الأربعاء 02 / ذو القعدة / 1446 - 30 / أبريل 2025
وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَٰٓئِكَةِ إِنِّى جَاعِلٌ فِى ٱلْأَرْضِ خَلِيفَةً ۖ قَالُوٓا۟ أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ ٱلدِّمَآءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ ۖ قَالَ إِنِّىٓ أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ

المصباح المنير التسهيل في علوم التنزيل لابن جزي مجالس في تدبر القرآن الكريم
مرات الإستماع: 0

قال المفسر في تفسير قوله تعالى: وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لا تَعْلَمُونَ [البقرة:30]، يخبر تعالى بامتنانه على بني آدم بتنويهه بذكرهم في الملأ الأعلى قبل إيجادهم فقال تعالى: وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ أي: واذكر يا محمد إذ قال ربك للملائكة، واقصص على قومك ذلك إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً أي: قومًا يخلف بعضهم بعضاً قرناً بعد قرن، وجيلاً بعد جيل.قوله - تبارك وتعالى -: وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ يقول: يخبر تعالى بامتنانه على بني آدم، وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ أي: واذكر يا محمد إذ قال ربك للملائكة، دائماً "إذ" هذه تكون منصوبة، ومسبوقة بفعل مقدر تقديره: واذكر، دائماً إذا رأيتها في القرآن، فالتقدير: واذكر إذ قال ربك، وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ [الأعراف:172]، واذكر إذ أخذ ربك من بني آدم، إذْ قَالَ اللَّهُ [آل عمران:55]، واذكر إذ قال الله كذا، ولهذا قال الحافظ ابن كثير: أي: واذكر يا محمد إذ قال ربك للملائكة، إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً.
بعضهم يقول: إذا دخلت على فعل ماضٍ فهي للمستقبل، وإذا دخلت على المضارع فهي للماضي، وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ واذكر إذ قال ربك للملائكة، إِذْ قَالَ دخلت عليه، لكن هذا إذا نظرت إليه في التطبيقات تجد أنه غير دقيق، ستجد أن الواقع يخالفه في أمثلة كثيرة إِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ [آل عمران:55] يعني في المستقبل، وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً يخبرهم عن شيء في المستقبل، لكن هذا ليس في كل الأمثلة، بل حتى في نفس المثال هو يخبر عن أمر مضى وانقضى سواء في المثال الأول، أو في المثال الثاني، لكن حينما قالها الله ذكر شيئاً يكون في المستقبل.
وَإِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ [الأحزاب:12] دخلت على المضارع، يقولون: يعني وإذ قال المنافقون يخبر عن شيء مضى، خلاف وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً يعني سأجعل فيها خليفة، لكن كما قلت: إذا تتبعت الأمثلة لا تجده مطرداً.
كما قال تعالى: وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلائِفَ الأَرْضِ [الأنعام:165]، وقال: وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الأَرْضِ [النمل:62]، وقال: وَلَوْ نَشَاءُ لَجَعَلْنَا مِنْكُمْ مَلائِكَةً فِي الأَرْضِ يَخْلُفُونَ [الزخرف:60]، وقال: فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ [مريم:59]، والظاهر أنه لم يُرد آدم عيناً؛ إذ لو كان كذلك لما حسن قول الملائكة: أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ [البقرة:30].
وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً أي: سأجعل فيها خليفة، وبعضهم يفسر جعل هنا بمعنى خلق، خالق في الأرض، ويمكن أن تكون بمعنى خالق، ويمكن أن تكون بمعنى الجعل.
الخليفة عموماً يأتي بمعنى الخالف، ويأتي بمعنى المخلوف، فعيلة بمعنى فاعل، وبمعنى مفعول، فهنا انظر التفسير الذي ذكره ابن كثير - رحمه الله -: أي: قومًا يخلف بعضهم بعضًا قرناً بعد قرن، وجيلاً بعد جيل، "خليفة" إذا قلنا: إنها بمعنى فاعل فبعضهم يفسر ذلك بأنه خليفة الله في أرضه، هذا قال به جماعة من المتقدمين والمتأخرين أي: أن الله استخلفه لإقامة حكمه، وعمارة الأرض، فهذا تفسير بمعنى خالِف، أو أنه خليفة لمن سبقوه في الخلق قبل ذلك في الأرض، ومن الذين سبقوه في الأرض؟
بعض أهل العلم يقولون: الملائكة في الأرض قبل آدم، وبعضهم يقول: هم الجن، كانوا في الأرض قبل آدم، ثم إن الله خلق آدم، وأهبطه إليها، وهذا الكلام جميعاً لا دليل عليه، لا أنه خليفة للملائكة، ولا أنه خليفة للجن، ولا أنه خليفة لله ، بل الأقرب أنه لا يصح أن يقال: خليفة الله في أرضه، ولا في حق آدم ﷺ، ولا في حق غيره من الناس، فالله أعظم وأجلّ من ذلك.
فيبقى المعنى الآخر وهو المخلوف وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الأَرْضِ، فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ يعني أن هؤلاء من المخلوفين، خلف من بعدهم أناس، جاء من بعدهم أناس يخلفونهم أي يكونون خلفاً لهم، فالخليفة بمعنى المخلوف أي: أن الناس يخلف بعضهم بعضاً في الأرض كما هي سنة الله في خلقه، ولا يقال: خليفة الله في أرضه، وقد صرح جماعة من أهل العلم بأن ذلك لا يصح، ولا يجوز إطلاقه.
ثم بعد ذلك شرع الحافظ ابن كثير -ىرحمه اللهى- بالإجابة على سؤال متوقع إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ [البقرة:30]، السؤال المتبادر ما هو؟ كيف عرفوا أنه سيفسد فيها، ويسفك الدماء؟ فهو قال لهم فقط: إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً فكيف أجابوا بهذا الجواب المطابق للواقع؟
هذا الذي شرع فيه الحافظ ابن كثير هو جواب على سؤال مقدر: كيف عرفت الملائكة هذا الوصف من أوصاف بني آدم؟
والظاهر أنه لم يُرد آدم عيناً؛ إذ لو كان كذلك لما حسن قول الملائكة: أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ، فإنهم أرادوا أن مِن هذا الجنس من يفعل ذلك، وكأنهم علموا ذلك بعلم خاص.جواب السؤال المقدر: وكأنهم عرفوا ذلك بعلم خاص، هذا هو الجواب، وأما ما قبله: فإنهم أرادوا أن مِن هذا الجنس من يفعل ذلك، يقول: إنه لم يُرد آدم عيناً أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا الخليفة: يقال: هو آدم خليفة الله، أو خليفة للملائكة، أو خليفة للجن، أو يقال: مخلوف باعتبار أنه تخلفه ذريته، أو يطلق ذلك على عموم بني آدم، وهذا هو الأقرب.
أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا فهنا يقول: لم يريدوا آدم بذلك، والله حينما قال: "خليفة" فإن ذلك لا يختص بآدم، بل آدم وذرية آدم؛ لأنهم قالوا: اللفظ محتمل، فرجح أحد هذه الاحتمالات بقرينة من نفس الآية، قالوا: أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ، قالوا: وآدم لا يفسد، نبي - عليه الصلاة والسلام -، ولا يسفك الدماء، وإنما يكون ذلك واقعاً في ذريته، فالخليفة يشمل آدم وذرية آدم، وكلام الملائكة يصدق على جنس الآدميين، وذلك واقع في الذرية، وكأنهم علموا ذلك بعلم خاص، أو بما فهموه من الطبيعة البشرية.فإنه أخبرهم أنه يخلق هذا الصنف من صلصال من حمإ مسنون، أو فهموا من الخليفة أنه الذي يفصل بين الناس ما يقع بينهم من المظالم، ويردعهم عن المحارم والمآثم قاله القرطبي.فهذه ثلاثة أجوبة: إما أنهم علموا ذلك بعلم خاص، أي: أن الله أعلمهم، وهذا ورد في بعض الروايات، لكن ليس فيها شيء عن النبي ﷺ يعني أن الله قال لهم: إني جاعل في الأرض خليفة من صفته كذا وكذا وكذا، وجاء هذا في بعض الروايات التي يمكن أن يقال إنها مأخوذة من بني إسرائيل، في نفس الخطاب إني جاعل في الأرض خليفة من صفته كذا وكذا وكذا، أو أن الله أعملهم ذلك بطريق أو بآخر، هذا الجواب الأول، وهذا هو الأقرب.
وبعضهم قال: عرفوا ذلك من طبيعته، قالوا: طبيعة آدم أنه خُلق من صلصال وحمإ مسنون، فثِقل الطين والصلصال فهموا منه ذلك، أو أنهم عرفوا أنه لما كان قد ركز فيه الشهوات؛ فإن ذلك يفضي إلى الإفساد في الأرض، وسفك الدماء، فهموا هذا من طبيعة آدم التي عرفوها عرّفهم الله بها، أو هم لما رأوا طبيعة خلقه استنتجوا هذا، فقالوا مثل هذا الكلام.
وبعضهم قال: إنهم فهموا ذلك من قوله: خليفة، والخليفة من شأنه أن يحكم بين الناس، وإنما يكون الحكم للفصل بين الناس فيما يترافعون به لرفع المظالم عنهم، وإعطاء الحقوق لأصحابها، فإذاً الناس يترافعون، فمعنى ذلك أن هناك ظالماً ومظلومًا، ففهموا هذا من قوله: خليفة.
وبعضهم يقول غير هذا، والأمر في هذا سهل.
وقوله - تبارك وتعالى -: وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً [البقرة:30]، بعضهم يعبر بعبارة في هذا المقام يقول: هذا تعليم للمشاورة، ولكن لا يحسن أن يقال ذلك، فالله أجل وأعظم من هذا، وهم وإن كانوا يقرون - يعني القائلين بهذا - بأن الله لا يحتاج إلى هذا؛ لأن الذي يحتاج إليه هو مَن قصر علمُه، أو قصر بصره في الأمور، يعني جهة الحكمة في وضع الأمور في مواضعها، وإبقائها في مواقعها، أو لقصور العلم، فيحتاج إلى أن يشاور ليعرف ما جهل، أو ليضع الشيء في محله، فيستشير، وقد يفعل ذلك تطييباً للقلوب، والله ليس بحاجة إلى شيء من ذلك، هو الغنيُّ الغِنى المطلق مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ [البقرة:255]، فكمال ملكه وغناه بحيث لا يحتاج إلى الخلق، والله أخبرهم بذلك وهو العليم الحكيم، فكان نتيجة هذا الخبر أنهم سألوا هذا السؤال، فبيّن الله لهم - تبارك وتعالى - ما بيّن.
وقولهم هنا: أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا قال الحافظ: وقول الملائكة هذا ليس على وجه الاعتراض على الله، ولا على وجه الحسد لبني آدم كما قد يتوهمه بعض المفسرين، وقد وصفهم الله تعالى بأنهم لا يسبقونه بالقول أي: لا يسألونه شيئًا لم يأذن لهم فيه، وهاهنا لما أعملهم بأنه سيخلق في الأرض خلقاً قال قتادة: وقد تقدم إليهم أنهم يفسدون فيها، فقالوا: أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ الآية، وإنما هو سؤال استعلام واستكشاف عن الحكمة في ذلك.هذا أحسن ما يقال فيه: أتجعل فيها ليس إنكاراً - حاشا وكلا -، وإنما ذلك كان على سبيل الاستعلام والاستكشاف، يعني ما هي حكمتك يا رب في مثل هذا الخلق الذي يكون من شأنه الإفساد، وأنت لا تحب الفساد؟
يقولون: يا ربنا ما الحكمة في خلق هؤلاء مع أن منهم من يفسد في الأرض، ويسفك الدماء، فإن كان المراد عبادتك فنحن نسبح بحمدك، ونقدس لك، أي: نصلي لك كما سيأتي، أي: لا يصدر منا شيء من ذلك، وهلا وقع الاقتصار علينا؟وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ التسبيح بمعنى التنزيه، تنزيهه عما لا يليق، عن كل عيب، ودنس، ونقص، في ذاته، وأسمائه، وصفاته، وأفعاله على وجه التعظيم، هذا هو التسبيح نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ، نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ أي: حامدين لك.
والتقديس بعضهم يقول: هو بمعنى التسبيح، نسبح ونقدس.
وبعضهم يقول: التقديس بمعنى التطهير، ومن أسماء الله القدوس، الْقُدُّوسُ السَّلامُ [الحشر:23]، فالقدوس هو الطاهر المقدس من كل عيب، ونقص في ذاته، وأسمائه، وأفعاله، وصفاته، والسلام هو السالم من كل عيب ونقص، وبعضهم يفرق بغير هذا، والعلم عند الله .
فالحاصل أنهم يقولون: وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ أي: ننزهك ونطهرك عن كل ما لا يليق بجلالك وعظمتك، وأخرج مسلم عن أبي ذر أن رسول الله ﷺ سئل: أي الكلام أفضل؟ قال: ما اصطفى الله لملائكته أو لعباده: سبحان الله وبحمده[1].
قال الله تعالى لهم مجيباً لهم على هذا السؤال: إِنِّي أَعْلَمُ مَا لا تَعْلَمُونَ أي: إني أعلم من المصلحة الراجحة في خلق هذا الصنف على المفاسد التي ذكرتموها ما لا تعلمون أنتم، فإني جاعل فيهم الأنبياء، وأُرسلُ فيهم الرسل، ويوجد منهم الصديقون، والشهداء، والصالحون، والعباد، والزهاد، والأولياء، والأبرار، والمقربون، والعلماء العاملون، والخاشعون والمحبون له - تبارك وتعالى -، المتبعون رسله - صلوات الله وسلامه عليهم -، وقد ثبت في الصحيح: أن الملائكة إذا صعدت إلى الرب - تعالى - بأعمال عباده يسألهم - وهو أعلم -: كيف تركتم عبادي؟ فيقولون: أتيناهم وهم يصلون، وتركناهم وهم يصلون، وذلك لأنهم يتعاقبون فينا، ويجتمعون في صلاة الصبح، وفي صلاة العصر، فيمكث هؤلاء، ويصعد هؤلاء في الأعمال كما قال - عليه الصلاة والسلام -:يُرفع إليه عمل الليل قبل النهار، وعمل النهار قبل الليل[2]، فقولهم: أتيناهم وهم يصلون، وتركناهم وهم يصلون من تفسير قوله لهم: إِنِّي أَعْلَمُ مَا لا تَعْلَمُونَ.
وقيل معنى قوله - تعالى - جوابًا لهم: إِنِّي أَعْلَمُ مَا لا تَعْلَمُونَ: إن لي حكمة مفصلة في خلق هؤلاء، والحالة ما ذكرتم لا تعلمونها.
وقيل: إنه جواب وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ فقال: إِنِّي أَعْلَمُ مَا لا تَعْلَمُونَ، أي: من وجود إبليس بينكم، وليس هو كما وصفتم أنفسكم به.
وقيل: بل تَضمّن قولهم: أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ طلباً منهم أن يسكنوا الأرض بدلاً بني آدم فقال الله تعالى لهم: إِنِّي أَعْلَمُ مَا لا تَعْلَمُونَ من أن بقاءكم في السماء أصلح لكم، وأليق لكم، ذكرها الرازي مع غيرها مع الأجوبة، والله أعلم.
قال: إِنِّي أَعْلَمُ مَا لا تَعْلَمُونَ لا شك أنه جواب على قولهم: أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ، وذلك أن الله له حكمة من خلق آدم وذرية آدم، فيكون منهم هؤلاء الأصفياء من الأنبياء، ومَن كان من أتباعهم من الشهداء، والصالحين إلى غير ذلك.
وكذلك أيضاً لإقامة العبودية لله في الأرض.
وكذلك أيضاً ما علمه - تبارك وتعالى - مما سيقع في هؤلاء الذرية حيث إنهم سينقسمون إلى فريقين: أهل الإيمان، وأهل الكفر، ويحصل الصراع بين الخير والشر، فتظهر معاني أسماء الله وصفاته، فيُنزل نقمته بأعدائه، وينصر أولياءه، وتنزل ألطافه ورحماته بهؤلاء المصطفَيْن، إلى غير ذلك من المعاني التي لا تخفى، فكل ذلك من حكمته ، ثم يصيرون بعد ذلك إلى دار كرامته، وأولئك الأشقياء يصيرون إلى النار، فهذا كله من حكمة الله في هذا الخلق، - خلق آدم وذرية آدم -، فكل هذه الأمور التي وقعت بعد خلق آدم لا شك أنها تشتمل على حكم بالغة تظهر فيها معاني الأسماء والصفات، إِنِّي أَعْلَمُ مَا لا تَعْلَمُونَ وسينبري لهم إبليس، ويناصبهم العداوة، ويكون ما يكون مما ذكره الله بعد ذلك.
وقد استدل القرطبي وغيره بهذه الآية على وجوب نصب الخليفة ليفصل بين الناس فيما اختلفوا فيه.من هذا الموضع من القرآن تجد العلماء في كتب تفسير آيات الأحكام مثل: "تفسير القرطبي"، ومثل: "أضواء البيان"، وقبل ذلك أيضاً "تفسير ابن العربي"، وأمثال هذه الكتب؛ يتكلمون فيها على مسائل الإمامة، والخلافة، وشروط الخليفة، وصفات الخليفة؛ وأن إقامته واجبة، ويتكلمون في مسائل: هل إقامة الخليفة واجبة بالعقل كما يقول بعضهم كالمعتزلة، أو أن ذلك واجب بالشرع؟.
وأهل السنة يقولون: إن ذلك واجب بالشرع، ويستدلون بمثل هذه الآية: إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً، ويستدلون بأمور أخرى من المنقول، ومن جهة النظر، ويقولون: لا يجوز أن يخلو زمان من خليفة يقيم العدل في الناس، ويحكم بينهم، ويتولى شئونهم، وما أشبه ذلك، ويتوسعون في هذا في كتب تفسير آيات الأحكام.
ليفصل بين الناس فيما اختلفوا فيه، ويقطع تنازعهم، وينتصر لمظلومهم من ظالمهم، ويقيم الحدود، ويزجر عن تعاطي الفواحش ... إلى غير ذلك من الأمور المهمة التي لا يمكن إقامتها إلا بالإمام، وما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب، والإمامة تُنال بالنص كما يقول طائفة من أهل السنة في أبي بكر . يعني هذا أحد الأقوال، أن خلافة أبي بكر كانت بالنص، وهذا فيه ما فيه.
أو بالإيماء إليه كما يقول آخرون منهم.الإيماء إليه بأن النبي ﷺ مثلاً أمر أن يصلي فيهم، وقال: يأبى الله والمؤمنون إلا أبا بكر[3]، فكون النبي ﷺ ارتضاه لهم في الصلاة، إشارة وقرينة إلى أنه يرتضيه لهم فيما هو دونه فيما يتعلق بدنياهم، إذا ارتضاه لدينهم فإن ذلك يشير إلى أنه يرتضيه لإقامة دنياهم.
أو باستخلاف الخليفة آخر بعده كما فعل الصديق بعمر بن الخطاب - ا -.هذه الطريق الثانية: الخليفة يستخلف الخليفة من بعده، ينيب أحداً آخر، لا يشترط أن يكون كلما مات خليفة حدث انتخاب، أو يكون مدته أربع سنوات ثم يحصل انتخاب، هذه الطريقة ليست شرعية بل العلماء يختلفون: هل يجوز له أن يعزل نفسه أو لا؟
أو بتركه شورى في جماعة صالحين كذلك كما فعله عمر، أو باجتماع أهل الحل والعقد على مبايعته.الشورى في جماعة صالحين ما هي شورى في كل الناس الطيب والرديء، والفاسد والصالح، والمجنون والأهبل، كل هؤلاء يستشارون في أمر الخليفة، وإنما يكون ذلك بين أهل الصلاح، والفضل، والعلم، والسداد، هؤلاء هم الذين يستحقون أن يؤخذ رأيهم في مثل هذه الأمور، وإلا وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَنْ تَمِيلُوا مَيْلًا عَظِيمًا [النساء:27]، فإن أولئك إذا استشرتهم فإنهم لا يدلونك إلا على ما فيه الخبال والضياع للأمة، والبلاد، والعباد.
فمثل هؤلاء لا يؤخذ رأيهم، أو اجتماع أهل الحل والعقد على مبايعته يعني الخليفة ما استشار، يعني مثلاً عمر جعلها في النفر الستة الذين توفى النبي ﷺ وهو راضٍ عنهم، وحصل بذلك شورى الترشيح من هؤلاء الستة، فمثلاً طريقة اختيار عثمان فهذه الطريقة الثانية، أو بمبايعة واحد منهم، فيجب التزامها عند الجمهور ليس هذا محل اتفاق، كما بايع عمر لأبي بكر؛ فتتابع الناس على بيعته، فقالوا: إنها لزمت، مع أن عمر نهى عن هذا فيما بعد، وبيّن أن ذلك كان فلتة، ويقصد به أن هذا الأمر لا ينبغي لأحد أن يتقدم فيه دون المسلمين؛ لئلا يحصل منازعة بسبب ذلك، وفساد وخلاف بين الناس، وقتال، فتلك قد نجى الله من مغبتها، لكن لا ينبغي لأحد أن يكرر مثل هذا؛ للآثار التي قد تنتج عنه، فهذه الطرق الثلاثة في تولية الخليفة، وهذه قضية شرعية، وللأسف مما أصاب الناس في مثل هذه الأمور أعني المنتسبين أو بعض المنتسبين للدعوة، أو الدين أصابهم ما أصابهم فيها من قلة العلم، ومحاكاة الأمم الأخرى، فصرنا نجد من يتكلم عن الديمقراطية، والانتخاب، والترشيح للخليفة أو الإمام، ونحو هذا، ويرى أن هذه الطريقة الصحيحة، وقد سمعت أحد الأشخاص يتحدث عن شيء مثل هذا، الديمقراطية وكذا، فقلت له: الديمقراطية كفر بالله ، فغضب، وقال: عرِّف الديمقراطية، قلت: لا أعرف إلا شيئاً واحداً وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ [الأنعام:153]، فكل شيء غير الإسلام فهو كفر، هذا الذي أعرفه، قال: الديمقراطية لها سبعة عشر تعريفاً، قلت: لو كان لها سبعون ألف تعريف، قال: لها معانٍ كثيرة، لها صور وتطبيقات كثيرة، قال: أنتم لا تعرفون إلا الصور السيئة عن الديمقراطية، قلت: لو أتيتني بقراب الأرض من صور الديمقراطية ومعانيها فهي صور، وأشكال، وألوان للمذاهب الكفرية، فطريق الله واضح، وهذه النظم التي يصوت فيها على الأحكام، حتى لو طبقوا الشريعة مائة في المائة بالتصويت على كل قضية فمثلاً: قضية قطع يد السارق فالأغلبية يصوتون، نقول: هذا حكم بالجاهلية وليس حكماً بالإسلام؛ لأن هذا حكم بآراء الناس، والمسألة غير قابلة للتصويت، هذا شرع ودين، وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا جَزَاءً بِمَا كَسَبَا نَكَالًا مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ [المائدة:38]، نفعل هذا عبادة وقربة إلى الله وليس لنا خيار أصلاً، لكن إن كان ذلك بتصويت الأكثرين، أو إرادة الشعب كما يقال، أو ما أشبه ذلك؛ فهو حكم بآراء الناس؛ وأذواقهم؛ وأهوائهم، ولا يجوز ولا يصوت بهذه الأشياء، والقاعدة كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَدًا حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ [الممتحنة:4].
القضايا هذه لا تقبل التصويت أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ [المائدة:50] فينبغي الإذعان والإيمان بذلك، نؤمن بأن هذه أحكام صحيحة، ونذعن، وننقاد، ثم نمتثل ونطبق، لا نجعل القضية بحسب الطلب، ورغبة الأكثرية.
فهذا يقول: إنه كاتب بحثًا في ألف وسبعمائة صفحة عن الديمقراطية، فمسكين يحسب أنه على شيء، وهو ينتسب إلى الدعوة في نظره وظنه، يقول: لها سبعة عشر معنى - للديمقراطية - لا تعرفون إلا المعنى المظلم منها، فالله يصلح الحال.
أو بمبايعة واحد منهم له فيجب التزامها عند الجمهور، ويجب أن يكون ذكراً، حرًّا، بالغاً، عاقلاً، مسلماً، عدلاً، مجتهداً، بصيراً، سليم الأعضاء، خبيراً بالحروب والآراء، قرشياً على الصحيح، ولا يشترط الهاشمي، ولا المعصوم من الخطأ خلافاً للغلاة الروافض.لا يمكن العصمة من الخطأ، ولا يشترط أن يكون من بني هاشم، يكفي أن يكون من قريش؛ لأن النبي ﷺ قال: الأئمة من قريش[4].
والعلماء يذكرون عشرة شروط له من أبرزها أن يكون مجتهداً؛ يعني عالماً، بلغ رتبة الاجتهاد، ومن أبرزها أن يكون سليماً من الإعاقات، والعاهات، لا يكون أعمى مثلاً، أو غير ذلك من الأمور التي تُعيقه، يذكرون عشرة شروط ليس هذا موضعها.
ولو فسق الإمام هل ينعزل أم لا؟لو فسق الإمام: يعني عندما بايعوه كان صالحاً، ثم تغير صار فاسداً، هل ينعزل أو لا ينعزل؟
ولو فسق الإمام هل ينعزل أم لا؟ فيه خلاف، والصحيح أنه لا ينعزل لقوله - عليه الصلاة والسلام -: إلا أن تروا كفراً بواحاً عندكم من الله فيه برهان[5]، وهل له أن يعزل نفسه؟ فيه خلاف، وقد عزل الحسن بن علي نفسه، وسلّم الأمر إلى معاوية - وأرضاه -، لكن كان هذا لعذر.فإذا وُجد المقتضي، أو غلبت المصلحة في هذا؛ فله أن يعزل نفسه، وأما عثمان فإن ذلك لرأي رآه؛ لئلا يفتح للناس باباً، فهؤلاء لمّا خرجوا على عثمان وطالبوه أن يعزل نفسه؛ أبى كل الإباء، وقال: "لا أخلع قميصاً ألبسنيه الله"[6]، مع أنه أزهد الناس في الدنيا، لكنه أراد أن لا يفتح بابًا للناس كلما رأوا شيئاً يكرهونه من إمامهم قاموا عليه، وطالبوه بأن يعزل نفسه؛ فتبقى الأمور والناس فوضى.
لكن كان هذا لعذر، وقد مُدح على ذلك، فأما نصب إمامين في الأرض أو أكثر فلا يجوز لقوله - عليه الصلاة والسلام -: من جاءكم وأمركم جميع يريد أن يفرق بينكم فاقتلوه كائناً من كان[7]، وهذا قول الجمهور، وحكى إمام الحرمين عن الأستاذ أبي إسحاق أنه جوز نصب إمامين أو أكثر، إذا تباعدت الأقطار، واتسعت الأقاليم بينهما، وتردد إمام الحرمين في ذلك.لا يكون ذلك اختياراً بلا شك، ويبقى الحق للأول، يعني إذا جاء آخر في ناحية من الأرض فإنه لا يبايع، ولا يقبل منه ذلك، ويُدفع ولو بالقتل، فإنما يكون الإمام واحداً للناس جميعاً في مشارق الأرض ومغاربها، فكل من جاء بعد ذلك فإنه يُمنع من هذا.
  1. أخرجه مسلم، كتاب الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار، باب فضل سبحان الله وبحمده، برقم (2731).
  2. أخرجه مسلم، كتاب الإيمان، باب في قوله ﷺ: إن الله لا ينام، وفي قوله: حجابه النور لو كشفه لأحرق سُبُحات وجهه ما انتهى إليه بصره من خلقه برقم (179).
  3. أخرجه مسلم، كتاب فضائل الصحابة ، باب من فضائل أبي بكر الصديق ، برقم (2387).
  4. أخرجه أحمد في المسند، برقم (12307)، وقال محققوه: "حديث صحيح بطرقه وشواهده، وهذا إسناد ضعيف لجهالة بكير بن وهب الجزري، فإنه لم يرو عنه غير أبي الأسد، وقال الأزدي: ليس بالقوي، وذكره ابن حبان في "الثقات"، وأما أبو الأسد فقد سماه شعبة عليًّا، وسماه الأعمش ومسعر سهلًا أبا الأسد، وهو الصواب فيما قاله الدارقطني وغيره"، والبيهقي في السنن الكبرى، برقم (5909)، وصححه الألباني في صحيح الجامع، برقم (2758).
  5. أخرجه البخاري، كتاب الفتن، باب قول النبي ﷺ: سترون بعدي أمورًا تنكرونها، برقم (7056), ومسلم، كتاب الإمارة، باب وجوب طاعة الأمراء في غير معصية، وتحريمها في المعصية، برقم (1709).
  6. أخرجه ابن شبة في تاريخ المدينة (4/ 1286)، والطبراني في المعجم الكبير للطبراني (1/ 82)، برقم (116)، وابن أبي شيبة في المصنف، برقم (37656).
  7. أخرجه مسلم بلفظ: من أتاكم وأمركم جميع على رجل واحد، يريد أن يشق عصاكم، أو يفرق جماعتكم، فاقتلوه، كتاب الإمارة، باب حكم من فرق أمر المسلمين وهو مجتمع، برقم (1852).

