الخميس 29 / ربيع الأوّل / 1446 - 03 / أكتوبر 2024
لَا يُكَلِّفُ ٱللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا ۚ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا ٱكْتَسَبَتْ ۗ رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَآ إِن نَّسِينَآ أَوْ أَخْطَأْنَا ۚ رَبَّنَا وَلَا تَحْمِلْ عَلَيْنَآ إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُۥ عَلَى ٱلَّذِينَ مِن قَبْلِنَا ۚ رَبَّنَا وَلَا تُحَمِّلْنَا مَا لَا طَاقَةَ لَنَا بِهِۦ ۖ وَٱعْفُ عَنَّا وَٱغْفِرْ لَنَا وَٱرْحَمْنَآ ۚ أَنتَ مَوْلَىٰنَا فَٱنصُرْنَا عَلَى ٱلْقَوْمِ ٱلْكَٰفِرِينَ

المصباح المنير التسهيل في علوم التنزيل لابن جزي مجالس في تدبر القرآن الكريم
مرات الإستماع: 0

"وقوله: لاَ يُكَلِّفُ اللّهُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا [سورة البقرة:286] أي لا يكلف أحداً فوق طاقته، وهذا من لطفه تعالى بخلقه، ورأفته بهم، وإحسانه إليهم، وهذه هي الناسخة الرافعة لمَا كان أشفق منه الصحابة أجمعين في قوله: وَإِن تُبْدُواْ مَا فِي أَنفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُم بِهِ اللّهُ [سورة البقرة:284] أي هو وإن حاسب وسأل لكن لا يعذب إلا بما يملك الشخص دفعه، فأما ما لا يمكن دفعه من وسوسة النفس وحديثها فهذا لا يكلف به الإنسان، وكراهية الوسوسة السيئة من الإيمان".

هذا تصريح من ابن كثير - رحمه الله - بأن الآية منسوخة، وهو يقصد النسخ عند المتأخرين الذي يراد به رفع الحكم المتقدم بالحكم المتأخر، لا النسخ عند المتقدمين كبيان المجمل، وتخصيص العام، وتقييد المطلق، ولكن ليس رفع التكليف فيما يتعلق بحديث النفس منسوخاً كله قطعاً؛ لأن ما يخفيه الإنسان من الشرك، والريب، والنفاق، أو كتمان الشهادة ونحو ذلك؛ يحاسَب عليه ولا يشمله النسخ في الآية، ومع هذا فلو أمكن حمل الآية على معنىً صحيح من غير تكلف في هذا الموضع لكان حسناً؛ لأن دعوى النسخ لا تثبت بالاحتمال، ولابد فيه من دليل مرجح يجب الرجوع إليه، ولا دليل، والله أعلم.

"وقوله: لَهَا مَا كَسَبَتْ أي من خير، وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ أي من شر، وذلك في الأعمال التي تدخل تحت التكليف، ثم قال تعالى مرشداً عباده إلى سؤاله، وقد تكفل لهم بالإجابة، كما أرشدهم وعلمهم أن يقولوا: رَبَّنَا لاَ تُؤَاخِذْنَا إِن نَّسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا أي وإن تركنا فرضاً على جهة النسيان، أو فعلنا حراماً كذلك، أو أخطأنا أي الصواب في العمل جهلاً منا بوجهه الشرعي.
وقد تقدم في صحيح مسلم من حديث أبي هريرة قال: قال الله: نعم، ولحديث ابن عباس - ا -: قال الله: قد فعلت".

أورد بعض أهل العلم استشكالاً على قوله سبحانه: رَبَّنَا لاَ تُؤَاخِذْنَا إِن نَّسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا وهو إذا كانت المؤاخذة بالخطأ، والنسيان؛ مرفوعة، فكيف يسألون ربهم ذلك، ألا يعد صنيعهم هذا من صور الاعتداء في الدعاء؟
لذلك ذهب جمع من أهل العلم إلى حمل الخطأ والنسيان في الآية على معنى آخر وقالوا: إن الخطأ تارةً يكون بعمد، وتارةً يكون من غير عمد، وحملوا المراد من الآية على الخطأ العمد؛ لكونه يؤاخذ الإنسان به، وهناك فرق بين قولك: فلان يخطئ، وفلان مخطئ، وكذلك النسيان يأتي بمعنى الذهول، وزوال المعلوم، ويأتي بمعنى الترك كقوله سبحانه: نَسُوا اللَّهَ فَأَنسَاهُمْ أَنفُسَهُمْ [سورة الحشر:19]، وقوله سبحانه: فَلَمَّا نَسُواْ مَا ذُكِّرُواْ بِهِ [سورة الأنعام:44]، وحملوا المعنى في الآية على الترك.
وقال بعضهم: إنه لا حاجة إلي التكلف في تخريج الآية، وحملوها على ظاهرها المتبادر، وهو أن الله تعبدهم بهذا الدعاء المراد به التخفيف، ورفع الآصار، والتكاليف الشاقة، ولا يكون ذلك إلا بعدم المؤاخذة بما لا يد للإنسان فيه، ورفع ما لا يدخل تحت طوقه، ووضع الأشياء التي لا يحتملها المكلف، وهذا الذي يتناسب مع السياق، فيبقى الخطأ هو الوقوع في المخالفة من غير قصد، والنسيان زوال المعلوم من الذهن، يقول الناظم:
زوال ما علم قل نسيان والعلم في السهو له اكتنان
ولذا كان من دعاء أهل الإيمان كما علمهم نبيهم ﷺ: اللهم رب هذه الدعوة التامة، والصلاة القائمة؛ آت محمداً الوسيلة والفضيلة، وابعثه مقاماً محموداً الذي وعدته[1] ومعلوم أن النبي ﷺ قد أعطاه ربه الوسيلة، والفضيلة، والمقام المحمود، فلماذا الدعاء له وقد أعطيها؟ ونظائر هذا الدعاء في الكتاب، والسنة؛ كثيرة.
ويبعد أن يكون المراد أنهم يسألون الله ألا يؤاخذهم بالذنوب والجرائم التي وقعوا فيها عن عمد؛ لأنه جاء قوله ﷺ عن ربه: قد فعلت، فكيف يحمل الدعاء في الآية على عدم المؤاخذة على ما تعمدوه من القبائح مع أن الله قد توعد العاصين، والمذنبين، وخوفهم، والله أعلم.
"وقوله: رَبَّنَا وَلاَ تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِنَا أي لا تكلفنا من الأعمال الشاقة وإن أطقناها، كما شرعته للأمم الماضية قبلنا من الأغلال والآصار التي كانت عليهم، التي بعثت نبيك محمداً ﷺ نبي الرحمة بوضعه في شرعه الذي أرسلته به من الدين الحنيفي السهل السمح.
وقد ثبت في صحيح مسلم عن أبي هريرة عن رسول الله ﷺ قال: قال الله: نعم[2].
وعن ابن عباس - ا - عن رسول الله ﷺ قال: قال الله: قد فعلت[3]."

أصل الإصر في كلام العرب هو: الحمل الثقيل الذي يحبس صاحبه مكانه لثقله، ثم أطلق على التكاليف الشاقة، والمعنى لا تكلفنا تكليفاً شاقاً يثقلنا، ويرهقنا، وقد نعجز عن القيام به وحمله، ومن أهل العلم من يفسر الإصر بالعهد، كما جاء في قوله - تبارك وتعالى -: وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي [سورة آل عمران:81] أي عهدي، وهو اختيار كبير المفسرين ابن جرير الطبري، ولا منافاة بين المعنيين؛ لأن العهود التي أخذها الله على بني إسرائيل لم يقوموا بكثير منها، فيكون المعنى لا تكلفنا عهداً ثقيلاً شاقاً نعجز عن القيام به، والله أعلم.
"وجاء الحديث من طرق عن رسول الله ﷺ أنه قال: بعثت بالحنيفية السمحة[4].
وقوله: رَبَّنَا وَلاَ تُحَمِّلْنَا مَا لاَ طَاقَةَ لَنَا بِهِ أي من التكليف، والمصائب، والبلاء، لا تبتلينا بما لا قبل لنا به.
وقد قال مكحول في قوله: رَبَّنَا وَلاَ تُحَمِّلْنَا مَا لاَ طَاقَةَ لَنَا بِهِ قال: الغربة، والغُلْمَة، رواه ابن أبي حاتم، قال الله: نعم، وفي الحديث الآخر: قال الله: قد فعلت".

تفسيره بالعُزْبة هو الأقرب والأنسب، والمغتلم: هو من بلغت به الشهوة غايتها، وهذا من قبيل التفسير بالمثال، وقد عهد من طريقة السلف أنهم يذكرون بعض المعاني التي تدخل تحت الآية، ويقصدون بذلك التوضيح والتقريب للسامعين فقط لا الحصر، وإلا فالأمور الشاقة كثيرة جداً، فهؤلاء التجئوا إلى ربهم أن لا يكلفهم ما كلف به الأمم السابقة، فاليهود حينما تابوا توبتهم العظيمة المعروفة في التاريخ من عبادتهم للعجل قال الله لهم: فَاقْتُلُواْ أَنفُسَكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ عِندَ بَارِئِكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ [سورة البقرة:54] فأمرهم الله بقتل النفوس بمعنى أن الواحد يقتل أباه، وأخاه، وقريبه، ولاشك أن هذا في غاية المشقة، وكان الواحد منهم إذا أصابته النجاسة قرض ذلك الموضع ولا يكتفي بالغسل، إلى غير هذا.
يقول في القاموس: غَلِمَ كفَرِحَ، غَلَماً وغُلْمَةً بالضم، واغتَلم: غُلبَ شهوةً، وهو غَلِمٌ وغِلِّيمٌ ككَتِف وسِكِّيت ومِنديل، وهي غَلِمة، ومُغتلِمة، وغِلِّيمة، ومِغْلِيمة، ومِغْلِيم، وغِلِّيم، وأغلمه الشيء، قال: والغُلْمَة: شهوة الضِّراب.
الغُلْمَة: هي شهوة... لكنها ليست مطلق الشهوة، وإنما هي غاية الشهوة، ولذلك ذكرها بعض المفسرين من الأمور التي لا يطيقها المرء، وهذا يدل على البلاء الشديد لمن ابتلاه الله بها، فكيف إذا كان الإنسان قد تطلب البلاء بنظره، وسمعه، وخلطته، حتى أفضى به إلى ذلك، وقد قيل: من عرض نفسه للفتنة أولاً لم ينجُ منها آخراً إلا أن يشاء الله، والله أعلم.
"وقوله: وَاعْفُ عَنَّا أي فيما بيننا وبينك مما تعلمه من تقصيرنا وزللنا، وَاغْفِرْ لَنَا أي فيما بيننا وبين عبادك، فلا تظهرهم على مساوينا، وأعمالنا القبيحة، وَارْحَمْنَآ أي فيما يستقبل، فلا توقعنا بتوفيقك في ذنب آخر، ولهذا قالوا: إن المذنب محتاج إلى ثلاثة أشياء: أن يعفو الله عنه فيما بينه وبينه، وأن يستره عن عباده فلا يفضحه به بينهم، وأن يعصمه فلا يوقعه في نظيره، وقد تقدم في الحديث أن الله قال: نعم، وفي الحديث الآخر قال الله: قد فعلت".

هذا التفسير لهذه الدعوات الثلاث بناءً على أصلٍ قصده ابن كثير - رحمه الله - وهو أن التأسيس مقدم على التوكيد، فأراد أن يحمل كل دعوة على معنىً جديد، ولكن العفو معناه محو أثر الذنب، والغَفْر هو الستر، والوقاية، والوقاية من شؤم الذنب هو بمعنى العفو الذي قبله، ففسر الثانية بالستر لأن المعنى الثاني منها قد مضى في الذي قبله، وهذه طريقة صحيحة في التفسير.
والرحمة ليست فقط فيما يستقبل، لكنه قال: فيما يستقبل بناءً على أن الرحمة فيما مضى بالتجاوز، والحقيقة أن الرحمة بالتجاوز تحتاج أكثر من هذا، فإذا رحم الله ضعفهم، وعجزهم؛ وفّاهم أجورهم، وزادهم من فضله، ورفع درجاتهم، ولم يكلفهم تكليفاً يشق عليهم، وكل هذا من رحمته - -، فالرحمة لا تقتصر على جانب الإساءة بالغَفْر، والستر، والتجاوز، بل تشمل كل ما يكون في جانب الإحسان من سائر الأمور،  فالدعاء بالرحمة يشمل هذه المعاني جميعاً، والله أعلم.
"وقوله: أَنتَ مَوْلاَنَا أي أنت ولينا وناصرنا، وعليك تَوكُّلنا، وأنت المستعان، وعليك التكلان، ولا حول ولا قوة لنا إلا بك.
فَانصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ أي الذين جحدوا دينك، وأنكروا وحدانيتك، ورسالة نبيك، وعبدوا غيرك، وأشركوا معك من عبادك، فانصرنا عليهم، واجعل لنا العاقبة عليهم في الدنيا والآخرة.
قال الله: نعم، وفي الحديث الذي رواه مسلم عن ابن عباس - ا -: قال الله: قد فعلت.
وروى ابن جرير عن أبي إسحاق: أن معاذاً كان إذا فرغ من هذه السورة فَانصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ قال: آمين".

الآية تشمل أنواع الكفر عموماً كالإعراض، والشك، وكذا مقارفة الأعمال التي توجب الخروج من الملة، وابن كثير اقتصر في تفسير الكفر بالجحود في الآية؛ ولعل مرد ذلك إلى أنه من أشهر معانيه، إذ أصل هذه اللفظة من الستر، والتغطية، وذلك لا شك أنه يدل على الجحود دلالة أصلية أو أولية، لكنه لا يختص به شرعاً.
  1. رواه البخاري في كتاب الأذان - باب الدعاء عند النداء برقم (589) (1/222).
  2. رواه مسلم في كتاب الإيمان - باب بيان أنه لم يكلف إلا ما يطاق برقم (125) (1/115).
  3. رواه مسلم في كتاب الإيمان - باب بيان أنه لم يكلف إلا ما يطاق برقم (126) (1/116).
  4. رواه أحمد في مسنده برقم (22345) (5/266)، وضعفه الألباني في صحيح وضعيف الجامع الصغير برقم (6086).

مرات الإستماع: 0

"لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا [البقرة:286] إخبارٌ من الله تعالى برفع تكليف ما لا يُطاق، وهو جائزٌ عقلًا عند الأشعرية، ومحالٌ عقلًا عند المعتزلة".

ماذا يقصد هؤلاء المتكلمين؟ ولسنا بحاجةٍ إليهم، ولا إلى كلامهم، لكن إذا ابتُلينا بإيراد شيئًا من عقائدهم، فلا بد من بيان المراد، مع بيان الحق في ذلك، يقول: "وهو جائزٌ عقلًا عند الأشعرية" يقصدون بجائز عقلًا يعني: تكليف ما لا يُطاق، فيجوز عقلًا عندهم - الأشاعرة - أن يكلف الله عباده بما لا يطيقون، لكن ممتنع شرعًا؛ لأن الله أخبر أنه لا يقع لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا [البقرة:286] فهذه الآية تدل على أنه شرعًا لم يقع، لكن من الناحية العقلية هل يجوز أن يكلف عباده بشيءٍ لا يُطاق؟ ويأمرهم بشيءٍ لا يطيقونه؟ الأشاعرة يقولون: نعم، جائز عقلًا، فالعقل يُجوز هذا، من الناحية العقلية مُتَصور، لكن الله أخبر أنه لا يكلفُ عباده ما لا يطيقون.

يقول: "ومحالٌ عند المعتزلة" والمعتزلة لماذا هو مُحال عندهم؟ لأنهم يوجبون على الله عقلًا فعل الأصلح، يعني المعتزلة يقيسون الله على الخلق، فيقولون: يجب عليه كذا، ويمتنع عليه كذا، فيقولون: تكليف ما لا يُطاق ظلم، فهذا ممتنع أصلًا على الله، فهم باعتقادهم هذا الفاسد لما قاسوا الخالق على المخلوقين، قالوا: يجب عليه كذا، ويمتنع عليه كذا، فأوجبوا عليه فعل الأصلح، هذه عقيدة المعتزلة.

"لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا [البقرة:286] إخبارٌ من الله تعالى برفع تكليف ما لا يُطاق، وهو جائزٌ عقلًا عند الأشعرية، ومحالٌ عقلًا عند المعتزلة، واتفقوا على أنه لم يقع في الشريعة.

لَهَا مَا كَسَبَتْ [البقرة:286] أي: من الحسنات وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ [البقرة:286] أي من السيئات".

يعني يقولون: اكْتَسَبَتْ في زيادة حرف، وزيادة المبنى لزيادة المعنى، أن الحسنة تحصل للعبد بأدنى سبب من همَّ بحسنةٍ فلم يعملها كُتبت له حسنة[1] يعني بمجرد الهم ومن همَّ بسيئة أيضًا فلم يعملها كُتبت له حسنة[2] لكن السيئة لا تُكتب بمجرد الهم، تحتاج إلى أكثر من هذا، إلى عزمٍ مصمم كما في الحديث: فالقاتل، والمقتول في النار قال فقلت: أو قيل: يا رسول الله هذا القاتل، فما بال المقتول؟ قال: إنه قد أراد قتل صاحبه[3] فصارت المؤاخذة على العزم المصمم، صار المقتول في النار بهذا الاعتبار، وتحتاج أيضًا إلى عملٍ في الخارج، عمل واقعي غير العزم المصمم، يؤاخذ على العزم المصمم، وكذلك أيضًا حينما لا يُؤاخَذ على الهم هو يؤاخَذ على الأعمال التي تصدر عنه، أما في الحسنات فيُجزى على مجرد الهم، ويُثاب على مجرد الهم، وبأدنى تسبب، وقد يكون الأجر على أثر الأعمال، ومن دلَّ على هدى كان له مثل أجور من تبعه، وهكذا الآثار ما يُصيب الإنسان من اللأواء، والشدة، والتعب، مما لا يكون بكسبه، كما ذكر الله - تبارك، وتعالى - في الجهاد، والمجاهدين في سبيله، ذكر الأعمال التي ليست من كسبهم ظَمَأٌ نَصَبٌ مَخْمَصَةٌ [التوبة:121] وذكر الأعمال التي هي من كسبهم وَلا يُنفِقُونَ نَفَقَةً صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً وَلا يَقْطَعُونَ وَادِيًا [التوبة:121] فهذه أعمال من كسبهم، فذكر هذا، وهذا، فكذلك النبي ﷺ ذكر المائد في البحر، الذي يصيبه القيء له أجر شهيد، وذكر في الغريق أنه شهيد، والحريق، والهدم، والمبطون، ونحو ذلك، وهذه ليست من كسب الإنسان، وذكر ما يصيب الإنسان من الهم، والنصب، والوصب، حتى الشوكة، كل هذا يكفَّر به من سيئاته، ومن تتبع النصوص وجد أن ما يصيب الإنسان من المكروه أنه يحصل له به أيضًا رفعة درجات، فهنا قال: لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ رَبَّنَا [البقرة:286] فزاد حرفًا في اكتساب السيئات ليدل على أنها ليست بمجرد الهم، وإنما تحتاج إلى مزاولة أكثر حتى يُعاقب عليها، وتُحسب عليه، وهذا من رحمة الله بعباده.

"وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ [البقرة:286] أي من السيئات، وجاءت العبارة بـلَهَا في الحسنات؛ لأنها مما ينتفعُ العبد به، وجاءت بـعَلَيْهَا في السيئات؛ لأنها مما يضر بالعبد، وإنما قال في الحسنات كَسَبَتْ وفي الشر - وفي النسخة الخطية: السيئات - اكْتَسَبَتْ لأن في الاكتسابِ ضربًا من الاعتمال، والمعالجة، حسبما تقتضيه صيغة (افتعل)، فالسيئات فاعلها يتكلفُ مخالفةَ أمر الله، ويتعداه، بخلاف الحسنات، فإنه فيها على الجادة من غير تكلف؛ أو لأن السيئات يجدُّ في فعلها لميل النفس إليها، فجُعلت لذلك مكتسبة، ولمَّا لم يكن الإنسانُ في الحسنات كذلك، وُصفت بما لا دلالة فيه على الاعتمال".

يعني بأدنى تسبب، يُثاب، ولو بالهم.

"رَبَّنَا لا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا [البقرة:286] أي: قولوا ذلك في دعائكم، ويحتمل أن يكون ذلك من بقية حكايةِ قولهم".

قولوا ذلك، يعني: يكون تعليمًا من الله لعباده، كيف يقولون، فيكون الكلام انتهى لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ [البقرة:286] ثم علمهم كيف يقولون رَبَّنَا لا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا [البقرة:286].

"ويحتمل أن يكون ذلك من بقية كلامهم" آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ [البقرة:285] رَبَّنَا لا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا [البقرة:286] ويكون لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا، وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ [البقرة:286] مُعترض من كلام الله بين قولهم الأول، والأخير.

"رَبَّنَا لا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا [البقرة:286] أي: قولوا ذلك في دعائكم، ويحتمل أن يكون ذلك من بقية حكايةِ قولهم، كما حكى عنهم قولهم: سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا [البقرة:285] والنسيان هو الذهولُ الغالبُ على الإنسان، والخطأُ غير العمد، فذلك معنى قوله ﷺ رُفع عن أمتي الخطأُ، والنسيان[4]".

هو لا يثبت بهذا اللفظ، وإنما هو بلفظ: إن الله قد تجاوز عن أمتي الخطأ، والنسيان، وما استكرهوا عليه[5] تجاوز، وليس رُفع.

هنا في قوله: رَبَّنَا لا تُؤَاخِذْنَا [البقرة:286] على الاحتمالين باعتبار أنه من كلام الله يكون تعليمًا للمؤمنين كيف يقولون، يكون على الاحتمالين من: الموصول لفظًا المفصول معنًى، "أي قولوا ذلك في دعائكم".

ويقول: "النسيان هنا أي في رَبَّنَا لا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا هو الذهول" لأن النسيان يأتي بمعنى الترك نَسُوا اللَّهَ [الحشر:19] أي: تركوا ذكره، وطاعته، والإيمان به فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ [الحشر:19] وقوله: رَبَّنَا لا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا [البقرة:286] ليس معناها تركنا طاعتك، وتركنا العمل بما أمرتنا به، ليس هذا المراد بالنسيان هنا، وإنما الذهول نَسِينَا ذهاب المعلوم يُقال له النسيان، يقول الفرق بين النسيان، والسهو:

ذهابُ ما عُلم قُل نسيانُ والعلمُ في السهوِ له اكتنانُ[6]

يعني السهو مثل سبق اللسان، يسهو الإنسان عن شيءٍ مُختزن عنده، لكن لضعف الإنسان يحصل له سهو، ولكن النسيان أن يذهب المعلوم من الذهن رَبَّنَا لا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا [البقرة:286] فلو أكل، أو شرب ناسيًا لصومه فصومه صحيح من نسي صلاة فليصل إذا ذكرها[7] فهذا لا يؤاخَذ عليه الإنسان.

"وقد كان يجوز أن يؤاخَذ به لولا أن الله رفعه".

"يجوز أن يؤاخذ به" يعني يجوز عقلًا المؤاخذة بالنسيان، لكنَّ الله رفع ذلك.

"وَلا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا [البقرة:286] التكاليف الصعبة".

 

الإصر: يُقال للعبء الثقيل، الذي يأصر صاحبه، يعني يحبسه مكانه لثقله، والمقصود بذلك التكاليف الشاقة، وبعضهم يقول: العهد وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي [آل عمران:81] وهذا الذي اختاره ابن جرير - رحمه الله -[8] يعني قوله: وَلا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا [البقرة:286] على قول ابن جرير: العهد الثقيل، وكأن المعنى يرجع إلى ما سبق أيضًا يعني تكاليف شاقة، أو العهد الثقيل الشاق بتكاليف شاقة وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ [الأعراف:157] يعني التكاليف الشاقة.

"وَلا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا [البقرة:286] التكاليف الصعبة، وكانت قد كُلفت لمن تقدم من الأمم كقتل أنفسهم، وقرض أبدانهم، ورُفعت عن هذه الأمة، قال تعالى: وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ [الأعراف:157]".

يعني بنو إسرائيل في توبتهم من عبادة العجل أُمروا أن يقتلوا أنفسهم، بأن يقتل بعضهم بعضاً فَاقْتُلُوا أَنفُسَكُمْ [البقرة:54] فهذه توبتهم، ورُفع هذا عن هذه الأمة، فيندم الإنسان، ويعزم ألا يرجع إلى الذنب، ويُقلع عنه، فهذه التوبة، وهكذا القرض للأبدان، ونحو ذلك، يعني مثلًا: في مسائل الطهارات اليهود يبالغون في هذا، فيُقطع الثوب الذي أصابه النجاسة مثلًا، والنصارى لا يتنزهون من النجاسات، فجاءت هذه الأمة، وسطًا، فتُطهر النجاسة بالماء، ولا يحتاج إلى قطع، ولا غيره.

"وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ [الأعراف:157] وقيل: الإصر المسخُ قردةً، وخنازير وَلا تُحَمِّلْنَا مَا لا طَاقَةَ لَنَا بِهِ [البقرة:286] هذا الدعاءُ دليلٌ على جواز تكليف ما لا يُطاق؛ لأنه لا يُدعى برفع ما لا يجوز أن يقع، ثم إن الشرع رفع وقوعه، وتحقيقُ ذلك أن ما لا يُطاق أربعةُ أنواع".

يقصد بـ(يجوز) يعني عقلًا، وهو الكلام الذي نقله عن الأشاعرة، وأن المعتزلة قالوا: هذا مُحال.

ثم النسخة الثانية: إن الشرع...

الطالب: موجودة في الهامش - يا شيخ - أيضًا هذه.

دفع وقوعه، أو رفع وقوعه، لا إشكال، لكن (دفع) كأنها أقرب باعتبار أنه لم يقع، والرفع يكون لشيءٍ، واقع، فدفع ربما تكون أليق.

"وتحقيقُ ذلك أن ما لا يُطاق أربعةُ أنواع:

الأول: عقليٌ محض، كتكليف الإيمان لمن علم الله أنه لا يؤمن، فهذا جائزٌ، وواقع بالاتفاق".

 

عقليٌ محض، يعني كالتكليف بما لا يُطاق، كالتكليف بالإيمان لمن علم أنه لن يؤمن، مثل أبو لهب، هو مُطالب بالإيمان، لكن علم الله أنه لن يؤمن، لا هو، ولا امرأته؛ لأن الله قال: سَيَصْلَى نَارًا ذَاتَ لَهَبٍ [المسد:3] قالها عنه، وهو حي، فدل على أنه يموت على الكفر، وفعلًا لم يؤمن، آمن كثير من كبراء المشركين: كأبي سفيان، وصفوان بن أمية، والحارث بن هشام، وأمثال هؤلاء، ولم يؤمن أبو لهب، ولا امرأته، يقول: "كتكليف الإيمان لمن علم الله أنه لا يؤمن، فهذا جائزٌ، وواقع" يعني: جائزٌ عقلًا، وواقعٌ شرعًا.

"والثاني: عاديٌ، كالطيران في الهواء".

 

فما لا يُطاق إما أن يكون عقلي، حتى الامتناع يقولون: في امتناع عقلي، وفي امتناع عادي، وفي امتناع شرعي، ثلاث أنواع.

وهنا يتحدث عن ما لا يُطاق، إما عقلًا من الناحية العقلية، أو عادي يعني: في مجاري العادات، كالطيران في الهواء، لو كُلف الإنسان أن يطير كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ [الأنعام:125] يعني: يحاول الصعود، ولا يستطيع، فهذا ممتنع عادةً، مثل وجود الولد من غير زواج ممتنع عادةً، وجود الثمر من غير شجر، ومن غير زرع هذا ممتنع عادةً، لكن يمكن أن يوجد، يعني مريم - رحمها الله - جاءها الولد من غير زواج، وكان يأتيها الرزق، والثمر، ونحو ذلك من غير زرع أَنَّى لَكِ هَذَا قَالَتْ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ [آل عمران:37] قيل: كانت تأتيها فاكهة الصيف في الشتاء، وفاكهة الشتاء في الصيف، كما سيأتي - إن شاء الله - في سورة آل عمران.

"والثالث: عقليٌ، وعادي، كالجمع بين الضدين، فهذان وقع الخلاف في جواز التكليف بهما، والاتفاق على عدم وقوعه".

 

جواز التكليف يعني الجواز العقلي، أنه جائز عقلًا، هل يجوز، أو لا يجوز؟ والاتفاق على عدم الوقوع يعني من الناحية الشرعية، فإذا رأيتم في كتب الأصول أن المتكلمين يقالون: هذا جائز، فيقصدون الجواز العقلي، فهذا الذي لا يُطاق عقلًا، وعادةً، كالجمع بين الضدين، مثل الضدان: ما لا يجتمعان في وقت واحد في ذاتٍ واحدة، ويمكن ارتفاعهما، فالجمع بينهما ممتنع، وكذلك الجمع بين النقيضين - فهو أشد - لا يجتمعان، ولا يرتفعان، لا بد من وجود واحد منهما، فالجمع بين الضدين، والجمع بين النقيضين، مثل: الوجود، والعدم هذان نقيضان، والليل، والنهار هذان نقيضان، والحياة، والموت نقيضان، فهذا جمعٌ بين النقيضين، الجمع بين الضدين قلنا: لا يجتمعان، ويمكن ارتفاعهما، مثل لو أراد الإنسان يجمع بين القيام، والقعود مثلًا، فهذا ممتنع، جمعٌ بين الضدين، لو أراد أن يجمع بين الحركة، والسكون هذا جمعٌ بين النقيضين، لا يجتمعان، ولا يرتفعان، يعني: إما ساكن، وإما متحرك، فلو كُلف بأن يكون ساكنًا متحركًا في آنٍ واحد، ما يستطيع، فكيف يكون بين ساكن، ومتحرك؟! أن يجمع بين القيام، والقعود في آنٍ واحد، قائم قاعد ما يمكن، إما قائمًا، أو قاعدًا فهذان ضدان، وتلاحظون أن مثل هذه الأمثلة مُتكَلفة، وإنما يشتغل بذلك أهلُ الكلام، أما السلف فهم أبعد ما يكونون عن هذا الجدل، والاشتغال، يكفيهم قول الله تعالى: لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا [البقرة:286] انتهى، بعيدًا عن هذه التكلفات.

"والرابع: تكليفُ ما يشقُ، ويصعب، فهذا جائزٌ اتفاقاً".

 

يعني عقلًا.

"فقد كلفه الله من تقدم من الأمم، ورفعه عن هذه الأمة".

 

فهو جائز، وواقع في الأمم السابقة، ورُفع، أو دُفع عن هذه الأمة، ولاحظ هنا التعبير بالرفع هو موافق للعبارة الأولى - التي عدَّلناها - ثم إن الشرع رفع وقوعه، وقلنا: إن دفع أقرب، وأدق، وهنا "ورفعه عن هذه الأمة" باعتبار أنه، وقع على الأمم السابقة، فرُفع عن هذه الأمة، بناءً على لفظ: "رُفع عن أمتي الخطأ" لكنها لا تثبت، والثابت لفظ: إن الله قد تجاوز عن أمتي[9] يعني المقصود "تكليف ما يشقُ، ويصعب" يعني ما كان فيه مشقة بالغة، كالآصار التي كانت على من قبلنا، والتكاليف الشاقة الصعبة، أما المشقة العارضة في التكليف المحتملة، فهذا لا يكاد يخلو منه عمل: كالطهارة، والضوء على المكاره، والصلاة، والمشي للصلاة، والصيام، والحج، والجهاد، فكل هذا تكاليف لا تخلو من مشقة، لكنها مشقةٌ محتملةٌ.

"وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا [البقرة:286] ألفاظٌ متقاربةُ المعنى، وبينها من الفرق: أن العفو تركُ المؤاخذة بالذنب، والمغفرةَ تقتضي مع ذلك الستر، والرحمة تجمع ذلك مع التفضل بالإنعام".

"العفو بمعنى ترك المؤاخذة بالذنب" من المحو، تقول: عفت الريح الأثر، فتُمحى عنه هذه الذنوب، والخطايا، لا يؤاخذ عليها، والغفر فيه معنى التجاوز، يعني: أن لا يقع عليه تبعة بسبب هذا الذنب، بالإضافة إلى الستر، فهذا الغفر، قلنا من ذلك يُقال: المغفر، وهو ما يلبسه المقاتل على رأسه مما يقيه الضرب بالسلاح، ويستر رأسه، فيكون الغفر وقاية، وستر اغْفِرْ لَنَا [البقرة:286].

فيكون الغفر، والعفو من باب التخلية، والرحمة من باب التحلية، فبالرحمة يحصل له الألطاف الربانية، والإنعام، والإفضال، ودخول الجنة لن ينجي أحداً منكم عمله قالوا: ولا أنت يا رسول الله؟ قال: ولا أنا، إلا أن يتغمدني الله برحمته[10] فالعفو، والتجاوز، والغفر، كذلك أيضًا مع الستر، والرحمة يكون بها دخول الجنة، ونزول الألطاف الربانية.

"مَوْلانَا [البقرة:286] ولينا، وسيدنا".

 

المولى: الولي، والسيد، الناصر، ونحو ذلك. 

  1.  سبق تخريجه.
  2.  سبق تخريجه.
  3.  أخرجه مسلم في كتاب الفتن، وأشراط الساعة، باب إذا تواجه المسلمان بسيفيهما برقم: (2888).
  4.  لم نعثر عليه بهذا اللفظ.
  5.  أخرجه ابن ماجه في كتاب الطلاق، باب طلاق المكره، والناسي برقم: (2043)، وصححه الألباني.
  6.  شرح نظم الورقات (27/14).
  7.  أخرجه البخاري في كتاب مواقيت الصلاة، باب من نسي صلاة فليصل إذا ذكر، ولا يعيد إلا تلك الصلاة برقم: (597)، ومسلم في كتاب المساجد، ومواضع الصلاة، باب قضاء الصلاة الفائتة، واستحباب تعجيل قضائها برقم: (680).
  8.  تفسير الطبري = جامع البيان ط هجر (10/496).
  9.  سبق تخريجه.
  10.  أخرجه أحمد ط الرسالة (15/516 - 9831)، وقال محققو المسند: "إسناده صحيح على شرط الشيخين".

مرات الإستماع: 0

لما نزلت الآية السابقة: وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ [سورة البقرة:284]، اشتد ذلك على أصحاب النبي ﷺ، فقالوا: قد أُنزلت عليك هذه الآية ولا نُطيقها، فقال -عليه الصلاة والسلام: أتريدون أن تقولوا كما قال أهل الكتابين من قبلكم: سمعنا وعصينا بل قولوا سمعنا وأطعن، فلم[1] اقترأها القوم وذلت بها ألسنتهم فنسخها وأنزل في إثرها: آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ [سورة البقرة:285]"، الآية، فهذا مُخرج في صحيح مسلم.

ووجه قوله هنا في هذه الرواية: "فنسخها الله"، قلنا: بأن النسخ يأتي لمعانٍ منها: البيان، وتقييد المُطلق، وتخصيص العام، بالإضافة إلى رفع الحكم الذي هو النسخ في اصطلاح المتأخرين من الأصوليين والفقهاء وغيرهم.

فهنا نسخها الله تعالى بهذه الآية بمعنى أنه بيّن ذلك، كما سيأتي في قوله -تبارك وتعالى: لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ رَبَّنَا لا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا رَبَّنَا وَلا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا رَبَّنَا وَلا تُحَمِّلْنَا مَا لا طَاقَةَ لَنَا بِهِ [سورة البقرة:286]، وفي الحديث القدسي: أن الله قال: قد فعلت [2]

قوله -تبارك وتعالى: آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ [سورة البقرة:285]، آمن الرسول بمعنى أقر وأذعن وانقاد وصدق بما يجب التصديق والإقرار به، فقوله: بِمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ هذا يُفيد العموم كما هو معلوم، فهذا يعني الإيمان بكل ما أنزل الله وأمر بالإيمان به بِمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ بما أوحاه الله -تبارك وتعالى- إلى نبيه ﷺ، آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ، يعني: والمؤمنون آمنوا بما أنزل الله على رسوله ﷺ وبما يجب الإيمان به.

كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ، فالمعنى: آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ، يعني آمنوا كذلك، كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ، هذا التعبير كما سيأتي: كُلٌّ آمَنَ، لم يقل: كلهم آمنوا، له دلالة من الناحية البلاغية سيأتي ذكرها إن شاء الله تعالى، فالكل آمن بالله إلهًا ومعبودًا وربًا، آمنوا بإلهيته وربوبيته وأسمائه وصفاته: كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ بكل ما يجب الإيمان به فيما يتعلق بالله ، كذلك أيضًا آمنوا بالملائكة الكرام، والملائكة خلق من خلق الله، كرمهم، واصطفاهم، خُلقوا من نور ولا يُحصيهم إلا الله -تبارك وتعالى، وقد تقدم بعض ما يدل على كثرتهم.

والإيمان بالملائكة نوعان:

النوع الأول: إيمان مُجمل، أن يؤمن بأن لله ملائكة كرامًا لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون.

النوع الثاني: إيمان مُفصل بمن سماه الله أو سماه رسوله ﷺ كجبريل، وميكائيل، وإسرافيل، ومالك خازن النار، إلى غير ذلك مما ثبت في الكتاب والسنة تعيينه وتسميته، وهناك أسماء شاعت ولكنها لم تثبت، فملك الموت هكذا جاء: قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ [سورة السجدة:11]، فتسميته بعزرائيل لا تثبت لا في الكتاب ولا في السنة.

وهناك ما اختلف فيه أهل العلم: مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ [سورة ق:18]، كاتب للحسنات وكاتب للسيئات، فهل هذه أسماؤهم رقيب والآخر اسمه عتيد؟ أو أنها صفة؟ فبعض العلماء يقول: هذه صفة وليست باسم.

هاروت وماروت: وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُوا الشَّيَاطِينُ يعني: اليهود، وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُوا الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ وَمَا أُنزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبَابِلَ هَارُوتَ وَمَارُوتَ [سورة البقرة:102]، هل هم ملائكة؟ هذا فيه خلاف كثير بين أهل العلم، فبعض العلماء يقولون: هم ملائكة وقع ذلك منهم ابتلاء من الله لخلقه.

وبعضهم يقول: هؤلاء لم يكونوا ملائكة وإنما من ملوك الدنيا: وَمَا أُنزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبَابِلَ هَارُوتَ وَمَارُوتَ، فالملَك والملِك لغتان فيُقال للملِك من ملوك الدنيا ملَك، ويُقال له: ملِك بالكسر؛ فقالوا هم من البشر.

