السبت 04 / ربيع الآخر / 1447 - 27 / سبتمبر 2025
مَآ أَنزَلْنَا عَلَيْكَ ٱلْقُرْءَانَ لِتَشْقَىٰٓ

المصباح المنير
مرات الإستماع: 0

قال المصنف - رحمه الله تعالى -: سورة طه، وهي مكية، بسم الله الرحمن الرحيم: طه ۝ مَا أَنزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَى ۝ إِلَّا تَذْكِرَةً لِّمَن يَخْشَى ۝ تَنزِيلًا مِّمَّنْ خَلَقَ الْأَرْضَ وَالسَّمَاوَاتِ الْعُلَى ۝ الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى ۝ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَمَا تَحْتَ الثَّرَى ۝ وَإِن تَجْهَرْ بِالْقَوْلِ فَإِنَّهُ يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى ۝ اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ لَهُ الْأَسْمَاء الْحُسْنَى [سورة طه:1-8].

قد تقدم الكلام على الحروف المقطعة في أول سورة البقرة بما أغنى عن إعادته، وقوله: مَا أَنزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَى قال جويبر عن الضحاك: لما أنزل الله القرآن على رسوله ﷺ قام به هو وأصحابه، فقال المشركون من قريش: ما أنزل هذا القرآن على محمد إلا ليشقى، فأنزل الله تعالى: طه ۝ مَا أَنزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَى ۝ إِلَّا تَذْكِرَةً لِّمَن يَخْشَى فليس الأمر كما زعمه المبطلون، بل من آتاه الله العلم فقد أراد به خيراً كثيراً، كما ثبت في الصحيحين عن معاوية قال: قال رسول الله ﷺ: من يرد الله به خيراً يفقهه في الدين [1].

وقال مجاهد في قوله: مَا أَنزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَى هي كقوله: فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ [سورة المزمل:20] وكانوا يعلقون الحبال بصدورهم في الصلاة، وقال قتادة: مَا أَنزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَى لا والله ما جعله شقاءً، ولكن جعله رحمة ونوراً ودليلاً إلى الجنة إِلَّا تَذْكِرَةً لِّمَن يَخْشَى.

