السبت 24 / ذو الحجة / 1446 - 21 / يونيو 2025
فَيَذَرُهَا قَاعًا صَفْصَفًا

المصباح المنير
مرات الإستماع: 0

قال المصنف - رحمه الله تعالى - في تفسير قوله تعالى: وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْجِبَالِ فَقُلْ يَنسِفُهَا رَبّي نَسْفاً ۝ فَيَذَرُهَا قَاعاً صَفْصَفاً ۝ لاّ تَرَىَ فِيهَا عِوَجاً وَلا أَمْتاً ۝ يَوْمَئِذٍ يَتّبِعُونَ الدّاعِيَ لاَ عِوَجَ لَهُ وَخَشَعَتِ الأصْوَاتُ لِلرّحْمَنِ فَلاَ تَسْمَعُ إِلاّ هَمْساً [سورة طه:105-108].

يقول تعالى: وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْجِبَالِ، أي: هل تبقى يوم القيامة أو تزول؟ فَقُلْ يَنسِفُهَا رَبّي نَسْفاً، أي: يذهبها عن أماكنها ويمحقها ويسيرها تسييراً، فَيَذَرُهَا، أي: الأرض، قَاعاً صَفْصَفاً أي: بساطاً واحداً، والقاع هو المستوي من الأرض، والصفصف تأكيد لمعنى ذلك، وقيل الذي لا نبات فيه، والأول أولى وإن كان الآخر مراداً أيضاً باللازم، ولهذا قال: لاّ تَرَىَ فِيهَا عِوَجاً وَلا أَمْتاً، أي: لا ترى في الأرض يومئذ وادياً ولا رابية، ولا مكاناً منخفضاً ولا مرتفعاً، كذا قال ابن عباس وعكرمة ومجاهد والحسن البصري والضحاك وقتادة وغير واحد من السلف.