وبعضهم يقول غير ذلك، لكن المقصود أن الذي يجب الإيمان به إيمانًا مفصلاً هو ما ثبت في الكتاب والسنة بحيث لا يجحده لو بلغه ذلك، يعني لو أنكر قال: لا يوجد ملك اسمه جبريل فهذا تكذيب للقرآن، لكن لو أحدًا من الناس دخل في الإسلام وعامي وجاهل ولا يعرف إلا الفاتحة وبعض قصار السور فلم يعلم بأسماء الملائكة على التعيين، لا يعرفهم عامي من عوام المسلمين لم يدرس ولم يتعلم لكنه يؤمن بالله ويؤمن بالملائكة هل يُقال: يجب عليه أن يتعلم ويدرس على التفصيل ويتعرف على أسماء الملائكة الذين وردوا في الكتاب والسنة؟

الجواب: لا يجب، يكفيه الإيمان المُجمل، لكن ما بلغه منهم فإنه لا يجوز أن يُنكره ممن ثبت في الكتاب أو في السنة، وليس ممن يثبت أصلاً مثل: عزرائيل هو يؤمن بملك الموت لكن ما اسمه؟ الله أعلم، ولا من اخُتلف فيه يعني هل هم ملائكة أو ليسوا ملائكة، أو هل هذه أسماء أو صفات، هو يؤمن أنه: مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ [سورة ق:18]، ملكان موكلان كل شخص وكِل به اثنان واحد يكتب الحسنات والثاني يكتب السيئات، كل ما يلفظ فهو يُملي على الملك.

كذلك أيضًا الإيمان بالكتب كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ [سورة البقرة:285] الكتب الإيمان بهم كذلك على نوعين: مُجمل ومُفصل. 

فالإيمان المُجمل أن يؤمن إجمالاً أن الله أنزل كتبًا على أنبياءه ورسله -عليهم الصلاة والسلام، والإيمان المُفصل أن يؤمن بما ورد وثبت في الكتاب والسنة من هذه الكُتب على التحديد والتعيين، مثل: التوراة، والإنجيل، والزبور، صُحف إبراهيم، صُحف موسى -عليهم السلام، فهذا يؤمن على التحديد، لكن بالنسبة للقرآن يجب أن يؤمن بالقرآن.

النوع الثاني: لو أنه آمن إيمانًا مُجملاً لم يبلغه أسماء هذه الكتب أصلاً، إنسان من العامة وليس له معرفة حتى بقراءة القرآن لكنه يحفظ الفاتحة وبعض قصار السور ويُصلي بها فلم يعلم بأسماء الكتب على التحديد فيكفيه الإيمان المُجمل أن الله أنزل كُتبًا لا ينكر هذا يقول: إن الله لم يُنزل كتابًا، والحبر الذي قال في لحظة غضب: مَا أَنزَلَ اللَّهُ عَلَى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ [سورة الأنعام:91]، فالعبارة "ما" هذه تفيد العموم، وشيء نكرة في سياق النفي، وسُبقت بــ"من" فهي للتنصيص الصريح على العموم، مَا أَنزَلَ اللَّهُ عَلَى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ [سورة الأنعام:91]، وهذا يهودي عالم من علماء اليهود، فجاء الرد من الله: قُلْ مَنْ أَنزَلَ الْكِتَابَ الَّذِي جَاءَ بِهِ مُوسَى [سورة الأنعام:91]، يعني: معنى كلام هذا الحبر أنه يُنكر التوراة أيضًا أنها لم تنزل، فهذا إعلان منه بالكفر، فجاء هذا الرد عليه الذي يُسميه أهل علم الجدل بالنقض، يعني نقض هذا العام المُبرم بفرد لا يُنكره وهو التوراة، مَنْ أَنزَلَ الْكِتَابَ، لو قال: التوراة ما نزلت لكان هؤلاء اليهود يرمونه بالحجارة.

فالمقصود أن الإيمان المُجمل بالكتب لمن لم يبلغه شيء من أسماءها على التحديد يكفي إلا القرآن يجب أن يؤمن بالقرآن؛ لأنه الكتاب الذي تعبده الله به.

كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ [سورة البقرة:285]، لكنه لو بلغه وجود التوراة والإنجيل ونحو ذلك فأنكرها؛ قال هذه ليست كتب لله أصلاً، هو لا يتحدث عن التحريف، هو يُنكر أصل هذه الكتب، فما الحكم؟

هذا لا يجوز، هذا مُكذب بالقرآن.

كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ [سورة البقرة:285]، الرسل -عليهم الصلاة والسلام- أيضًا الإيمان بهم على نوعين: مُجمل ومُفصل كما سبق، يؤمن أن الله أرسل رُسلاً كرامًا إلى الأمم يدعونهم إلى التوحيد والإيمان، ويعلمونهم شرائع الدين بوحي من الله -تبارك وتعالى، فهذا الإيمان المُجمل يكفي لمن لم يبلغه أسماء هؤلاء الرسل -عليهم الصلاة والسلام، لكن يجب أن يؤمن بمحمد ﷺ؛ لأنه هو الرسول الذي أُرسل إليه والأسئلة الثلاثة في القبر: من ربك؟ وما دينك؟ ومن هذا الرجل الذي بُعث فيكم؟ فلابد أن يؤمن به.

أما الإيمان المفصل فهو أن يؤمن بمن سمى الله من هؤلاء الرُسل -عليهم الصلاة والسلام، بمن ثبت في الكتاب والسنة، إذا بلغه ذلك يجب الإيمان عليه فلا يُنكر، إذا جاء أحد وقال بأن موسى ليس برسول، أن عيسى ليس برسول، أن إبراهيم ليس برسول، أو قال هذه شخصيات وهمية لا حقيقية لها غير موجودة، فهذا يكفر؛ لأنه مُكذب بالقرآن، فهذا الفرق بين الإيمان المُجمل والإيمان المُفصل، لكن هناك أسماء يُذكرون على أنهم من الأنبياء أو الرسل -عليهم الصلاة والسلام- لم يثبت في الكتاب والسنة، فلو أنه توقف وقال: أنا لا أُثبت هذا أو اختلف فيه هل هو نبي أو لا، فلا يُقال: إن ذلك تكذيب للقرآن، ولا يكون ذلك مؤثرًا في إيمانه، مثل من الذي اختلفوا فيه؟ مثل: الخضر هل هو نبي أو رجل صالح؟ قولان لأهل العلم:

الذين يقولون: إنه نبي يحتجون ببعض الإشارات غير الصريحة: وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي [سورة الكهف:82]، قالوا: إذًا يوحى إليه، هذا دل على أنه نبي، وكذلك نسبة العلم الذي عنده مِنْ لَدُنَّا [سورة الكهف:65]، فهذا العلم الذي من الله بالوحي لم يتعلمه من أحد.

والذين يقولون: إنه ليس بنبي يحتجون أنه لم يدل على نبوته دليل صريح يجب الوقوف عنده، ومثل هذه الإشارات لا تكفي في إثبات نبوته، وهناك من لم يرد ذكره في الكتاب ولا في السنة أصلاً لكن يذكرونه في الإسرائيليات أخبار بني إسرائيل وصحفهم وكتبهم ومروياتهم، وهذه المرويات لا نُصدق بها ولا نُكذب إن كانت لا تُخالف ما عندنا ولا توافق ما عندنا نتوقف فيها، أما ما كان مخالفًا لما ثبت في الكتاب والسنة فهذا يُرد، وما كان موافقًا لما في الكتاب أو السنة فهذا يُصدق، لكن يبقى ما لم يرد في الكتاب والسنة ما يُصدقه ولا ما يُكذبه.

دانيال مثلاً هل هو نبي؟ هذا يذكرونه ويقولون: بأن الذي يوجد في بيت المال لكسرى لما فُتحت بلاد فارس، وفُتحت نهاوند وجدوا في بيت المال تابوتًا أو نعشًا فيه رجل ميت ولم يتغير، الصحابة الذين رأوه لما فتحوا في عهد عمر فتحوا بيت المال وجدوا هذا الرجل مُسجى لم يتغير إلا شعرات من قفاه، فأرسلوا إلى عمر يسألونه ماذا يفعلون، فهؤلاء يقولون: إنه دانيال نبي من أنبياء بني إسرائيل، وأن بُختنصر لما جاء إلى العراق وخرب بيت المقدس وحصل ما حصل من الخراب في بيت المقدس وما حوله من قِبل هؤلاء.

وبعضهم يقول: هو المراد بقوله -تعالى- في سورة الإسراء: بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَادًا لَنَا أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ فَجَاسُوا خِلالَ الدِّيَارِ وَكَانَ وَعْدًا مَفْعُولاً ۝ ثُمَّ رَدَدْنَا لَكُمُ الْكَرَّةَ عَلَيْهِمْ وَأَمْدَدْنَاكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَجَعَلْنَاكُمْ أَكْثَرَ نَفِيرًا [سورة الإسراء:5، 6]، أكثر نافرًا يعني من الرجال الجيوش، فقتل فيهم قتلاً ذريعًا بُختنصر وأخذ خيارهم يعني ممن لم يُقتل، يُقال إن ممن أُخذ دانيال، وأنه حُبس هناك في العراق، ولما توفي رأوا منه قبل ذلك من أمارات الصلاح والتقوى والكرامات والمعجزات هكذا يقولون، فعرفوا أنه رجل صالح فكان الفُرس إذا أجدبوا -ما نزل المطر- خرجوا بالنعش من بيت المال يستسقون به.

فالشاهد لما سأل الصحابة عمر ما يفعلونه بهذا الرجل، وخافوا أن الناس يتعلقون به، ولربما يُعبد هذا القبر في المستقبل فأمر عمر أن تُحفر قبور كثيرة ويوضع ليلاً في واحدًا منها فيُعمى قبره، يعني: لا يُدرى موضع القبر، فهذا هو اللائق بمثل هذا المقام، كما قطع عمر شجرة الحديبية لما رأى الناس وهو في طريق مكة رأى الناس يتسارعون إلى شجرة فسأل؟ فقالوا: هذه الشجرة التي بايع النبي ﷺ تحتها في الحديبية، ذهبوا يتبركون بها، لاحظ في ذلك الوقت حيث أعلام التوحيد ظاهرة في زمن الخليفة الراشد المحدث ويتسارعون إلى شجرة فأمر بقطعها قطعًا لدابر الشر والفتنة[3].

وهكذا كان دأب من كان على سنة وجادة إلى عصرنا هذا، إلى عهد قريب ليس بالبعيد في القرن هذا الماضي جاء سيل واجتحف قبورًا في ناحية قريبة ليست بالبعيدة قُرب اليمامة التي وقعت فيها حرب مع مُسيلمة الكذاب، وكانت أشد حروب المرتدين في عهد أبي بكر الصديق ، فلما جحف السيل هذه الناحية وهي ناحية كبيرة وجُرف وادي خرج لهم قبر فرأوا رجلاً على هيئته لم يتغير، وفيه آثار الدم، وعليه كفن من ثياب، وله شعر لم يتغير، فحُمل وغُيّب قبره، وضع له قبر آخر وغُيب، هذا قريب في القرن الماضي، طبعًا الصحابة قد يُكرم الله من شاء منهم فلا تأكله الأرض، وإلا الأصل أن ذلك للأنبياء إن الله حرّم أجساد الأنبياء على الأرض [4]

فهذا هو الأصل بالنسبة للأنبياء لا تأكلها الأرض، لكن بالنسبة لغير الأنبياء فالأصل أن ذلك يذهب يعني الجثمان ويتلاشى ويضمحل إلا من أكرمه الله كما جاء في عدد من الأخبار، يعني: لما احترق المسجد النبوي وتساقطت السقوف ونحو ذلك، وأرادوا أن يُجددوا عمارته وسقط بعض الألواح ونحو ذلك على القبور فلما أرادوا إبعادها ونحو ذلك خرجت لهم رجل في الحفر خرجت رجل ففزعوا خشوا أن يكون ذلك -هذا في زمن التابعين- خافوا أن يكون ذلك قدم النبي ﷺ، ففزع الناس، فجاءهم من يقول: هذه رجل عمر وليس هذا هو قبر النبي ﷺ؛ لأن قبورهم كانت على التوالي، فتبين أن رجل عمر لم تتغير.

شهداء أحد بعد مدة جابر بن عبد الله لم تطب نفسه أن يُدفن أبوه مع غيره؛ لأنه دُفن في القبر الواحد الرجلان والثلاثة فما طابت نفسه فحفر بعد مدة فاستخرج أباه لم يتغير طريًا، وفيه أثر الدم ووضعه في قبر مستقر، وأُجريت عين في زمن معاوية يعني بعد ما يقرُب من أربعين سنة من قِبل أُحد واحتاجوا إلى نقل بعض القبور قبور الشهداء في أحد فحفروا فوجدوهم لم يتغيروا، فهذه كرامة من الله لهم، لكن لا يُقال: إن هذا هو الأصل بالنسبة لأهل الصلاح والإيمان والخير وأن تكون هذه علامة على صلاح الإنسان من علمه، لا، لا، ليس بشيء من ذلك.

وذكرت لكم في العِبر من التاريخ أن بني العباس لما صارت الخلافة لهم ووقع على أيديهم من المظالم ما وقع من ذلك أنهم نبشوا قبور بني أُمية جميعًا من معاوية إلى آخر من مات من خلفاء بني أُمية إلا عمر بن عبد العزيز أبقوا على قبره، ففي كتب التاريخ كما جاء في "البداية والنهاية" للحافظ ابن كثير: أنهم لم يجدوا في قبر معاوية إلا مثل الخيط[5] ما وجدوا شيئًا، ونقول: مثل هذا لعله كرامة من الله لمعاوية ؛ لئلا يعبثوا بجسده؛ لأنهم كانوا يُحرقون الجُثث.

فبعض هؤلاء الخلفاء ما وجدوا إلا الجُمجمة، وبعضهم وجدوا العظام كاملة هيكل، وبعضهم وجدوا جُثة، فالشاهد إن لم يوجد لا يعني أن هذا الإنسان ليس بذي منزلة عند الله ، إنما الذي يُحفظ هو أجساد الأنبياء -عليهم الصلاة والسلام، وما جاء في الحديث المشهور في خروج بني إسرائيل من مصر إلى الشام، وما جرى من نقل يوسف ؛ لأنه أوصى أن يُنقل إلى الأرض المقدسة فما عرفوا قبره حتى دلهم على ذلك عجوز من بني إسرائيل كما ثبت في الحديث، وأنها اشترطت على موسى إذا دلته على قبره أن تكون رفيقة له في الجنة، فأشارت إلى موضع ماء مُجتمع فأمرت بنزحه فُنزح، وأشارت إلى قبره تحت هذا الماء فاستخرجوا عظامه هل معنى ذلك أنه تحلل؟

الجواب: لا، المقصود استخرجوا جثته، فقد يُعبر عن ذلك بالعظام -عليهم الصلاة والسلام.

فهنا قال: لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ [سورة البقرة:285]، يؤمن بالرسل جميعًا لا يُفرق، وهنا كما سيأتي جاء بهذا القيد في الرُسل؛ لأن هذا موضع خلاف كبير بين الطوائف الثلاث اليهود والنصارى والمسلمون، اليهود لا يؤمنون بعيسى ولا بمحمد ﷺ، والنصارى لا يؤمنون بمحمد -عليه الصلاة والسلام، فهؤلاء الذين يقولون: نؤمن ببعض ونكفر ببعض هؤلاء وصفهم الله بالكفر: أُوْلَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ حَقًّا [سورة النساء:151]، فيجب الإيمان بالرسل -عليهم الصلاة والسلام- من غير تفريق.

وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ [سورة البقرة:285]، قال الرسول والمؤمنون: سمعنا وأطعنا سمعنا سماع قبول، وانقادت قلوبنا وجوارحنا، ونرجو أن تغفر لنا يا رب، تغفر ذنوبنا، فأنت الذي أنعمت علينا، وإليك المصير والمرجع والمآب. 

 

آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ [سورة البقرة:285]، هذه الآية في ختم هذه السورة الكريمة يؤخذ منها من الهدايات:

أولاً: ما يتعلق بالمناسبة بين فاتحة السورة وخاتمتها، ذكرت في بعض المناسبات أن المقصود بالمناسبة وجه الارتباط، قلنا بين الآية والآية، وبين المقطع والمقطع، وبين مضمون الآية وموضوع الآية مع ختمها ختم الآية، وبين الجملة والجملة، وكذلك من يعتبرون المناسبات بين السور، بين السورة والسورة يقولون مثلاً: أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الْفِيلِ ۝ أَلَمْ يَجْعَلْ كَيْدَهُمْ فِي تَضْلِيلٍ ۝ وَأَرْسَلَ عَلَيْهِمْ طَيْرًا أَبَابِيلَ ۝ تَرْمِيهِمْ بِحِجَارَةٍ مِنْ سِجِّيلٍ ۝ فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَأْكُولٍ [سورة الفيل:1-5]، لِإِيلافِ قُرَيْشٍ [سورة قريش:1]، يعني: فعل بهم ذلك، فعل بأصحاب الفيل لماذا؟ لِإِيلافِ قُرَيْشٍ [سورة قريش:1]، هذا وجه الارتباط والمناسبة بين السورة والسورة.

وهكذا عند من يعتبر المناسبة، وهذا مبناه على أن ترتيب السور بتوقيف من النبي ﷺ والمسألة فيها خلاف معروف، ترتيب الآيات بهذه التي نراها على المصحف هذا لا شك أنه كما أرشد إليه النبي ﷺ بوحي من الله، وإلا فقد يكون النزول فيه متأخرا؛ قد تتأخر الآية ثم يقول النبي ﷺ ضعوها في مكان كذا، وفي موضع كذا مثلاً سورة كذا، لكن ترتيب الآيات بتوقيف من النبي ﷺ وأما ترتيب السور ففيه خلاف هل هو اجتهاد من الصحابة في زمن عثمان ، أو أن ذلك كان بتوقيف.

فهنا نوع من المناسبات وهو العلاقة ووجه الارتباط بين فاتحة السورة وخاتمتها، لاحظ في أول السورة: ذَلِكَ الْكِتَابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ [سورة البقرة:2]، الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ، هذه أول صفة، والغيب يشمل الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر، الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاة وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ [سورة البقرة:3]، وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ الكتاب، الوحي، وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ الكتب السابقة، وَبِالآخرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ [سورة البقرة:4]، أُوْلَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ [سورة البقرة:5].

هنا في آخر السورة آمَنَ الرَّسُولُ، هناك يُخبر عن المتقين الذين يكون الكتاب هدى لهم، من هؤلاء؟ قال: آمَنَ الرَّسُولُ، هؤلاء الذين حققوا هذا الوصف، ذكرهم في آخرها: آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ، بكل ما أُنزل إليه، وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ في أول السورة.

آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ، يعني: آمنوا، كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ، فهذا كله داخل في الغيب، وكذلك: وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَبِالآخرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ [سورة البقرة:4]، فمدح في أولها المتقين الذين يؤمنون بالغيب، ثم فصّل صفتهم في آخرها بأنهم النبي ﷺ ومن معه، فذكر هذه الأوصاف والاستجابة، والانقياد، سمعنا وأطعنا، وذكر في أولها أنهم بالآخرة يوقنون، وفي آخرها: وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ المصير المرجع والمآب في الآخرة، فهذا وجه من المناسبة، هذا مثال على المناسبة، كما في قوله تعالى: قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ [سورة المؤمنون:1]، وفي آخرها: إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ [سورة المؤمنون:117].

لاحظ فهذا تجد التسبيح مثلاً في أول سورة الحشر سَبَّحَ لِلَّهِ [سورة الحشر:1]، وفي آخرها تجد التسبيح: يُسَبِّحُ لَهُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ [سورة الحشر:24]، فهذا كله لون من ألوان المناسبات المعروفة بالمناسبة بين مطلع السورة وخاتمتها.