مرات الإستماع: 0

"لِلْمَلائِكَةِ جمع ملك، واختلف في وزنه فقيل: فَعَل فالميم أصلية، ووزن ملائكة على هذا مَفَاعِلة، وقيل: هي من الألوكة، وهي الرسالة، فوزنه مَفْعَل، ووزنه مألك، ثم حذفت الهمزة، ووزن ملائكة على هذا مفاعلة، ثم قلبت، وأخرت الهمزة، فصار مفاعلة، وذلك بعيد."

أبو عبيدة معمر بن المثنى يقول: فَعَل من المُلك، وهو القوة، فالميم أصلية مَلَكَ من المُلك، وهو القوة عند أبي عبيدة، وجمعه على وزن فعائله عنده، وعليه فلا حذف في المفرد ملك، يعني الميم أصلية، لا أدري هل في النسخة الأخرى شيء آخر غير هذه العبارة.

قال أبو حيان في جمعه: وكأنهم توهموا أنه ملاك على وزن فعال، وقد جمعوا فعالًا على فعائل قليلًا، فعائلة[1].

وذهب ابن السراج إلى أن أصل المفرد ملأك، والهمزة زائدة، نُقلت حركة الهمزة إلى اللام، وحذفت الهمزة تخفيفًا، وجاء هذا الجمع على أصل المفرد فهو فعائلة.

وذهب أبو عبيد إلى أن المفرد مشتق من ألك، وأصله مألك قُلبت العين إلى موضع الفاء - العين يعني وسط الكلمة، والفاء أول الكلمة - والفاء إلى موضع العين فصار ملأك على وزن مَعْفَل ثم نُقلت حركة الهمزة إلى اللام، وحُذفت الهمزة تحفيفًا فوزن مَلَك مَعَل، أما الجمع فقد جاء على الأصل حيث ردت الهمزة، فوزنه مَعَافِلة.

وقيل: إنه مشتق من لأك بمعنى أرسل فأصل المفرد ملأك، ثم نقلت حركة الهمزة إلى اللام، وحذفت الهمزة تحفيفًا، وجاء الجمع على هذا الأصل برد الهمزة فوزنه مَفَاعِلة.

وقيل: مشتق من لاكه يلوكه بمعنى أدراه فأصل مَلَك على هذا مَلْوَك فنقلت حركة الواو إلى اللام فصار مَلَوْك، تحرك حرف العلة في الأصل، وانفتح ما قبله في اللفظ، وقُلب ألفًا فصار ملاك، ثم حذفت الألف تخفيفًا فوزنه مَفَل، وأصل الجمع على هذا ملاوكة على مفاعلة، وقعت الواو بعد الألف فقلبت همزة كما فُعل بمصائب مع أصالة الواو، وهذا خارج عن القياس.