فقوله - تبارك وتعالى -: طه الحافظ ابن كثير - رحمه الله - يقول: تقدم الكلام على الحروف المقطعة في أول سورة البقرة، طه بعضهم يقول: هذا من الحروف المقطعة، وبناء عليه يقال فيه ما قيل في الحروف المقطعة، والأقرب - كما ذكر هناك - أن هذه الحروف ليس لها معنى في نفسها، ولكنها تشير إلى الإعجاز أي أن القرآن مكوَّن ومركب من هذه الحروف التي تركبون منها الكلام، وأنتم عاجزون عن الإتيان بمثله، ولهذا لا تكاد تذكر إلا ويذكر بعدها القرآن، لكن من أهل العلم من يمنعون كونَ هذا من الحروف المقطعة، ويذكرون له معنى، فبعضهم يقول: هذا لفظ عربي جاء على لغة بعض العرب، بعضهم يقول: لغة عكّ، وبعضهم يقول: لغة طي، وبعضهم يقول غير هذا، وهو أن معناه: يا رجل، ويأتي على هذا بشواهد من العربية في شعر العرب، تتضمن هذه اللفظة بمعنى يا رجل، وبعضهم يقول: إنه في لغة بعض العرب بمعنى: يا حبيبي، وبعضهم يقول: هو لفظ غير عربي، فبعضهم يقول بالسريانية، يعني: يا رجل، وبعضهم يقول: بالحبشية، وبعضهم يقول: بالنبطية، وبعضهم يقول غير ذلك، فهذا قول من قال: إنه ليس من الحروف المقطعة، وليس هذا مثل: الم، وإنما هي كلمة أخرى، إما على لغة بعض العرب، وإما أن أصلها أعجمي، وقد مضى الكلام في هل يوجد في القرآن شيء من المعرّب أو لا؟، وهذا الاختلاف في عزوِ ذلك إلى لغة من اللغات العربية أو غير العربية لم يمنع بعض أهل العلم من القول بأن ذلك لربما تواردت عليه هذه اللغات، وصار مستعملاً فيها جميعاً بهذا المعنى، ولذلك تجد في تفسير ابن جرير - رحمه الله - أنه يختار القول بأن طه بمعنى: يا رجل، ليس ذلك تفسيراً منه للحروف المقطعة بمثل هذه المعاني، وإنما باعتبار ما ذُكر، ومن عده من الحروف المقطعة قال فيه ما يقال فيها، وهو ظاهر صنيع ابن كثير - رحمه الله -، وأما الآثار التي تذكر في سبب نزول قوله - تبارك وتعالى - مَا أَنزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَى لا سيما أن بعضهم يقول: إن طه اسم من أسماء النبي ﷺ فكل ذلك لا يصح فيه شيء، فالقول بأن النبي ﷺ كان يقوم حتى تتورم قدماه، فتكلم بسبب ذلك المشركون ونحو هذا، نعم النبي ﷺ كان يقوم الليل حتى تتفطر قدماه وهذا معروف، لكن هل كان هذا سبب نزول الآية؟ وأن المشركين تكلموا وقالوا: إنه قد نزل عليه القرآن ليشقى؟ لم يصح في ذلك شيء، وهكذا قول من قال: كانوا يربطون أنفسهم بالحبال، أو أنه كان يقف على صدور قدميه، كل هذا لم يصح، أو ما جاء من أنه كان يرفع قدمه من طول القيام، يتعب فيراوح بين القدمين، فنزلت الآية: مَا أَنزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَى، كل هذا لم يصح، وكثير من المفسرين يذكرون هذه الروايات، وهو الذي مشى عليه الحافظ ابن كثير - رحمه الله -، باعتبار أن قوله: مَا أَنزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَى بمعنى: لتتحمل من العمل والعبادة ما لا تطيق، هذا المعنى على ما ذكره الحافظ ابن كثير، فهو يقصد هذا، وهذا لو صحت هذه الروايات أو بعضها، لكنها لم تصح، ولهذا فإن من أهل العلم من فسره بغير ذلك، قال: مَا أَنزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَى إنه كقوله: فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَّفْسَكَ عَلَى آثَارِهِمْ إِن لَّمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الْحَدِيثِ أَسَفًا [سورة الكهف:6] قال: فهذا تسلية للنبي ﷺ من أجل أن لا تذهب نفسه حسرات على المشركين؛ بسبب كفرهم وعنادهم وجحودهم ومكابرتهم وشدة عداوتهم، فهو يهون عليه من أجل أن لا يحزن ويضيق بسبب هذا التكذيب والإعراض وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِمَا يَقُولُونَ [سورة الحجر:97] فالله يقول: مَا أَنزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَى، فإذا قلنا: إن الروايات السابقة غير صحيحة فتفسيرها بهذا - والله أعلم - أقرب من تفسيرها بما سبق، ومن أهل العلم من قال بأن الآية تحمل على هذا وهذا، ولربما كان ذلك لاعتقاده أن بعض هذه الروايات يصح، مثل الشيخ محمد الأمين الشنقيطي -رحمه الله-، وهذا له وجه باعتبار أن الله - تبارك وتعالى - قال: مَا أَنزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَى وأطلق ولم يقيد، أي: ليحصل لك الشقاء، كيف يحصل هذا الشقاء؟ بأن يتحمل من العمل ما لا يطيق، وكذلك بأن يتحمل من الضغوط النفسية - كما يقال - ما يوهنه ويثقله ويرهقه وهذا واضح لكن قد يقول قائل: إن القيام بالتكاليف الشرعية والعبادات ليس بشقاء، فالنبي ﷺ قال: وجعلت قرة عيني في الصلاة [2]، فيجد فيها لذة، فكيف يحمل على هذا المعنى؟ والجواب عن ذلك: أن المقصود - عند مَن ذكره - ليس هذا القدر من العبادة التي يطيقها الإنسان، وإنما إذا صار ذلك إلى حال يفضي به إلى الكلفة الزائدة، كالذي يربط نفسه بحبل يتعبد به مثلاً، أو يصوم النهار، ويقوم الليل أجمع، ونحو ذلك، لكن كل ذلك يتوقف على مقدمة وهي: أن النبي ﷺ كان يتحمل من الأعمال في التعبد ما يرهقه ويثقله، فهل كان النبي ﷺ يفعل ذلك؟ كان يصوم ويفطر، ويقوم وينام، وأرشد إلى هذا، ولكن حينما واصل ذلك الوصال في الصيام، وأرادوا أن يقتدوا به أخبرهم أنه ليس كهيئتهم وإنما يبيت يطعمه الله ويسقيه[3].

فالقول بأنها في تحمل أعباء التكاليف وما أشبه ذلك: بناءً على هذه الروايات، ولا يصح من هذه الروايات شيء، يبقى أن هذا المعنى تحتمله الآية، لكنه متوقف على هذه المقدمة وهي: هل كان النبي ﷺ يتعبد تعبداً يُفضي إلى كُلفة زائدة بحيث إنه يخاطب بمثل هذا الخطاب مَا أَنزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَى؟، على كل حال هذه الآية فيها تسلية لرسول الله ﷺ بسبب ما كان يقاسيه من تكذيب قومه، واستهزائهم.

  1. رواه البخاري كتاب العلم، باب من يرد الله به خيراً يفقهه في الدين، برقم: (71)، ومسلم كتاب الزكاة، باب النهي عن المسألة، برقم: (1037).
  2. رواه أحمد بن حنبل برقم: (14037)، وقال محققوه: " إسناده حسن، رجاله ثقات رجال الشيخين غير سلام أبي المنذر، فهو صدوق حسن الحديث"، والنسائي، كتاب عشرة النساء، باب حب النساء برقم (3939)، وقال الألباني: صحيح، انظر صحيح الجامع رقم (3124).
  3. رواه البخاري، كتاب الاعتصام بالكتاب والسنة، باب ما يكره من التعمق والتنازع في العلم والغلو في الدين والبدع لقوله تعالى: يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لاَ تَغْلُواْ فِي دِينِكُمْ وَلاَ تَقُولُواْ عَلَى اللّهِ إِلاَّ الْحَقِّ [سورة النساء:171] برقم: (6869)، ومسلم كتاب الصيام، باب النهي عن الوصال في الصوم، برقم: (1103).