كذلك في قوله -تبارك وتعالى: آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ، فلم يقل: آمن الرسول والمؤمنون بما أُنزل إليهم، وإنما قال: آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ، ثم ذكر المؤمنين بعد فقال: وَالْمُؤْمِنُونَ، والتقدير والمؤمنون آمنوا، فصار إيمانهم تبعًا للنبي ﷺ فذكر إيمانه أولاً -عليه الصلاة والسلام، فذلك أنهم تبع له وأنه لا يصح منهم إيمان ولا عمل إلا إذا كان موافقًا، قد تابعوا فيه رسول الله ﷺ، وهو القدوة وهو المُقدم -عليه الصلاة والسلام، فهم لا يستقلون بإيمان دونه ولا بشرع غير شرعه، وَالْمُؤْمِنُونَ، يعني: آمنوا.

آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ آمنوا، حينما ذكر إيمان المؤمنين بعد إيمان النبي ﷺ "والمؤمنون" فدل ذلك على -أو يؤخذ من ذلك- أنه بقدر اتباعهم للنبي ﷺ واقتدائهم به يكون لهم ما لهم من الإيمان، "والمؤمنون" فهم تبع له -عليه الصلاة والسلام- فإن تابعوه في كل ما آتاهم من ربه -تبارك وتعالى- كانوا أكمل إيمانا، فإن نقص اتباعهم كان ذلك نقصًا في إيمانهم بحسب ما نقصوا.

كذلك أيضًا يؤخذ من هذه الآية: كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ، فهذه الأشياء المرتبة: كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ، فذكر الإيمان بالله أولاً؛ لأنه الأصل والأساس، ثم ذكر بعد ذلك الإيمان بالملائكة؛ لأنهم الواسطة بين الله -تبارك وتعالى- في الوحي وبين الرسل -عليهم الصلاة والسلام، ثم ذكر الرسل -عليهم الصلاة والسلام- من البشر؛ لأن هؤلاء الملائكة يتنزلون عليهم بالوحي وهم يُبلغون عن الله -تبارك وتعالى، ثم ذكر الإيمان بالكتب، كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ، فذكر الكتب، هؤلاء الملائكة يأتون بالرسالة الألوكة، فهذه الرسالة هي الكتب، هي ما تضمنته الكتب، يأتون بها للرسل -عليهم الصلاة والسلام- الذين يُبلغون الناس هذه الرسالة فذكره بهذا الترتيب -والله تعالى أعلم.

كذلك يؤخذ من هذه الآية: آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ [سورة البقرة:285]، كأن هذا خُلاصة لما تضمنته السورة بكاملها التي هي أطول سور القرآن، وقد اشتملت على حقائق كثيرة، فاشتملت على قضايا من الإيمان وأوصاف الله -تبارك وتعالى- وأنواع التوحيد، واشتملت على الرسالات والنبوات، واشتملت على حقائق كثيرة من الإيمان بالغيب واليوم الآخر، وكذلك اشتملت على شرائع الإيمان، وأركان الإسلام الخمسة مُضمنة في هذه السورة، إلى غير ذلك مما تحدثنا عنه كثير من العبادات والمعاملات.

فهي سورة قد اشتملت على جُل حقائق الإيمان، ولذلك كان من حفظ البقرة وآل عمران جد في أعينهم، يعني: بمعنى أنه يكون له منزلة باعتبار أنهم كانوا يحفظون ويتعلمون الأحكام والهدايات والمعاني لا يحفظون حفظًا مجردًا، فمن ألم بما في هذه السورة، وعرف ما تضمنته من الأحكام والهدايات وشرائع الإيمان لا شك أنه حصّل خيرًا عظيمًا وعلمًا جمًا، فهنا جاء في ختمها كالخلاصة بعد تلك الجولة الواسعة في الإيمان وأنواعه وشرائعه، جاء الكلام على هذا موجزًا مختصرًا وذلك بقوله: آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ [سورة البقرة:285]، إلى آخر ما قال.

وكذلك أيضًا هذا يُشعر بأن الإيمان بما ذُكر في ثنايا هذه السورة إنما يكون بالانقياد والإذعان والسمع والطاعة، انقياد القلب وانقياد الجوارح: وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا [سورة البقرة:285]، ليس لأحد أن يقول كما قال المشركون: إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا فجاء الجواب عن مقالتهم: وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا [سورة البقرة:275]، هنا: كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا [سورة البقرة:285].

كذلك في قوله: لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ، فقوله: آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ حديث عن الغائب، ثم قال: لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ، لا نُفرق فهذا بضمير المتكلم، فهذا يُسمى التفات انتقال في الخطاب، انتقال الكلام من الغيبة إلى المُتكلم، لا نُفَرِّقُ هذا على قول الأشهر بأن ذلك من جملة مقالتهم، إلا عند من يقول بأن ذلك من كلام الله كالجملة المعترضة بين كلامهم، يعني: أن الله يقول لا نُفرق يُخبر عن نفسه: لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ، لكن هذا بعيد.

وهكذا أيضًا في قوله: وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا [سورة البقرة:285]، بعد قوله: آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ، يدل على أن الإيمان الحقيقي هو الذي يتبعه الانقياد والعمل والاستجابة والإذعان، أما دعوى الإيمان وحدها بعيدًا عن العمل، بعيدًا عن الامتثال فهذه تحتاج إلى إثبات، تحتاج إلى تصديق.

كذلك في قوله -تبارك وتعالى: سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا فهذا السمع سمع استجابة: سَمِعْنَا، وهذا أمر لابد منه في الإيمان فهو أصل فيه، ليس مجرد السمع الذي يحصل به الإدراك فيطُرق الكلام مسامع الإنسان دون أن ينقاد، فالمشركون سمعوا كلام النبي ﷺ وسمعوا القرآن لكنهم لم ينفعهم ذلك، واليهود حينما قالوا: سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا وَاسْمَعْ غَيْرَ مُسْمَعٍ وَرَاعِنَا لَيًّا بِأَلْسِنَتِهِمْ وَطَعْنًا فِي الدِّينِ وَلَوْ أَنَّهُمْ قَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَاسْمَعْ وَانظُرْنَا لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَأَقْوَمَ وَلَكِنْ لَعَنَهُمُ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ [سورة النساء:46]، فكان ذلك من أعظم الكفر "سمعنا وعصينا".

فهنا السمع سمع الاستجابة، هكذا يكون أهل الإيمان أن يقولوا: سمعنا وأطعنا، وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ [سورة الأحزاب:36]، ليس له اختيار، ليس للإنسان اختيار بل عليه الإذعان فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا [سورة النساء:65]، إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا [سورة النور:51]، وجاء بصيغة الحصر إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ ليس هناك شيء آخر، لماذا؟ أنك غير مقتنع، اعرض هذا على عقلك أولاً، هذا الكلام لا مجال له هنا، فإنه لا يمكن أن تثبت قاعدة الإسلام إلا على التسليم، فهذا أصل كبير يؤخذ من هذه الآية.

كذلك الطاعة المتضمنة لكمال الانقياد، هناك سماع قبول إذعان لا تعترض، ولا تتوقف، ولا تتشكك إنما الانقياد والاستجابة، ثم العمل بذلك نفّذ، ولا يسع المسلم غير هذا، وبهذا نعلم بطلان ما يُشاع ويُذاع ويُغرر بالناس أو بكثير من الناس بسببه من هذه الدعايات المُضللة اعرض على عقلك، لا تؤجر عقلك، تعرض على عقلك كلام الله، تعرض على عقلك كلام الوحي من أجل أن يقبل ما شاء ويرد ما شاء، ما مبلغ هذا العقل الذي لا يُدرك ما بداخل الإنسان من أعضاء وكيف تعمل، ولا يعرف ما وراء هذا الجدار، اعرض على عقلك، الوحي يُعرض على العقل فيأخذ العقل ما شاء ويترك ما شاء، فيكون العقل حاكمًا على النقل؟!

هذا لا يكون أبدًا، فهذه خطيرة، ويُصدق بها من يُصدق، ويغتر من يغتر، ويريد أن يعرض النصوص على عقله ويقول: أنا غير مقتنع بحكم الربا، أنا غير مقتنع بكون المرأة نصف دية الرجل، أنا غير مقتنع أن المرأة لها نصف الميراث، غير مقتنع، طبعًا هذا إن استطعت أن تُجيبه تحتاج معه إلى مساحة واسعة طويلة أن يكون هناك قاعدة أساس مُنطلق للحوار للنقاش، المشكلة المُنطلق مفقود؛ لأن هذا ليس عنده أساسيات، تتحدث مع إنسان ما عنده شيء، ما عنده خلفية، تُناقش من هنا، ويأتيك من هنا، ويقفز من هنا، ويظهر من هناك، مشكلة، وهذا مُجرب ومُشاهد، فيحتاج إلى أن يتعلم أشياء كثيرة حتى تقف معه على قاعدة على أرضية تكون منطلقًا للحوار، لكن حوار ليس له أرضية يكون عبثًا.

ولهذا تجد الحافظ ابن القيم على سبيل المثال في كتابه "إعلام الموقعين" وهو من أعظم كتبه وأجلّها، انظروا في هذا الكتاب جاء بأشياء كثيرة جدًا من النصوص عن النبي ﷺ فضلاً عن القرآن التي قال بعض من قال بأنها تُخالف القياس، وأنها على خلاف القياس، وتكلم بكلام متين على كل واحدة عشرات الأمثلة، كلام قوي، وبيّن أنها على وفق القياس.

وذكر شيخ الإسلام في بعض كتبه كـ"درء تعارض العقل والنقل" وهو مطبوع في إحدى عشر مجلدًا، وكتابه الثاني الذي هو "شرح العقيدة الأصفهانية" وهو مطبوع في مجلدين ذكر كلامًا يرد على هؤلاء الذين يزعمون أنهم يُعملون الأصول والقواعد والمقررات العقلية ويردون بها النصوص، ويقولون: إنها تُعارضها وتخالفها فتكلم على هذه وبيّن أن هذه المقررات التي قرروها، وقالوا: إنها قواعد قطعية بيّن أنها باطلة وفاسدة وكسرها -رحمه الله- لم يُبق ولم يذر، وبيّن أنها قواعد فاسدة، وأنهم بنوا على أصل فاسد ظنوا أنه قاعدة صحيحة، ثم يُبين أن هذا الذي اعتقدوا أنه يُخالف العقل بيّن أنه على وفق العقل، بل قال أكثر من هذا، قال: ليس نصوص الكتاب والسنة يعني ما صح منها، قال: "كل ما نُقل وصح عن الصحابة فإنه موافق للمعقول غاية الموافقة"[6].

وقال ابن القيم -رحمه الله- يقول: لو أُعمل النظر الصحيح وطُرق الدلالة في استخراج الأحكام لم يُحتج إلى القياس أبدًا، يقول: ولكنه قد يُقصر من يُقصر في استخراج ذلك من النصوص بطرق دقيقة فيُضطر إلى القياس، وقد يصل إلى الحكم الصحيح بالقياس، لكن يقول: يمكن أن يتوصل إليه بالنص نفسه من الكتاب أو السنة بدون القياس من غير القياس[7] هذا ذكره في "إعلام الموقعين"، كلام متين تقرأ في مثل هذا الكلام والتأصيل وتتمنى تقول: يا ليت قومي يعلمون، يا ليت هؤلاء الشباب الذين يُضللون يطلعون على هذا الكلام ويعرفون أن في الزوايا خبايا، وأن هؤلاء الذين يقدمون لهم مثل هذه المواد المُضللة المُشككة لا يقودونهم إلى غير، ولكنهم وجدوا من يستمع وهو خالي الوِفاض قليل العلم فيحصل بسبب ذلك فتنة، ونسأل الله الهداية للجميع.

كذلك أيضًا في قوله: وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا، كما قال سماحة الشيخ عبد العزيز بن باز -رحمه الله- يقول: هذه أمة اتباع وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا، هذا وصفهم، وهذا لا شك أنه كمال؛ لأن هذا هو الاستجابة الحقيقية لله ولرسوله ﷺ، فإذا آتاهم الله العقل الدال على صدق النبي ﷺ وصحة الكتاب الذي جاء به فإن ذلك لا يُعارض أفراد الأدلة، يعني: العقل هداهم إلى أن ما جاء به الرسول حق، وأن الرسول حق فلا يمكن أن يُعارض هذا العقل بأفراد الأدلة، وهذه العقول تتفاوت، ولذلك انظروا إلى أكثر الناس تقديسًا للعقل المعتزلة، والمعتزلة انقسموا لفرق -اثني عشر فرقة- يُكفر بعضهم بعضًا، أصحاب عقول ومقاييس عقلية، كيف اختلفوا؟ كيف صار يُضلل بعضهم بعضا؟ أكثر من يُقدس العقل، والآن أتباع المعتزلة في العصر الحديث ممن يُسمون بالعقلانيين، وبالتنويرين، وما أشبه ذلك ممن يُقدسون المعتزلة.

أقول: ينبغي أن ينظروا في حال المعتزلة بماذا أفضى إليه فتجد أنه يُكفر بعضهم بعضا، أبو علي الجُبائي عنده فرقة من فرق المعتزلة هو زعيمها، وابنه أبو هاشم عنده فرقة، الأب يُكفر الابن وأتباع الابن، والابن يُكفر الأب وأتباع الأب، كلهم معتزلة عقلانيون، يقولون: العقل هو الأصل والنقل تبع له، فعكسوا القضية، النقل تبع، ويقولون المقاييس العقلية قطعية ودلالة النصوص ظنية، فردوا النصوص، هل وصلوا إلى نتائج سليمة؟

الجواب: أبدًا، لم يصلوا إلى نتائج وإنما وصلوا إلى الشك، ولذلك تجد طوائف المتكلمين كانوا في حال من الحيرة، ومن جاء بعدهم من الأشاعرة كبار هؤلاء الأشاعرة، أبو حامد الغزالي كما قيل دخل في بطن الفلسفة وما استطاع أن يخرج منها ثم ماذا كان حاله ومآله في نهاية العمر اعتزل كل شيء ومات وصحيح البخاري على صدره، هذه النهاية.

أبو المعالي الجويني إمام كبير من أئمة المتكلمين العقلانيين له مدرسة كبيرة عند هؤلاء المتكلمين من الأشاعرة كان يقول: "لقد خُضت البحر الخِضم وخليت أهل الإسلام وعلومهم وها أنا أرجع إلى عقيدة عجائز نيسابور"[8] ويقول: "عليكم بدين العجائز" يعني الفطرة، هذا جبل الجبال هؤلاء الواحد منهم مثل الجويني يقول: "قرأت درس يعني خمسمائة في خمسمائة اضرب من الكتب مخطوطة مجلدات خمسمائة في خمسمائة ليست خمسمائة مطوية أو تغريده، لا مجلدات كتب ضخمة، خمسمائة في خمسمائة، وخليت أهل الإسلام وعلومهم وها أنا أموت على عقيدة عجائز نيسابور".

والثاني عند الاحتضار عند الموت يأتيه من يعوده فيسأله يقول: كيف تجدك هل أنت مُطمئن، هذا المُحتضر يسأل الثاني؟ قال: نعم، يعني مطمئن بإيمانك، قال: نعم، قال: أما إني والله لا أدري ما أعتقد، والله لا أدري ما أعتقد، والله لا أدري ما أعتقد، ثم بكى"[9] هذا جبل، والآخر الذي كان يقول: "أضع الملحفة على وجهي وأقارن بين أقوال هؤلاء وهؤلاء من العقلانيين وأُصابح الصبح ولم أخرج بشيء"[10] يعني ما أخرج بنتيجة، يعني: خرجوا بالحيرة، والأبيات التي تروى عن الشهرستاني، والواقع أنها قيلت قبله يُعبر عن حيرته وهذا من أئمتهم الكبار، يقول:

نهاية إقدام العقول عقال وغاية سعي العالمين ضلال
وأرواحنا في وحشة من جُسومنا وغاية دنيانا أذى ووبال
ولم نستفد من بحثنا طول عمرنا سوى أن جمعنا فيه قيل وقالوا
فكم من جبال على شُرفاتها رجال فزالوا والجبال جبال[11]

هذا يُعبر عن الحيرة بهذه الأبيات، إذا كان هؤلاء الأساطير الذين قدسوا العقل ولم يحصل منهم مثل هذه الاستجابة سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا، منذ البداية، وذُكر أن الشهرستاني تاب، وكذا الجويني، والغزالي مات وصحيح البخاري على صدره[12] والرازي له وصية مكتوبة لأولاده ظاهرها التوبة من هذه العلوم.

وقيل: بأن ابن سيناء وهو كبير الفلاسفة من الإسلاميين كما يقال يعني الفلاسفة المسلمين ليس أفلاطون وأرسطو من القدماء من اليونان، لا، من المنتسبين إلى الإسلام ابن سيناء يُذكر أنه عند موته أو قبل موته أعتق مماليكه لعله تاب من الفلسفة.

فالشاهد أن هذه المصائب وهذه البلايا وهذه الرزايا تأتي من معارضة الوحي، لا تعترض سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا هو ثبت في الكتاب والسنة خلاص انتهى الانقياد الكامل.

سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا قدم السمع على الطاعة؛ لأن السمع أول ما يكون استجابة القلب ثم الانقياد، ثم ذكر طلب المغفرة فهذا كالوسيلة سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ اغفر لنا، ثم إنه قد يحصل تقصير، قد يحصل غفلة، قد يحصل شيء من الفتور والضعف والخطأ، غفرانك، وقد لا تكون الاستجابة كما ينبغي، قد لا يكون العمل كما ينبغي فيطلب الإنسان المغفرة، وهكذا شأن المؤمن دائمًا، يخرج من الخلاء -أعزكم الله- يقول: غفرانك.

بعضهم يقول: غفرانك من أجل أنه انقطع عن الذكر هذه المدة الوجيزة.

وبعضهم يقول: غفرانك يعني أنه لا يوفي هذه النعمة حيث خرج ذلك منه ولو بقي في جسده محتبسًا لهلك فهو لا يوفي شكر هذه النعمة، وهنا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا كما قال الشاطبي -رحمه الله- في الموافقات[13]: دعاء الأنبياء ربنا فهذا مناسب في الربوبية؛ لأن من معاني الرب: السيد والمالك المتصرف المُدبر، ومن معاني الربوبية: العطاء والمنع واستجابة الدعاء، فالذي يُعطيهم الحاجات هو الرب -تبارك وتعالى، فتقول: يا رب، فالرب هو السيد، وهو المُدبر وهو المُربي خلقه بالنِعم الظاهرة والباطنة.

وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ هنا الحاجة إلى المغفرة؛ لأنه سيكون الرجوع إلى الله، فتحتاج أن يُغفر لك قبل أن توافي بالخطايا والسيئات، غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ، فهؤلاء علموا أنهم لم يوفوا مقام الإيمان كما يقول شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله[14]، ما وفوه حقه مع الطاعة والانقياد فسألوه المغفرة لتحصل لهم كمال السعادة، ويحصل لهم المراد والمطلوب إذا وافوا ربهم -تبارك وتعالى.

غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ وهذا يدل على تواضع، يعني: الإنسان قد يُعجب بعمله، والأعراب أتوا إلى النبي ﷺ وقالوا: احمد ربك نحن آمنا من غير قتال، غيرنا بقتال وحرب وحريب، ونحن أتيناك منقادين بسهولة، يمنون على النبي ﷺ، قَالَتِ الأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ [سورة الحجرات:14]، إلى أن قال: يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا قُلْ لا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلامَكُمْ بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلإِيمَانِ [سورة الحجرات:17]، فهذا هو اللائق.

وفي قوله تعالى: كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ [سورة البقرة:285]، ولم يقل: كلهم آمنوا، ليتنزل على كل فرد؛ لأن قضية الإيمان مُطالب فيها كل واحد على سبيل الاستقلال -والله أعلم.