فقوله - تبارك وتعالى -: وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْجِبَالِ فَقُلْ يَنسِفُهَا رَبّي نَسْفاً، أي: ويسألونك على الجبال في ذلك اليوم في يوم القيامة ما شأنها؟ وما مصيرها؟ فَقُلْ يَنسِفُهَا رَبّي نَسْفاً ۝ فَيَذَرُهَا قَاعاً صَفْصَفاً، يقول: يَنسِفُهَا رَبّي نَسْفاً، أي: يذهبها عن أماكنها ويمحقها ويسيرها تسييرا، والنسف يأتي بمعنى التذرية، قال بهذا كثير من أهل العلم ومنهم كبير المفسرين ابن جرير - رحمه الله -، بمعنى أن الجبال تتفتت حتى تصير هَبَاء مُّنبَثًّا [سورة الواقعة:6]، والهباء ما تعرفون مما يشاهد من الكوة أو النافذة إذا دخلت الشمس مما يتطاير في الهواء، فالله تعالى أخبر عن حال الجبال؛ لأنها تكون كالعهن المنفوش، وكالهباء، فهي تتفتت ويذريها الله تذرية فتقلع من أماكنها وتستأصل من أصولها وتدك وتصير إلى تلك الحال، وقوله - تبارك وتعالى -: فَيَذَرُهَا قَاعاً صَفْصَفاً فيذرها الضمير يرجع إلى الأرض، أو يرجع إلى الجبال باعتبار أنها هي المذكورة قبله ولا ذكر للأرض، وبعضهم يقول: فَيَذَرُهَا قَاعاً صَفْصَفاً يرجع إلى المذكور قبله وهو الجبال، فَيَذَرُهَا قَاعاً صَفْصَفاً يعني أنه إذا قلعها من أماكنها وسيرت هذه الجبال بقيت منابتها وأصولها وأماكنها قاعاً صفصفا، وبعضهم يقول: فَيَذَرُهَا، أي: الأرض، والضمير عائد إلى غير مذكور، يفهم من السياق ولا بأس أن يعود الضمير إلى غير المذكور مما يعرف من السياق ثقة بفهم السامع كقوله - تبارك وتعالى -: مَا تَرَكَ عَلَى ظَهْرِهَا مِن دَابَّةٍ [سورة فاطر:45]، يعني: الأرض، مع أن الأرض لم يرد لها ذكر قبل ذلك، وهكذا في قوله: مَّا تَرَكَ عَلَيْهَا مِن دَآبَّةٍ [سورة النحل:61]، وكقوله - تبارك وتعالى -: إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ [سورة القدر:1]، يعني: القرآن، ولم يرد للقرآن ذكر قبل هذا؛ لأنها الآية الأولى، وقوله - تبارك وتعالى -: فَيَذَرُهَا قَاعاً صَفْصَفاً يقول الحافظ - رحمه الله -: "أي بساطاً واحداً، والقاع هو المستوي من الأرض، والصفصف تأكيد لمعنى ذلك"، ومعلوم أن التأسيس مقدم على التوكيد، ولهذا فإن الكثيرين من أهل العلم يقولون بأن الصفصف ليس معناه القاع، يقول: وقيل الذي لا نبات فيه، يعني: فَيَذَرُهَا قَاعاً يعني: مستوية لا نبات فيها، صَفْصَفاً، أي: لا نبات فيها، مع أن ابن كثير - رحمه الله - رجح الأول قال: "وإن كان الآخر مراداً أيضاً باللازم"، لأنها إذا كانت مستوية فمعنى ذلك أنك لا ترى فيها شيئاً مرتفعاً لا نباتاً، ولا جماداً، فيلزم منه القول بأنه لا نبات فيها، فالقولان متلازمان، وقوله: فَيَذَرُهَا قَاعاً صَفْصَفاً ۝ لاّ تَرَىَ فِيهَا عِوَجاً وَلا أَمْتاً، يقول هنا: "لا ترى في الأرض يومئذ وادياً ولا رابية"، بمعنى أن العوج هو الوادي، يعني العوج هو المكان المنخفض، والأمْت هو المكان المرتفع ارتفاعاً يسيراً، ولهذا ما قال: جبلاً، يقول: "ولا مكاناً منخفضاً ولا مرتفعاً، كذا قال ابن عباس وعكرمة ومجاهد إلى آخره"، وبعضهم يقول كابن الأعرابي: العوج من التعوج، بمعنى أنك في الأرض تجد فيها ما تجد من البحر الذي يحد اليابسة، كما تجد فيها المسالك حينما يمشي الإنسان فيها ما يميل معه في طريقه، لأسباب معروفة، من تضاريس الأرض، أما الأرض التي تكون آنذاك فإنها في غاية الاستواء لا ترى فيها عوجاً ولا أمتا، فالأمت هي التلال الصغار كما يفسرها بذلك ابن الأعرابي - رحمه الله -، وكلام أهل العلم كثير في معنى قوله - تبارك وتعالى -: لاّ تَرَىَ فِيهَا عِوَجاً وَلا أَمْتاً، لكن ذلك يرجع إلى معنى أنها في غاية الاستواء، فلا ترى فيها تبايناً من ارتفاع أو انخفاض أياً كان سبب ذلك، بعض هذه التفاسير هي من قبيل التفسير باللازم، وبعضهم يشير إلى معنى وهو: أن هذا الاستواء يكون في غاية الدقة لاّ تَرَىَ فِيهَا عِوَجاً وَلا أَمْتاً، بعضهم يفرق بين العِوج بالكسر والعَوج بالفتح، يقولون: العِوج يكون في النظر والرأي والمعاني، وأما العَوج فيكون في الأشياء المحسوسة، وهنا قال: لاّ تَرَىَ فِيهَا عِوَجاً، وأجابوا عن هذا فقالوا: إن الإنسان حينما يسوي الأرض قد تبدو للنظر أنها مستوية ولكن عند القياس وفي نظر أهل المساحة أو الهندسة يوجد فيها بعض الميل أو الانخفاض أو الارتفاع أو نحو ذلك مما لا يبدو للنظر، فيخطئ النظر حيث يظن أنها مستوية وليست كذلك، فعُبر بالعِوج لاّ تَرَىَ فِيهَا عِوَجاً وَلا أَمْتاً، هكذا قال بعضهم.

والمقصود - والله تعالى أعلم - أن الأرض تكون في غاية الاستواء.