يَوْمَئِذٍ يَتّبِعُونَ الدّاعِيَ، يعني: الذي يدعوهم بعد خروجهم من قبورهم فينفخ في الصور، يَوْمَئِذٍ يَتّبِعُونَ الدّاعِيَ لاَ عِوَجَ لَهُ، يقول هنا: "أي يوم يرون هذه الأهوال يستجيبون مسارعين إلى الداعي حيثما أمروا بادروا إليه"، بمعنى أنهم يكونون في غاية الإقبال، والاستجابة كما قال الله تعالى: مُهْطِعِينَ إِلَى الدَّاعِ، لاَ عِوَجَ لَهُ بمعنى أنهم لا معدل لهم عن دعائه فلا يقدرون على أن يزيغوا عنه أو ينحرفوا منه، يتبعون الداعي لا عوج له، وإنما هم في غاية الإقبال عليه والاستجابة.
قال الشنقيطي - رحمه الله تعالى - في تفسير قوله تعالى: لا تَرَى فِيهَا عِوَجاً وَلا أَمْتاً: "أي: لا اعوجاج فيها ولا أمت، والأمت: النتوء اليسير، أي: ليس فيها اعوجاج ولا ارتفاع بعضها على بعض، بل هي مستوية، ومن إطلاق الأمت بالمعنى المذكور قول لبيد:
فاجرمَّزت ثم سارت وهي لاهية | في كافر ما به أمت ولا شرف |
وقول الآخر:
فأبصرت لمحة من رأس عكرشة | في كافر ما به أمت ولا عوج |
والكافر في البيتين: قيل الليل، وقيل المطر؛ لأنه يمنع العين من رؤية الارتفاع والانحدار في الأرض.
وقال الزمخشري في تفسير هذه الآية الكريمة: فإن قلت: قد فرقوا بين العِوج والعَوج فقالوا: العِوج بالكسر في المعاني والعَوج بالفتح في الأعيان، والأرض عين، فكيف صحّ فيها المكسور العين؟
قلت: اختيار هذا اللفظ له موقع حسن بديع في وصف الأرض بالاستواء والمَلاسة، ونفي الاعوجاج عنها على أبلغ ما يكون، وذلك أنك لو عمدت إلى قطعة أرض فسويتها، وبالغت في التسوية على عينك وعيون البصراء من الفلاحة، واتفقتم على أنه لم يبق فيها اعوجاج قط، ثم استطلعت رأي المهندس فيها، وأمرته أن يعرض استواءها على المقاييس الهندسية لعثر فيها على عوج في غير موضع لا يدرك ذلك بحاسة البصر، ولكن بالقياس الهندسي، فنفى الله ذلك العوج الذي دق ولطف عن الإدراك، اللهم إلا بالقياس الذي يعرفه صاحب التقدير والهندسة، وذلك الاعوجاج لما لم يدرك إلا بالقياس دون الإحساس لحق بالمعاني فقيل فيه: عِوج بالكسر، والأمت: النتوء اليسير، يقال: مد حبله حتى ما فيه أمت. انتهى منه، وقد قدّمنا في أول سورة الكهف ما يغني عن هذا الكلام الذي ذكره، والعلم عند الله تعالى"[1].
وقال - رحمه الله -: "قوله: يَوْمَئِذٍ أي: يوم إذ نسفت الجبال يتبعون الداعي، والداعي: هو الملَك الذي يدعوهم إلى الحضور للحساب، قال بعض أهل العلم: يناديهم أيتها العظام النخرة، والأوصال المتفرقة، واللحوم المتمزقة، قومي إلى ربك للحساب والجزاء، فيسمعون الصوت ويتبعونه.