وقال النضر بن شميل: لا اشتقاق لهذا اللفظ عند العرب، وهو ممن فات علمه. يعني لا يُعرف أصله من جهة الاشتقاق، والتاء في الملائكة لتأنيث الجمع، أو للمبالغة، وعلى كل حال المَلَك: كثير من أهل العلم يقولون هو من الألوكة، وهي الرسالة، كما قال الشاعر:

أَلِكْني إليها وخَيْرُ الرَّسُولِ أَعْلَمُهم بِنُوَاحِي الخَبَرْ[2]

ألكني إليها: بمعنى أرسلني إليها، والألوكة يعني الرسالة، فالملائكة باعتبار أنهم رسل الله، يحتمل أن يكون من هذا - والله أعلم -يعني أنه مشتق من أَلَكَ إذا أرجعناه إلى الفعل الماضي، وإذا أرجعناه إلى المصدر يمكن أن يقال: إنه من الألوكة بمعنى الرسالة -  والله أعلم -.

 "خَلِيفَةً هو آدم ؛ لأن الله استخلفه في الأرض، وقيل ذريته؛ لأن بعضهم يخلف بعضًا."

الخليفة يأتي بمعنى الخالف، يعني خالف أنه يخلُف غيره، ويأتي بمعنى المخلوف، كما يقول الحافظ ابن كثير: أي قومًا يخلف بعضهم بعضًا. إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً يعني: قومًا يخلف بعضهم بعضًا، قرنًا بعد قرن، وجيلًا بعد جيل، كما قال:  هُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلَائِفَ فِي الْأَرْضِ [فاطر: 39]  وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الْأَرْضِ [النمل: 62] يعني: يخلف بعضهم بعضًا، وأصله مجيء شيء بعد شيء يقوم مقامه، هذا أصله، الخلافة أن تقال للنيابة عن الغير إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً قيل: لأن الله استخلفه في الأرض يعني آدم ﷺ.

وهل يقال: آدم خليفة الله، والإنسان خليفة الله في الأرض؟.

الجواب: الصحيح أنه لا يقال ذلك، وإن أطلقه بعضهم؛ لأن الله أجل، وأعظم من أن يخلفه الإنسان، أن يكون خليفة عن الله، وإنما  إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً أي قومًا يخلف بعضهم بعضًا.

بعضهم يقول: بأن آدم قيل له خليفة باعتبار أن الجن سبقوا في الأرض، فجاء آدم بعدهم، فهو خليفة بعد إفساد الجن، لكن هذا فيه بُعد، وآدم ﷺ ليس بخليفة عن الجن، وإنما خليفة أن يخلف بعضهم بعضًا. 

"والأول أرجح، ولو أراد الثاني لقال خلفاء."

يعني: باعتبار لو أراد الذرية، لكن لا يلزم، يمكن أن يقال: بأن خليفة جنس يصدق على الواحد، والكثير. هذا يحتمل أن يُراد به آدم ﷺ ويُراد به الذرية أيضًا، فكل هؤلاء يمكن أن يقال له: خليفة. فآدم ﷺ يخلفه من جاء بعده من ذريته، وكذلك الذرية يخلف بعضهم بعضًا، وكما عرفنا أن خليفة يأتي بمعنى خالف، ويأتي بمعنى مخلوف.

أَتَجْعَلُ فِيها الآية: سؤال محض؛ لأنهم استبعدوا أن يستخلف الله من يعصيه، وليس فيه اعتراض؛ لأن الملائكة منزهون عنه."

يعني هذا الكلام يشتمل على أمرين:

القضية الأولى: التي ذكرها ابن جزي - رحمه الله - فيما يتعلق بهذا السؤال، بمعنى هل هذا سؤال اعتراض؟  أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا حاشا الملائكة عليهم السلام فإنهم منقادون لله تمام الانقياد  لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ [التحريم: 6] لكنه كما قال: سؤال محض.

كما يعبر ابن كثير - رحمه الله - يقول: سؤال استعلام، واستكشاف فقط[3]. يعني: يسألون عن الحكمة في ذلك  أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا ليس اعتراضًا على الله، والملائكة لا يعترضون على الله وإنما يسألون عن الحكمة في ذلك.

القضية الثانية: التي ذكرها، وهي أنهم كيف عرفوا أنهم يفسدون في الأرض؟ والله أخبر أنه سيجعل في الأرض خليفة قبل خلق آدم، قال: فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ [الحجر: 29] أمرهم بالسجود قبل خلقه، وأعلمهم بذلك، وكذلك أمرهم بالسجود بعد خلقه وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا فإذا جمعت الآيات في هذا فهذا محملها - والله تعالى أعلم - فمنها ما يدل على أنه أعلمهم قبل الخلق، وأمرهم أنه إذا خلقه أن يسجدوا  فَإِذَا سَوَّيْتُهُ ثم لما خلقه أمرهم بالسجود وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا.

وإنما علموا أن بني آدم يفسدون بإعلام الله إياهم بذلك، وقيل: كان في الأرض جنّ فأفسدوا، فبعث الله إليهم ملائكة فقتلتهم. فقاس الملائكة بني آدم عليهم.

وإنما علموا أن بني آدم يفسدون بإعلام الله إياهم بذلك: هذا قول قتادة - رحمه الله - يعني هذا جواب الآن لهذا السؤال، كيف عرف الملائكة أن بني آدم سيحصل منهم سفك دماء، وإفساد في الأرض؟ بعضهم يقول: الله أعلمهم بهذا، علموا بإعلام الله لهم.

وبعضهم يقول: بأنهم قاسوا بني آدم على الجن، فإن الجن، وجدوا قبل بني آدم، وحصل منهم الإفساد، وأن الملائكة قاتلتهم. لكن هذه مبناه على الإسرائيليات، لا دليل عليه، وبعضهم يقولون: قالوا ذلك لما عرفوا طبيعة آدم، وأنه خُلق من الطين، وأنه أجوف - يعني له جوف - معنى ذلك أن له غرائز، وشهوات فيحصل منه الإفساد.

لكن وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً هذا قبل أن يخلقه، فقالوا هذا، يعني قبل أن يشاهدوا آدم ﷺ في طينته، فيكون هذا علمه عند الله يمكن أن يكون ذلك بإعلام الله لهم، ولهذا قالوا: سُبْحَانَكَ لَا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا أن الله أعلمهم بهذا، أو ألهمهم - والله أعلم -.

ولا يقال هنا: بأن إعلام الله لهم  إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً أنه من قبيل الاستشارة. هذا ذكره بعضهم، ولا يحسن، وإنما قصدوا بذلك قالوا: التعليم. أن يعلم الله خلقه هذا الأمر الذي هو الاستشارة، وإلا فهم يعلمون - أعني هذا القائل بأن الاستشارة إنما تكون ممن لا يعلم العواقب، ولا يحيط بالأمور فيجتمع إلى رأيه رأي غيره - هم يدركون هذا، ولكن قالوا: أراد الله أن يُعلم بني آدم، هذه الصفة، وهذه الخلة، وهذا المعنى لحاجتهم إليه، ولكن هذا باطل، غير صحيح، ولا يفسر بهذا، ولا يقال، ولو كان لهذا المعنى، وإنما ذكرت هذا تنبيهًا عليه؛ لأنه وجد في بعض الكتب، فلا يقال: هذا من باب الاستشارة. فهذا لا يليق نسبته إلى الله - تبارك، وتعالى - فالله أجل، وأعظم، وإنما ذكر لهم ذلك لحكمة يعلمها؛ ليختبرهم، ليكون مثل هذا الذي وقع من الجواب ثم بعد ذلك ما تبين لهم من فضل آدم - عليه الصلاة، والسلام -.

يقول: فقاتلتهم الملائكة فقاس الملائكة على بني آدم. ربما يكون أيضًا فهموه باعتبار أن الخليفة يعني معانيه أن يفصل بين الناس ما يقع بينهم من المظالم، إذن سيقع مظالم لما قال لهم:  إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً إذن هناك فصل، وحكم، وخصومات، ومشكلات، ومظالم - والله أعلم -.

"وَنَحْنُ نُسَبِّحُ اعتراف، والتزام للتسبيح لا افتخار بِحَمْدِكَ أي: حامدين لك، والتقدير: نسبح متلبسين بحمدك، فهو في موضع الحال."

 التسبيح معروف أنه هو التنزيه، والتبعيد من السوء على وجه التعظيم بِحَمْدِكَ أي: حامدين لك، متلبسين بحمدك، وفي حديث أبي ذر عن النبي ﷺ في أحب الكلام إلى الله قال: ما اصطفى الله لملائكته، أو لعباده: سبحان الله، وبحمده[4] هذا في صحيح مسلم، فلاحظ هنا  وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ سبحان ربي، وبحمده.

قوله: فهو في موضع الحال.

أي: ونحن نسبح بحمدك حال كوننا حامدين لك.

وَنُقَدِّسُ لَكَ يحتمل أن تكون الكاف مفعولًا، ودخلت عليها اللام كقولك. ضربت لزيدًا."

أي: تكون اللام هذه صلة يعني زائدة إعرابًا، يعني:  وَنُقَدِّسُ لَكَ يعني: نقدسك، الكاف تكون في محل نصب مفعول به، واللام زائدة، طبعًا من ناحية المعنى هي لتقوية الكلام، يعني: ليست من قبيل الحشو من جهة المعنى، لكن يقصدون إعرابًا، ونقدسك، ونقدس لك، فيكون أقوى في المعنى، وضربت لَزيدًا.

"أو أن يكون المفعول محذوفًا، أي: نقدسك على معنى: ننزهك، أو نعظمك، وتكون اللام في لك للتعليل أي لأجلك."

يعني: نقدس لك، أو نعظمك، فتكون اللام في لك للتعليل.

أو أن يكون التقدير: نقدس أنفسنا أي نطهرها لك.

 

هذا باعتبار أن المفعول محذوف، يعني الكاف إذا قيل إن اللام هذه زائدة تكون الكاف مفعول به وَنُقَدِّسُ لَكَ نقدسك، فيكون المفعول بهذا الاعتبار مذكورًا، لكن الكلام هنا فيه تداخل، لاحظ من أوله يقول: نقدس لك يحتمل أن تكون الكاف مفعولًا، ودخلت عليها اللام كقولك: ضربت لَزيدًا.

أو أن يكون المفعول محذوفًا أي نقدسك. أي نقدسك هذا يرجع إلى كون اللام زائدة، والمفعول هو الكاف، نقدسك على معنى ننزهك، ونعظمك، وتكون اللام في لك للتعليل أي لأجلك، أو يكون التقدير نقدس أنفسنا. هذا باعتبار أن المفعول محذوف: نقدس أنفسنا لك، أي نطهرها لك، لكن هذا بعيد، والمقصود هو التقديس لله التقديس المشهور أنه يُفسر بمعنى التطهير، ولذلك في معنى القدوس بعضهم يفسره بالطاهر من كل عيب، ونقص، والذي يظهر - والله أعلم - أن تقديس، وأن أصل هذه المادة تدل على التطهير، وزيادة، يعني: تطهير مع تعظيم، المكان المقدس، الأرض المقدسة يعني المطهرة، وأيضًا مع تعظيم، الشيء المقدس هو شيء مطهر، ومعظم، فيجمع بين هذا، وهذا، والله أعلم.

ما لا تَعْلَمُونَ أي: ما يكون في بني آدم من الأنبياء، والأولياء، وغير ذلك من المصالح، والحكمة."
  1.  البحر المحيط في التفسير (1/222).
  2.  تفسير القرطبي (17/10).
  3. تفسير ابن كثير (1/216).
  4.  أخرجه مسلم، كتاب الذكر، والدعاء، والتوبة، والاستغفار، باب فضل سبحان الله، وبحمده، رقم: (2731).

مرات الإستماع: 0

وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ [سورة البقرة:30] واذكر أيها الرسول يمكن أن يكون هذا الخطاب موجها للنبي ﷺ وهو خطاب لكل أمته؛ لأن الأمة تخاطب -كما هو معلوم- بشخص قدوتها ومقدمها ﷺ واذكر إذ قال ربك للملائكة، ويصلح أن يكون ذلك خطابًا لكل أحد إني جاعل في الأرض قومًا يخلف بعضهم بعضًا؛ لعمارتها خليفة، وليس المقصود بذلك أنه يكون خليفة عن الله، فإن الله أعظم وأجل من ذلك، ومن هنا فإن العبارة التي قد يعبر بها بعضهم يقول: الإنسان هو خليفة الله في أرضه، فهذه عبارة غير صحيحة، وإنما خليفة أي يخلف بعضهم بعضًا، وقيل غير ذلك، لكن هذا هو الأقرب من هذه المعاني.

يقول الله -تبارك وتعالى- واذكر أيها الرسول إذ قال ربك للملائكة إني جاعل في الأرض خليفة، أي: قومًا يخلف بعضهم بعضًا لعمارتها، فسأل الملائكة ربهم -تبارك وتعالى- سؤال استرشاد، وليس بسؤال اعتراض، فإن الملائكة أعلم بالله -تبارك وتعالى- وأخوف وأتقى من أن يسألوه سؤال اعتراض أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ [سورة البقرة:30] هذا سؤال واستفهام، فهم يسترشدون ويسألون عن الحكمة في خلق هؤلاء البشر الذين من شأنهم الإفساد في الأرض، وإراقة الدماء ظلمًا وعدوانًا، ونحن طوع أمرك ننزهك التنزيه اللائق بك، ونمجدك، ونقدسك، فقال الله -تبارك وتعالى- لهم: إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ [سورة البقرة:30].

فيُؤخذ من هذه الآية كما قال بعض أهل العلم كالقرطبي: أن هذا الموضع من كتاب الله -تبارك وتعالى- أصل في نصب إمام وخليفة يسمع له ويطاع، وتجتمع عليه الكلمة، وتنفذ به الأحكام[1] وهذا لا شك أنه من الفروض الواجبة على الأمة، ولا تستقيم حياتهم ومعايشهم، بل لا يقوم دينهم إلا بهذا، وإلا بقوا فوضى، فتضيع الضرورات الخمس، كما هو معلوم، فنحن نشاهد في البلاد التي تتحول إلى فوضى، فإن أديان الناس تتضرر، والناس لا يأمنون في عبادتهم، ولا يخرجون إلى مساجدهم، ولا يحكم فيهم بشرع الله  فتضيع الحقوق.

وكذلك أيضًا لا يأمنون على دمائهم، ولا على عقولهم، ولا على أعراضهم، ولا على أموالهم، الضرورات الخمس جميعًا تضيع وتذهب.

وكذلك أيضًا دل قوله -تبارك وتعالى: وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً [سورة البقرة:30] هذا قبل خلق آدم، فالله أخبر الملائكة قبل خلقه: إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً فهذا يدل على أن الله قد قدر وعلم أن آدم ﷺ سيخرج من الجنة، ويهبط إلى الأرض إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ ولم يقل: في الجنة، والله حينما خلق آدم أسكنه الجنة، ونهاه عن الأكل من الشجرة، كما هو معلوم، فأكل منها، وأطاع عدوه إبليس، وحصل ما حصل، ثم نزل بعد ذلك، وأهبطه الله إلى هذه الأرض، كما قال الحافظ ابن القيم -رحمه الله:

فحيا على جنات عدن فإنها منازلك الأولى وفيها المخيم
ولكننا سبي العدو فيا ترى نرد إلى أوطاننا ونسلم[2]

وإنما نحن سبي العدو أي: سبانا إبليس من الجنة إلى هنا، فيا ترى نرد إلى أوطاننا ونسلم.

ففي هذه الآية تدل على أن الله قد قدر على آدم خروجه، وأنه سيكون خليفة في الأرض، فهذا يدل على علمه المحيط الشامل، وأنه يعلم ما كان وما يكون وما لم يكن لو كان كيف يكون.

ثم تأمل قوله -تبارك وتعالى: وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ فيه إثبات القول لله وتقدست أسماؤه، فالله -تبارك وتعالى- يقول ويتكلم كلامًا يليق بجلاله وعظمته، وهذا الكلام يكون بحرف وصوت، كما هي عقيدة أهل السنة والجماعة، ويتكلم بكلام حقيقي لا يشبه كلام المخلوقين.