 

لما شهد الله -تبارك وتعالى- لأهل الإيمان بالإذعان والتسليم بما يجب الإيمان به، وما كان منهم من السمع والطاعة والاستجابة لله -جل جلاله، وتقدست أسماءه- جاءت الألطاف الربانية، جاء التخفيف والعفو والبيان كما قال الله -تبارك وتعالى: لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ رَبَّنَا لا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا رَبَّنَا وَلا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا رَبَّنَا وَلا تُحَمِّلْنَا مَا لا طَاقَةَ لَنَا بِهِ وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا أَنْتَ مَوْلانَا فَانصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ [سورة البقرة:286]، هذا بعد قوله -تبارك وتعالى: آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ [سورة البقرة:285]، فجاء: لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا.

والمعنى: لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا، بمعنى أن الله لا يُطالب عباده ولا يُحملهم ما لا يدخل تحت طاقتهم، أو يشق عليهم مشقة كبيرة، وإنما خفف الله على عباده في هذه الشريعة؛ فمن فعل خيرًا جازاه الله به، لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ، وهكذا جناياته تكون عليه يتحملها، ويتحمل تبعات جرائرها.

لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ رَبَّنَا لا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا، فهذا تعليم من الله -تبارك وتعالى- لعباده كيف يقولون بعدم المؤاخذة والمعاقبة في حال النسيان، نسيان ما افترضه الله عليهم، أو وقع الخطأ بشيء نهاهم الله -تبارك وتعالى- عن مواقعته.

كذلك أيضًا: رَبَّنَا وَلا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا وهي الأعمال الشاقة التي جعل الله من قبلنا من بني إسرائيل من الآصار والتكاليف الشاقة: فحرم عليهم أشياء، وأمرهم بأشياء، فكان التطهر من النجاسات مثلاً عند اليهود بقطع الثوب بدلاً من غسله، وهكذا حينما تابوا من عبادة العجل كان من توبتهم أن يقتلوا أنفسهم: فَاقْتُلُوا أَنفُسَكُمْ [سورة البقرة:54]، يعني: أن يقتل بعضهم بعضا، حتى قيل: إنه قُتل منهم في يوم واحد سبعون ألفًا، هذه التوبة، بينما التوبة في هذه الأمة يندم، ويعزم أن لا يعود، ويُفارق المنكر، فإن كان من قبيل المظالم ردها على أهلها، والحمد لله، مع غاية الترغيب في التوبة، أما أولئك فلا، الغنائم كانت تحرُم عليهم، كانت تأتي نار من السماء فتحرقها، تُجمع في مكان مهما كانت ضخامتها وكثرتها فتأتي نار من السماء فتحرقها، فأُحلت لهذه الأمة، وهكذا في ألوان العبادات ليس في شيء منها حرج وضيق على المُكلفين.

وهكذا أيضًا: رَبَّنَا وَلا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا رَبَّنَا وَلا تُحَمِّلْنَا مَا لا طَاقَةَ لَنَا بِهِ، يعني: من التكاليف التي لا نستطيعها ولا نقوم ولا ننهض بها؛ لشدتها، وثِقلها، أو لكثرتها، أو نحو ذلك.

وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا، العفو محو الذنب فلا يبقى له أثر، والغفر ستر وعدم مؤاخذة، لا يكون هناك تبعة للذنب، كالمغفر الذي يلبسه المقاتل فوق رأسه يقيه ضرب السلاح، فهو يستر رأسه ويقيه، فالغفر ستر ووقاية، وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا الرحمة قدر زائد، الرحمة بها يدخلون الجنة، لن يدخل أحد منكم الجنة بعمله، قالوا: ولا أنت يا رسول الله؟ قال: ولا أنا، إلا أن يتغمدني الله برحمته،[15] فالغفر والعفو من باب التخلية، والرحمة من باب التحلية، فسألوا هذا وهذا كما سيأتي؛ لأن ذلك يحتاج إليه العبد، فيكون في هذا الدعاء من محو الذنوب وستر العيوب فلا يفتضح في الدنيا، ولا يفتضح في الآخرة، مع الإحسان إليهم في الدنيا والآخرة، وذلك من مقتضيات رحمته، أَنْتَ مَوْلانَا تملك أمرنا، وتُدبر شؤونا وتنصرنا.

فَانصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ أظهرنا عليهم في ميدان الحجة وفي ميدان المعركة.

يؤخذ من هذه الآية الكريمة من الفوائد -وهي آخر آية في هذه السورة سورة البقرة: لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا لاحِظ لا يُكَلِّفُ لفظ التكليف هنا جاء منفيًا لا يُكَلِّفُ اللَّهُ، يقول شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله: "بأن ذلك لم يرد إلا في سياق النفي"،[16] وهو يُشير هنا إلى ما يكثُر على ألسنة الفقهاء والمتكلمين من الأصوليين وغيرهم من تسمية الشرائع بالتكاليف، فكلمة تكليف تدل على ثِقل واستثقال أيضًا، العبد الذي يُقبل على العبادة بمحبة ويعلم أن الله قد شرع له ذلك وهو العليم الخبير، وأن ذلك لمصلحته مصلحة العبد يُقبل عليها بمحبة ورغبة.

ولذلك ذكر الشاطبي -رحمه الله- في كتابه الموافقات[17] في الكلام على المقاصد وهو من أشهر من تكلم على المقاصد مقاصد الشريعة، ذكر في جملة المقاصد أن يُقبل العبد على العبادة بنفس رضية مُحبة مُستشرفة، لا يُقدم عليها باستثقال، وحمل على هذا النصوص الواردة في أن يأخذ العبد من الأعمال ما يُطيق يعني غير الفرائض، حديث: فإن الله لا يمل حتى تملوا،[18] وأن العبد قد يعمل بعض التطوعات بسورة يحمل نفسه عليها تشق عليه جدًا فيكره العبادة، فيقول: هذا غير مُراد؛ لأن ذلك أولاً مؤذنٍ بالانقطاع ومن مقاصد الشريعة الاستمرار والدوام أحب العمل إلى الله أدومه وإن قل [19]

وكذلك أيضًا أن يُقبل عليها بنفس رضية، مثل ماذا؟ لو أن أحدًا مثلاً أراد أن يختم القرآن كل ليلة في النهاية سيؤدي إلى استثقال وسيؤدي إلى إرهاق، سيتعطل عن أشغاله وعن أعماله فيتحول إلى عبء -خاصة مع تقدم السن- والمراد الاستمرار بالعمل، فإذا ضعُف أصبح الليل يُمثل بالنسبة إليه ثِقلاً، لو أن أحدًا مثلاً أراد أن يذهب إلى صلاة الجمعة من بعد صلاة الفجر يُدرك الساعة الأولى من بعد طلوع الشمس، هذا جيد ومطلوب، لكن الناس يتفاوتون في هذا، فمن الناس من يفعل هذا ولا يجد في ذلك غضاضة بل محبة وانشراح.

وبعض العلماء ذكروا في تراجمهم أو ذُكر عنهم أنهم كانوا يتسارعون ويتسابقون يوم الجمعة من الساعة الأولى، وكان الواحد منهم يختم قبل أن يصعد الخطيب المنبر ختمة كاملة، هذا ذُكر عن مجموعة من العلماء من المعاصرين، فهذا بصرف النظر عن الختم في يوم واحد والنبي ﷺ قال: لا يفقه من قرأ في أقل من ثلاث،[20] وما محملهم لهذا؟ وكيف فهموه؟ هذه موضوع آخر ليس لنا علاقة به الآن، أنا أتحدث عن كون الإنسان يتحمل من الأعباء أو الأعمال والعبادات التطوعات التي تشق عليه مشقة تجعله يكره العبادة.

مثلاً، لو أراد الإنسان أن يُدرك يقول أفضل عمل نقضي به العشر من ذي الحجة هو الحج من واحد ذي الحجة سأكون إن شاء الله في مكة أُلبي بالحج، وربما يعتقد أن الإفراد أفضل ويبقى على إحرامه حتى يتحلل في يوم النحر، هذا فيه مشقة، لو أراد أن يفعل هذا كل سنة، إن كان يُقبل عليه بنفس رضية مستشرفة ونحو ذلك هذا جيد، لكن قد يثقل عليه ذلك ويشق مشقة كبيرة فيكره العبادة، فإذا قرُب الحج أصبح هذا يتراءى له يراه في النوم، لا داعي، اذهب يوم سبعة ثمانية وارفق بنفسك من أجل أن تستمر، هكذا.

لو أن أحدًا من الناس أراد أن يصوم يومًا ويفطر يومًا هذا أفضل الصيام صيام داود ،[21] لكن الناس يتفاوتون، إنسان يشق عليه صيام ست من شوال أو يوم عرفة أو يوم عاشوراء، ويريد أن يصوم يومًا ويفطر يومًا طول السنة، هذا جيد إن فُتح عليه فيه، لكن قد لا يُفتح، فيحمل نفسه على هذا فيتحمل، ينام عن الفرائض، يتعطل عن عمله، يتعطل عن واجباته في حقوق أهله وأولاده، صائم لا يتكلم مع أحد إذا صام، ويُصبح هذا الصوم عبئًا ثقيلاً وتترحل هناءته وسعادته وراحته ولذته، والشريعة ما جاءت لهذا، طه ۝ مَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَى [سورة طه:1، 2]، الشريعة ما جاءت بالشقاء، راحة وسعادة ونعيم وعبادة.

وبالمناسبة أنا أسألكم الآن هذا الصوم -الذي وفق الله لصيامه وهدى- نحن في آخر الشهر ليلة الثامن والعشرين هل الآن تجدون عبئًا ومشقة وثِقلاً في الصوم، هل تجدون ذلك؟ أو تجدون استرواحًا، هو هكذا العبادة، لكن قد يخف ذلك على الإنسان إذا كان مع المجموع وفي شهر كرمضان، لكن لو أراد أن يصوم لوحده بمفرده يصوم يومًا ويُفطر يومًا، من الناس من يوفق لهذا، فهذا طيب، لكن من يثقل عليه بحيث يكره الصوم بعدها فهنا يُقال: لا، صم ما تُطيق، صم الاثنين والخميس، صم ثلاثة أيام من كل شهر، وقل مثل ذلك في الأعمال التي يزاولها الإنسان.

فهنا لاحظ شيخ الإسلام يقول: "لم يرد تسمية العبادة كما يُسمي كثير من الفقهاء وأهل الكلام -يعني من الأصوليين ونحوهم يسمونها تكاليف، يقول: هذا لم يرد عن الشارع تسمية الشرائع والعبادات التكاليف أبدًا، وإنما جاء في سياق النفي لا يُكَلِّفُ فقط"[22] ولذلك فإن بعضهم له ملحظ هو الذي أشار إليه شيخ الإسلام أن تسميتها تكاليف كأنه يُشعر باستثقال، والعبد ما يستثقل تشريع الله وما فيه نفعه ورفعه وسعادته في الدنيا والآخرة.

فهذه ناحية مُفيدة لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا، ثم أيضًا إذا كان لا يُكلف نفسًا إلا وسعها ماذا كلفنا؟ هذه العبادات الصلوات الخمس مثلاً هي ميسورة، لكن ما هي المشكلة؟

المشكلة هو سر المسألة أن من لا يُصلي يعتقد أنه من العظائم أن ينقطع من عمله وخمس مرات أتردد إلى المسجد إذًا ليس لي شغل إلا المسجد، نقول له: الأمر ليس كذلك، نحن نصلي ولا نشعر إلا بالحمد لله، وبدون هذه الصلاة لا نتصور أننا نعيش أصلاً، ولو جمعنا بين صلاتين في مطر أو نحو ذلك لجاء وقت الصلاة الثانية أنكرنا أنفسنا شيء غير عادي اليوم، شيء يجعل الإنسان يشعر أنه نقصه شيء، مع أن هذا الجمع مشروع، لكن لأن نفسه اعتادت على هذا، لكن الذي لم يعتد الصلاة أصلاً هو يشعر أنه أمر فوق طاقته أن يذهب إلى المسجد خمس مرات في اليوم.

دورة علمية نُقيم فيها ثلاثة دروس مثلاً في اليوم، أسبوع واحد، أكثر الناس لا يحضرون، طلاب العلم ما يحضرون، والذين يحضرون يحضر الإنسان وهو يشعر أنه في كبد ومجاهدة، هذا الأسبوع متى ينتهي، هذا اليوم الأول الثاني الثالث ويشعر أنه على ملّة، طيب نحن نسأل، طول السنة أليس الطلاب يدرسون من الساعة السابعة صباحًا إلى الواحدة ظهرًا أو بعد ذلك؟! كل يوم أقل شيء خمس محاضرات، أليس هذا هو الواقع، كل يوم خمس أقل شيء خمس، والأمور ماشية، يذهب الصغير والكبير وهذا يسحب حقيبته أكبر منه، طفل في أولى ابتدائي، وهذا في المتوسطة، وهذا في الثانوية، وهذا في الجامعة، الكل يذهب، هل هذه صارت بالنسبة لهم إذا جاء فهو لا يستطيع أن يحرك يده ولا رجله ولا يتنفس، خمس محاضرات كل يوم طول السنة، وسنوات حتى يتخرج من الجامعة سبعة عشرة سنة، الأمر طبيعي جزء من الحياة، هكذا اعتادت النفس عليه، لكن إذا كان لم يعتد حضور مجالس العلم فإذا كان يحضر مجلسًا واحدًا استطاله، من الذي يحضر درسًا في كل يوم، هي النفس أين وضعتها؟!

بعض الناس إذا أراد أن يصوم يومًا تطوعًا مثلاً يصوم الخميس، بعضهم يقول: يوم الأربعاء قبل حينما كانت الإجازة الخميس والجمعة يقول: يوم الأربعاء هو أجمل الأيام؛ لأن بعده إجازة، يقول: إذا أردت أن أصوم الخميس أصبح يوم الأربعاء يُصبح في حال من الكآبة هم، ما صام إلى الآن الصوم غدًا هو يحمل همًا؛ لأنه يستثقل العبادة، ما اعتاد عليها، لكن لو اعتاد مثل ما قلنا في رمضان يصوم شهرًا كاملاً ولا يجد غضاضة في ذلك، وهكذا صلاة الليل الذي لم يعتد يثقل عليه أن يوتر بركعة واحدة، والذي اعتاد أن يُصلي ثلاث ساعات مثلاً، لو أنه استيقظ في يوم لم يبق على الفجر إلا ساعة بكى.

ذُكر في تراجم بعض المعاصرين، بعض أهل العلم من المعاصرين ذُكر في ترجمته توفي -رحمه الله- كل هؤلاء توفوا؛ لأن كُتبت تراجمهم بعد وفاتهم، أنه يبكي كالطفل لأنه بقي على الفجر ساعة؛ لأنه اعتاد على هذا، هذا ليس لأهل العلم حتى العامة، وقد أخبرني بعضهم في سياق يصح أن يُذكر في هذا يعني الرجل بعيد عن هذه الأمور فقال: منذ خمسين سنة ما أذكر أني تركت قيام الليل في يوم واحد، ذكر في سياق يصح أن يُذكر في هذا، هذا رجل من كبار السن من العامة ليس من طلاب العلم، يقول: منذ خمسين سنة ما أذكر أني تركت قيام الليل، وهو رجل أسأل الله أن يُبارك له من أهل الثراء، يعني: ليس بإنسان جالس ما عنده شغل، لا، خمسين سنة.

وزوجة آخر بعد ما توفي تقول منذ تزوجته حتى ليلة الزواج -هذا عامي ليس من طلاب العلم- تقول: منذ تزوجته لا أعلم يومًا حتى ليلة الزواج أنه ترك قيام الليل، فالذي لم يعتد يعتقد أن هذا أمر صعب؛ ولذلك الذي ما اعتاد للقيام -حتى نُقرب الصورة- لصلاة الفجر هذه عنده مُعضلة، وتسمع عن بعضهم من المحاولات ووضع الساعات في قدور من أجل أن الصوت يملأ المكان ومع ذلك لا يستيقظ؛ لأنه ما اعتاد، هو يشعر أن هذا أمر في غاية الصعوبة، ويبلغ الخمسين والستين وهو لا يصلي الفجر في المسجد، لا يُصليها إلا بعد طلوع الشمس؛ لماذا الآخرون الذين اعتادوا على هذا يستيقظون بدون ساعة ويأتون وهم في غاية الهمة والنشاط والرغبة، هل كلفنا الله ما لا نُطيق؟! والله يقول: لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا.

فهذا فقه في التعامل مع النفوس يحتاج العبد إليه، وإلا فالنفس إذا انقاد الإنسان معها هبطت فيستثقل ذكر الله على لسانه، يستثقل قول: لا إله إلا الله أو سبحان الله والحمد لله، ولذلك تجد بعض الناس الذي لم يعتاد الذكر إذا سلم من الصلاة لا يصبر حتى يقول الأذكار، ينطلق مباشرة ليس عنده صبر ولا وقت بزعمه، لكن الذي اعتادها، شيخ الإسلام كان يجلس من بعد الفجر كما قال ابن القيم إلى قريب من الظهر كل يوم يذكر الله، ويقول: "هذه زادي ولو لم أفعل ما نهضت قواي"[23] يقول بدونها لا أستطيع أن أنهض، إمام الدنيا في زمانه جبل أشم -رحمه الله، تحمل الكثير، ووقف في وجه التتر، وسيرته مشهودة، ما الذي جعله يصبر ويثبت هذا الثبات؟النفس لها زاد قوي، لها صلة، الذي بينه وبين الله عامر فعندئذ نفسه تقوى وتنهض.

تَدَبرُ القرآن كما يقول ابن حزم -رحمه الله، الله طالبنا به، وأمرنا به: كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ [سورة ص:29]، فلا يُقال: هذا غير مقدور، نحن نقرأ القرآن للبركة والأجر فقط، لو كان في غير طاقة الإنسان لم يكن في وسعه ولم يأمر الله به: لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا، ولهذا من الخطأ أن يعتقد أحد أن التدبر للعلماء فقط، الله خاطب الجميع بل قال للمنافقين: أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا [سورة محمد:24]، أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافًا كَثِيرًا [سورة النساء:82]، وفي خطاب آخر وهو الرابع للكفار: أَفَلَمْ يَدَّبَّرُوا الْقَوْلَ أَمْ جَاءَهُمْ مَا لَمْ يَأْتِ آبَاءَهُمُ الأَوَّلِينَ [سورة المؤمنون:68]، هذا للمشركين.

وقال: وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ [سورة القمر:17]، والذكر هنا يشمل القراءة والحفظ والتدبر والفهم والمعاني، كل هذه المعاني داخلة تحته: وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ [سورة القمر:17]، لكن هذا التدبر أبواب كون الإنسان يدخل في أبواب تحتاج إلى خلفية، تحتاج إلى آلة من فهم اللغة والبلاغة والنحو أو الفقه والأصول وقواعد التفسير ونحو ذلك، هذا يحتاج أنه يدرس هذه الأشياء من أجل أن يغوص ويستخرج الدقائق واللطائف والمعاني، لكن التدبر الذي يُرقق به قلبه، ويتعرف على أوصاف الله ، وحقائق الآخرة، يعرف الطريق الموصل إلى الله، أوصاف الجنة، أوصاف النار، أوصاف المؤمنين، أوصاف الكفار، أوصاف المنافقين، الأمور التي يحبها الله، هل هذه تحتاج إلى عالم؟ هو يقرأها ويجدها في القرآن ويسمعها في قراءة الإمام، هذا يحتاج تدبر.

إذًا الإمام يقرأ لمن! ويجهر لمن! إذا كانت القلوب مُغلقة، وإنما يطرق الأسماع دون أن يصل إلى القلوب، ولهذا قال النبي ﷺ في صفة الخوارج: أنهم يقرءون القرآن لا يجاوز حناجرهم،  [24]ومما فُسر به قوله: لا يجاوز حناجرهم قيل: لا يصل إلى القلوب فتتأثر به.

