيدون منها؛ بلا غضاضة، ما ينقلون الباطل والانحراف إلا للرد عليه، لكن ينقلون الأشياء الصحيحة الجيدة.
الإمام أحمد نُقِلَ عنه الإنكار على أبي عبيدة القاسم بن سلام ما كان ينقله عن الفراء وأمثال الفراء فيما يكتبه، أنكر عليه وإن كان الفراء ليس من أصحاب العقائد المنحرفة، لكنه قال بعض الأشياء التي أنكرها عليه الإمام أحمد في التفسير، وهي يقول بها علماء كثير من أهل السنة، مثل قول الله - تبارك وتعالى -: فَذَكِّرْ إِن نَّفَعَتِ الذِّكْرَى [سورة الأعلى:9]، فهو يقول: إن نفعت، وإن لم تنفع فقد ذكر أشرف الأمرين، وهذا من باب الاكتفاء، اكتفى عن القسم الآخر، مثل: سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ وَسَرَابِيلَ تَقِيكُم بَأْسَكُمْ [سورة النحل:81]، فلم يذكر البرد مع أنه مراد، وهذا يسمى بالاكتفاء، حيث يذكر أحد الشقّين ليدل عن الآخر، فالإمام أحمد ما أعجبه هذا، وردّه ونهى أبا عبيد.
الإمام أحمد كان ينهى عن وضع الكتب، ونقل هذا عن بعض المتقدمين، والآن لا يوجد أحد ينكر تأليف الكتب في غير الحديث، أي: غير ذكر الروايات، بل تتابع العلماء في التأليف؛ لأن الناس احتاجوا إلى ذلك، وأما الإمام أحمد لما نهى عن ذلك فقد كان في وقت الفتنة، والشر، والابتداع، فأراد أن يقمع ذلك، ويقتصر الناس على الأثر، لكن الباب لا أقول فتح بل كسر، واختلط الحابل بالنابل، والخير بالشر، فصار العلماء يضعون الكتب بلا إشكال، وإلا لو قرأت كلام الإمام أحمد - رحمه الله - في النهي عن وضع الكتب، وعن تدوين كلامه؛ فإن قراءة ذلك وغير ذلك من كلام السلف - رحمهم الله - يحتاج إلى فقة، فهذه الكلمات والعبارات التي نسمعها عن السلف تحتاج إلى فقة، أما إذا جاء الإنسان يأخذ عبارة بمجردها ويقول: هذا هو منهج السلف، ويعمم هذا، ويحكم على الناس بناءً على عبارة واحدة؛ فمعنى هذا أنه لن يبقي ولا يذر، فلذلك ينبغي للمرء أن يبدأ بنفسه، ويعتني بها؛ لأنه سيجد نفسه متورط في مثل هذه الأشياء.
وهذا كما قال تعالى: أُوْلَئِكَ لَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ [(سورة الرعد:25].
وقال الضحاك عن ابن عباسٍ - ا -: "كل شيءٍ نسبه الله إلى غير أهل الإسلام من اسمٍ مثل خاسر فإنما يعني به الكفر، وما نسبه إلى أهل الإسلام فإنما يعني به الذنب".هذا ما يسمى بكليات التفسير، كل كذا في القرآن فمعناه كذا، كما يقال: كل آيةٍ يذكر فيها يا أيها الناس فهي مكية إلا الآية التي في سورة كذا، كل آية يذكر فيها يا أيها الذين آمنوا مثلاً، أو كل آية يذكر فيها أهل الكتاب فهي مدنية إلا الآية المذكورة في سورة كذا، وهكذا، هذه تسمى كليات التفسير، وإن كان بعض هذه الأقوال لا تصح من جهة الرواية، وبعضها صحيح من جهة الرواية لكن الاستقراء فيه ناقص بحيث أنه ما يصلح أن يكون من الكليات.
فالكليات لو دونتها وجمعتها فإنك ستجد قدراً صالحاً منها، كل كذا فهو كذا، ويدخل هذا في قضية الحقيقة الشرعية كما هنا في المثال الذي أمامنا، إذا ذكر الخسران في القرآن فالمراد به كذا، ومثله إذا ذكر البرّ فالمراد به كذا، وهكذا.
وقال ابن جرير في قوله تعالى: أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ الخاسرون جمع خاسر، وهم الناقصون أنفسهم حظوظهم بمعصيتهم الله من رحمته، كما يخسر الرجل في تجارته بأن يوضع من رأس ماله في بيعه، وكذلك المنافق والكافر خسر بحرمان الله إياه رحمته التي خلقها لعباده في القيامة أحوج ما كانوا إلى رحمته، يقال منه: خسر الرجل يخسر خسراً وخساراً، كما قال جرير بن عطية:
إن سليطاً في الخسار إنه | أولاد قومٍ خلقوا أقنّة |
فقوله:
إن سليطاً في الخسار إنه | أولاد قومٍ خلقوا أقنّة |
- أخرجه الترمذي في كتاب: الزهد - باب: ما جاء في هوان الدنيا على الله (2320) (ج 4 / ص 560) وصححه الألباني في صحيح الجامع برقم (5292).
- أخرجه أبو داود في كتاب: الحمام - ت : 1 م باب: (4012) (ج 2 / ص 434) والنسائي في كتاب الغسل والتيمم - باب: الاستتار عند الاغتسال (406) (ج 1 / ص 200) وصححه الألباني في صحيح الجامع برقم (1756).
- أخرجه سلم في كتاب: البر والصلة والآداب - باب: ثواب المؤمن فيما يصيبه من مرض أو حزن أو نحو ذلك حتى الشوكة يشاكها (2572) (ج 4 / ص 1973).
- المعجم الكبير للطبراني (5284) (ج 5 / ص 259).
- أخرجه البخاري في كتاب: كتاب بدء الخلق - باب: خمس من الدواب فواسق يقتلن في الحرم (3136) (ج 3 / ص 1204)، ومسلم في كتاب: الحج - باب: ما يندب للمحرم وغيره قتله من الدواب في الحل والحرم (1198) (ج 2 / ص 856)، واللفظ لمسلم.
- سبق تخريجه.