ثم تأمل قوله -تبارك وتعالى: وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ إسناد القول هنا إلى الرب -تبارك وتعالى- في غاية المناسبة؛ لأن هذا الذي ذكره الله -تبارك وتعالى- هو من معاني ربوبيته، وتصريفه لأمر الخليفة، خلق آدم وأوجده، والملائكة يتساءلون عن سبب خلق آدم، وأن الله أراد أن يكون خليفة في الأرض، فكل هذه من معاني ربوبيته وتدبيره وتربيبه لخلقه، كيف شاء؟ ثم أيضًا فيه التفات، وعرفنا الالتفات في تنويع الخطاب، فإن الله -تبارك وتعالى- قال  قبلها: هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ [سورة البقرة:29] فهنا خطاب للجميع، ثم بعد ذلك صار الخطاب إلى الواحد، وهذا نوع من أنواع الالتفات، حيث خرج من الخطاب العام كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنْتُمْ أَمْوَاتًا فَأَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ ۝ هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا [سورة البقرة:28، 29] ثم قال: وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ ولم يقل: وإذ قال ربكم.

كذلك أيضًا تأمل قول الملائكة -عليهم السلام: أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ [سورة البقرة:30] يفسد فيها، ما الذي أعلمهم بهذا؟ الله أعلم، ومن أهل العلم من يقول: يحتمل أن يكون الله أعلمهم حينما أخبرهم أنه سيجعل في الأرض خليفة: أن من طبيعته كذا وكذا، ويحتمل أنهم لما عرفوا صفة هذا المخلوق، وأنه مجوف، عرفوا أنه يكون موضعًا للشهوات، ونحو ذلك، فتقع منه نوازع الشر والمخالفة، ويحتمل أن يكون ذلك بناء على ما شاهدوا من الجن، باعتبار ما يذكر من أن الجن كانوا قبل الإنس في الأرض، وأنهم أفسدوا إلى آخر ما ذكر، فقاسوا الإنس على الجن، فيحتمل هذا ويحتمل غيره.

لكن هنا قالوا: أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ ذكروا قضيتين: الإفساد، وسفك الدماء، مع أن سفك الدماء هو من جملة الإفساد، ولكنه ذكر مستقلاً لشدته وخطورته وعظمه، فهذا كما قال الله في الآية الأخرى لما ذكر قصة ابني آدم قال: مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا [سورة المائدة:32] وأقوال المفسرين في آية المائدة معروفة مشهورة متنوعة، منها: أن العدوان على نفس واحدة كالعدوان على جميع النفوس؛ لأن النفوس في ذلك متحدة، وأن إحياء النفس الواحدة كإحياء جميع النفوس؛ لأنها متصفة بالصفة الواحدة، وهي صفة الإنسان، فهؤلاء سواء من هذه الحيثية، والمحافظة على روح إنسان كالمحافظة على جميع الأرواح، وقطع ذرائع الإتلاف والإفساد والعدوان على النفوس يكون تحقيقًا لسلامة جميع النفوس، التي لا يحل قتلها إلا ما جاء استثناؤه عن الشارع، وليس ذلك أيضًا لكل أحد لا يحل دم امرئ مسلم، يشهد أن لا إله إلا الله، وأني رسول الله، إلا بإحدى ثلاث: النفس بالنفس، والثيب الزاني، والمارق من الدين التارك للجماعة [3] ولا يكون هذا أيضًا لآحاد الناس.

فالملائكة ذكروا هاتين القضيتين: أن يفسدوا فيها، ويسفكوا الدماء، وأيضًا فالله -تبارك وتعالى- حكم على بني إسرائيل أنه من قتل نفسًا بغير نفس، أو فساد في الأرض، فُقدِّم هناك قتل النفس؛ لماذا؟ لأن قصة ابني آدم في سورة المائدة فيها قتل للنفس، فقدم ما يتعلق بالمناسبة، وهنا ذكر العام؛ لأن بني آدم يصدر عنهم القتل وغير القتل، فدل هذا وهذا، كما يقول شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- على أن هذين الأمرين اللذين ذكرهما الله في قصة ابني آدم، وما قضى به على بني إسرائيل، على أن الإفساد في الأرض، ومن أعظمه وأشده: قتل النفوس، من أعظم الجرائم والمنكرات والعظائم [4] بصرف النظر عن مراد صاحبه، سواء فعل ذلك ديانة من عند نفسه، حيث فهم الدين بفهم فاسد، سواء كان ذلك بسبب نوازع الشر في نفسه، أو غير ذلك من الأسباب، يبقى أن هذا من أعظم المنكرات والجرائم، ولا يمكن لأحد أن يدعي الإصلاح والصلاح، ثم بعد ذلك يصدر عنه مثل هذه الأفعال الشنيعة القبيحة، بل ويكثر منه ذلك، حتى يعرف به من بين سائر الناس، سواء كان فردًا أم جماعة، فلا فرق في ذلك، وما نشاهده ويقع في مثل هذه الأيام لا شك أنه من أعظم الفساد في الأرض، والإجرام والسوء؛ ولأن يبقى المرء يعاقر أنواع الشهوات من شرب الخمر، وفعل الفواحش والزنا، وما إلى ذلك، فإنه أسهل بكثير من هذا الذي نشاهده!

انظروا في مثل هذه الأيام كيف شغل الناس بمثل هذه الشنائع، والأعمال القبيحة، والبلد في حال حرب، ثم تأتي هذه الطعنة في الظهر، فتصرف الناس من ميدان المعركة إلى هؤلاء الغادرين الأشرار، فأشغلوا الناس، ولو أن أكبر الأعداء أراد أن ينصرف ميدان المعركة، فإنه لن يفعل أكثر من هذا، ولم يجد من يتبرع له بأكثر من هذا، هذا عند من يعقل ويبصر، ولكن فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ [سورة الحج:46].

فالملائكة قالوا: أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا [سورة البقرة:30] بأنواع المعاصي وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ [سورة البقرة:30] قالوا هذا - كما سبق - استفهامًا واسترشادًا، وليس من قبيل الاعتراض، ولا الحسد لبني آدم، وإنما هو سؤال استعلام، ولا يحسن أن يقال كما ذكر بعضهم: بأن الله ذكر ذلك على سبيل الاستشارة للملائكة، فالله أعظم من هذا، لكن الذين يذكرون ذلك هم يقصدون به أن ذلك من قبيل تعليم الله لخلقه، إنما الذي يستشير هو من كان ناقص العلم، لا يعلم العواقب، والله أجل وأعظم من أن يستشير أحدًا من خلقه، مهما علت مرتبته، فالله هو الذي خلقهم، وهو الذي علمهم.

لكن من ذكر هذا من المفسرين قصد به أن ذلك لتعليم بني آدم، لكن هذا المعنى لا يصح، وإنما ذكرته لأنه قد يقف عليه بعض من يقرأ في بعض كتب التفسير، ولكنه معنى مردود، وعبارة مردودة وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ فالجملة هنا جملة اسمية، والجملة الاسمية تدل على الثبوت والدوام، فهم دائمون على ذلك، لا يفترون ولا يضعفون ولا يكسلون ولا يتعبون، كما وصفهم الله -تبارك وتعالى- وتقديم المسند إليه (نحن) على الخبر الفعلي (نسبح) دون حرف النفي، يحتمل أن يكون للتخصيص بحاصل ما دلت عليه الجملة الاسمية من الدوام، أي: نحن الدائمون على التسبيح والتقديس، دون هذا المخلوق، وبخلاف هؤلاء البشر الذين يقع منهم ما يقع من الغفلة والتفريط والفساد والإفساد، لكن الله عليم حكيم، فهذه الذرية وجد منهم الأنبياء والرسل والصديقون والشهداء والصالحون، ووجد منهم خلق يدخلون الجنة، ووجد منهم من هم أولياء لله -تبارك وتعالى- ويتميز بذلك أولياؤه من حزبه، وتظهر معاني الأسماء والصفات للرب -تبارك وتعالى- وتظهر جوانب عظيمة من حكمته، إلى غير ذلك مما أراده الله -تبارك وتعالى.

وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لا تَعْلَمُونَ [سورة البقرة:30].

ثم أراد الله -تبارك وتعالى- أن يُبين للملائكة -عليهم السلام- فضل آدم فقال: وَعَلَّمَ آدَمَ الأَسْمَاءَ كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلائِكَةِ فَقَالَ أَنْبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَؤُلاءِ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ [سورة البقرة:31].

هذا بيان منه -تبارك وتعالى- لفضل آدم حيث علمه الأسماء كلها، علمه أسماء المسميات، أسماء الأشياء، كل الأشياء، وهذا الموضع يتكلم فيه أهل العلم على مسألة معروفة، وهي هل اللغات توقيفية، أو لا؟ ولهم في ذلك أقوال معروفة، فمن قائل: بأنها توقيفية بإطلاق، ومن قائل بأنها ليست بتوقيفية، ومن قائل بالتفصيل، وشيخ الإسلام -رحمه الله- له كلام في هذه المسألة يُراجع في مظانه[5].

وهم يختلفون في المراد بهذه الأسماء التي علمها الله -تبارك وتعالى- لآدم والأقرب أنه علمه أسماء المسميات، كما جاء عن ابن عباس -رضي الله عنهما- ثم عرض هذه المُسميات أنفسها على الملائكة -عليهم السلام- قائلاً لهم: أنبئوني، أخبروني بأسماء هؤلاء إن كنتم صادقين في أنكم أولى بالاستخلاف من آدم أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لا تَعْلَمُونَ [سورة البقرة:30].

وَعَلَّمَ آدَمَ الأَسْمَاءَ [سورة البقرة:31] يؤخذ من هذا من الهدايات: أن الله -تبارك وتعالى- هو الذي علم البشر، وامتن عليهم بالعلم اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ ۝ خَلَقَ الإِنسَانَ مِنْ عَلَقٍ ۝ اقْرَأْ وَرَبُّكَ الأَكْرَمُ ۝ الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ ۝ عَلَّمَ الإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ [سورة العلق:1- 5] وأقسم الله -تبارك وتعالى- بالقلم، وبما يسطرون فقال: ن وَالْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ [سورة القلم:1] فهذا من تعليمه -تبارك وتعالى- وهذا القلم المُقسم به في هذه السورة الكريمة كما قال الحافظ ابن القيم -رحمه الله- يشمل سائر الأقلام[6].

القلم الذي خلقه الله -تبارك وتعالى- فأمره أن يكتب مقادير الأشياء إلى أن تقوم الساعة، أول ما خلق الله القلم قال له اكتب [7] فهذا القلم داخل فيه وهو القلم الأول الذي كتُبت فيه المقادير، ويدخل فيه أقلام أخرى، كالأقلام التي بأيدي الملائكة، وكذلك أيضًا الأقلام التي يُكتب بها أعمال العباد، والأقلام التي تُكتب بها الوثائق والشهادات، وتُقر الحقوق، والأقلام التي تُكتب بها الديون والعهود والمواثيق، والأقلام التي تُكتب بها العلوم ابتداء من كتابة الوحي إلى ما يشرحه من كتابة التفسير والفقه والحديث، وما إلى ذلك من العلوم الشريفة، إضافة إلى الأقلام التي يُكتب بها سائر العلوم.

فهنا الله هو الذي علم بذلك، والمُعَلم الأول من البشر هو آدم وهو حديث عهد بالجنة، لما خلقه الله -تبارك وتعالى- علمه الأسماء، أسماء كل شيء، إذًا آدم كان الأكمل تعليمًا؛ فإن الله -تبارك وتعالى- حينما خلقه لم يتركه في حال من الجهالة، لا يُميز بين نافع وضار، وهذا يدلنا على بُطلان ما يقوله أولئك الذين يتخرصون، فحينما يذكرون مراحل التاريخ، وهو فرع من نظرية دارون المعروفة، فإن هذه النظرية ليست مقتصرة على أن أصل الإنسان كان قردًا -كما يزعم- وإنما هذه النظرية لها فروع كثيرة، من فروع هذه النظرية التي تُعرف بنظرية التطور: أن الخلق مر بمراحل في أطوار خلقه، وكذلك في أطوار المعرفة، وكذلك في أطوار الحضارة، وكذلك في أطوار السياسة، وكذلك في أطوار الاقتصاد إلى غير ذلك من الفروع، فهؤلاء يقولون بأن الإنسان البدائي الأول يُمثلونه كأنه قرد، بل يقولون: إن الأصل هو القرد، ويقولون: إن البشرية مرت بمراحل من التخلف والعصور الموغلة بالجهل، العصر الحجري، والعصر البُرونزي، وهذا كله كذب، لا أساس له من الصحة، فالله خلق آدم، وعلمه أسماء كل الأشياء وأهبطه إلى الأرض وعلمه وكرمه، وأسجد له الملائكة، ثم بعد ذلك بعث الأنبياء والرُسل -عليهم الصلاة والسلام- يسوسون الخلق، ويُعلمونهم وتنزل الكتب ولم تكن البشرية في حال من البدائية والجهالة كما يدعي هؤلاء. 

ويؤخذ من قوله -تبارك وتعالى: وَعَلَّمَ آدَمَ الأَسْمَاءَ كُلَّهَا [سورة البقرة:31] أن الذي علم آدم والذي علم أيضًا إبراهيم والذي فهم سُليمان هو الذي بيده العلم والتعليم، فتوجه إليه بالرغبة واسأله أن يُعلمك، وأن يفتح عليك مغاليق العلم، فيسأل الإنسان ربه، يقول: "يا مُعلم إبراهيم علمني، ويا مُفهم سليمان فهمني". فهذا كان يدعوا به شيخ الإسلام -رحمه الله[8].

ومن ثَم فإن الإنسان لا ييأس إذا استغلق عليه باب من العلم أو أنه لربما يجد نفسه مُتأخرًا في هذا السبيل، فإنه يسأل ربه أن يفتح عليه، هذا سيبويه كان لحانًا، يلحن كثيرًا في كلامه، فجلس بين يدي بعض أئمة السنة، يريد أن يقرأ عليه الحديث، وأن يأخذ عنه الرواية ولكن لكثرة لحنه قال هذا الإمام له: لا يحضر مجلسنا من يلحن، أراد أن يصرفه بطريقة لا يخصه فيها، ففهمها سيبويه -رحمه الله- وقال: "لا جرم لأطلبن علمًا لا تلحنني فيه أبدًا"[9].

فصار إمام النحو، وإذا ذُكر الكتاب، الكتاب فهو كتاب سيبويه، وصار النُحاة بعده عالة على كتابه، وهذا حصل لجمع من أهل العلم.

حصل ذلك لابن حزم في الفقه، وحصل لغيره من بعض أئمة الشافعية، كان مبدأ ذلك في واقعة عزم على أن يتعلم فقهًا لا يُغلطه أحد فيه، فصار هؤلاء أئمة في العلم، والله على كل شيء قدير، فالذي علم أباك الأسماء كلها من غير دراسة ولا تعلم، قادر على أن يفتح عليك مغاليق العلوم، وأن يُيسر عليك ما شق وعسُر.

ثم تأمل قوله -تبارك وتعالى: وَعَلَّمَ آدَمَ الأَسْمَاءَ كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلائِكَةِ فَقَالَ أَنْبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَؤُلاءِ [سورة البقرة:31] أسماء المسميات هذه مما يحتاج إليه الناس، فلم يكن ذلك من العلوم الشرعية، وإنما من العلوم التي يحتاج إليها الناس في معاشهم، فكانت بهذا الاعتبار مطلوبة، وقد علم الله آدم هذه الأسماء؛ لحاجته إليها.

إذًا العلوم النافعة ولو كانت من غير العلوم الشرعية فإنها مطلوبة في الأمة، وطلبها ودراستها لا يُعد عيبًا، وإن تفاضلت العلوم وتفاوتت.

وتأمل قوله -تبارك وتعالى: فَقَالَ أَنْبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَؤُلاءِ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ الله -تبارك وتعالى- يمتحنهم لما رأوا لأنفسهم فضلاً على آدم وهذا يؤخذ منه جواز امتحان من يدعي إتقان علم، أو صنعة، أو نحو ذلك أنه يُمتحن في هذا، إذا ادعى شيئًا فإن امتحانه في ذلك ليس من التمحل، وإنما هو أمر سائغ، بل إنه يسوغ أن يرد ذلك بلغة تُشبه التحدي أَنْبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَؤُلاءِ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ [سورة البقرة:31] إن كنتم صادقين فيما تقولون فأنبئوني، فهذا فيه حث للنفوس ودفع لها على إيراد ما طُلب منها، هذا هو التحدي.