ومعنى لا عِوَجَ لَهُ، أي: لا يحيدون عنه، ولا يميلون يميناً ولا شمالاً، وقيل: لا عوج لدعاء الملَك عن أحد، أي: لا يعدل بدعائه عن أحد، بل يدعوهم جميعاً، وما ذكره - جل وعلا - في هذه الآية الكريمة من اتباعهم للداعي للحساب، وعدم عدولهم عنه بيّنه في غير هذا الموضع، وزاد أنهم يسرعون إليه كقوله تعالى: فَتَوَلَّ عَنْهُمْ يَوْمَ يَدْعُ الدَّاعِ إِلَى شَيْءٍ نُكُرٍ خُشَّعاً أَبْصَارُهُمْ يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْدَاثِ كَأَنَّهُمْ جَرَادٌ مُنْتَشِرٌ مُهْطِعِينَ إِلَى الدَّاعِ يَقُولُ الْكَافِرُونَ هَذَا يَوْمٌ عَسِرٌ [سورة القمر:6-8]، والإهطاع: الإسراع، وقوله تعالى: وَاسْتَمِعْ يَوْمَ يُنَادِ الْمُنَادِ مِنْ مَكَانٍ قَرِيبٍ يَوْمَ يَسْمَعُونَ الصَّيْحَةَ بِالْحَقِّ ذَلِكَ يَوْمُ الْخُرُوجِ [سورة ق:41-42]، وقوله تعالى: يَوْمَ يَدْعُوكُمْ فَتَسْتَجِيبُونَ بِحَمْدِهِ [سورة الإسرء:52]، الآية، إلى غير ذلك من الآيات"[2].
وقال ابن القيم - رحمه الله -: "قول الله - تعالى ذكره -: يَوْمَئِذٍ يَتَّبِعُونَ الدَّاعِيَ لَا عِوَجَ لَهُ، أي: يقبلون من كل أوب إلى صوته وناحيته لا يعرجون عنه.
قال الفراء: وهذا كما تقول: دعوتك دعوة لا عوج لك عنها، وقال الزجاج: المعنى لا عوج لهم عن دعائه، أي: لا يقدرون إلا على اتباعه وقصده، فإن قلت: إذا كان المعنى لا عوج لهم عن دعوتي فكيف قال: لَا عِوَجَ لَهُ؟، قيل: قالت طائفة: اللام بمعنى عن، أي: لا عوج عنه، وقالت طائفة: المعنى لا عوج لهم عن دعائي كما قال الزجاج، وفي القولين تكلف ظاهر ولما كانت الدعوة تُسمع الجميعَ لا تعوج عنهم وكلهم يؤم صوت الداعي ويتبعه لا يعوج عنه كان مجيء اللام منتظماً للمعنيين ودالاً عليهما، والمعنى لا عوج لدعائه لا في إسماعهم إياه، ولا في إجابتهم له"[3].
وقوله: لَا عِوَجَ لَهُ لا عوج لدعائه فيصل إلى الجميع، ولا عوج لهم عن دعائه فيستجيب له الجميع.
وقوله: وَخَشَعَتِ الأصْوَاتُ لِلرّحْمَنِ قال ابن عباس: سكنت، وكذا قال السدي: فَلاَ تَسْمَعُ إِلاّ هَمْساً قال سعيد بن جبير عن ابن عباس: يعني وطء الأقدام، وكذا قال عكرمة ومجاهد والضحاك والربيع بن أنس وقتادة وابن زيد وغيرهم.
وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس - ا -: فَلاَ تَسْمَعُ إِلاّ هَمْساً الصوت الخفي، وهو رواية عن عكرمة والضحاك، وقال سعيد بن جبير فَلاَ تَسْمَعُ إِلاّ هَمْساً الحديث وسرّه، ووطء الأقدام.
يقال للصوت الخفيف همس، ولهذا يقال لصوت وطء الأقدام: همس، ويقال: للأسد الهموس؛ لأنه إذا مشى في الليل يمشي مشياً خفيفاً، تصور عند هدئة الأصوات، وسكون الناس حينما لا تسمع إلا صوت أقدام، ولهذا يقولون لصوت الأقدام أو لصوت خفاف الإبل وهي تمشي: همس، وصوت خفاف الإبل أو صوت المشي الخفيف الذي يظهر معه صوت وقع الأقدام لا شك أنه صوت يسير، يصح إطلاق الهمس عليه، كما يطلق أيضاً على الصوت الخفيف، حينما يتكلم الإنسان بصوت يسمعه من يلاصقه، تقول: همس في أذنه، يهمس، فَلاَ تَسْمَعُ إِلاّ هَمْساً بعضهم يقول: وقع الأقدام على الأرض، يمشون، يتبعون الداعي، وقال: "الحديث وسرّه، ووطء الأقدام"، قاله سعيد بن جبير - رحمه الله -.
- أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن، للعلامة الشنقيطي (4/99).
- أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن، للعلامة الشنقيطي (4/100).
- التبيان في أقسام القرآن، للإمام ابن القيم الجوزيه (124).