وبعضهم يقول: لا يصل إلى القلوب فتفقه عن الله، لا فقه لهم.

وبعضهم قال: لا يجاوز حناجرهم يعني لا يُرفع هي مجرد قراءة لا تتجاوز الأوتار الصوتية.

كذلك يؤخذ من قوله: لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا، يؤخذ منها الرُخص، الترخص فإن الله يُحب أن تؤتى رُخصه كما يُحب أن تؤتى عزائمه، فإذا كان الإنسان في حال مرض أو سفر أفطر في رمضان، إذا سافر قصر الصلاة، له أن يجمع بين الصلاتين، وهكذا، فهذا لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا، فإذا أفضى به ذلك إلى مشقة كبيرة بسبب السفر أو المرض ربما يجب عليه الفطر.

بعض الناس يمرض ويتمسك بالصوم ولو كان يُنازع الموت وعند نفسه أنه يتقرب إلى الله بهذا، والواقع أن ذلك على خلاف ما يظن، يجب عليه أن يُفطر.

وهكذا أيضًا يؤخذ منه العزائم، إذا كان لا يُكلف نفسًا إلا وسعها فمعنى ذلك أن العزائم وهي ما شرعه لعباده غير الرخص، أن يُصلي خمس صلوات في اليوم والليلة الظهر أربعًا في الحضر، وهكذا العشاء أربعًا، فهذه يُصليها كما شرعها الله -تبارك وتعالى، إذا كان في الحضر وهو غير مريض فإنه يصوم وجوبًا، فهذا عزائم؛ يقول: أنا أتعب في الصوم، الصوم أعطش وأجوع لكنها مشقة محتملة فيُقال: لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا، تصوم، فهذا من العزائم من أجل أن ترتاض النفس وتتهذب.

وهكذا أيضًا يؤخذ من قوله: لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا فهناك: آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ، كل للغائب، وَالْمُؤْمِنُونَ، يعني: آمنوا، كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ [سورة البقرة:285]، كل هذا للغائب، ثم هنا: لا يُكَلِّفُ اللَّهُ المُتكلم، هذا يُسمى التفات انتقال بالخطاب لتنشيط السامع.

وهكذا أيضًا فإن هذه التكاليف: لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا، هي في وسعهم كما يقول شيخ الإسلام -رحمه الله- يقول: "بأن الله أمر بعبادته وضمن أرزاقهم فكلفهم من الأعمال ما يسعونه"،[25] يعني: ما يطيقونه ما هو في وسعهم، وأعطاهم من الزرق ما يسعهم"، الأعمال التي كلفهم بها هي في وسعهم، والأرزاق تسع هؤلاء جميعًا وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا [سورة هود:6]، ما من دابة، أقوى صيغة من صيغ العموم النفي والاستثناء "ما من" وسُبقت النكرة هنا دابة بمن بسياق النفي إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا فهذا الذي يرزقه وهو في بطن أمه وقد جعل له الفم سيرزقه إذا خرج من بطن أمه، لن يضيع ولن يُنسى.

فالشاهد أن شيخ الإسلام يقول: "فتكليفهم يسعونه يستطيعونه في وسعهم وأرزاقهم تسعهم فهم في الوسع في رزقه وأمره وسعوا أمره ووسعهم رزقه، يقول: ففرق بين ما يسع العبد وما يسعه العبد، وهذا هو اللائق برحمته وبره وإحسانه وحكمته وغناه، لا قول من يقول: بأنه كلفهم ما لا قدرة لهم عليه البتة ولا يُطيقونه، ثم يُعذبهم على ما لا يعملونه"،[26] فرق بين ما يسع العبد لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا، وما يسعه العبد، ما يسعه العبد قد يسعه لكن بمشقة كبيرة جدًا بتكليف باهظ فهنا كلفهم ما يكون في وسعهم إِلَّا وُسْعَهَا ما يسعهم فيقول: "فرق بين ما يسع العبد وما يسعه العبد"، وهذا ظاهر -والله أعلم. 

 

لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ [سورة البقرة:286]، تحدثنا في الليلة الماضية عن صدر هذه الآية.

يؤخذ منها: العموم لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا فالنفس هنا نكرة في سياق النفي، كل نفس، سواء كان هذا الإنسان له همة في الطاعة والعبادة، أو كان فاتر الهمة، سواء كان قويًّا في جسده أو كان ضعيفًا، لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا سواء كان رجلاً أم امرأة، هذه قاعدة عامة، وأصل ينتظم جميع المكلفين.

كذلك يدل هذا الموضع من كتاب الله تعالى على أن للإنسان طاقة محددة إِلَّا وُسْعَهَا وهذا يدل على أن إمكانات الإنسان محدودة، إمكانات من الناحيتين، من ناحية القُدر العقلية والعلمية، ومن ناحية القُدر الجسدية، وهذا من رحمة الله بالعباد.

وأوضح ذلك بصورة أَبين: القُدر العلمية والإمكانات العقلية إنما يُطالب أن يُحدث الناس بقدر ما تحتمله عقولهم؛ لأن ذلك يكون فتنة لهم، ولهذا يذكر شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله: أن الإنسان لا يُخاطب فيما لا يدخل تحت قدرته العقلية، يعني القدرة الاستيعابية، لا يُخاطب في أمورٍ عقله لا يستوعبها، قدراته العقلية إمكاناته الذهنية لا تستوعب هذا الكلام فلا يُخاطب به؛ لأن ذلك يخرج عن مداركه وإمكاناته.

لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا، ومهما قيل له، ومهما شُرح، لن يفهم هذه المسألة ويفقه، ويُنزل هذه المعاني تنزيلاً صحيحًا، بل قد يحصل له ردود أفعال ويرتد عن الإسلام، أو يسوء ظنه بربه، أو يعتقد عقائد منحرفة على خلاف مراد الله -تبارك وتعالى، وهذا يُبين لنا خطأ بعض من يتجشمون أمورًا ليست مما يدخل تحت إمكاناتهم وقدراتهم العلمية والعقلية، يعني: ما تأهلوا لها.

شاب صغير وبيده دفتر، مسائل كِبار لو جُمع لها أهل بدر لربما توقف كثير منهم فيها، وهذا الشاب يريد أن يحل مشكلات الدنيا بأرجائها، يدور على هذا وهذا وهذا، في امتحان صعب وقلق يبحث عن إجابة لهذه الأسئلة التي لا تعنيه، ولن يسأله الله عنها، ولم يُكلف بها، ولم يُطالب بذلك، فهذه ليست له، وليست من شأنه؛ فيُحمل نفسه ما لا يُطيق، وقد يُخاطب بعض الناس ببعض المسائل من شرائع الإسلام ولم يتأهلوا لذلك؛ لحداثة عهدهم بالكفر مثلاً، ثم بعد ذلك يكون هذا سببًا لانتكاسةٍ ورِدّةٍ؛ لأنه لم يستوعب، فيعتقد أن الإسلام غير مُنصف، أو غير عادل مثلاً، أو غير ذلك من التصورات الفاسدة؛ لأنه غير مؤهل، لم يتأهل عقله وذهنه وقلبه لاستيعاب هذه القضايا، فلماذا نُفاتحه بها؟

ولهذا قال شيخ الإسلام رحمه الله: "إن من المسائل ما جوابه السكوت، ولا يكون ذلك كتمانًا للحق وإنما يكون ذلك تأجيلاً وتأخيرًا إلى وقت الإمكان"[27] يعني: إلى أن يتهيأ هذا الإنسان، ويكون عنده من النُضج ما يستوعب فيه كبار المسائل؛ ولهذا في قوله تعالى: وَلَكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنتُمْ تَدْرُسُونَ [سورة آل عمران:79]، كثير من السلف فسروها: تعلمون الناس صغار العلم قبل كباره.

فمن الخطأ أن يُطالب الناس، وأن تُطرح قضايا كبار والناس بحاجة إلى قضايا دونها، يحتاجون أن يتعرفوا على المعبود معرفة صحيحة، يحتاج هؤلاء الناس أن يعرفوا كيف يتطهرون، كيف يصلون، كيف يعبدون الله ، كيف يصومون صيامًا صحيحًا، كيف يعتمرون عمرة صحيحة، حجًّا صحيحًا، فمن الخطأ أن يُمتحن الناس بقضايا كبار ليست من شأنهم.

"يعلمون الناس صغار العلم قبل كباره"، فالرباني: هو الذي يُعلم الناس بقدر ما يحصل لهم، مراعيًا أحوالهم وقُدرهم، وما يصلح لمثلهم وما ينفعهم ويرفعهم.

هذا من الناحية الأولى، الإمكانات العقلية والعلمية، القُدر الاستيعابية عند هذا الإنسان، ما هي القُدر الذهنية؟

الجانب الآخر: القدرة الجسدية، قد يسأل إنسان عن مسائل لو عرفها لا يستطيع أن يقوم بها، ليس عند إمكانيات أن يُحقق ذلك، فمثل هذا هو غير مُطالب بها لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا لا تستطيع، لن تُسأل عن هذا، ولن تُحاسب عليه، والسؤالات في القبر ثلاثة احفظوها: من ربك، وما دينك، ومن هذا الرجل الذي بُعث فيكم.

لن تُسأل عن فلان وفلان، والواقعة الفلانية، والموقف من كتابة فلان ورد فلان، وكل واقعة في الدنيا ما هو الموقف منها، لن تُطالب بهذا، تتبع كل ما يجري في أرجاء المعمورة وأن يكون لك موقف وحكم في كل قضية، هذا من تحميل ما لا يُطاق، قضايا قد لا يستطيع الإنسان أن يعرف أصلاً ما لها من خلفيات وارتباطات وتعلقات حتى يُصدر الحكم الصحيح عليها، ثم بعد ذلك يُحمل نفسه شططًا، فيقع بسبب ذلك من الخلاف والجدل، ويتفرق الناس ويقع بينهم من التراشق والعداوات والتدابر والتقاطع، ما الله به عليم، والله لم يُكلف بهذا لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا.

وهذا أيضًا يدل على معنى آخر باللزوم، وهو إذا كانت قُدرات الإنسان وإمكاناته محدودة، فينبغي أن لا يتعدى طوره، الله -تبارك وتعالى- أخبر عن أعداء الرسل حينما جاءهم الرسل بالوحي من الله -تبارك وتعالى، قال: فَرِحُوا بِمَا عِنْدَهُمْ مِنَ الْعِلْمِ [سورة غافر:83]، فهذا الفرح المذموم، الفرح نوعان: نوع محمود ونوع مذموم، فهذا كالفرح الذي كان عند قارون، فقال له أهل الرشاد من قومه: لا تَفْرَحْ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ [سورة القصص:76]، هذا الفرح الذي يحمل على التبختر والعلو والتجبر والخُيلاء، هذا هو المذموم، وإلا قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ [سورة يونس:58]، فهذا الفرح مطلوب.

فالفرح ثلاثة أنواع:

  • الأول: فرح مُباح، مثل فرح الإنسان بمال وتجارة تربح، وفرح بولد يولد له، وفرح بنجاح ونحو هذا، هذا لا إشكال فيه.
  • النوع الثاني: الفرح المحمود شرعًا، الفرح بعز الإسلام وأهله، الفرح بطاعة الله ومواسم الخيرات، فهذا يؤجر الإنسان عليه.
  • النوع الثالث: وهو الفرح المذموم.

فإذا عرف الإنسان أن القدرات والإمكانات عنده محدودة فإنه لا يشمخ بأنفه؛ ولهذا قال الله : وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الأَرْضِ هَوْنًا [سورة الفرقان:63]، أول صفة، يعني: أنه يمشي مشية سهلة ليس المقصود المتوامتة، لا، ليس فيها غطرسة، هونًا، وكذلك أيضًا وَلا تَمْشِ فِي الأَرْضِ مَرَحًا إِنَّكَ لاحظ التعليل "إن" هنا تفيد التعليل والتوكيد، إِنَّكَ لَنْ تَخْرِقَ الأَرْضَ وَلَنْ تَبْلُغَ الْجِبَالَ طُولاً [سورة الإسراء:37]، لاحظ وَلا تَمْشِ فِي الأَرْضِ مَرَحًا [سورة الإسراء:37]، متبخترًا، يقول: اعرف قدرك.

إِنَّكَ لَنْ تَخْرِقَ الأَرْضَ [سورة الإسراء:37]، تخرق الأرض فُسر بمعنيين: قيل حينما يضرب برجله على الأرض مشية المُتجبر، يُقال: على هونك فهذا مثل ضرب الذرة أو النملة على الأرض لن يؤثر فيها لن يخرقها، ما هذه القدم الصغيرة الضعيفة وماذا عسى أن تؤثر في الأرض بضربها عليها إِنَّكَ لَنْ تَخْرِقَ الأَرْضَ [سورة الإسراء:37]، أنت أضعف من هذا.

المعنى الثاني: لَنْ تَخْرِقَ الأَرْضَ الخرق بمعنى القطع كما قال في شواهد ابن مالك في الألفية: خاوي المخترق، وبعضهم يقول: المخترقًا، في هذا التنوين وهو الشاهد، خاوي المخترق، الشاعر يتمدح بنفسه أنه شجاع أنه يقطع الفيافي الشاسعة يخرقها، يخرقها بمعنى قطعها مثل يجوبها وَثَمُودَ الَّذِينَ جَابُوا الصَّخْرَ بِالْوَادِ [سورة الفجر:9]، ما معنى جابوا؟ قطعوه، خرقوه، يقطعونه، فتقول: فلان يجوب الأرض، يعني: يقطعها طولاً وعرضًا، جَابُوا الصَّخْرَ بِالْوَادِ [سورة الفجر:9]، الجبال السلسلة المحيطة بهم كانوا يقطعونها ويتخذون في داخلها البيوت في الشتاء، ويتخذون القصور في السهول المرتفعة المحيطة بهم.

فلاحظ هنا لَنْ تَخْرِقَ الأَرْضَ وَلَنْ تَبْلُغَ الْجِبَالَ طُولاً [سورة الإسراء:37]، هذا حينما يضرب لن يخرق الأرض، وَلَنْ تَبْلُغَ الْجِبَالَ طُولاً، حينما يرفع رأسه ويشمخ لتكبره وتجبره، ويقول: على رسلك، فالإنسان إمكاناته محدودة، قدراته محدودة، مهما كان مفتول العضلات، مهما كان كثير الخبرات، مهما كان كثير العلوم والمعارف يبقى محدودًا، فهذا الكسائي -رحمه الله- إمام الدنيا في زمانه في النحو إمام أهل الكوفة في القراءات، وله قراءة الكسائي وهي إحدى القراءات السبع، "جاء رجل وذكر له استدراكًا في مسألة إعرابية نحوية على خلاف رأيه، فبصق بمنديل، ثم قال ما عند النحاة لا يبلغ بصقتي هذه".

إمام جبل كبير مُلئ من العلم، يقول: "ما عند النحاة لا يبلغ بصقتي هذه"، ما الذي حدث؟ في مجلس هارون الرشيد الخليفة حضر هو واليزيدي الإمام المعروف، فتقدم الكسائي يُصلي المغرب فقرأ قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ [سورة الكافرون:1] السور القصيرة فأخطأ في سورة قصيرة، إمام، ليُعلمنا الله -تبارك وتعالى- أننا مساكين نُخطئ في قِصار السور، فلما انصرف من الصلاة قال له اليزيدي: أنت إمام الكوفة ومقدمهم وتُخطئ في هذه السورة، طبعًا خلفه الخليفة هارون الرشيد، مُلكه يبلغ من سواحل المغرب إلى حدود الصين، حضرت صلاة العشاء تقدم اليزيدي، هذا أخطأ الآن الكسائي في سورة قصيرة، اليزيدي تقدم فأخطأ اليزيدي في الفاتحة، وهذا في ترجمتهما، أخطأ في الفاتحة الإمام اليزيدي، فلما انصرف من الصلاة قال له الكسائي: أقول لك فاسمع ما أقول: لا تشمت بأخيك فيُعافيه الله ويبتليك[28].

يُعرف الإنسان بقدره وإمكاناته، لماذا الإنسان ينتفش إذا صار عنده مال كثير؟ أو عنده علم في جانب من الجوانب، أو صار عنده قدرات وإمكانات حرفية ومهنية أو نحو ذلك، ويقول: أنا عندي وعندي وعندي، وحضرت مئات الدورات، وحضرت وحضرت.

الذي نعرفه أن كلام السلف يدور حول قضية في هذا الباب وهي أن: "العلم الخشية"، بمعنى: أنه كلما ازداد علمًا عرف أنه ضعيف وعاجز ومسكين، ويحتاج إلى أن يُخبت لربه ويتواضع ويُطأطأ رأسه، ولهذا قالوا: العلم ثلاثة أشبار:

الشبر الأول: يرى أنه قد حصل كل شيء، هذا أبو شبر هو المشكلة، وهو سبب المصائب والفتن والخلافات والتنقير عن المسائل التي لا تعنيه، يذهب إلى هذا وهذا، ويرد على هذا، ويرشق هذا، ويتكلم في هذا، ويعيب هذا، ولا يُحسن النقل، ولا يُحسن الفهم، ولا يُحسن السماع، أبو شبر، يشعر أنه فهم كل شيء، ويُخطئ ويصّوب ويتكلم.

والشبر الثاني يشعر أنه عالم، الشبر الثالث: يشعر أنه لا يعلم إلا قليلا، ولذلك تُعرض على الإمام مالك -رحمه الله- نحو تسعين مسألة يُجيب عن ثلاث أو أربع، والباقي يقول لا أدري، هؤلاء الكبار، "ويأتيه رجل من أهل المغرب من المغرب إلى المدينة على جمل، ويسأله عن مسألة ويقول: أنظرني أنظر فيها، ثم يتردد إليه اليوم الأول والثاني، ثم يأتي بعد ذلك براحلته، وقد حُملت يقول: أنا مُسافر، فأجبني عن مسألتي، قال: لا أعلم، قال: تقول: لا أعلم وأنت مالك إمام دار الهجرة عالم المدينة، فماذا أقول للناس: قال: قل لهم مالك لا يعلم"[29].

يقول: الذين أرسلوني بهذه المسألة ماذا أقول لهم، قال: قل لهم مالك لا يعلم، وهذا كثير يمكن أن يُجمع منه مُجلد بهذا الباب، فيما يُذكر عن العلماء من كثرة قول لا أعلم؛ ولهذا كان الإمام مالك يعيب على من يُكثر الجواب يقول: "مثل الجمل المغتلم"[30] الجمل المغتلم: الجمل إذا صار في حال من الهدير، يقول: يتكلم في كل شيء، يعني يُجيب عن كل شيء، كل مسألة يُجيب عنها، "مثل الجمل المُغتلم" فهذا لا يُمدح ولا يُحمد، وإنما وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلاً [سورة الإسراء:85].

لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا ولهذا يقول الشيخ ابن سعدي -رحمه الله: بأن أصل الأوامر والنواهي ليست من الأمور التي تشق على النفوس، بل هي غذاء للأرواح ودواء للأبدان، وحمية عن الضرر فالله تعالى أمر العباد بما أمرهم به رحمة وإحسانًا[31].

إذا أيقن العبد بهذا صار يُقبل على العبادة والتكاليف على أنها غذاء الأرواح، هي الزاد الذي يكون به قيامه وتنهض به قواه، فيُحب العبادة والطاعة؛ ولهذا كان النبي ﷺ يقول: يا بلال أقم الصلاة أرحنا بها،[32] بالصلاة، هذه التي يستثقلها بعض الناس النبي ﷺ كان يستروح بها، يجد راحة يجد طمأنينة، ولذلك انظروا إلى حال المصلين الذين ارتاضت نفوسهم بالصلاة، انظروا إليهم إلى وجوهم، وأحوالهم بعد الصلاة، ماذا ترون؟ تجد الراحة، تجد النعيم، نعيم الأرواح بعد هذه الصلاة، لكن الذي لا يصلي تجده في حال من الضيق، والله المستعان.

لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ [سورة البقرة:286]، لَهَا مَا كَسَبَتْ لاحظ التعبير: "لها وعليها" لَهَا مَا كَسَبَتْ لها دون أن يُنقص من ذلك شيء، بل يُضاعف لَهَا مَا كَسَبَتْ، وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلا يَخَافُ ظُلْمًا وَلا هَضْمًا [سورة طه:112]، فيوفى إليه أجره، لَهَا مَا كَسَبَتْ يجده مرصودًا لا يضيع عند الله شيء.

ثم أيضًا: لَهَا مَا كَسَبَتْ يدل على أن الأعمال الصالحة كسب للإنسان ربح "لها وعليها" أن الأعمال السيئة والمعاصي أنها غُرم يحمله على ظهره، فهذا له، وهذا عليه، إذا أدركنا هذا المعنى عرفنا ما نُقدم عليه، وما ينبغي على العبد تحريه من العمل الصالح، واجتناب العمل السيء، "فـلها" جاءت في الحسنات و"عليها" في السيئات، الحسنات مما ينتفع به العبد، والسيئات؛ لأنها تضره، فقال: وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ، فلما كانت الحسنات مما يفرح به الإنسان ويغتبط ويطلبه، ويُسر به أُضيفت إلى ملكه "لها"، بينما السيئات أثقال وأوزار يحملها، فقال: وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ، فهي متحملات صعبة كما يقول القُرطبي -رحمه الله، [33] أعباء ثقيلة.

وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ مثل ما يُقال: لي مال وعليّ دين، عليّ غُرم، وهكذا أيضًا التفريق بين الكسب والاكتساب، في الحسنات قال: كسبت، وفي السيئات قال: اكتسبت، وقد ذكر العلماء توجيهًا لذلك حاصله: أن الكسب هو ما يحصله الإنسان من عمله المُباشر وغيره هذا الكسب، فالعبد يعمل الحسنة الواحدة ويُجزى عليها عشرًا، يهم بالحسنة فتُكتب له حسنة، ولو لم يعملها.

لكن الاكتساب يختص بما باشره الإنسان فقط، فلو عمل سيئة لم تُكتب عليه إلا واحدة لا يُضاف إليه سيئات وتُضاعف، وكذلك أيضًا حينما يهم بالسيئة فلا يعملها فإنها تُكتب حسنة لا تُكتب سيئة بمجرد الهم، فدل ذلك على أن الكسب في باب الحسنات يحصل بأدنى مُلابسة، كما يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله،[34] أو كما يقول ابن جُزي الكلبي في التسهيل،[35] لكن السيئات التي تكون على النفس هذه تحتاج إلى اعتمال، تحتاج إلى مزاولة اكتساب؛ لأن زيادة المبنى تدل على زيادة المعنى، إذا زيّد في مبنى الكلمة حرف يدل على أن في هناك زيادة في معناها، كسب اكتسب، اكتسب فيها زيادة فدل على زيادة في المعنى، ما هذه الزيادة؟

أن السيئات -كما سبق- تحتاج إلى اعتمال لابد أن يُباشرها بنفسه، أنه لا يؤاخذ إلا بعمله فقط بقدره، وهذا يدل على غلبة فضل الله ورحمته -تبارك وتعالى، وأن رحمته سبقت غضبه لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ، ولهذا قدم أيضًا لَهَا مَا كَسَبَتْ لأن رحمته سبقت غضبه، فهو بهذا يُخبر على كل حال أن ثمرة هذا التكليف لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ أن العائدة والغاية تعود إليكم معاشر المكلفين، أنتم المنتفعون بذلك بما يكسب العبد، وهو المُتضرر باكتسابه، ففي كسبه نفعه، وكذلك في اكتسابه للسيئات الضرر، فحينما أمرنا -تبارك وتعالى- ونهانا لم يكن ذلك لحاجة منه إنكم لن تبلغوا نفعي فتنفعوني، ولن تبلغوا ضري فتضروني،[36] وإنما إحسانًا إليهم ورحمة وتفضلاً وتكرمًا، ونهاهم عن ما نهاهم عنه، صيانة لهم، وحفظًا عما يؤذيهم ويضرهم، فهذا يؤخذ من هذا الموضع لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ ، فلاحظ هذا التقابل "لها وعليها"، "كسبت واكتسبت".

كذلك أيضًا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ الصيغة هنا صيغة خبرية كما هو ظاهر، والمقصود بذلك الترغيب في الطاعات، والتحذير من المعاصي لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ

 

بعدما قرر الله تبارك وتعالى أنه لا يُكلف نفساً إلا وسعها، لها ما كسبت وعليها ما اكتسبت، جاء بعدها تسع دعوات، يُعلم الله تبارك وتعالى عباده كيف يدعونه ويسألونه، جاء ذلك بعد التخفيف عنهم، فقال الله: رَبَّنَا لا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا [البقرة: 286]، هذا تعليم من الله لعباده كيف يدعونه رَبَّنَا وَلا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا رَبَّنَا وَلا تُحَمِّلْنَا مَا لا طَاقَةَ لَنَا بِهِ وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا أَنْتَ مَوْلانَا فَانصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ [البقرة: 286]، هذه سبع دعوات، فهنا جاء الدعاء باسم الرب (ربنا) وقد ذكرت في مناسبة سابقة أن دعاء الأنبياء عليهم الصلاة والسلام عامة الدعاء في القرآن بهذا الاسم الكريم (ربنا) "رب" دعاء الكبار، آدم عليه الصلاة والسلام، ومن بعده من الأنبياء هذا التعليم الذي يُعلم الله عباده، كبير الأنبياء إبراهيم ﷺ أبو الأنبياء كان يدعو بهذا الاسم؛ وذلك أن من معاني الرب المُدبر الذي يُصرف خلقه كيف شاء، المُعطي، المانع، فهذه من معاني ربوبيته فيسألونه "ربنا".

ومن معاني الربوبية التربيب والتربية "ربنا"، فهذا العطاء الذي يحصل لهم مما يحصل به غذاء الأرواح وما يحصل به نعيم الأبدان، وما يحصل به سعادة الأرواح والأبدان في الدنيا والآخرة، كل ذلك من ألطافه، فالرب هو الذي يُربي خلقه بالنِعم الظاهرة والباطنة.

فيسألونه أنت سيدنا، وأنت مربينا، تُربينا بالنِعم، وأنت الذي منك العطاء والمنع لا مانع لما أعطيت، ولا معطي لما منعت [37] فأعطنا أكرمنا تفضل علينا، فهكذا ينبغي أن يدعوا المؤمن، وهذا الدعاء باسم الرب يصلح في جميع الأمور، وقد ذكرنا في مجالس الأسماء الحسنى بأن الله تبارك وتعالى يُدعى في كل مقام بما يُناسب من هذه الأسماء ولا منافاة، فإذا أراد أن يدعو بدعاء أخص فيمكن أن يقول: يا غني يا رزّاق يا رازق ارزقني، وهكذا حينما يقول: يا عزيز يا قوي عليك بأعداء الملة والدين، وهكذا يا نصير انصرنا.

كذلك أيضاً رَبَّنَا لا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا جمع هنا بين ترك المأمور، ومواقعة المحظور إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا فالنسيان يُطلق على معنيين في لغة العرب وجاء ذلك في القرآن:

الأول: الذهول عن المعلوم، تقول: نسيت حقيبتي، نسيت الكتاب، نسيت المسألة، نسيت الدليل، ذهول عن المعلوم، فهذا النسيان.

والخطأ الوقوع في المخالفة بغير قصد، مواقعة المحظور من غير قصد، فبعض أهل العلم يقول: إن قوله: رَبَّنَا لا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا هذا بالنسبة للمأمورات، إن تركنا شيئاً من المأمورات ذهولاً عنه نسي، من نسي صلاة، أو نام عنها، فكفارتها أن يصليها إذا ذكرها [38] قد لا يذكر هذه الصلاة إلا بعد أسبوع، ترك فرضاً، لا يؤاخذ يُصليها إذا ذكرها.

قد ينسى قضاء رمضان، يُفطر في سفر أو مرض ثم بعد ذلك ينسى أن عليه قضاء وينقضي العمر ويعيش السنوات الطِوال ولا يتذكر حتى يلقى الله، ليس عليه شيء، نسي رَبَّنَا لا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا هكذا وقع له سهو في الصلاة، ترك التشهد الأول قام رَبَّنَا لا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا .

وكذلك أيضاً فيما يتعلق بالخطأ مواقعة المحظور، مما يحصل من باب الجنايات في حق الله، أو في حق النفس، أو في حق الخلق إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا .

الرجل الذي الحديث الذي ذكره النبي ﷺ في التوبة فقد راحلته انفلتت منه وعليها طعامه وشرابه، فأيس منها، فأتى شجرة، فاضطجع في ظلها، قد أيس من راحلته، فبينا هو كذلك إذا هو بها، قائمة عنده، فأخذ بخطامها، ثم قال من شدة الفرح: اللهم أنت عبدي وأنا ربك، أخطأ من شدة الفرح [39] مثل هذا، هذا الكلام كفر، لكنه وقع على سبيل الخطأ، فهذا لا يؤاخذ الإنسان به، رَبَّنَا لا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا الإنسان قد يُخطئ، قد يُخطئ في قراءة آية، قد يُخطئ يقلب المعنى تماماً، أحد الفضلاء من أهل العلم سمع قارئاً يقرأ: "والوالدات يرضعن أزواجهن حولين كاملين لمن أراد أن يُتم الرضاعة" فيقول: فعجبت، وقلت في نفسي كيف يقع هذا الخطأ، أحد يُخطئ في هذا؟ (والوالدات يُرضعن أزواجهن)، الآية: وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ [البقرة: 233]، وهذا الرجل يُصلي بمسجد، له منزلة في قلوب المسلمين، يقول: فقرأتها بالخطأ في ذلك الموضع، (والوالدات يُرضعن أزواجهن حولين كاملين).

هذا مثل ما ذكرنا: لا تظهر الشماتة لأخيك فيعافيه الله ويبتليك [40] مع أنه ما تكلم قالها في نفسه، وهذا يجده الإنسان في نفسه كثيراً، أحياناً الإنسان يقول في نفسه مثلاً: أنا ما سهوت في الصلاة، أو منذ زمن بعيد ما سهوت، فيقع له في الفروض الخمسة سهو؛ ليُعلمه الله.

فالشاهد أن الخطأ لا يؤاخذ الإنسان عليه فهو معفو، لو أنه حصل له حادث، فمات إنسان خطأ، فهذا عليه الكفارة والدية، ولكن ليس عليه إثم؛ لأنه أخطأ، صائم فشرب ناسياً، أو أكل فهذا ليس عليه شيء، تمضمض فوصل الماء إلى جوفه بالخطأ، من غير مُبالغة منه خطأ لا يؤاخذ وصومه صحيح إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا .

وقد يكون هذا الخطأ بتأويل تأويل فاسد، أخطأ فيه تأول فلا يؤاخذ فيه، كما ذكرنا من حال الصحابة رعمرو بن العاص صلى بأصحابه وهو جُنب ولما سأله النبي ﷺ عن هذا؟ احتج بقوله تعالى: وَلا تَقْتُلُوا أَنفُسَكُمْ [النساء:29]، فتبسم النبي ﷺ[41] هذا تأويل أخطأ فيه.

كذلك أيضاً : عمار بن ياسر لما تمعّك تمعك الدابة[42]. ما كان يعرف التيمم، فهذا لا يؤاخذ به، كذلك جاء عن بعض الصحابة أنه كان يعتقد أن أكل البرد لا يُفطر.

وفي قوله تبارك وتعالى: حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ [البقرة:187] أن عدي بن حاتم لربما وضع الواحد عقالاً، أو ربط الإبهام إبهام القدم بخيط أبيض والإبهام بخيط أسود وينظر ويأكل، يعتقد أن الخيط هو الذي ربطه أو العِقال[43].

هذا لا يُطالب بالقضاء رَبَّنَا لا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا كان يعتقد بقاء الليل من غير تفريط فأكل وشرب فتبين أن الفجر قد طلع لا يؤاخذ، فهذا من رحمة الله فدعوا علمهم هذا الدعاء رَبَّنَا لا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا وقد جاء في صحيح مسلم: أن الله قال: قد فعلت، [44] يعني: استجاب ذلك وتحقق.

كذلك في صحيح مسلم من حديث ابن عباس رضي الله تعالى عنهما: أن النبي ﷺ لم يقرأ بحرف من هاتين الآيتين، ومن سورة الفاتحة إلا أُعطي ذلك[45].

يعني: كل هذا اُستجيب، فهذا للنبي ﷺ وهو كائن للمؤمنين آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ [البقرة:285]، فذلك يشمل الرسول ﷺ ويشمل أهل الإيمان إلى قيام الساعة.

رَبَّنَا لا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا وهذا أيضاً يصور حال المؤمنين، يصور علاقتهم بربهم تبارك وتعالى، فهم يُدركون ما هم فيه من الضعف، والعجز، والحاجة إلى ألطاف الله ورحمته وعفوه ومغفرته، هم بحاجة إلى مدده وعونه، غير مستغنين، فيلجئون إليه، وينتسبون إليه "ربنا" يا سيدنا، ويا مولانا، ويا مُدبر شؤوننا، ويا مربينا، فهم دائم بهذه الحال، لا يكون الواحد منهم كالمُستغني عن ربه تبارك وتعالى أبداً، وهل يستغني العبد عن ربه طرفة عين، لا يستغني مهما كانت إمكاناته وقدراته، وثرواته ومعارفه ومداركه أبداً، هو دائماً بحاجة إلى ألطاف الله، إذا نظر إلى ما عنده من المال والولد تذكر أن ذلك من الله، وأنه قد يُسلب في لحظة والتاريخ فيه شواهد من هذا، وكذلك أيضاً حينما يجلس الإنسان على ألوان الموائد، يتذكر أن الأيام قد تدور، وقد لا يجد شيئاً يُفطر عليه، قد لا يجد شيئاً يطعمه، هذه النِعم إنما تُقيد بالشكر لله لكن الكثيرين من قلّ بصره، وعلمه يعتقد أن هذه مبذولة، وأنها موجودة وأنها لن تبيد أبدا مثل الذي وَدَخَلَ جَنَّتَهُ وَهُوَ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ قَالَ مَا أَظُنُّ أَنْ تَبِيدَ هَذِهِ أَبَدًا [الكهف:35]، فالبعض يتعامل مع النِعم بهذه الطريقة، بهذا النظر، وهذا خطير، وها نحن نُشاهد أقواماً كانوا يتقلبون في النِعم، ثم بعد ذلك تحولت حالهم إلى بؤس، نسأل الله أن يلطف بإخواننا المسلمين في كل مكان، وأن يُطعم جائعهم، ويُغني فقيرهم، ويداوي جرحاهم، ويشفي مرضاهم، وأن يُغنيهم من الفقر وأن يجمع شملهم على الحق، إنه سميع مجيب.

هكذا أيضاً المؤمن حينما يقع منه الخطأ، حينما يقع منه الزلة، حينما تقع منه سبق اللسان، الهفوة، حينما يُخطئ خطأ بيّناً أو غير بيّن، ويأتي من يُنبه على الخطأ، يُذكره بالصواب، لا ينبغي أن يأنف، ويكون عنده ردود أفعال ويتشنج كما يفعل بعض الناس، وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا [الإسراء:85]، لماذا تغضب؟! قد يرد عليك هذا الخطأ أحد التلاميذ، أستاذ في جامعة، أو في مدرسة، أو غير ذلك يُقرر مسألة، ثم يأتي أحد التلاميذ ويستدرك في خطأ بيّن، ومن الذي لا يُخطأ من الناس! البعض يتشنج ويغضب وتتغير ملامحة ويتوتر، ولربما يتخذ موقفاً من هذا الذي كان ينبغي أن يُشكر، ومن سوء التربية أن يُعلم هؤلاء الذين يتهيأون للتعليم مثلاً كيف يتخلص من مواقف كهذه محرجة دون أن يُقر على نفسه بالخطأ، أو الجهل، الصحيح أن يقول: أنا لا أعلم، ما ذكرته هو الصواب، أنا أخطأت في هذا، هذا الصحيح، وبكل صدر رحب، أحياناً يُعلم غير هذا، أحياناً يُقال له إذا سألك أحد التلاميذ مسألة لا تعرف الجواب، قل له هذا سؤال مهم ابحث المسألة وأتينا بالجواب، لا لا، قبل أن تقول ابحث المسألة، قل أنا لا أعرف، هذه مقدمة ضرورية، لكن لو تيسر لك تبحث المسألة، أو يبحث واحد منا المسألة إن كانوا مؤهلين ثم يأتينا بالجواب، أو أنا أبحث، هذا الصحيح، أو لربما يقول له هذا سؤال مهم ذكرني في آخر الدرس من أجل أن ينسى، هذه يعتبرون البعض يعتبرها مهارة تربوية، وهذا غلط، هذا جاهل يأبى ويأنف من الإقرار بالجهل.

فهنا لاحظ الخضوع ولاحظ التواضع رَبَّنَا لا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا لا يوجد هنا مجال للتبجح بالخطأ.

ذكر ابن حزم رحمه الله عالم الأندلس عن أحد الشيوخ أنه أخطأ في آية، فجاء من استدرك عليه من الطلاب من التلاميذ، قالوا: الآية خطأ، فقال: لا، فأتوا له بالمصاحف، قالوا: تفضل، قال: لا، فدخل بيته وأخرج المصحف والحبر لم يجف -نسأل الله العافية- يعني غير الحبر، كانت المصاحف مكتوبة بخط اليد غيرها ليقول بأنها قرأها على الوجه الصحيح.

هذا إجرام، إلى هذا الحد المُكابرة والإصرار! ولربما جاء من يستدرك على آخر فكان ذلك سبباً لكثير من الأنفة، فكان يقول هذا لا أدري، هل صار مُضغة أو لم يكن، يعني: هو لم يُخلق خلق إنسان إلى الآن لا أدري هل صار مُضغة يعني من العلقة إلى مُضغة، حتى يستدرك عليّ، ما قال له أنت جاهل، لا، هو الآن يتسائل هل هو الأن خُلّق بصورة إنسان في بطن أمه، أو لا حتى يستدرك، هل هو مُضغة أو ليس بمُضغة؟! يعني منتهى الاحتقار، لماذا؟ لأنه استدرك مسألة، وقال له ذكرت كذا، يشمت به أمام الآخرين، ويقول انظروا لا أدري هذا مُخلّق، أو غير مُخلّق، مُضغة مُخلقة أو غير مُخلقة، إلى هذا الحد.

فهذا لا يجوز، الإنسان يعترف بالتقصير، ويعترف بالخطأ، ويعترف بالجهل، كذلك أيضاً هذا التعليم من الله من أجل أن نتخلق بذلك من أجل أن نمتثل، من أجل أن نعمل به، وهذا من لُطفه ورحمته تبارك وتعالى بنا.

رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا رَبَّنَا وَلَا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا [البقرة: 286]، هذا في التكاليف، هناك فيما يصدر عن المكلفين من الأقوال والأفعال، هنا في التكاليف وَلَا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا الإصر هو الحمل الثقيل كما عرفنا، تكاليف شاقة جداً، وهذا يدل على أن الذين من قبلنا حُملوا من الآصار والتكاليف الشاقة هذا يُفهم كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا هذا صريح بهذا.