فبماذا أجاب الملائكة -عليهم السلام- وهم أعلم الناس بالله -تبارك وتعالى؟ قَالُوا سُبْحَانَكَ لا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ [سورة البقرة:32] سبحانك! هذا تنزيه منهم لله -تبارك وتعالى- نُنزهك يا ربنا ليس لنا علم إلا ما علمتنا إياه إنك أنت وحدك العليم بشؤون خلقك، الحكيم في تدبيرك.

سُبْحَانَكَ لا عِلْمَ لَنَا العلم هنا نكرة في سياق النفي، فهي تُفيد العموم، نفوا جنس العلم لا عِلْمَ لَنَا نفوه من أصله عن أنفسهم إلا ما علمهم الله -تبارك وتعالى- إياه.

فهؤلاء الملائكة الكرام مع ما عندهم من العلم العظيم الذي علمهم الله -تبارك وتعالى- إياه، كانوا يقولون لا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا فهذا يدعوا إلى التواضع لله فالله يقول للنبيه ﷺ: وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكَانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيمًا [سورة النساء:113] فالنبي ﷺ يمتن عليه ربه بهذا، والملائكة يقولون: لا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا ونوح يقول له ربه -تبارك وتعالى: أَنَّهُ لَنْ يُؤْمِنَ مِنْ قَوْمِكَ إِلَّا مَنْ قَدْ آمَنَ [سورة هود:36] فهو لا يعلم من سيؤمن، ومن سيكفر فلما يأسه من إيمانهم، ثم حصل لهم ما حصل من الغرق، قال نوح : إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ [سورة هود:45] فقال الله : إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ فَلا تَسْأَلْنِ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ [سورة هود:46].

فماذا قال نوح ؟ رَبِّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَسْأَلَكَ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ [سورة هود:47] هذا هو أدب الأنبياء مع الله -تبارك وتعالى.

وانظر إلى أدب الخليل إبراهيم لما قال الله له: إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا [سورة البقرة:124] أخذته الشفقة على ذريته فقال: وَمِنْ ذُرِّيَّتِي [سورة البقرة:124] يعني: اجعل أئمة، فقال الله : لا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ [سورة البقرة:124] الإمامة في الدين لا تكون للظالمين، وإنما تُنال الإمامة في الدين بالصبر واليقين وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ [سورة السجدة: 24] فبعدها دعا إبراهيم لمكة ولأهلها اجْعَلْ هَذَا بَلَدًا آمِنًا وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ وقيدها مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ [سورة البقرة:126] فبين الله له أن هذا الرزق غير الإمامة، فلا حاجة لهذا التقييد في الرزق أن الرزق لا يكون إلا لمن آمن منهم بالله واليوم الآخر قَالَ وَمَنْ كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلاً ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلَى عَذَابِ النَّارِ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ [سورة البقرة:126] هذه غير الأولى، الإمامة في الدين لا تكون لهؤلاء الظالمين، أما الرزق فهو يكون للظالمين ولغيرهم، ولكن يكون للظالمين العقاب والعذاب، فهذا كله من أدب الأنبياء -عليهم الصلاة والسلام.

ويؤخذ من ذلك أيضًا سُبْحَانَكَ لا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا [سورة البقرة:32] إذا كان الملائكة هؤلاء العِظام لا يعلمون الغيب وهم في الملأ الأعلى فكيف بغيرهم؟ وإذا كان هؤلاء الرُسل -عليه الصلاة والسلام- لا يعلمون الغيب، إبراهيم لما جاءه الملائكة بصورة رجال شُبان، ذبح عجله، وأتعب أهله في صُنع طعام وإنضاجه، ثم قربه إليهم ودعاهم إلى تناوله أَلَا تَأْكُلُونَ [سورة الذاريات: 27] فَلَمَّا رَأَى أَيْدِيَهُمْ لا تَصِلُ إِلَيْهِ نَكِرَهُمْ وَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً قَالُوا لا تَخَفْ [سورة هود:70] فبينوا لهم أنهم ملائكة، وما كان يعلم أنهم ملائكة، جاء لهم بالعجل ليأكلوا، فإذا كان خليل الرحمن لا يعلم الغيب إلا ما علمه ربه -تبارك وتعالى- فغيره من باب أولى.

وهكذا حينما جاء هؤلاء الرُسل الكِرام -عليهم الصلاة والسلام- من الملائكة إلى لوط ضاق ذرعه بهم، وقال هذا يوم عصيب، وقال كلامه المعروف لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً أَوْ آوِي إِلَى رُكْنٍ شَدِيدٍ [سورة هود:80] حتى أعلموه إِنَّا رُسُلُ رَبِّكَ لَنْ يَصِلُوا إِلَيْكَ [سورة هود:81] وما كان يعلم أنهم ملائكة حتى أعلمه الله فكيف بآحاد الناس، أو من يُدعى لهم الولاية من غير الملائكة والرُسل - عليهم الصلاة والسلام؟

فلا يجوز لأحد أن يدعي لنفسه أو لغيره علم الغيب قُلْ لا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ [سورة النمل:65] ومن ادعى في نفسه أو في غيره أنه يعلم الغيب، فإنه يكون كافرًا مُرتدًا عن الإسلام.

وهذه العقائد تُزعزع وتُزلزل بخُرافات وعقائد فاسدة يتلقاها الصغير في بيئة تُضيف علم الغيب إلى غير الله -تبارك وتعالى- وقد يتلقاها في بيئة نظيفة سليمة عبر ألعاب مدسوسة، وبرامج مدسوسة كهذه التي يسألون عنها كثيرًا في مثل هذه الأيام، ألعاب فيها شيء من هذا، تحوي شيئًا من ادعاء علم الغيب والخُرافة، والدجل، ولربما الشعوذة هذه اللعبة التي أشغلوا الناس في مثل هذه الأيام يسمونها: "تشارلي"، فهذه اللعبة هي تُزعزع عقيدة الإيمان بالغيب في نفوس الناشئة، وكثير من الألعاب التي لربما تكون بين يدي هؤلاء الصغار فيها شيء من ذلك، ولربما إضافة الشفاء إلى غير الله إلى الصليب يوضع على المريض، وقد رأيت بعض ذلك في بعض هذه الألعاب في ما يُسمى بالبلاستيشن، الصليب يوضع على المريض فيبرأ، وهكذا يأتي الكاهن، أو الساحر، أو غير ذلك، وما شابه ذلك مما تُزعزع به عقائد الناس، ويُفسدون عليهم إيمانهم.

إذًا علم الغيب مُختص بالله -تبارك وتعالى- لا يعلمه أحد، وليس لأحد أن يدخل في شيء من تلك المضايق، يقول: أُجرب أنظر أتسلى، كما لربما يتواصل بعضهم مع بعض من يظهر في بعض القنوات الفاسدة، ويدعي أنه يقرأ الأبراج، أو نحو ذلك، فيُخبرك بزعمه عن مُستقبلك، ولربما سأله الواحد عن التي سيتزوج بها، وهل سيكون له فلانة، أو فلانة، أو نحو هذا، كل هذا لا يجوز، كل هذا من ادعاء علم الغيب، وذلك كفر، الذهاب إلى العرافين والكهنة، وما أشبه ذلك، وقد جاء الوعيد في هذا.

ويؤخذ من هذه الآية: سُبْحَانَكَ لا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ [سورة البقرة:32] أن الواجب على من سُأل عن علم لا يعلمه أن يُضيف العلم إلى الله -تبارك وتعالى- ولا يتكلم ويقول على الله بلا علم، فيقول: الله أعلم اقتداء بهؤلاء الملائكة -عليهم الصلاة والسلام.

وهذا ما كان عليه أهل العلم الراسخين، وقد ذكر الشاطبي -رحمه الله- والحافظ ابن عبد البر آثارًا مروية عن الإمام مالك -رحمه الله- كثيرًا يُسأل عن عشرات المسائل، لربما لم يُجب إلا عن أربع. ويقول في هذه المسائل التي توجه إليه الله أعلم، فحينما يُقال له: قد أتينا من بلاد المغرب، والناس يقولون مالك أعلم الناس فبماذا نرجع إليهم؟ يقول: ارجعوا إليهم، قولوا: مالك لا يدري[10].

عن علي سُأل عن مسألة فقال: لا أدري، فلما ولى السائل مسح على جوفه وقال: وابردها على كبدي[11] يعني: قول لا أدري، وهكذا حينما يُسأل بعضهم فيُقال: هذه مسألة خفيفة، فكان يزجر السائل فيقول ليس في العلم شيء خفيف إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلاً ثَقِيلاً [سورة المزمل:5] تجدون هذا في مثل هذه المصنفات الشاطبي -رحمه الله- في الكلام على الفتوى والاجتهاد، وكذلك أيضًا ابن عبد البر في كتابه جامع بيان العلم وغير هذا من الكتب، آثار كثيرة. 

وذلك في قول الله -تبارك وتعالى- مُخاطبًا لآدم : قَالَ يَا آدَمُ أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ فَلَمَّا أَنْبَأَهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا كُنتُمْ تَكْتُمُونَ [سورة البقرة:33] يا آدم أخبرهم بأسماء هذه المُسميات التي عجزوا عن معرفتها، وذلك إظهارًا لشرف آدم وفضله وحكمة الله -تبارك وتعالى- من خلقه؛ حيث قالت الملائكة حينما أخبرهم الله -تبارك وتعالى- أنه جاعل في الأرض خليفة قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لا تَعْلَمُونَ [سورة البقرة:30].

فأظهر فضل آدم بتعليمه أسماء الأشياء، ثم بعد ذلك حينما سأل الملائكة عنها فعجزوا وجه السؤال إلى آدم أو أمره أن يُنبئهم، فلما أخبرهم بذلك قال الله -تبارك وتعالى- للملائكة: أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا كُنتُمْ تَكْتُمُونَ [سورة البقرة:33] فالله -تبارك وتعالى- قد علم حال هذا المخلوق الذي جعله خليفة في الأرض، والله -تبارك وتعالى- أفعاله مبناها على الحكمة والعلم التام المُحيط بكل الأشياء، فما يخفى على العبد من ذلك، فينبغي أن يخضع إلى ربه ومولاه، وأن يُسلم له، وإن لم تصل إلى ذلك مداركه، ولم يبلغ ذلك عقله؛ فإن الله -تبارك وتعالى- عليم حكيم.

يؤخذ من هذه الآية: فضل العلم، هذا العلم الذي علمه الله -تبارك وتعالى- آدم، وأظهر به فضله وهو أسماء الأشياء، وعلم آدم أسماء هذه المُسميات، الأسماء كلها، فهذا العلم يشرف به الإنسان، ويكون بذلك مُفضلاً؛ ولهذا فإن الحيوان البهيم، بل أحط الحيوان وهو الكلب حينما يكون مُعلمًا؛ فإنه يحل صيده، كما هو معلوم، وكما ذكر الله -تبارك وتعالى- في سورة المائدة مُكَلِّبِينَ تُعَلِّمُونَهُنَّ مِمَّا عَلَّمَكُمُ اللَّهُ فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ [سورة المائدة: 4] فيجوز أكل ما صادت، ولكنه لا يجوز أكل ما صاده غير المُعلم، فهذا البهيم صار مُفضلاً مشُرفًا يحل أكل ما صاده، وغير المُعلم لا يكون بهذه المثابة، فكيف بالإنسان؟

ومن هنا فإن العلم هو من الكمالات التي يحصل بها شرف الإنسان ورفعته وعلو مرتبته، وهذه العلوم على تفاوتها وتفاضلها يحصل التفاوت والتفاضل أيضًا في مراتب أهل الإيمان، ولذلك قال الله -تبارك وتعالى: يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ [سورة المجادلة:11] فيتفاضلون، ويتمايزون بمثل هذه الأمور.

يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ [سورة المجادلة:11] فيحصل لهم بذلك من الكمالات ورفعة الدرجات في الدنيا والآخرة.

ثم أيضًا هذا الخطاب قال: قَالَ يَا آدَمُ أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ [سورة البقرة:33] جاء النداء لآدم مع قُربه وسماعه لكلام ربه -تبارك وتعالى- وبعض أهل العلم في مثل هذا المقام يقولون هذا يدل على تشريف آدم وتكريمه والتنويه باسمه، وأن الله -تبارك وتعالى- ناداه وما إلى ذلك، ولكن هذا ليس على سبيل الإطراد؛ فإن مثل هذا يقول فيه آخرون في مواضع أخرى حينما يقول الله مثلاً يَا أَيُّهَا الَّذِينَ كَفَرُوا [سورة التحريم:7] يقول: نادى الكفار بهذه الصيغة "يا أيها" لبُعد أفهامهم، وبلادة عقولهم؛ حيث لم يعقلوا عن الله -تبارك وتعالى.

وهكذا يقول آخرون في مواضع أخرى، لكن لو تأملنا فيما يُقابل هذا أن الله قال: يا إبليس، فهل هذا يكون من قبيل التشريف له؟ ولذلك فإن مثل هذه الدقاق واللطائف التي قد تُذكر غاية ما هنالك أنه قد يكون بعضها من قبيل المُلح، ولكن قد لا يكون ذلك مُسلمًا على كل حال.

وقوله -تبارك وتعالى: فَلَمَّا أَنْبَأَهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ [سورة البقرة:33] هنا وضع المُظهر موضع المُضمر، يعني لم يقل (فلما أنبأهم بأسمائها)، والضمائر في الأصل في لغة العرب يؤتى بها لاختصار الكلام، تختصر، تقول مثلاً: أتاني زيد فأكرمته، لست بحاجة إلى أن تقول أتاني زيد فأكرمت زيدًا، وإذا في الكلام أيضًا ذيول، فتقول: مثلاً أتاني زيد فأكرمت زيدًا، ثم ذهبت مع زيد، وقال لي زيد كذا وكذا، وطلبت من زيد كذا، هذا يطول معه الكلام.

لكن تقول: أتاني زيد فأكرمته، وكلمته، وذهبت معه، وخاطبته، وطلبت منه، بالضمائر، فيُختصر الكلام، هذا هو الغرض، فإذا أُظهر ما يمكن أن يُغني عنه الضمير؛ فإن هذا يكون لمعنى، يكون لنُكتة كما يُقال من ناحية البلاغة، ويكون ذلك من قبيل اللطائف.

هذا الذي يقولون له الإظهار في موضع الإضمار، ويوجد عكسه أيضًا الإضمار في موضع يحسُن فيه الإظهار، فهنا أظهر، قال: قَالَ يَا آدَمُ أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ [سورة البقرة:33] لم يقل أنبأهم بها، فهذا يُمكن أن يكون لبيان شأن آدم والاهتمام به، أنه أراد أن ينوه به، وأن يُظهر فضله بذكر هذه المزية التي تميز بها، وهي معرفة أسماء هذه المُسميات أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ [سورة البقرة:33].

وفي قوله -تبارك وتعالى- خطابًا للملائكة: أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ [سورة البقرة:33] هنا لاحظ لم يقل ألم أقل إني أعلم غيب، قال: أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ فهذا فيه زيادة تقرير، انظروا إلى موسى مع الخضر لما قال له أول مرة: أَخَرَقْتَهَا لِتُغْرِقَ أَهْلَهَا لَقَدْ جِئْتَ شَيْئًا إِمْرًا ۝ قَالَ أَلَمْ أَقُلْ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا [سورة الكهف:71، 72] في المرة الثانية: أَقَتَلْتَ نَفْسًا زَكِيَّةً بِغَيْرِ نَفْسٍ لَقَدْ جِئْتَ شَيْئًا نُكْرًا [سورة الكهف:74] فماذا قال له في الثانية؟ قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا [سورة الكهف:75] فجاء بهذه الزيادة، تدل على زيادة تقرير، والكلام فيها يكون أقوى من الذي قبله، فهنا يُقرر المُخاطبين وهم الملائكة بما لا يُمكنهم دفعه أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ [سورة البقرة:33] فتقول للإنسان الذي دار بينك وبينه حوار في أمر لربما لم يتوصل إليه إدراكه وفهمه؛ فإذا استبان تقول: ألم أقل لك كذا وكذا لتُقرره بذلك.

فهذا استفهام تقريري، وهذا أيضًا يؤخذ منه عموم علم الله -تبارك وتعالى- لما كان، وما يكون، وما سيكون، وما لم يكن لو كان كيف يكون.

فعلمه أيضًا يتعلق بالمُشاهد وبالغائب فهو يعلم ما في الصدور ويعلم ما ظهر، وهكذا يزرع ذلك في قلوب أهل الإيمان: مُراقبته وخشيته ومراقبة الخواطر، وما يدور في النفوس، وما قد يوجد في القلوب من التفات إلى غير الله -تبارك وتعالى- فالله يقول للملائكة: أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ [سورة البقرة:33] ومما يدخل في الغيب هذا الذي يُسرونه والذي يكتمونه، يعلمه -تبارك وتعالى- علمًا تامًا مُحيطًا، وإنما ذكر هذا على سبيل الخصوص وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا كُنتُمْ تَكْتُمُونَ [سورة البقرة:33] مع أنه من جملة علم الغيب؛ لأن مثل هذا يتعلق بهذه المناسبة، ما وقع في نفوس الملائكة، هذا بالإضافة إلى شدة حاجة الخلق إليه، فحينما يذكر الله -تبارك وتعالى- لنا مثل هذا فهذا مما يستدعي به المُراقبة والخشية، أن يُراقب الإنسان ربه -تبارك وتعالى- فالله يعلم ما يكون في السر وما يكون في العلانية، وثَم فإن العبد لا يُضمر إلا الإيمان، وما يُرضي الله -تبارك وتعالى- ويُطهر قلبه من كل التفات إلى غير الله مما يريد به الرياء أو السمعة، أو يُريد بذلك مقاصد دنية، أو كان في قلبه خوف من غير الله، الخوف الذي لا يصلح إلا لله، وكذلك المحبة والتعلق والرجاء، والتوكل، وما إلى ذلك؛ لأنه يتعامل مع رب يعلم كل شيء.

وهكذا في تعاملات الإنسان، في مُقاضاته، وخصوماته، وما يقوله، وما يفعله، ومزاولات الإنسان المالية، وغيرها فالله يعلم المُفسد من المصلح، فإذا تعامل العبد مع ربه على هذا الأساس استقامت أحواله وأعماله ونياته ومقاصده، وصار على حال من الكمال، ولزوم الاستقامة والصراط المستقيم.

وكذلك أيضًا هنا في قوله -تبارك وتعالى: وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ [سورة البقرة:34] حينما تبين للملائكة فضل آدم يقول الله -تبارك وتعالى: وَإِذْ قُلْنَا [سورة البقرة:34] واذكر إذ قلنا للملائكة اسجدوا لآدم، فهذا سجود تكريم وليس بسجود عبادة، وهذا فيه ما فيه من إظهار فضل آدم وتكريم آدم، والقاعدة أن المِنة والنِعمة اللاحقة للآباء هي واصلة إلى الأبناء، ولذلك فالله -تبارك وتعالى- يُذكرنا بهذا كما ذكر بني إسرائيل وَأَنزَلْنَا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوَى [سورة البقرة:57] مع أن المن والسلوى نزلت على أجدادهم وَإِذْ فَرَقْنَا بِكُمُ الْبَحْرَ فَأَنْجَيْنَاكُمْ وَأَغْرَقْنَا آلَ فِرْعَوْنَ وَأَنْتُمْ تَنظُرُونَ [سورة البقرة:50] مع أن هذا حصل لأجدادهم، لكن القاعدة أن المِنة والنِعمة الواصلة إلى الآباء حاصلة للأبناء، وأما المذمة التي تلحق الآباء فإنها تلحق الأبناء إذا كانوا على طريقتهم، ولهذا يُضيف الله -تبارك وتعالى- إلى بني إسرائيل كثيرًا من القبائح التي فعلها أجدادهم وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَى لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً [سورة البقرة:55] وما شابه ذلك؛ لأنهم على طريقهم يسيرون.

فهذا فيه إظهار لفضل آدم وفيه ما فيه من إبراز منزلة هذا المخلوق التكريم الذي حصل له فهذا تكريم لذريته وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ [سورة الإسراء:70] فهذا مخلوق مُكرم، ولذلك نهى النبي ﷺ عن تقبيح الوجه وعن الضرب على الوجه ونحو ذلك، وهكذا خلق الله هذا الإنسان لَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ [سورة التين:4] فهذا يشمل صورته الباطنة على الفطرة، وكذلك أيضًا يشمل صورته الظاهرة فجعل رأسه إلى أعلى ويأكل بيده، وليس كالحيوانات رأسها ووجها إلى الأرض وتأكل بأفوهها، وإنما جعله في حال من التكريم والهيئة التي لا تُشابهها حالة غيره من هذه البهائم والمخلوقات التي لم يكن لها هذا التكريم.

فمُقتضى هذا التكريم أن يترفع الإنسان عما لا يليق بمرتبة الإنسانية، وذلك بأن يكون كامل المروءة؛ فإن حقيقة المروءة، ولزوم المروءة هو أن يكون الإنسان مُكملاً لإنسانيته، هذا على سبيل الاختصار والإيجاز مما يوضح مقصود المروءة، كمال الإنسانية.

فما هو كمال الإنسانية بالنسبة للرجل؟ وما هو كمال الإنسانية بالنسبة للمرأة؟ فالرجل الذي يتشبه بالمرأة، يتشبه بالنساء قد نقص من كماله ومروءته، والمرأة التي تتشبه بالرجل يكون ذلك نقصًا فيها، المرأة التي تتزيا بزي الرجال وتتكلم بطريقة الرجال، يكون فعلها قبيحًا مذمومًا تنفر عنها الطباع السليمة والفِطر القويمة، الرجل الذي يتأنث، ويظهر بلباس النساء، ومظاهر النساء، ويتكلم كما يتحدث النساء هذا شيء تجفوه الطِباع القويمة والفِطر الصحيحة.

كذلك أيضًا حينما يتشبه الإنسان بالحيوان، أو يتشبه بالشياطين، ويُحاكي هذه البهائم والعجماوات، فمثل هذا لا يليق؛ ولهذا قال النبي ﷺ: العائد في هبته كالكلب يعود في قيئه، ليس لنا مثل السوء [12]وأخذ من ذلك عامة أهل العلم أنه لا يجوز التشبه بالحيوانات، وأنه لا يجوز الرجوع في الهبة؛ لأن ذلك يكون تشبهًا بالكلب في أسوء حالاته حينما يرجع إلى قيئه -أعزكم الله- فيلعق ذلك القيء، فهذا لا يليق ليس لنا مثل السوء ولهذا نُهينا عن التشبه بالحيوانات في الصلاة بروك الجمل، وكذلك أيضًا ما نهى النبي ﷺ عنه من ألوان التشبه.

وكذلك التشبه بالشياطين، الشيطان يأكل بشماله، ويشرب بشماله، ويأخذ بشماله، ويُعطي بشماله، وما أشبه ذلك.

كذلك أيضًا نُهينا عن ألوان من الجلوس ونحو ذلك الذي قد نتشبه فيه بالحيوانات، أو الشياطين أو نحو هذا، فلا يجوز محاكاتهم لا في الهزل، ولا في الجِد، ولا يجوز ذلك في عبادة، ولا في خارج العبادة؛ لأن هذا خلاف هذا التكريم.

ومما يُخالف هذا التكريم: الوقوع في المُخالفات الشرعية بأنواعها، الخروج عن ما رسمه الله -تبارك وتعالى؛ فإن ذلك يُعد انحدارًا وانحطاطًا وسفولاً، فالهاوية حينما يترك الإنسان عبادة الله ويقع في الشرك، يكون قد هوى وتردى، ومُسخت فطرته؛ ولذلك فإن ربنا -تبارك وتعالى- كما سمعنا في هذه السورة الكريم، في هذه الأقسام التي تبلغ أحد عشر قسمًا وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا ۝ وَالْقَمَرِ إِذَا تَلاهَا ۝ وَالنَّهَارِ إِذَا جَلَّاهَا ۝ وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَاهَا ۝ وَالسَّمَاءِ وَمَا بَنَاهَا [سورة الشمس:1- 5] يعني: وبانيها، أو وبناء السماء على قولين في معنى الآية.

وَالأَرْضِ وَمَا طَحَاهَا [سورة الشمس:6] يعني: وطاحيها أو وطحو الأرض على قولين فيها وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا [سورة الشمس:7] يعني: ومسويها، أو وتسويتها فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا ۝ قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا ۝ وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا [سورة الشمس:8- 10] تقول: دسه أخفاه، أم يدسه في التراب فالدس والتدسية هبوط وسفول وانحطاط، ونزول، فالإنسان حينما يهوي بنفسه من العليا إلى الشرك بالله والوحل والمعاصي والذنوب والمُدنسات، يكون قد دسى نفسه، ولذلك يقولون: بأن الكِرام من العرب ينزلون العوالي؛ ليراهم الضيفان فيأتي إليهم كل أحد، وأما اللئام فيسكون المهابط والوديان لئلا يراهم أحد، من أجل أن لا ينزل بهم قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا ۝ وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا [سورة الشمس:9، 10] خاب يعني خسر، فهذه هي التدسية، فالخروج عن طاعة الله هو: تدسية، ذُل، مهانة، انحطاط، سفول، فهذا خلاف التكريم.

ولهذا حينما ينهانا الله -تبارك وتعالى- بعد ما ذكر قصة إبليس وآدم في أول سورة الأعراف يُخاطب بعدة مُخاطبات، كما سيأتي إن شاء الله في الكلام على سورة الأعراف يَا بَنِي آدَمَ كل ذلك من أجل أن يُذكرهم بما فعل لأبيهم آدم وأنه طرد إبليس من أجله لما امتنع من السجود لآدم فكيف تُطيعونه؟ كيف تتخذونه وليًا من دون الله -تبارك وتعالى- وقد أخرج الله إبليس من رحمته وطرده وأبعده بسبب أنه أبى السجود لآدم ؟

يقول: طردته من أجل امتناعه من السجود لأبيكم، فكيف تتركون طاعتي وعبادتي، ثم تُطيعون هذا العدو الحاسد الحاقد الذي يتوعد آدم وذريته، كيف تتخذون هذا وليًا وتُطيعونه؟

الله -تبارك وتعالى- لما بين فضل آدم بتعليمه الأسماء كل الأسماء، وكما عرض هذه الأسماء على الملائكة فلم يعرفوها، وفوضوا علم ذلك إلى الله وتقدست أسماؤه، فلما ظهر فضله بالعلم أمر الله -تبارك وتعالى- ملائكته أن يسجدوا لهذا المخلوق المُكرم: وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَى وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ [سورة البقرة:34] فالله -تبارك وتعالى- أمر الملائكة أن تسجد سجود تكريم لآدم وليس بسجود عبادة، وكما قص الله من خبر يوسف حينما رفع أبويه على العرش وخروا له سُجدا تصديقًا لرؤياه التي قصها على أبيه من قبل: إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَبًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي سَاجِدِينَ [سورة يوسف:4] فتحقق هذا بسجود أبويه وإخوته له، فكان ذاك من قبيل سجود التكريم.

والله -تبارك وتعالى- قد شرع لنا في هذه الشريعة ألا نسجد لغيره، لا سجود تكريم، ولا سجود عبادة، والنبي ﷺ يقول: لو كنت آمرًا أحدًا أن يسجد لأحد لأمرت المرأة أن تسجد لزوجها [13]لعِظم حق هذا الزوج وما يتطلبه هذا الحق من التكريم والنهوض بحقوقه والخضوع الكامل له، فيما لا يُعارض خضوعها لربها -تبارك وتعالى- ولا يُزاحمه.

فهنا واذكر إذا قلنا للملائكة اسجدوا لآدم فسجدوا إلا إبليس، منعه الكِبر من أن يسجد امتثالاً لأمر الله -جل جلاله، وتقدست أسماؤه.

لاحظوا هذا الخطاب: وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ [سورة البقرة:34] بصيغة الجمع "قلنا" واذكر إذ قلنا للملائكة، وقبل ذلك وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً [سورة البقرة:30].

ففي سياق قص الخبر على النبي ﷺ: وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ بالإفراد، وإضافة اسم الرب -تبارك وتعالى- إلى النبي ﷺ.

وهنا: وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلائِكَةِ [سورة البقرة:34] فما الفرق بين المقامين؟ هناك في سياق خبر للنبي ﷺ والفرق بين المقامين ظاهر، هنا أمر بالسجود، وهو عنوان الخضوع، أن يسجد الملائكة الذين كانوا يقولون: أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ [سورة البقرة:30] فلم يقف الأمر عند خلق آدم بل أُمروا أيضًا بالسجود له، فهذا مقام يقتضي تعظيم الآمر وهو الله -تبارك وتعالى- ؛ ليكون ذلك أدعى إلى تنفيذ أمره وتحقيقه لما له من العظمة في النفوس.

وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلائِكَةِ [سورة البقرة:34] هنا ليس في مقام الأمر، وإنما هو مقام خبر يُخبر الله نبيه ﷺ عن غيوب مضت قبل أن يخلقه، وقبل أن يخلق آدم وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً [سورة البقرة:30] فهذا فيه تفنن في الخطاب، هذا بالإضافة إلى ما ذكرت من الفرق بين المقامين، ينضاف إلى ذلك أيضًا أن ذكر هذا الاسم الكريم "الرب" في الموضع السابق وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً [سورة البقرة:30] فاسم الرب يتعلق بتدبير أمور المربوبين من أهل العالم العلوي، والعالم السُفلي، فيدخل في ذلك خلق آدم ويدخل في ذلك أيضًا الأمر أمر الملائكة بالسجود له، فكل ذلك من معاني ربوبيته، ومن مُقتضياتها فهو يتصرف بخلقه ويُدبر شؤونهم أمرًا ونهيًا وفعلاً وخلقًا، كل ذلك يرجع إلى ربوبيته وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ [سورة البقرة:30] وهنا وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ [سورة البقرة:34] فهذا من وجوه الفرق بين المقامين.

هذا الموضع أيضًا أخذ منه طوائف من أهل العلم: تفضيل آدم على الملائكة، باعتبار أن الله أمر الملائكة بالسجود لآدم، والسجود إنما يكون من المفضول للفاضل، وتكلم العلماء في هذا الموضع من كتب التفسير، وألم به طوائف منهم في كتب الاعتقاد وغيرها في الكلام على مسألة معروفة، وهي المُفاضلة بين الملائكة وصالحي البشر، إذا أُمروا بالسجود لآدم فالنبي ﷺ أفضل من آدم فإذا كان آدم أفضل من الملائكة؛ فإنه يوجد في ذرية آدم من هو أفضل من آدم ومعلوم أن رسول الله -عليه الصلاة والسلام- هو أفضل البشر، وأفضل الأنبياء والمرسلين، وهو أشرفهم، فإذا كان الأمر كذلك فيكون أيضًا غير آدم ممن له فضل ومنزلة كآدم، أو أفضل من آدم -عليهم صلوات الله وسلامه- فيكونون أيضًا أفضل من الملائكة.

فالعلماء يتكلمون على هذا، ويتكلمون على عبودية الاختيار، وهي عبودية البشر، ومن ثَم قيدوا ذلك بالصالحين من البشر، لكنها مسألة لا طائل تحتها، ولا يترتب عليها عمل؛ وذلك كان المُحققون من أهل العلم ينأون بأنفسهم عن الخوض في ذلك، والاشتغال به؛ لأنه لا يترتب عليه عمل، وإنما يشتغلون بالمسائل التي ينبني عليها عمل، إذا عرفت أن صالحي البشر أفضل من الملائكة، أو أن الملائكة أفضل من صالحي البشر ما الذي يترتب على هذا؟ لا شيء، من الناحية العملية، لا شيء، لكن يكفينا هذا السجود أنه يدل على تشريف آدم وكما ذكرنا من قبل بأن المِنة والنِعمة الواصلة إلى الآباء تلحق الأبناء؛ ولهذا فالله يقص علينا هذا القصص امتنانًا وإخبارًا، وأيضًا لنقوم بمُقتضيات هذا التكريم، من عبادته وحده، وعدم طاعة الشيطان، والله المستعان.