وكذلك في قوله: وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالأَغْلالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ [الأعراف:157]، هذا من فضل الله أن كلفنا بهذه الشريعة السهلة السمحة، وما معنى كون الدين يُسر؟ لم يُحملنا الآصار والأغلال والتكاليف الشاقة التي كانت على من قبلنا، هذا من جهة، كذلك أيضاً لا يؤاخذنا بما نسينا أو أخطأنا، كذلك أيضاً هذه التشريعات التي شرعها رخّص للعباد في حال ضعفهم بسبب المرض، أو السفر بالرُخص، فالصلاة تُقصر وتُجمع، وكذلك أيضاً الصيام يُفطر فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ [البقرة:184].

كذلك هناك أعمال وعبادات يُنتقل منها إلى البدل، يعني: في الكفارة عتق رقبة، الوقاع مثلاً في رمضان، فإن لم يستطع فصيام شهرين متتابعين، فإن لم يستطع، فإطعام ستين مسكينا، كفارة اليمين عتق، في البداية ذكر إطعام عشرة مساكين من أوسط ما تُطعمون أهليكم أو كسوتهم أو تحرير رقبة، هو مُخير بين هذه الثلاثة، لكنه إن كان لا يستطيع ففي هذه الحال صيام ثلاثة أيام، ينتقل من هذه الثلاثة إلى صيام ثلاثة أيام إن عجز عن الثلاثة.

المصلي يُصلي قائماً بالنسبة لصلاة الفريضة وجوباً فإن لم يستطع صل قائما، فإن لم تستطع فقاعدا، فإن لم تستطع فعلى جنب [46].

هناك أشياء تسقط عن العاجز بلا بدل مثل الحج من استطاع إليه سبيلا، لا يستطيع الحج يسقط، العمرة واجبة على الأرجح في العُمر مرة على المستطيع، إذا كان لا يستطيع تسقط عنه، زكاة الفطر واجبة، الذي لا يستطيع ما عنده شيء يُخرج تسقط، هل يوجد بدل؟ لا يوجد بدل، يعني: هل يصوم مثلاً ثلاثة أيام؟ الجواب: لا، هل يصوم يوماً؟ لا، تسقط إلى غير بدل، فهناك أشياء تسقط إلى بدل، وهناك أشياء تسقط إلى غير بدل.

وهكذا أيضاً رَبَّنَا وَلَا تُحَمِّلْنَا مَا لَا طَاقَةَ لَنَا بِهِ وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا أَنْتَ مَوْلَانَا فَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ [البقرة: 286].

لاحظ رَبَّنَا وَلَا تُحَمِّلْنَا مَا لَا طَاقَةَ لَنَا بِهِ وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا يدل على أن الإنسان ينبغي أن يسأل العافية، وَلَا تُحَمِّلْنَا مَا لَا طَاقَةَ لَنَا بِهِ بعض الناس يبحث عن المشقة جهلاً منه فيجد أنه يتحراها، في الصوم مثلاً الأسباب مهيأة للراحة توجد مكيفات، يجلس في مكانٍ في وقت الحر الشديد، بلا مروحة، ولا مكيف، ويقول: أريد أن أشعر بالصوم والمشقة، هذا لا يجوز.

ولذلك الرجل الذي رآه النبي ﷺ واقفاً في الشمس، سأل، قالوا: إنه نذر أن يصوم ولا يستظل ويقف، فقال النبي ﷺ: مره فليتكلم وليستظل وليقعد، وليتم صومه [47]

لو جاء إنسان وقال: أنا أريد أن أذهب من هنا إلى مكة على الأقدام من أجل أن أشُعر بالحج، نقول: لا، المشقة لا تُقصد شرعاً، وليست بمطلوبة للشارع، لكن كما يقول النبي ﷺ لعائشة رضي الله عنها: إن أجرك على قدر نصبك أو - قال - نفقتك  [48]

وهذا كما قال الشاطبي رحمه الله وغيره في المشقات العارضة ليست المقصودة، ليس لأحد أن يقصد المشقة لكن فيما يعرض، إنسان حج وتعب من غير إرادة تعب أصابته الشمس، وأصابه العناء ومشى على قدميه، ولم يجد مركباً إلى آخره، وتعطلت سيارته، وأصابه عناء كثير، نقول له: الأجر على قدر المشقة، لكن أن يتقصد المشقة، ويقول: أنا أريد أن أمشي أذهب إلى مكة على الأقدام، نقول: لا، وإن اختلف العلماء في الأفضل أن يحُج ماشياً في المشاعر يعني يتنقل أو يحج راكباً، لكن الكلام في غير هذا، الكلام في إنسان يقصد المشقات، يبحث عنها يطلبها، فهذا غير مُراد، لا يتكلف شيئاً.

ولذلك جاءت هذه الشريعة سمحة، الصلاة بالنِعال مثلاً في غير الفرش إنسان في الصحراء أو في مكان غير مفروش على حاله، إن كان مُنتعلاً صلى بنعاله، إن كان غير مُنتعل لا يلبس النِعال من أجل أن يُصلي بها، ولذلك جاء الإنكار على أبي موسى الأشعري لبس نعليه حينما أراد الصلاة، فأنكر عليه غيره من أصحاب النبي ﷺأفي الوادي المُقدس أنت يا أبا موسى؟[49].

يعني: لماذا لبست النِعال، لبسها عندما أراد أن يُصلي، نقول: يُصلي على حاله، إن كان مُنتعلاً صلى بنعليه، وإن كان غير مُنتعل صلى بغير نعلين، وقل مثل ذلك في سائر الأمور، هذه الشريعة جاءت سمحة يسيرة سهلة، التوبة بين الإنسان وبين الله يندم، ويُعزم أن لا يعود، ويُقلع عن الذنب وانتهى، هذا ترجع صفحته بيضاء تماماً مهما كانت جرائمه إلا إذا بقي مظالم للعباد فإنها تُرد.

كذلك أيضاً يُعلمنا وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا [البقرة: 286] العفو والغفر والرحمة هذه ثلاثة أشياء، بعض العلماء يقولون: "سؤال العفو (اعفو عنا) باعتبار أن العبد إذا مُحي عنه الذنب فهذا العفو، والغفر يكون بالستر فلا يفتضح، ووقاية شؤم وتبعة المعصية أو الذنب".

العلماء وجهوا هذا بتوجيهات مقاربة كما يقول ابن جُزي رحمه الله: "العفو إسقاط العقوبة، ثم تدرج وَاغْفِرْ لَنَا تدرج إلى المغفرة، وهي طلب الستر، يعني: عفو وزيادة من أجل أن لا يكون تكراراً، فالعفو غير الغفر، هو بزيادة الستر، فقد تسقط العقوبة ولا يُستر الذنب، ثم تدرج إلى الرحمة وهي كلمة جامعة لأنواع الخير والإحسان والألطاف الربانية"[50]

الشيخ عبد الرحمن بن سعدي رحمه الله وجه هذا بتوجيهاً أيضاً قريب: فجعل العفو فيما بين العبد وربه، ما بينه وبين الله مما يعلمه من تقصيره وزلله، والغفر فيما بينه وبين العباد، فقالوا: المذنب محتاج إلى ثلاثة أشياء: يحتاج إلى أن يعفو الله عنه فيما بينه وبينه، وأن يستره عن عباده فلا يفتضح بينهم، والرحمة حملها على المستقبل أن يُوقعه في المستقبل في ذنب آخر، يوفق للطاعات والاستقامة"[51] هذا توجيه الشيخ عبد الرحمن السعدي رحمه الله، والأمر في هذا قريب.

وعلى كل حال، ينبغي للإنسان أن يسأل ربه العفو؛ لأنه لا يخلو من تقصير في المأمورات وَاعْفُ عَنَّا ويسأل المغفرة من ذنوبه أيضاً التي فعلها وَاغْفِرْ لَنَا وكذلك أيضاً يحتاج إلى رحمة يدخل بها الجنة.

يؤخذ أيضاً من هذه الآية: ما ذكره شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله بأنهم سألوا هذه الأمور الأربعة العفو والمغفرة والرحمة والنصر على الأعداء، هذه المذكورة في الآخر، يقول: "بهذه الأربعة تتم النعمة المُطلقة، ولا يصفو عيش في الدنيا والآخرة إلا بها وعليها مدار السعادة والفلاح، فالعفو متضمن لإسقاط حقه حق الله على العبد، أن يُسامحه، والمغفرة تتضمن الوقاية من شر الذنوب، وأن يُقبل عليهم، ويرضى عنهم، يقول: أما العفو المُجرد فإنه قد يحصل لكن من غير إقبال، عفى عنه لكن لا يُريد هذا العبد ولا ينظر إليه، فهذا هنا عفو مع غفر فذلك يعني أنه يرضى عن العبد، فالعفو ترك محظ، والمغفرة إحسان وفضل وجود، والرحمة متضمنة للأمرين مع زيادة الإحسان"، هذا توجيه دقيق من شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله ما رأيته لغيره.

يقول: "والبر كذلك يعني هذه الرحمة يدخل فيها البر والألطاف، يقول: فالثلاثة تتضمن النجاة من الشر والفوز بالخير، والنُصرة تتضمن التمكين من إعلان عبادته وإظهار دينه"[52].

ولاحظ التوسل في هذه الآية في الدعاء رَبَّنَا و أَنْتَ مَوْلَانَا فهذا هكذا ينبغي أن يتأدب المؤمن مع ربه تبارك وتعالى حينما يُناجيه ويدعوه أَنْتَ مَوْلَانَا فهذه تدل على نهاية الخضوع والتذلل والاعتراف بأنه المتولي تبارك وتعالى لكل نعمة يصلون إليها وأنه هو المُعطي للمكارم والفضائل التي يفوزون بها، فيُظهرون ذلك في دعائهم، مثل الطفل الذي لا تتم مصلحته إلا بتدبير قيمه ووليه، فهكذا العبد فإنه لا ينتظم شمل مهماته كما قال بعض أهل العلم إلا بإصلاح مولاه، فالله تبارك وتعالى هو القائم بإصلاح شؤون الخلق، وهو المتولي لأمورهم.

أَنْتَ مَوْلَانَا فَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ [البقرة: 286] جيء هنا بالفاء للتفريع كونه هو المولى، ومن معاني المولى النصير الناصر أَنْتَ مَوْلَانَا فَانْصُرْنَا ومن ينصر العباد إن لم ينصرهم الله تبارك وتعالى؟ إِنْ يَنْصُرْكُمُ اللَّهُ فَلا غَالِبَ لَكُمْ [آل عمران:160]، فهذا يدل على تأكيد الطلب طلب إجابة الدعاء بالنصر وجعلوه مفرعاً عن هذا الوصف أَنْتَ مَوْلَانَا فَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ وهذه الآية كما ترون في هذا الختم بهذا الدعاء والله قد فعلت، في هذه السورة العظيمة من سور القرآن، فنسأل الله في ختم هذا الشهر الكريم في آخر ليلة منه أن يعفو عنا، وأن يغفر لنا، وأن يرحمنا فهو مولانا، وأن ينصرنا على القوم الكافرين، نسأله تبارك وتعالى أن يجعل القرآن ربيع قلوبنا، ونور صدورنا، وذهاب أحزاننا، وجلاء همومنا وأن يُذكرنا منه ما نُسينا، وأن يُعلمنا منه ما جهلنا، وأن يرزقنا تلاوته آناء الليل وأطراف النهار على الوجه الذي يُرضيه عنا، كما أسأله تبارك وتعالى أن يُعتقنا جميعاً من النار، اللهم أعتق رقابنا من النار، اللهم أعتق رقابنا من النار، اللهم أعتق رقابنا من النار، ووالدينا وإخواننا المسلمين.

ونحن ندعوا في نهايات هذه الدروس رجاء يكون تأمين الجمع سبباً للقبول والإجابة، وقد يوجد فيهم من هو مستجاب الدعوة؛ ولهذا انظروا في هذه الأدعية في هذه الآية الكريمة جاءت بصيغة الجمع "ربنا" فأخذ منه بعض أهل العلم أن تظافر النفوس والهمم في سؤال شيء وطلبه أن ذلك قد يكون من أسباب تحقيقه وتحصيله، وكان الشيخ محمد الأمين الشنقيطي رحمه الله العالم المعروف المُفسر صاحب أضواء البيان في مجالسه في المسجد النبوي في التفسير يدعو بعد كل درس، وقد نبه على هذا المعنى، وأنه يرجو أنه يكون بهذا الجمع من يكون مستجاب الدعوة. 

فأسأل الله  أن يُحقق آمالنا، وأن لا يُخيب رجاءنا، وأن يُسدد ألسنتنا، وأن يهدي قلوبنا، وأن يُرينا الحق حقاً ويرزقنا اتباعه، وأن يُرينا الباطل باطلاً ويرزقنا اجتنابه، وأن لا يجعله مُلتبساً علينا فنظل. 

  1. أخرجه مسلم، كتاب الإيمان، باب بيان قوله تعالىوَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ [سورة البقرة:284]، برقم (125).
  2. أخرجه مسلم، كتاب الإيمان، باب بيان قوله تعالىوَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ [سورة البقرة:284]، برقم (126).
  3. الطبقات الكبرى ط دار صادر (2/ 100)، وشفاء الغرام بأخبار البلد الحرام (1/ 268).
  4. أخرجه أبو داود، كتاب الصلاة، تفريع أبواب الجمعة، باب فضل يوم الجمعة وليلة الجمعة، برقم (1047)، وصححه الألباني في صحيح أبي داود، برقم (962).
  5. البداية والنهاية ط إحياء التراث (10/ 49).
  6. درء تعارض العقل والنقل (1/ 4).
  7. انظر: إعلام الموقعين عن رب العالمين (1/ 174) وما بعدها.
  8. انظر: مجموع الفتاوى (4/ 73)، والفتاوى الكبرى لابن تيمية (6/ 616).
  9. انظر: مجموع الفتاوى (9/ 228)، والفتاوى الكبرى لابن تيمية (6/ 557).
  10. انظر: مجموع الفتاوى (4/ 28)، ودرء تعارض العقل والنقل (1/ 165)، والصواعق المرسلة في الرد على الجهمية والمعطلة (3/ 842).
  11. انظر: مجموع الفتاوى (5/ 10).
  12. انظر: الصواعق المرسلة في الرد على الجهمية والمعطلة (3/ 842).
  13. انظر: الموافقات (5/ 312).
  14. مجموع الفتاوى (14/ 136).
  15. أخرجه البخاري، كتاب الرقائق، باب القصد والمداومة على العمل، برقم (6463)، ومسلم، كتاب صفة القيامة والجنة والنار، باب لن يدخل أحد الجنة بعمله بل برحمة الله تعالى، برقم (2816).
  16. انظر: مجموع الفتاوى (1/ 25).
  17. انظر: الموافقات (2/ 356)، و(3/ 519).
  18. أخرجه البخاري، كتاب التهجد، باب ما يكره من التشديد في العبادة، برقم (1151)، ومسلم، كتاب صلاة المسافرين وقصرها، باب فضيلة العمل الدائم من قيام الليل وغيره، برقم (782).
  19. أخرجه مسلم، كتاب صفة القيامة والجنة والنار، باب لن يدخل أحد الجنة بعمله بل برحمة الله تعالى، برقم (2818).
  20. أخرجه البخاري، كتاب فضائل القرآن، باب في كم يقرأ القرآن، برقم (5051).
  21. أخرجه البخاري، كتاب الصوم، باب صوم الدهر، برقم (1976)، ومسلم، كتاب الصيام، باب النهي عن صوم الدهر لمن تضرر به أو فوت به حقا أو لم يفطر العيدين والتشريق، وبيان تفضيل صوم يوم، وإفطار يوم، برقم (1159).
  22. انظر: مجموع الفتاوى (1/ 25).
  23. الوابل الصيب من الكلم الطيب (ص:42)، ولفظه: "هذه غدوتي، ولو لم أتغد الغداء سقطت قوتي".
  24. أخرجه البخاري، كتاب المغازي، باب بعث علي بن أبي طالب u، وخالد بن الوليد t، إلى اليمن قبل حجة الوداع، برقم (4351)، ومسلم، كتاب الزكاة، باب ذكر الخوارج وصفاتهم، برقم (1063).
  25. مجموع الفتاوى (14/ 137).
  26. مجموع الفتاوى (14/ 137).
  27. المنتخب من كتب شيخ الإسلام (ص:207).
  28. تاريخ بغداد (13/ 345).
  29. إعلام الموقعين عن رب العالمين (2/ 61).
  30. الموافقات (5/ 332).
  31. تفسير السعدي (ص:120).
  32. أخرجه أبو داود، كتاب الأدب، باب في صلاة العتمة، رقم: (4985)، وأحمد (23088).
  33. تفسير القرطبي (3/ 431).
  34. مجموع الفتاوى (14/ 139).
  35. تفسير ابن جزي = التسهيل لعلوم التنزيل (1/ 142).
  36. أخرجه مسلم، كتاب البر والصلة والآداب، باب تحريم الظلم، رقم: (2577).
  37. أخرجه البخاري، باب الذكر بعد الصلاة، رقم: (844)، ومسلم، كتاب الصلاة، باب اعتدال أركان الصلاة وتخفيفها في تمام، رقم: (471).
  38. أخرجه مسلم، كتاب الصلاة، باب قضاء الصلاة الفائتة، واستحباب تعجيل قضائها رقم: (684).
  39. أخرجه مسلم، كتاب التوبة، باب في الحض على التوبة والفرح بها، رقم: (2747).
  40. أخرجه الطبراني في المعجم الكبير (22/53)، رقم: (127)، والأوسط، رقم: (3739).
  41. أخرجه أبو داود، كتاب الطهارة، باب إذا خاف الجنب البرد أيتيمم، رقم: (334).
  42. أخرجه البخاري، كتاب التيمم، باب: التيمم ضربة، رقم: (347)، ومسلم، باب التيمم، رقم: (368).
  43. أخرجه البخاري، كتاب الصوم، باب قول الله تعالى: {وكلوا واشربوا حتى يتبين لكم الخيط الأبيض من الخيط ...}، رقم: (1916)، ومسلم، كتاب الصيام، باب بيان أن الدخول في الصوم يحصل بطلوع الفجر .... رقم: (1090).
  44. أخرجه مسلم، كتاب الإيمان، باب بيان قوله تعالى: {وإن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه} [البقرة: 284]، رقم: (126).
  45. الحديث في صحيح مسلم، كتاب الصلاة،  باب فضل الفاتحة، وخواتيم سورة البقرة، والحث على قراءة الآيتين من آخر البقرة، رقم: (806)، عن ابن عباس، قال: بينما جبريل قاعد عند النبي صلى الله عليه وسلم، سمع نقيضا من فوقه، فرفع رأسه، فقال: ((هذا باب من السماء فتح اليوم لم يفتح قط إلا اليوم، فنزل منه ملك، فقال: هذا ملك نزل إلى الأرض لم ينزل قط إلا اليوم، فسلم، وقال: أبشر بنورين أوتيتهما لم يؤتهما نبي قبلك: فاتحة الكتاب، وخواتيم سورة البقرة، لن تقرأ بحرف منهما إلا أعطيته)).
  46. أخرجه البخاري، أبواب تقصير الصلاة، باب إذا لم يطق قاعدا صلى على جنب، رقم: (1117).
  47. أخرجه البخاري، كتاب الأيمان والنذور، باب النذر فيما لا يملك وفي معصية، رقم: (6704).
  48. أخرجه مسلم، كتاب الحج، باب بيان وجوه الإحرام، وأنه يجوز إفراد الحج والتمتع والقران... رقم: (1211).
  49. أخرجه أحمد (7/404)، رقم: (4397).
  50. تفسير ابن جزي (1/143).
  51. تفسير السعدي (ص: 120).
  52. مجموع الفتاوى (14/140).