ثم تأمل قوله -تبارك وتعالى: وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا [سورة البقرة:34] الفاء تدل على التعقيب المُباشر، فهذا يدل على سرعة الامتثال والاستجابة بلا تردد، لكن من الذي توقف وامتنع؟ هو إبليس، كما قال الله -تبارك وتعالى: إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَى وَاسْتَكْبَرَ [سورة البقرة:34] فهذا الاستكبار يعني الاستزادة والتطاول، والتمادي في الكِبر، فالسين والتاء هنا في استكبر بعض أهل العلم يقولون: هي للمُبالغة، وليست للطلب، يعني: تمادى في تكبره وترفعه، فحصل منه هذا الامتناع، فجاءت بهذه الصيغة الاستفعال الاستكبار.

ومن هنا ذهب بعض أهل العلم إلى أن هذه المادة: "الكِبر" لا تأتي في القرآن إلا بهاتين الصيغتين استكبر وتكبر، بمعنى أنه كأنه يتكلف ذلك وليس بكبير، لكن هذا ليس على إطلاقه؛ لأن أصل هذه المادة فيما يُعبر به ويوصف به المعبود يُقال: الله المُتكبر وهو كبير حقًا، وهو أكبر من كل شيء فجاءت على هذه الزِنة والبناء، ولكن بالنسبة للمخلوق لا شك أنها نقص؛ لأنه عبد لا يصلح له الترفع والكِبر، فهذا المعنى الذي أشار إليه بعض أهل العلم كالطاهر بن عاشور[14] على جلالته وقدره في هذه العلوم البلاغية إلا أن ذلك قد لا يتأتى في ما يتصل بوصف الله فإنه يُشكل على ما ذكر.

ثم تأمل قوله -تبارك وتعالى: إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَى وَاسْتَكْبَرَ [سورة البقرة:34] يعني لم يأب فقط؛ بل استكبر وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ [سورة البقرة:34] وهذا يدل على أن إبليس كان مع الملائكة حينما أُمروا بالسجود دخل في الأمر معهم، ومن هنا فهم بعض أهل العلم أن إبليس كان من الملائكة فكفر، وهذا أمر، وإن قال به جمع من أهل العلم بما فهموا من هذه الآيات التي جاء فيها الاستثناء، وقالوا: إن الأصل في الاستثناء الاتصال، وليس الانقطاع، ومعنى الاتصال في مثل هذا الموضع والمواضع الأخرى بمعنى أنه حينما يكون استثناء فالأصل أن المُستثنى من جنس المُستثنى منه، تقول: جاء القوم إلا رجلاً، فالرجل من القوم، تقول: رأيت المُصلين إلا زيدًا، فزيد من المصلين، ومن جُملتهم لكني ما رأيته، وهكذا، فالأصل أن المُستثنى من جنس المُستثنى منه، لكن لما تقول جاء القوم إلا بعيرًا، فالبعير ليس من القوم، فهذا يسمونه الاستثناء المُنقطع الذي لا يكون المُستثنى من جنس المُستثنى منه، تقول: أخذت النقود إلا صاعًا من تمر، صاع التمر ليس من النقود، فهذا استثناء مُنقطع، بمعنى لكن، لكن صاعًا من تمر لم آخذه، جاء القوم لكن بعيرًا لم يصل، بهذا المعنى، هذا يُقال له استثناء مُنقطع.

فبعض أهل العلم لما نظروا إلى القاعدة، وأن الأصل في الاستثناء هو الاتصال وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلائِكَةِ فهذا أمر للملائكة اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ قالوا: فالأصل في الاستثناء أن المُستثنى من جنس المُستثنى منه، إذًا: إبليس من الملائكة، لكن هذا يُشكل عليه ويُرد عليه هذا الفهم الذي لا شك أن هذه القاعدة تؤديه، لكن القرآن يُفسر بعضه بعضا، ففي جميع المواضع جاء الاستثناء هكذا إلا في آية الكهف إِلَّا إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ [سورة الكهف:50] فهذه صريحة، ولكن بقي أولئك على قولهم أنه كان من الملائكة، طيب وكان من الجن؟ قالوا: الجن قبيل من الملائكة، صنف من الملائكة يُقال لهم الجن، وأن ذلك هو المُراد بقوله -تبارك وتعالى: وَجَعَلُوا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجِنَّةِ نَسَبًا [سورة الصافات:158] قالوا الملائكة، أن المشركين نسبوا الملائكة إلى الله -تبارك وتعالى- وهذا الكلام غير صحيح؛ لأنه خلاف الظاهر المُتبادر، والأصل حمل الكلام على الظاهر المُتبادر إلا لدليل يوجب الرجوع إلى معنى آخر، وهو التأويل، كما يقولون، فهنا لا يوجد دليل.

فيُقال: هذه الآيات تُفسرها آية الكهف، فإبليس لم يكن من الملائكة، لكنه كان معهم في الملأ الأعلى؛ ولذلك أمره الله بالخروج وطرده وأبعده وأهبطه، فهبط من السماء إلى حيث شاء الله -تبارك وتعالى- إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَى ما سبب هذا الإباء؟ هو الكبِر استكبر، فهذا الكِبر هو سبب البلاء والشر والشقاء، هو الذي جعل هؤلاء الكفار الذين عرفوا صدق ما جاء به النبي ﷺ يردون دعوته، ويؤثرون الخلود في النار على الاستجابة يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ [سورة البقرة:146] إذا كانوا يعرفونه كما يعرفون أبناءهم، إذًا هم يعلمون أنهم سيدخلون النار، وسيُخلدون فيها، ومع ذلك أصروا؛ فإن الكِبر يدفع صاحبه دفعًا، ويستفزه إلى ركوب المعاطب والمهالك، ويُعميه عن النظر فيما يُصلحه وينفعه ويرفعه.

وهكذا فإن الإنسان قد يرد الحق الذي جاء على يد غيره ممن يرى أنه دونه، وكما قال الشيخ عبد الرحمن المُعلمي اليماني -رحمه الله- في كتابه جليل النفع، عظيم القدر "التنكيل" والذي أُفرد أوله المعروف بكتاب "القائد إلى تصحيح العقائد" فذكر جُملة من الأسباب في رد الحق، ومداخل الهوى الدقيقة التي لا تكاد تخطر على بال في ذلك، فمما ذكره الكِبر[15] ففرعون كان يقول عن موسى أَمْ أَنَا خَيْرٌ مِنْ هَذَا الَّذِي هُوَ مَهِينٌ وَلا يَكَادُ يُبِينُ [سورة الزخرف:52].

وهكذا كان أولئك الكفار منذ أمد طويل وَمَا نَرَاكَ اتَّبَعَكَ إِلَّا الَّذِينَ هُمْ أَرَاذِلُنَا [سورة هود:27] لو كان هذا الذي جاء به الرسل -عليهم الصلاة والسلام- حقًا خيرًا، يقولون: ما سبقونا إليه، يرون أن المقاييس والمعايير هي بمقاييسهم هم لَوْلا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ [سورة الزخرف:31] ينزل على هذا اليتيم! أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَةَ رَبِّكَ نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا [سورة الزخرف:32].

أبو سفيان لما سمع هرقل يقول ما قال بعد السؤالات المعروفة التي وجهها إليهم يسألهم عن النبي ﷺ وعن دعوته، وعرف أن ذلك حق، وأنه سيملك ما تحت قدميه، ماذا قال أبو سفيان حينما خرج من عنده؟ قال: "لقد أمر أمر ابن أبي كبشة، إنه يخافه ملك بني الأصفر"[16].

ولاحظ الاختيار بعناية الاسم ابن أبي كبشة، يريد أن يغض من النبي ﷺ فالذي منعهم هو الكِبر، فهذا هو الذي في صدورهم كما أخبر الله : إِنْ فِي صُدُورِهِمْ إِلَّا كِبْرٌ [سورة غافر:56] فهذا التعالي والترفع والتعاظم يجعل الإنسان يرد الحق، وكما يقول المعلمي -رحمه الله- في كتابه الذي أشرت إليه آنفًا: إن الإنسان قد يرد الحق؛ لأنه يرى أنه قد جاء عن طريق من هو دونه، أو يراه دونه، أو لئلا يشعر أحد أو يشعر هذا الذي جاء بالحق أن ذلك أفضل منه، فيتكبر، أو أن يُنسب إلى ضلالة في سالف دهره، قضى دهرًا وهو يدعوا إلى هذا ثم بعد ذلك يخرج أنه كان على ضلال.

أو أنه يرجع إلى المُربع رقم صفر بمعنى أنه كل هذه المآثر التي حصلها، والمكاسب التي جمعها، والمنزلة الاجتماعية التي حصلها ستضمحل؛ لأنها بالباطل، فهذا صار له في الباطل شُهرة ومعيشة، فيرد الحق بسبب هذا، وهكذا أيضًا يرد الحق لئلا يُعير بهذا، كما فعل أبو طالب عم النبي ﷺ فكان كما ذكر الحافظ ابن كثير - رحمه الله - في قصيدته المشهورة أنه يقول:

ولقد علمت أن دين محمد من خير أديان البرية دينا[17]

لكنه يعتذر عن اتباعه؛ لئلا يلحقه مسبة، ويُعير أنه ترك دين الآباء والأجداد، فأخذته الأنفة والحمية، لكن هل نفعته هذه الحمية؟ أبدًا، فمات وهو يقول: هو على دين عبد المطلب.

إذًا: الحق ينبغي أن يُقبل ممن جاء به، وقد أخذ أهل العلم في قصة سليمان مع الهدهد وَجِئْتُكَ مِنْ سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍ [سورة النمل:22] بخبر سبأ، وسليمان ما منعه أن يرد هذا الخبر الذي ترتب عليه هذه الآثار الكِبار بسبب حقارة الهُدهد، أنه جاء بطريق هُدهد فلم يمنعه ذلك من النظر والتثبت والتحري، ثم بنى عليه ما قد علمتم مما أخبرنا الله -تبارك وتعالى.

فالكِبر أحيانًا يمنع الإنسان من اتباع الحق، يمنعه من اتباعه مُطلقًا يرد كل الحق، يرد دعوة الرُسل، اليهود ردوا دعوة النبي ﷺ وكذلك قد يرد بعض الحق في مسألة في جُزئية الشيخ الأستاذ المُعلم، ونحو ذلك، قد يرد عليه تلميذ فقد يتكبر ويأنف ويغضب، فيمنعه ذلك من الرجوع إلى الحق ويُكابر، يأتي بأجوبة ركيكة وضعيفة وبعيدة من أجل أن لا يقول أخطأت، لا، هو يجب أن يقول بكل شجاعة أخطأت، أو إذا لا يعرف الجواب يقول: لا أعرف، ثم بعد ذلك يقول أبحث أنظر أُراجع وهكذا، هذا هو الصحيح.

وما قد يُقال في بعض طُرق التدريس، ونحو هذا بأن المُعلم الحاذق هو الذي يُحسن الخروج من السؤالات المُحرجة؛ فإذا سأله أحد الطلاب بسؤال لا يعرف جوابه لربما يُجرى هذا في مُقابلات وهذا خطأ، مُقابلة من أجل أن يُختار في التعليم، يُقال: ماذا تفعل إذا وجه إليك أحد الطلاب سؤالاً، فيأتي هذا ويتذاكى، فيقول: أقول له هذا سؤال مُهم ذكرني في آخر المُحاضرة، أو يقول: هذه مسألة مهمة ابحثها، فيشتغل هذا الطالب البائس المسكين بنفسه، لا، قبل أن تقول هذا الكلام، أو تقول آخر المحاضرة من أجل أن ينسى، قول: أول شيء قول أنا لا أعرف، هذا أول جواب، إذا كان مثل الإمام مالك، وغير الإمام مالك يقولون بملأ أفواههم لا أدري، فكيف بالمُعلم، وبالناس المساكين من أمثالنا، ومن هو على هذه الشاكلة؟

نقول: أول شيء لا أعرف، ثم بعد ذلك نقول: أبحث هذه المسألة، أو تبحثها أو أبحثها تُراجعها، أو أُراجعها، أو نُراجعها سويًا، حتى نتواصل إلى شيء، فهذه ينبغي أن نتذكرها.

كذلك أيضًا الإنسان حينما يُقدم له نصيحة، ولو ممن هو دونه لربما تُقدم له زوجته، أو ولده، أو جاره، أو صديقه، أو من هو أقل منه لا حاجة للبحث عن حيل كثيرة، وطريق طويل، ومُقدمات حتى توصل إليه هذه النصيحة؛ خوفًا من ردود الأفعال العنيفة أن جاءت هذه النصيحة على يد من يتصور أنه أقل منه، لا، فإن الكبير يُكمل نفسه دائمًا ويفرح بما يُكمله وينفعه ويرفعه، أما النفوس الصغيرة فتلك التي إذا أُلقي فيها حجر فهي كالفنجان طفح، فلا يحتمل، ولا يتمالك، وأما البحر فإنه على اسمه لو ألقيت فيه الجِبال؛ فإنه يستوعبها، ويحولها إلى شُعب مرجانية ونحو ذلك، لكن الصغير لو قيل له رُبع كُليمة لأكلت معه وشربت دهرًا، نفوس الكِبار هي كالبحار، الإنسان الكبير كالفلاة قلبه واسع، فهو ينتفع ويستفيد مما عند الآخرين من ملحوظاتهم ونحو ذلك.

لاحظ ثم هنا قال: وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ [سورة البقرة:34] لاحظ لم يقل وكان كافرا، وإنما جعله في جُملتهم؛ وذلك لأن إثبات الوصف لموصوف بعنوان كون الموصوف واحد، يعني: موصوف بعنوان فيكون هذا الموصوف هو واحد من جُملة هؤلاء الذين عرفوا بهذا وهم الكافرون مثلاً، ذلك أثبت وأعلق وأدعى إلى بيان حاله في الانغماس في جُملتهم وأنه قد ولغ في ذلك ولوغًا عظيمًا، وأنه قد صار بحيث يكون هذا الوصف ألصق ما يكون به، والله تعالى أعلم.

هنا أتوقف ولكن أختم بفائدة لا علاقة لها بهذا الموضوع، فائدة جميلة كنت ذكرتها في رمضان قبل سنتين أو نحو ذلك في الكلام على التدبر وطُرق الدلالة، فاليوم كنت أقرأ في ذلك الذي ذكرته فمرت بي هذه الفائدة وهي تصلح في مثل هذه الأيام ونحتاج إليها.

في قوله -تبارك وتعالى: فَقَالَ لَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ نَاقَةَ اللَّهِ وَسُقْيَاهَا ۝ فَكَذَّبُوهُ فَعَقَرُوهَا فَدَمْدَمَ عَلَيْهِمْ رَبُّهُمْ بِذَنْبِهِمْ فَسَوَّاهَا ۝ وَلا يَخَافُ عُقْبَاهَا [سورة الشمس:13- 15].

لاحظ فَدَمْدَمَ عَلَيْهِمْ رَبُّهُمْ بِذَنْبِهِمْ [سورة الشمس:14] ما هو الذنب؟ عقر الناقة مع شركهم بالله وتكذيبهم لنبيهم -عليه الصلاة والسلام- يقول شيخ الإسلام - رحمه الله: "إذا كان هذا عذابه لهؤلاء وذنبهم مع الشرك عقر الناقة التي جعلها الله آية لهم فمن انتهك محارم الله، واستخف بأوامره ونواهيه، وعقر عباده، وسفك دمائهم كان أشد عذابًا"[18].

وهذا الوصف أصدق ما يكون اليوم على هؤلاء الذين اتخذهم الشيطان مطية للإفساد والفساد في الأرض، مُستحلين ذلك تحت راية عنوانها الجهاد ويحسبون أنه على شيء.

نسأل الله العافية يكون العبد بهذه الحال مما زُين له سوء عمله.

الله -تبارك وتعالى- يقول: وَقُلْنَا يَا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ وَكُلا مِنْهَا رَغَدًا حَيْثُ شِئْتُمَا وَلا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ [سورة البقرة:35] يا آدم اسكن أنت وزوجك حواء الجنة، وتمتعا بما فيها من النعيم والثِمار، وما إلى ذلك تمتعًا هنيئًا رغدًا واسعًا، والرغد هو الذي لا مشقة فيه، ولا عناء، ولا كُلفة مع ما فيه من أنواع الملاذ والنعيم حَيْثُ شِئْتُمَا أي: في مكان تشاءان في الجنة وَلا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ [سورة البقرة:35] وهي شجرة مُعينة، الله أعلم بها، ولا حاجة إلى الخوض في تحديدها؛ لأن ذلك لم يرد عن الله -تبارك وتعالى- ولا عن رسول الله ﷺ ولو كان في هذا مصلحة ونفع لأخبرنا الله عنه، وإنما جاء ذلك في بعض المرويات من أخبار بني إسرائيل التي لا يعوّل عليها فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ [سورة البقرة:35] المتجاوزين لحدود الله وتقدست أسمائه.

يُؤخذ من هذه الآية وَقُلْنَا يَا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ [سورة البقرة:35] هذا الأمر لا شك أنه في حقيقته يدل على أن هذه السُكنى مؤقتة؛ لأن الله -تبارك وتعالى- قال قبل ذلك: وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً [سورة البقرة:30] فخلقه الله -تبارك وتعالى- لذلك، وامتحنه بهذا الامتحان، فكان الله -تبارك وتعالى- يعلم قبل خلقه أنه سينتقل من الجنة، ويصير إلى الأرض اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ [سورة البقرة:35].

ولاحظوا التعبير هنا بذكر ضمير المُخاطب، فلم يقل: اسكن وزوجك الجنة، وإنما قال: اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ فهذا فيه مزيد تقرير وتأكيد لمعنى الضمير المُستتر في قوله: اسْكُنْ فقال: أنت ليصح العطف عليه؛ ولئلا يكون أيضًا تابعه المعطوف عليه أبرز منه في الكلام، يعني لو قال: اسكن وزوجك، فالزوج ظاهر، يعني الزوجة، فيكون المُخاطب أصالة هو آدم فيكون مُستترًا، والزوج -وهو حواء- ظاهر، فيكون أظهر منه، فقال: اسكن أنت، فأظهر الضمير هنا، وعطف عليه.

والزوج يُقال للرجل، ويُقال للمرأة أيضًا، كل ذلك يُقال له: زوج، وقد ذكرنا في بعض المُناسبات في درس التسهيل وغيره: أن الأفصح في كلام العرب أن يُقال للمرأة: زوج، وأن هذا هو الذي جاء في التعبير القرآني في جميع المواضع، وكذلك أيضًا جاء في سنة رسول الله ﷺ وهو المعروف في كلام العرب، مع أن التعبير بزوجة صحيح من جهة اللغة العربية، إلا أنه قليل في الاستعمال، وليس هو الأفصح، لكنه ليس بلحن، وذكرنا في تلك المُناسبة قول الفرزدق، وهو شاعر يُحتج بشعره، قال:

وإن الذي يسعى ليُفسد زوجتي  كساعٍ إلى أسد الشرى يستبيلها[19]

قال: زوجتي، ولم يقل: زوجي، مع أن الأفصح والأشهر زوجي للمرأة، وهنا قال: اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ [سورة البقرة:35] اسكن هذا أمر، والمقصود به هنا الامتنان بالتمكين والتخويل بسُكنى الجنة، وليس هذا الأمر باعتبار أنه مُطالب بأن يسعى بنفسه لسُكنى الجنة، فهذا أمر لا قُدرة له عليه، هل يستطيع أحد أن يذهب ويسكن في الجنة؟ الجواب: لا، ولكن حينما قال الله لآدم اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ فهذا يُقال على هذا السبيل، لا أن يسعى هو ليبحث عن الطريق الذي يتوصل به إلى الجنة، فيتخذ ذلك سكنًا، وإنما هو أمر تمكين له، وتخويل بسُكنى الجنة، وامتنان عليه بذلك.

ثم أيضًا حينما أمره بهذا قال: وَكُلا مِنْهَا يعني: من الجنة رَغَدًا حَيْثُ شِئْتُمَا [سورة البقرة:35] هذه الجنة كلام أهل العلم فيها معروف، وهل هي الجنة المعروفة، أو أنها جنة أخرى؟ الذين يقولون: إنها جنة أخرى، لا دليل على قولهم هذا، فـ(أل) هذه تُفيد العهد، وهذا العهد هو العهد الذهني، فالجنة المعهودة في أذهان المُخاطبين ما هي؟ هي الجنة المعروفة، ولا يُقال: إنها جنة أخرى ليست الجنة التي يصير إليها أهل الإيمان في الآخرة، وهذا يدل أيضًا على أن الجنة موجودة ومخلوقة، وقد سمع النبي ﷺ خصف نعلي بلال في الجنة، وذكر النبي ﷺ من صفتها وأحوالها، وكذلك جاء في القرآن، فالجنة موجودة مخلوقة الآن، وفيها الحور والولدان، وأرواح الشهداء في أجواف طير خُضر تسرح في الجنة، وفي أنهار الجنة، وأرواح أهل الإيمان أخبر النبي ﷺ أيضًا أنها تعلق بالجنة[20].

على كل حال هذا يدل على أن الجنة موجودة، وكذلك النار أيضًا مخلوقة وموجودة الآن، وقد وصفها النبي ﷺ ورأى بعض ما فيها، رأى فيها عمرو بن لُحي الخُزاعي، الذي غير دين إبراهيم وهو أول من جاء بالأصنام إلى جزيرة العرب، وأول من سيب السائبة، ورأى فيها صاحب المِحجن الذي كان يسرق الحاج، ويسرق المتاع بمحجنه، وهي عصا لها نهاية معكوفة، يضعها خلفه، فيسرق متاع الناس، فإذا تفطنوا له، قال: هذا مما تعلق بالمحجن، يعني: من غير قصد، فإن لم يتفطنوا له انطلق وذهب به، فأخبر النبي ﷺ أنه رآه في النار[21] .

فهنا قال: وَكُلا مِنْهَا رَغَدًا حَيْثُ شِئْتُمَا [سورة البقرة:35] الأكل من أعظم أنواع النعيم والملاذ التي تطلبها النفوس، وهنا أباح الله -تبارك وتعالى- لآدم ولزوجه أن يأكلا من الجنة من حيث شاءا، فـ(حيث) هنا تدل على المكان المُبهم، يعني من غير تحديد ولا حصر، فهذا يدل على الإطلاق في الإباحة من أجل أن يأكلا من ثمر الجنة، من أي نوع، ومن أي صنف، ومن أي موضع، سوى الشجرة التي نهى الله -تبارك وتعالى- عن الأكل منها، فهذا يدل على التوسعة في الأكل.

وَلا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ [سورة البقرة:35] فهذا نهي، والنهي للتحريم وَلا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ [سورة البقرة:35] فزاد في المنع والحضر، ببيان الصفة، يعني إن أكلتما من هذه الشجرة فإنكما تكونان من الظالمين، والظالم هو الذي قد وضع الشيء في غير موضعه، وكل من عصى الله -تبارك وتعالى- فقد ظلم، وأعظم ذلك هو الإشراك بالله وتقدست أسمائه إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ [سورة لقمان:13] فهذا علق الله -تبارك وتعالى- به النهي عن هذه الشجرة، مُبالغة في تحريم الأكل منها، ووجوب الاجتناب.

ويلاحظ أن النهي هنا جاء بهذه الصيغة وَلا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ [سورة البقرة:35] ولم يقل: ولا تأكلا، وإنما قال: وَلا تَقْرَبَا والقاعدة: أن النهي عن قُربان الشيء ومُقاربته أبلغ من النهي عنه، فإذا قيل: لا تقرب كذا، فهو نهي عنه وزيادة، مُبالغة في النهي، ويكون ذلك أيضًا نهيًا عن كل سبب يُوصل إلى هذا المنهي عنه، ولا شك أن مُقاربة الشيء المحظور والممنوع أدعى إلى فعله، وانجذاب النفس إليه، فهذه المُقاربة يوجد معهما من دواعي النفس، لا سيما مع محبة الشيء، والرغبة به، والنفس الأمارة، وما تأمر به، وما يأمر به الشيطان، ويُزينه من الخواطر والوساوس، وكذلك شياطين الإنس، فإن ذلك يكون داعية إلى الوقوع فيه، ومُقارفته، فإذا كان الإنسان يألف مُقاربة هذا الشيء، فهذه المُقاربة حينما يألفها تكون سببًا للمحبة، وتدعوه نفسه إلى مواقعة ذلك، ويغفل عن نهي الله -تبارك وتعالى- وتحريمه؛ ولهذا قال النبي ﷺ بأنه: كالراعي يرعى حول الحمى، يوشك أن يرتع فيه [22] وقد ذكر أهل العلم كالشاطبي -رحمه الله- بأن التوسع في المُباحات يُفضي إلى الوقوع في المُشتبهات، وأن الوقوع في المُشتبهات يُفضي بصاحبه إلى مواقعة ما حرم الله -تبارك وتعالى[23].

فهنا جاء النهي عن مُقاربة هذه الشجرة، فالسبب الداعي إلى الشر منهي عنه، فمُقاربتها تدعو إلى الأكل منها، ويُؤخذ من هذه الآية: أنَّ الله -تبارك وتعالى- قد يمتحن العبد، فينهاه عن شيء قد تتعلق به نفسه، وتُحبه، ابتلاء واختبارًا وَلا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ [سورة البقرة:35] بل قال الله -تبارك وتعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَيَبْلُوَنَّكُمُ اللَّهُ بِشَيْءٍ مِنَ الصَّيْدِ تَنَالُهُ أَيْدِيكُمْ وَرِمَاحُكُمْ لِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَخَافُهُ بِالْغَيْبِ [سورة المائدة:94] فالصيد إذا رآه الإنسان استفزته رؤيته، فينبعث في نفسه من الدواعي والإقدام والاندفاع لطلب هذا الصيد ما لا يخفى، فكيف إذا كان من القُرب بمكان، بحيث تناله اليد من غير حاجة إلى مُطاردة ومُلاحقة ووسائط بهذه الجوارح التي يصيد الناس بها، بل هذا يأتي، ويستعرض بين يديه.

 تَنَالُهُ أَيْدِيكُمْ وَرِمَاحُكُمْ [سورة المائدة:94] فلا يحتاج إلى مُلاحقة ومُطاردة، يأخذه بيده، أو ينخسه ويطعنه برُمحه، فهو قريب جدًا بين يديه، ابتلاء واختبارًا، كما ابتلى الله بني إسرائيل إِذْ تَأْتِيهِمْ حِيتَانُهُمْ يَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرَّعًا [سورة الأعراف:163] ظاهرة، تأتي على الشاطئ وَيَوْمَ لا يَسْبِتُونَ لا تَأْتِيهِمْ كَذَلِكَ نَبْلُوهُمْ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ [سورة الأعراف:163].

كذلك الاختبار يختبرهم الله -تبارك وتعالى- فالإنسان قد يُختبر ويُبتلى بصفقة، أو بمال يتحصل له، بشيء مُحرم، وقد يُبتلى بنظر مُحرم، يتيسر له، وهذه الوسائل والوسائط اليوم التي أصبحت في يد الصغير والكبير، يُشاهد فيها ما حرم الله، فهذا ابتلاء من الله ليعلم الله من يخافه بالغيب تَنَالُهُ أَيْدِيكُمْ وَرِمَاحُكُمْ [سورة المائدة:94] فهذه المشاهد قريبة المنال، ربما تنجذب إليها بعض النفوس، ويُغري بها الشيطان والنفس الأمارة بالسوء لِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَخَافُهُ بِالْغَيْبِ [سورة المائدة:94] فهنا جاء الامتحان بهذه الشجرة فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ [سورة البقرة:35] فالفاء هنا تدل على التعليل، وترتيب ما بعدها على ما قبلها، وهذا الذي يُسميه الأصوليون: بدلالة الإيماء والتنبيه، يعني: أن الأكل من الشجرة ومعصية الله -تبارك وتعالى- تكون سببًا للظلم؛ ليصير العبد ظالمًا؛ فيستحق الوصف بالظُلم فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ [سورة البقرة:35] يعني: في جُملة الظالمين، وهذا أعلق بهذا الوصف -كما ذكرنا في الليلة الماضية- عن إبليس الذي استكبر، وكان من الكافرين، أي في جُملتهم؛ وذلك لعلوق الوصف به.

فهنا: فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ [سورة البقرة:35] ومن ثَم فإن من ارتكب محارم الله، وانتهك حدوده، أو ترك ما أمره الله به، فإنه من الظالمين، فإن الظلم يكون بين العبد وربه، ويكون بين العبد ونفسه، ويكون بين العبد وإخوانه؛ ولهذا قال آدم وحواء -رحمها الله- بعد الأكل من الشجرة، وما تبين لهما من الظلم: رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنفُسَنَا [سورة الأعراف:23] فعرفوا أنهم وقعوا في مثل هذا، فاستفاقا بعد هذه المعصية، فهذا كله يدعونا -أيها الأحبة- إلى الوقوف عند هذا المعنى، فإذا أرادت النفس أن تطلب شيئًا حرمه الله عليها، فليتذكر أن هذا ليس له، وأنه إن أقبل عليه فهو ظالم، وموصوفًا بالظلم، فيكون من الظالمين.

  1. تفسير القرطبي (1/ 264).
  2.  مفتاح دار السعادة ومنشور ولاية العلم والإرادة (1/ 9).
  3.  أخرجه البخاري في كتاب الديات، باب قول الله - تعالى: وَكَتَبۡنَا عَلَیۡهِمۡ فِیهَاۤ أَنَّ ٱلنَّفۡسَ بِٱلنَّفۡسِ وَٱلۡعَیۡنَ بِٱلۡعَیۡنِ وَٱلۡأَنفَ بِٱلۡأَنفِ...  [سورة المائدة:45] برقم: (6878) ومسلم في القسامة، باب ما يباح به دم المسلم برقم: (1676).
  4.  الفتاوى الكبرى لابن تيمية (1/ 95).
  5.  مجموع الفتاوى (12/446).
  6.  التبيان في أقسام القرآن (ص: 212).
  7.  أخرجه أبو داود، كتاب السنة، باب في القدر، رقم: (4700)، والترمذي، أبواب القدر عن رسول الله ﷺ رقم: (2155).
  8. المستدرك على مجموع الفتاوى (5/150).
  9.  أخبار النحويين البصريين للسيرافي (ص: 35).
  10.  انظر: سير أعلام النبلاء (8/77). 
  11.  إعلام الموقعين عن رب العالمين (3/441).
  12.  أخرجه البخاري، كتاب الحيل، باب في الهبة والشفعة، رقم: (6975). 
  13.  أخرجه الترمذي، باب ما جاء في حق الزوج على المرأة، رقم: (1159)، وابن ماجه، كتاب النكاح، باب حق الزوج على المرأة، رقم: (1852). 
  14.  انظر: التحرير والتنوير (1/ 425). 
  15.  القائد إلى تصحيح العقائد (ص: 13). 
  16.  أخرجه البخاري، كيف كان بدء الوحي إلى رسول الله ﷺ؟ رقم: (7). 
  17.  البداية والنهاية (3/ 56). 
  18.  مجموع الفتاوى (16/ 250). 
  19.  البيت له في إصلاح المنطق (ص: 235) والصحاح تاج اللغة وصحاح العربية (1/ 320). 
  20.  أخرجه ابن ماجه في كتاب الجنائز، باب ما جاء فيما يقال عند المريض إذا حضر برقم: (1449) ولفظه: إن أرواح المؤمنين في طير خضر، تعلق بشجر الجنة وضعفه الألباني
  21.  أخرجه مسلم في كتاب الكسوف، باب ما عرض على النبي ﷺ في صلاة الكسوف من أمر الجنة والنار برقم: (904). 
  22. أخرجه مسلم في كتاب المساقاة، باب أخذ الحلال وترك الشبهات برقم: (1599). 
  23.  الموافقات (3/ 526).